وأما المروة فبعضهم يقول: هي الحجارة الصغار اللينة، وبعضهم يعكس فيقول: الصلبة، وبعضهم يقول: البيضاء البراقة، وبعضهم يعكس فيقول: السوداء، وبعضهم يقول: يُطلق على الحجارة اللينة، والحجارة الصلبة، كل ذلك يقال له: مروة.
فالحاصل أن الحجر الأملس يقال له: صفا، والحجارة التي قد تكون صغيرة لينة، أو صلبة يقال لها: مروة، وبعضهم يذكر في لونها البياض، وبعضهم يذكر السواد.
قوله: مِن شَعَآئِرِ اللّهِ [سورة البقرة:158] الشعائر: جمع شعيرة، والشعيرة: هي العلامة، أي من أعلام دينه في المناسك، فالصفا من شعائر الله، والمروة من شعائر الله، والطواف بالبيت من شعائر الله، ورمي الجمار من شعائر الله، وذبح الهدي من شعائر الله، بل الهدي نفسه من أعظم شعائر الله، ولهذا قال الله : لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ [سورة المائدة:2] فهذا من باب عطف الخاص على العام، فهذا كله من شعائر الله، والدين كله يمكن أن يقال: إنه منقسم إلى شعائر، وأمانات، ولا مُشَاحَّة في الاصطلاح، فيكون بهذا الاعتبار، وبهذا التقسيم: الشعائر هي الأمور الظاهرة، مثل: الأذان، وصلاة الجماعة..، وما أشبه ذلك، والأمانات هي الأمور التي لا تظهر كالطهارة، والصيام، والصدق مع الله ، والإخلاص له.. وما أشبه ذلك مما لا يطلع عليه الناس، فلو صلى الإنسان، وهو غير متوضئ لا يدري عنه أحد، والصوم كذلك، ولهذا قالوا: إن من خصائص الصوم أنه لا يدخله الرياء، بخلاف غيره من الأعمال، بينما يدخله السمعة، يتكلم عن نفسه أنه صائم، فهذا من العبادات التي أشعرها الله لعباده.
"روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة قالت: قلت..."
طالب: قلت هذه - رعاك الله - لها مكان؟!
عن عروة عن عائشة قالت: قلت: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [سورة البقرة:158] إي نعم ماذا عندكم؟
تراجعها؟
طالب:.........
جزاك الله خيراً.
طالب:.........
بالضبط، قالت حينما قلت لها هو هذا، لكن نشوف أصل الرواية هل هي هكذا؟
طالب:..........
ما فيه قالت: قلت؟ اقرأ.
طالب:..........
ابن كثير معك؟
طالب:.........
الأصل؟
طالب:..........
أي طبعة؟
طالب:.........
على كل حال تراجع، إن كانت هكذا الرواية فلا إشكال أنها صحيحة، لكن لو كانت عن عائشة قالت هو يحكي الرواية عنها، ثم يقول: قلتُ، يعني هي قالت ذلك بناءً على سؤاله إياها.
"روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة - ا - قالت: قلتُ: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] قلت: فوالله ما على أحد جناح ألا يطوّف بهما..."طبعاً عروة فهم هذا من رفع الجناح في الشرع، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158]، فإذا رفع الجناح في القرآن فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:233] معناه رفع الحرج، والجناح: هو الحرج الذي هو الإثم، فإذا قيل: "فلا جناح عليه أن يطوّف بهما" معناه أن السعي غير واجب، وهذا ما فهِمه عروة، وفهْمه هذا هل هو بعيد، ولا وجه له إطلاقاً، أو أنه له وجه؟ له وجه؛ لأن "لا جناح عليه" أي: لا إثم عليه أن يطوّف بهما، أو لا يطوف، كأنه فهم هذا.
فقوله: أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] مفهوم المخالفة أنه إن لم يطوّف بهما لا جناح عليه، فمجرد رفع الإثم عنه بالطواف على فهم عروة لا يعني، وجوب ذلك، يعني أن السعي بين الصفا، والمروة لا حرج فيه، هذا الظاهر المتبادر لعروة، وهذا الفهم لم يفهمه عروة وحده، بل قال به أئمة، ومن ثم اختلفوا في السعي بين الصفا، والمروة هل هو ركن أو واجب، أو مستحب؟، وهذا وقت المتساهلين في الفتوى، الذين يبحثون عن مثل هذه الأشياء.
فممن قال: إن السعي بين الصفا، والمروة سنة جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وهما إماما العصر في وقتهما، وقال به من السلف سفيان الثوري، ونقل عن بعض الأئمة مثل أبي حنيفة، وعنه رواية أخرى.
وهو ما فهمه هنا عروة، وهو من التابعين، وذكر فهْمه، وردّت عليه عائشة - ا-.
فالذي يبحث عن الرخص، والفتاوى السهلة يجد، فتجد بعضهم يقول: يا جماعة الحج زحمة خففوا على الناس، فالسعي بين الصفا، والمروة سنة، وهو قول ليس بمهجور، من لم يسعَ - الحمد لله - ما عليه حرج، وهذا هو ظاهر الآية، وإن ردّت عائشة فهذا فهمها، واجتهادها، وخالفها بعض الصحابة، والصحابة إذا اختلفوا نرجح بين أقوالهم بالمرجحات، وابن جرير دائماً يعلمنا أنه لا يجوز العدول عن ظاهر القرآن المتبادر إلى معنىً خفي إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
والمبيت بمنى أيضاً شيخ الإسلام قال: إنه لا يجب، والمبيت في مزدلفة أيضاً قال فيه جمع من الأئمة: إنه سنة، ولا يجب، منهم عطاء بن أبي رباح، وهو أعلم الناس بالمناسك، فخلصنا من المبيت في مزدلفة، ومنى، وأنتم ضيقتم على أنفسكم، وأنتم في الشوارع! فما عليكم سعي، ولا طواف الإفاضة، وربما قالوا: ما عليكم، وقوف بعرفة، ارتاحوا، وحجوا من بيوتكم كما جاء: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج، والعمرة[1].
فإذا روض الإنسان نفسه على أن يتتبع الرخص بناءً على قوله ﷺ: لا حرج[2] وفهم هذا الفهم، وانطلق من هذه القاعدة: "لا حرج"، وبدأ يفتي الناس بكل شيء فهذه مشكلة كبيرة، ونحن نقول هذا الكلام لأننا نسمع أشياء عجيبة، وغريبة تصدر من بعض طلاب العلم في الحج يفتون فيها الناس.
"فقالت عائشة - ا -: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت: "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما"، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل..."العرب في الجاهلية كان عندهم أشياء تقترن بالمناسك، منها ما يكون قبل حجهم، ومنها ما يكون بعده، بحسب اختلاف قبائلهم، فإذا قرأتم في: (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) تجدون أشياء غريبة من هذا، فمنهم من يرى لزوماً أن يذهب إلى تلك المناسك قبل أن يذهب إلى بيت الله الحرام، فمن شعائر الحج عنده أنه لا يجوز له أن يسعى بين الصفا، والمروة حتى يذهب إليها، مثل من ساق الهدي مثلاً فإنه لا يتحلل من إحرامه حتى ينحر الهدي، فعندهم أن من أتى مناة لا يسعى بين الصفا، والمروة، هذا على قول عائشة - ا -، فتحرجوا، وجاء في روايات أخرى: أن هذا التحرج سببه أنه كان هناك أصنام يعظمونها إساف، ونائلة، ويزعمون أنهما رجل، وامرأة زنيا فمسخا إلى حجر، فكانوا يعظمونهما، ويتمسحون بهما إلى آخره، فلما أسلموا ظنوا أن السعي بين الصفا، والمروة أمرٌ يتصل بعمل أهل الجاهلية، وشركهم، فتحرج أهل الإيمان منه، فبيّن الله أنه ليس كذلك، بل هو من شعائر دينه، وإن أحدث فيه المشركون ما أحدثوا، فلا حرج عليكم بهذا السعي، وبذلك يكون هذا الكلام ليس ابتدائياً إنما هو لإزالة ما قد يتوهمونه، وبالتالي يفهم على وجهه، يعني: هناك فرق بين أن تبتدئ كلاماً، وتقول: لا حرج على من فعل كذا، وبين أن يكون الكلام جاء ليصحح فهماً، أو ليجيب على سؤال، أو نحو ذلك، وهذا ينحل به إشكالات في أمور كثيرة، وسيأتي - إن شاء الله - في الكلام على قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات[3] القصر هذا هل هو على ظاهره، وإلا فهناك أعمال أخرى ما تحتاج إلى نية، ويؤجر الإنسان عليها؟ بناءً على هذا التفريق، فالكلام الابتدائي الذي قاله الشارع ليقرر به أصلاً، أو معنى، أو حكماً، فرق بينه، وبين الكلام الذي يكون تصحيحاً لمفهوم، أو جواباً على السؤال، أو نحو ذلك، فهذا إذا فهمته بهذا الاعتبار فإنه يُتكلم في كل مقام بما يناسبه، مثل قول الله مثلاً: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145] مع أن هناك محرمات أخرى، لكن هذا رد على المشركين حينما قالوا بتحريم أشياء من عند أنفسهم.
ولهذا يقول الله لنبيه ﷺ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ [سورة آل عمران:20] مع أن النبي ﷺ عليه البلاغ، وعليه أيضاً أمور أخرى، هو مبشر، ومعلم ﷺ للناس، ويبيّن الأحكام، وهو قدوة، وهو عبد من خيار عباد الله ، فقصره على هذا في مقابل كلام المشركين، ومطالبتهم في أن يحول لهم الصفا ذهباً، فرد عليهم قائلاً: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ [سورة الرعد:7] فليس لقائل أن يقول: لا، هناك مهام أخرى غير الإنذار، فليس هذا كلاماً ابتدائياً جاء ليقرر به صفة النبي ﷺ ابتداءً، وإنما هو في مقابل موقف يرد عليه، ومطالبةٍ من المشركين، ودعاوى، وتكلفات."وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا، والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله ﷺ، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا، والمروة في الجاهلية، فأنزل الله : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] قالت عائشة - ا -: ثم قد سن رسول الله ﷺ الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما [4]، أخرجاه في الصحيحين [5]"على كل حال سبق في الكلام على أصول التفسير في (مقدمة شيخ الإسلام) في فوائد معرفة أسباب النزول أن ذلك يفيد في فهم المعنى، وقلنا: إن ذلك على درجات، فأحياناً يتوقف المعنى عليه، ولا يفهم إلا به، وأحياناً ينحل به الإشكال، وأحياناً يكون مُعِيناً على الفهم يتضح به المراد، وأحياناً هو من باب الفضلة، والزيادة فتفهم الآية من غير معرفة سبب النزول، فهو على مراتب، وهذا التفصيل لعله من أحسن ما يقال، وتجد من أهل العلم من يقول بهذا، فهذا في طرف، وهذا في طرف، بهذا التفصيل.
على كل حال هذا مما قد يتوقف عليه فهم المعنى، وإلا فلو بقي الناس مع ظاهر الآية ربما فهموا أنه لا يجب عليهم السعي، وعروة بن الزبير ليس أعجمياً، بل هو عربي قح، ورجل من أهل النبوغ، والعلم، والفقه، ففهم هذا الفهم، فأحياناً يتوقف المعنى عليه، فهذا مثال على سبب النزول الذي يتوقف عليه المعنى، وإن أردت أن تنزل درجة فقل: ينحل به الإشكال.
"وفي رواية عن الزهري أنه قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: إن هذا العلم ما كنتُ سمعته، ولقد سمعتُ رجالاًَ من أهل العلم يقولون: إن الناس - إلا من ذكرتْ عائشةُ - ا - كانوا يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية..."فلا زال المفسر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يتحدث عن قوله تبارك، وتعالى: فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] فذكر قول عائشة - ا - لعروة بن الزبير - رحمه الله -، وذلك أن الأنصار حين كانوا يهلون لمناة بالمُشلَّل، فكان مَن أهلّ هذا الإهلال لهذه الطاغية مناة يتحرج من السعي بين الصفا، والمروة، فأخبرهم الله أن هذا الحرج منتفٍ عنهم، وأنها من شعائر الله ، ثم أورد هذه الرواية الأخرى، فقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: إن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: إن الناس - إلا من ذكرتْ عائشةُ - يعني الأنصار، يعني أن تحرجهم كان من وجه آخر، وهو أنهم كانوا يعتقدون أن الصفا، والمروة من شعائر الجاهلية، ومن أعمال الجاهلية، وأن السعي بينهما ليس من شعائر الله، ولا من دينه الذي ارتضاه.
وكذا قول من قال، أو توهم أن السعي بين الصفا، والمروة لم يأمر الله به، وإنما قال: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [سورة الحـج:29] فالذي جاء الأمر صريحاً به هو الطواف بالبيت، وليس السعي بين الصفا، والمروة، فالمقصود أن هذا، وغيره مما يُذكر، كل ذلك لا إشكال فيه، فيمكن أن يكون بعضهم قد تحرج بسبب توهمه أن ذلك من عمل الجاهلية، أو لمِا كان يعتقده من عدم حل ذلك لمِا كان يفعله بعض العرب كالأنصار من التحرج من السعي بينهما؛ لأنهم كانوا يهلون لمناة بهذا المكان الذي هو المُشلَّل، والمُشلَّل: محل بين مكة، والمدينة، قريب من رابغ، أو قديد، وهو المكان الذي كانت إلى ناحيته غزوة المصطلق، فالمقصود أن السبب يمكن أن يكون هذا، وهذا، وهذا، ويمكن أن تجتمع هذه الأشياء جميعاً، فأخبرهم الله أن ذلك من شعائر الله، وأن هذا التحرج لا محل له، وأن هذا السعي بين الصفا، والمروة لا علاقة له بأمر الجاهلية، ويؤخذ، وجوب السعي بينهما من أمر النبي ﷺ بذلك، وفعله، فقد كان يسعى ﷺ، والناس يسعون بين يديه، ويأمرهم بالسعي، وقد قال ﷺ: خذوا عني مناسككم[6] فلا يسقط بحال من الأحوال، فهو ركن من أركان الحج، وبعضهم يقول: هو واجب من، واجباته، وليس هذا محل الكلام على هذه القضايا، وإنما الطريق الذي نمشي عليه هو بيان كلام ابن كثير - رحمه الله -، وتوجيه الأقوال التي يذكرها.
"وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا، والمروة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ [سورة البقرة:158] قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء، وهؤلاء..."هذا النص الذي أورده عن أبي بكر بن عبد الرحمن - وهو من التابعين - من النصوص النادرة التي يندر أن تقف على مثلها مما يُتعرف به على منهج السلف في التفسير، ومما تستنبط منه القواعد، والأصول التي يُبنى عليها التفسير، ولذلك ذكرتُ في بعض المناسبات في الكلام على أصول التفسير أن ذلك يؤخذ من جملة أمور: منها:
استقراء الآثار، والنصوص الواردة، والأخبار عن رسول الله ﷺ، وعن الصحابة، والتابعين، فإن من تتبع ذلك فإنه يجد، ولا بد بعض ما تؤخذ منه الأصول التي يُبنى عليها التفسير، فهذا النص النادر يُؤخذ منه ما يتعلق بأسباب النزول، وهو أن الأسباب إذا تعددت، ولم تكن متباعدة تُحمل الآية عليها جميعاً، يقال: هذه الآية نزلت بسبب هذا، وهذا، وهذا، ولا نحتاج إلى أن نرجح بين هذه الأسباب، وقد ذكرت لكم من قبل المسلك في هذا في أسباب النزول إذا تعددت، فإننا ننظر أولاً إلى الصحة فنستبعد الضعيف، ثم ننظر بعد ذلك إلى العبارة، وعرفتم أن أسباب النزول منها ما هو صريح، ومنها ما هو غير صريح، فنستبعد غير الصريح، ثم ننظر في الصحيح الصريح، فإن كان ذلك في وقت متقارب حُملت الآية على هذه الأسباب جميعاً، كما في قصة عويمر العجلاني، وهلال بن أمية في اللعان.
وإن كانت متباعدة حُملت الآية على التعدد بأنها نزلت أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة، ولا مانع من هذا، وبعض أهل العلم يسلك مسلك الترجيح في هذه الحالة، وهذا ذكرنا له أمثلة مثل نزول سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1] لما سأله المشركون، واليهود: صف لنا ربك، وكذلك: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126] في أحد، وفي عام الفتح لما قال سعد بن عبادة : "اليوم ذهبت قريش"، وكانت معه راية الخزرج من الأنصار فأخذها منه النبي ﷺ، وأعطاها لابنه قيس.. إلى غير ذلك من الأمثلة.
"وقد روى البخاري نحو ذلك عن أنس ، وقال الشعبي: كان إساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما، فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية."لو أردنا الآن أن نطبق القاعدة - التي ذكرناها قبل قليل - على هذه المرويات سنستبعد بعضها، يعني مثل هذه الرواية عن الشعبي هي من قبيل المرسل، والمرسل من الضعيف، وهكذا نُبقي الروايات الصحيحة الصريحة، والصريحة هي ما كانت مثل سبب نزول هذه الآية، أو يذكر، واقعة، أو سؤالاً ثم يقول: "فأنزل الله"، أو "فنزلت الآية" أما ما يقول فيه: "نزلت هذه الآية في كذا" فإن هذا يحتمل أن يكون من قبيل التفسير، وأن يكون من قبيل سبب النزول، ولذلك اختلفوا في غير الصريح هل له حكم الرفع، أو ليس له حكم الرفع لوجود الاحتمال؟، وسبق الكلام على هذا؛ لأنه عند تتبع الروايات أحياناً قد تجد رواية أخرى صريحة في هذا الذي هو غير صريح، نفس الحديث تجده في بعض الروايات صريحاً، وفي بعضها غير صريح، وأحياناً تجد أوله غير صريح، وآخره يصرح بعبارة تدل على أنه فعلاً سبب النزول، وهي نفس الرواية، وهذا له أمثلة ذكرتها من قبل في شرح مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية.
"وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل: أن رسول الله ﷺ لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا، وهو يقول: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ [سورة البقرة:158] ثم قال: أبدأُ بما بدأ الله به[7] وفي رواية النسائي: ابدءوا بما بدأ الله به[8].
وروى الإمام أحمد عن حبيبة بنت أبي تجراة - ا - قالت: رأيتَ رسول الله ﷺ يطوف بين الصفا، والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره، وهو يقول: اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي[9]."يعني هذا أمر، والأمر يفيد الوجوب، كأنه يقول: وإن ظن ظان أن الآية غير صريحة لأنها نفت الحرج، فإن ذلك جاء صريحاً عن رسول الله ﷺ.
"واستُدل بهذا الحديث على أن السعي بين الصفا، والمروة ركن في الحج، وقيل: إنه واجب، وليس بركن، فإن تركه عمداً، أو سهواً جبره بدم، وقيل: مستحب، والصحيح: أنه ركن أو واجب، فقد بيّن الله تعالى أن الطواف بين الصفا، والمروة من شعائر الله، أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج، وقد تقدم في حديث ابن عباس - ا -: أن أصل ذلك مأخوذ من تِطْواف هاجر، وتردادها بين الصفا، والمروة في طلب الماء لولدها، لما نفد ماؤهما، وزادهما حين تركهما إبراهيم هنالك، وليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت الضيعة على ولدها هنالك، ونفد ما عندهما قامت تطلب الغوث من الله ، فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا، والمروة متذللة، خائفة، وجلة، مضطرة، فقيرة إلى ، حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمم التي ماؤها طعام طعم، وشفاء سقم، فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره، وذله، وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله ليزيح ما هو به من النقائص، والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب، والمعاصي إلى حال الكمال، والغفران، والسداد، والاستقامة، كما فُعل بهاجر - عليها السلام-. "على كل حال العلماء يتكلمون على حِكَم أعمال الحج، وهناك أمور ظاهرة مثل هذا، فأصله هذا الاقتداء، وصار شرعاً لأهل الإسلام، وهو من دين إبراهيم ﷺ، فيتكلمون على هذا، وعلى غيره، وهذا الكلام منه ما هو متكلف، ومنه ما الحكمة فيه ظاهرة، وهذا مِن الذي تظهر حكمته، فهذا الاستحضار الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لا شك أنه استنباط صحيح، ولذلك أن هاجر - رحمها الله - كانت تسعى بين الصفا، والمروة، وذلك لشدة ما نزل بها، حتى جاءها الفرج، فالذي يسعي بين الصفا، والمروة يستحضر ألطاف الله ، وفقره، وحاجته، وذله فهو ليس بحاجة الآن إلى الشراب، أو إلى الطعام، أو إلى المؤنس، وإنما هو بحاجة إلى أمور أخرى، فيستحضر هذه المعاني، ويستحضر أنه ليس، وحده الذي يسلك هذا الطريق، وإنما سلكه سالكون قبله، إلى غير ذلك مما يذكره أهل العلم، وهو كثير جداً في أعمال المناسك.
وقد تكلمت في بعض المناسبات عن العقيدة في المناسك، وما يؤخذ مما يتعلق بالاعتقاد، فمما يتعلق بالاعتقاد في مثل هذه القضية ما ذكره ابن كثير، وهو التجاء العبد إلى الله في حال الشدة، والحاجة، فلا يلتجئ إلى أحد من خلقه، وإنما يلتجئ إلى الله ليفرج عنه.. إلى غير ذلك.
"وقوله: وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا [سورة البقرة:158] قيل: زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة، وتاسعة، ونحو ذلك، وقيل: يطوف بينهما في حجة تطوع، أو عمرة تطوع، وقيل: المراد تطوّع خيراً في سائر العبادات."يعني الآن هذه أقوال ثلاثة، أما الأول: فهو غير صحيح، تَطَوَّعَ خَيْرًا [سورة البقرة:158] يعني: زاد على سبعة أشواط، فهذه زيادة في العبادة غير مشروعة، فهي من قبيل البدعة، فالنبي ﷺ سعى سبعة أشواط، وقال: خذوا عني مناسككم[10]، وهذا وإن كانت الآية تحتمله في ظاهرها إلا أن ذلك ليس بمراد؛ لأن السنة مبينة للقرآن.
بقي الاحتمال الثاني: وهو أن هذا التطوع بالسعي، والسعي لا يكون عبادة مستقلة بمعنى أن الإنسان إذا فرغ من عمرته مثلاً فأراد أن يتطوع فإن له أن يسعى بين الصفا، والمروة كما أن له أن يطوف، فالسعي لا يشرع بهذا الوجه، على المشهور الراجح الذي عليه عامة أهل العلم، لا يتطوع بالسعي، وإن كان ظاهر الآية أيضاً يحتمله، فبقي أن ذلك إنما يكون في عمرة أخرى، أو في حجة أخرى؛ لأن العمرة الأولى واجبة، والحجة الأولى واجبة، فمن زاد فإن الله شاكر عليم، فإن الله يثيبه، ويطلع على عمله فيجازيه عليه، هذا هو الأقرب في معنى هذه الآية، أن هذا التطوع إنما يكون بالسعي في نسك آخر لا يجب عليه؛ لأن الواجب حصل بالأول، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وبعضهم يطلق ذلك، ويقول: من تطوع خيراًً بالصدقة، وألوان القربات من صلاة، وصوم، ونحو ذلك فإن الله يثيبه على هذا العمل، لكن لما كان الكلام على الصفا، والمروة، والسعي، فإن الأقرب أن يحمل ذلك على التطوع بهذه العبادة على وجه الخصوص في هذه الآية.
"وقيل المراد: تطوّع خيراً في سائر العبادات، حكى ذلك الرازي، وعُزي الثالث إلى الحسن البصري، - والله أعلم -.
وقوله: فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:158] أي يثيب على القليل بالكثير، عليم بقدر الجزاء، فلا يبخس أحداً ثوابه، لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40]."نحن عرفنا معنى الشكر، والشاكر، وشكر الله للعبد، وشكر العبد للرب، فالمقصود أن من معاني شكر الله للعبد ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - أنه يعطي على القليل الكثير، وأيضاً يجازي المحسن بإحسانه، فهو يجازيه بإحسانه، ويزيده، ويضاعف له ذلك أضعافاً كثيرة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فهذا من معاني شكر الرب للعبد.
هذه العبارة التي ذكرها: "حكى ذلك الرازي" ما الفرق بينها، وبين ما لو قال: "وذكره الرازي بحثاً"، أو يقول مثلاً: "وذكره الرازي احتمالاً"، وما هو لازم الرازي، بل أي واحد، مثلاً: "ذكره النووي احتمالاً".
طالب:........
أحسنت هو هذا، أنه لم يقل به أحد: ذكره بحثاً، هم يولدون الأقوال، فهو لم يذكره على أنه يتبناه، ويرجحه، ولكنه ذكر أن هذا القول مما تحتمله الآية، أو يحتمله الحديث، لكنه لم ينسبه لأحد، ما عُرف له قائل، وهو لم يذكره على أنه يتبناه، يقول به، ويرجحه، يقول: "ذكره احتمالاً"، "ذكره بحثاً" من باب توليد الأقوال.
- أخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء (ج2/ص968 - 2901)، وأحمد في المسند (ج6/ص165 - 25361)، وصححه الألباني في الإرواء (981)، والمشكاة (2534)، والروض النضير (1018).
- أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الذبح قبل الحلق (ج 2/ص615 - 1634)، وفي باب إذا رمى بعدما أمسى، أو حلق قبل أن يذبح ناسياً، أو جاهلاً (ج2/ص618 - 1647) وفي كتاب الأيمان، والنذور، باب إذا حنث ناسياً في الأيمان (ج6/ص2454 - 6289) ومسلم في الحج، باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمى (ج 4/ص84 - 3224 ).
- أخرجه البخاري في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ [جزء 1 - ص3 - 1:]، وفي كتاب الأيمان، والنذور باب النية في الأيمان [جزء 6 - ص2461 - 6311:]، وفي كتاب الحيل باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان، وغيرها [جزء 6 - ص2551 - 6553]، وهو في مسلم بلفظ الإفراد: إنما الأعمال بالنية في كتاب الإمارة باب قوله ﷺ: ( إنما الأعمال بالنية)، وأنه يدخل فيه الغزو، وغيره من الأعمال [جزء 3 - ص 1515 - 1907].
- في المسند (ج6/ص144 - 25155) قال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين غير أن سليمان بن داود الهاشمي أخرج له أصحاب السنن، والبخاري".
- البخاري في كتاب الحج، باب، وجوب الصفا، والمروة، وجُعِلَ من شعائر الله (ج2/ص592 - 1561)، ومسلم في الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا، والمروة ركن لا يصح الحج إلا به (ج4/ص69 - 3140).
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، في كتاب الحج، باب الإيضاع في، وادي محسر [ج5 - ص125:]، وصححه الألباني في إرواء الغليل [ج4 - ص271:]، وهو في مسلم في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً بلفظ: لتأخذوا مناسككم [ج2 - ص942:]، وفي سنن أبي داود في كتاب المناسك، باب في رمي الجمار [ج1 - ص604:]، وفي المسند [ج3 - ص 318 - 14459:].
- أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ [ج 2 - ص 886 - 147:].
- أخرجه النسائي في السنن الكبرى، في كتاب الحج، الدعاء على الصفا [ج 2 - ص 413 - 3968:] في المسند [ج3 - ص394 - 15280:]، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.
- في المسند [ج6 - ص421 - 27407:] وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "حسن بطرقه، وشاهده، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الله بن المؤمل، وقد اضطرب فيه".، وأخرجه الدارقطني في كتاب الحج، باب المواقيت [ج2 - ص255 - 85:]، و الطبراني في المعجم الكبير [ج24 - ص226 - 573:] والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الحج، باب، وجوب الطواف بين الصفا، والمروة، وأن غيره لا يجزئ عنه [ج5 - ص98 - 9149:]، وصححه الألباني في إرواء الغليل [ج4 - ص290:].
- سبق تخريجه في حاشية رقم (1).