الجمعة 28 / ربيع الآخر / 1446 - 01 / نوفمبر 2024
إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:158] روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة - ا، وأرضاها - قالت: قلت أرأيتِ قول الله ...
قبل هذا هناك بعض الأشياء التي لم يتطرق لها، وهي في قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ [سورة البقرة:158]، فالصفا يطلق في كلام العرب على الصخر الأملس، أو الحجر الأملس، والمقصود به - معروف - جبل الصفا الذي يسعى الناس بينه، وبين المروة.
وأما المروة فبعضهم يقول: هي الحجارة الصغار اللينة، وبعضهم يعكس فيقول: الصلبة، وبعضهم يقول: البيضاء البراقة، وبعضهم يعكس فيقول: السوداء، وبعضهم يقول: يُطلق على الحجارة اللينة، والحجارة الصلبة، كل ذلك يقال له: مروة.
فالحاصل أن الحجر الأملس يقال له: صفا، والحجارة التي قد تكون صغيرة لينة، أو صلبة يقال لها: مروة، وبعضهم يذكر في لونها البياض، وبعضهم يذكر السواد.
قوله: مِن شَعَآئِرِ اللّهِ [سورة البقرة:158] الشعائر: جمع شعيرة، والشعيرة: هي العلامة، أي من أعلام دينه في المناسك، فالصفا من شعائر الله، والمروة من شعائر الله، والطواف بالبيت من شعائر الله، ورمي الجمار من شعائر الله، وذبح الهدي من شعائر الله، بل الهدي نفسه من أعظم شعائر الله، ولهذا قال الله : لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ [سورة المائدة:2] فهذا من باب عطف الخاص على العام، فهذا كله من شعائر الله، والدين كله يمكن أن يقال: إنه منقسم إلى شعائر، وأمانات، ولا مُشَاحَّة في الاصطلاح، فيكون بهذا الاعتبار، وبهذا التقسيم: الشعائر هي الأمور الظاهرة، مثل: الأذان، وصلاة الجماعة..، وما أشبه ذلك، والأمانات هي الأمور التي لا تظهر كالطهارة، والصيام، والصدق مع الله ، والإخلاص له.. وما أشبه ذلك مما لا يطلع عليه الناس، فلو صلى الإنسان، وهو غير متوضئ لا يدري عنه أحد، والصوم كذلك، ولهذا قالوا: إن من خصائص الصوم أنه لا يدخله الرياء، بخلاف غيره من الأعمال، بينما يدخله السمعة، يتكلم عن نفسه أنه صائم، فهذا من العبادات التي أشعرها الله لعباده.
"روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة قالت: قلت..."
طالب: قلت هذه - رعاك الله - لها مكان؟!
عن عروة عن عائشة قالت: قلت: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [سورة البقرة:158] إي نعم ماذا عندكم؟
تراجعها؟
طالب:.........
جزاك الله خيراً.
طالب:.........
بالضبط، قالت حينما قلت لها هو هذا، لكن نشوف أصل الرواية هل هي هكذا؟
طالب:..........
ما فيه قالت: قلت؟ اقرأ.
طالب:..........
ابن كثير معك؟
طالب:.........
الأصل؟
طالب:..........
أي طبعة؟
طالب:.........
على كل حال تراجع، إن كانت هكذا الرواية فلا إشكال أنها صحيحة، لكن لو كانت عن عائشة قالت هو يحكي الرواية عنها، ثم يقول: قلتُ، يعني هي قالت ذلك بناءً على سؤاله إياها.
"روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة - ا - قالت: قلتُ: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] قلت: فوالله ما على أحد جناح ألا يطوّف بهما..."طبعاً عروة فهم هذا من رفع الجناح في الشرع، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158]، فإذا رفع الجناح في القرآن فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:233] معناه رفع الحرج، والجناح: هو الحرج الذي هو الإثم، فإذا قيل: "فلا جناح عليه أن يطوّف بهما" معناه أن السعي غير واجب، وهذا ما فهِمه عروة، وفهْمه هذا هل هو بعيد، ولا وجه له إطلاقاً، أو أنه له وجه؟ له وجه؛ لأن "لا جناح عليه" أي: لا إثم عليه أن يطوّف بهما، أو لا يطوف، كأنه فهم هذا.
فقوله: أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] مفهوم المخالفة أنه إن لم يطوّف بهما لا جناح عليه، فمجرد رفع الإثم عنه بالطواف على فهم عروة لا يعني، وجوب ذلك، يعني أن السعي بين الصفا، والمروة لا حرج فيه، هذا الظاهر المتبادر لعروة، وهذا الفهم لم يفهمه عروة وحده، بل قال به أئمة، ومن ثم اختلفوا في السعي بين الصفا، والمروة هل هو ركن أو واجب، أو مستحب؟، وهذا وقت المتساهلين في الفتوى، الذين يبحثون عن مثل هذه الأشياء.
فممن قال: إن السعي بين الصفا، والمروة سنة جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وهما إماما العصر في وقتهما، وقال به من السلف سفيان الثوري، ونقل عن بعض الأئمة مثل أبي حنيفة، وعنه رواية أخرى.
وهو ما فهمه هنا عروة، وهو من التابعين، وذكر فهْمه، وردّت عليه عائشة - ا-.
فالذي يبحث عن الرخص، والفتاوى السهلة يجد، فتجد بعضهم يقول: يا جماعة الحج زحمة خففوا على الناس، فالسعي بين الصفا، والمروة سنة، وهو قول ليس بمهجور، من لم  يسعَ - الحمد لله - ما عليه حرج، وهذا هو ظاهر الآية، وإن ردّت عائشة فهذا فهمها، واجتهادها، وخالفها بعض الصحابة، والصحابة إذا اختلفوا نرجح بين أقوالهم بالمرجحات، وابن جرير دائماً يعلمنا أنه لا يجوز العدول عن ظاهر القرآن المتبادر إلى معنىً خفي إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
والمبيت بمنى أيضاً شيخ الإسلام قال: إنه لا يجب، والمبيت في مزدلفة أيضاً قال فيه جمع من الأئمة: إنه سنة، ولا يجب، منهم عطاء بن أبي رباح، وهو أعلم الناس بالمناسك، فخلصنا من المبيت في مزدلفة، ومنى، وأنتم ضيقتم على أنفسكم، وأنتم في الشوارع! فما عليكم سعي، ولا طواف الإفاضة، وربما قالوا: ما عليكم، وقوف بعرفة، ارتاحوا، وحجوا من بيوتكم كما جاء: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج، والعمرة[1].
فإذا روض الإنسان نفسه على أن يتتبع الرخص بناءً على قوله ﷺ: لا حرج[2] وفهم هذا الفهم، وانطلق من هذه القاعدة: "لا حرج"، وبدأ يفتي الناس بكل شيء فهذه مشكلة كبيرة، ونحن نقول هذا الكلام لأننا نسمع أشياء عجيبة، وغريبة تصدر من بعض طلاب العلم في الحج يفتون فيها الناس.
"فقالت عائشة - ا -: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت: "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما"، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يُهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المُشلَّل..."العرب في الجاهلية كان عندهم أشياء تقترن بالمناسك، منها ما يكون قبل حجهم، ومنها ما يكون بعده، بحسب اختلاف قبائلهم، فإذا قرأتم في: (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) تجدون أشياء غريبة من هذا، فمنهم من يرى لزوماً أن يذهب إلى تلك المناسك قبل أن يذهب إلى بيت الله الحرام، فمن شعائر الحج عنده أنه لا يجوز له أن يسعى بين الصفا، والمروة حتى يذهب إليها، مثل من ساق الهدي مثلاً فإنه لا يتحلل من إحرامه حتى ينحر الهدي، فعندهم أن من أتى مناة لا يسعى بين الصفا، والمروة، هذا على قول عائشة - ا -، فتحرجوا، وجاء في روايات أخرى: أن هذا التحرج سببه أنه كان هناك أصنام يعظمونها إساف، ونائلة، ويزعمون أنهما رجل، وامرأة زنيا فمسخا إلى حجر، فكانوا يعظمونهما، ويتمسحون بهما إلى آخره، فلما أسلموا ظنوا أن السعي بين الصفا، والمروة أمرٌ يتصل بعمل أهل الجاهلية، وشركهم، فتحرج أهل الإيمان منه، فبيّن الله أنه ليس كذلك، بل هو من شعائر دينه، وإن أحدث فيه المشركون ما أحدثوا، فلا حرج عليكم بهذا السعي، وبذلك يكون هذا الكلام ليس ابتدائياً إنما هو لإزالة ما قد يتوهمونه، وبالتالي يفهم على وجهه، يعني: هناك فرق بين أن تبتدئ كلاماً، وتقول: لا حرج على من فعل كذا، وبين أن يكون الكلام جاء ليصحح فهماً، أو ليجيب على سؤال، أو نحو ذلك، وهذا ينحل به إشكالات في أمور كثيرة، وسيأتي - إن شاء الله - في الكلام على قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات[3] القصر هذا هل هو على ظاهره، وإلا  فهناك أعمال أخرى ما تحتاج إلى نية، ويؤجر الإنسان عليها؟ بناءً على هذا التفريق، فالكلام الابتدائي الذي قاله الشارع ليقرر به أصلاً، أو معنى، أو حكماً، فرق بينه، وبين الكلام الذي يكون تصحيحاً لمفهوم، أو جواباً على السؤال، أو نحو ذلك، فهذا إذا فهمته بهذا الاعتبار فإنه يُتكلم في كل مقام بما يناسبه، مثل قول الله مثلاً: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145] مع أن هناك محرمات أخرى، لكن هذا رد على المشركين حينما قالوا بتحريم أشياء من عند أنفسهم.
ولهذا يقول الله لنبيه ﷺ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ [سورة آل عمران:20] مع أن النبي ﷺ عليه البلاغ، وعليه أيضاً أمور أخرى، هو مبشر، ومعلم ﷺ للناس، ويبيّن الأحكام، وهو قدوة، وهو عبد من خيار عباد الله ، فقصره على هذا في مقابل كلام المشركين، ومطالبتهم في أن يحول لهم الصفا ذهباً، فرد عليهم قائلاً: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ [سورة الرعد:7] فليس لقائل أن يقول: لا، هناك مهام أخرى غير الإنذار، فليس هذا كلاماً ابتدائياً جاء ليقرر به صفة النبي ﷺ ابتداءً، وإنما هو في مقابل موقف يرد عليه، ومطالبةٍ من المشركين، ودعاوى، وتكلفات."وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا، والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله ﷺ، فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا، والمروة في الجاهلية، فأنزل الله : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] قالت عائشة - ا -: ثم قد سن رسول الله ﷺ الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما [4]، أخرجاه في الصحيحين [5]"على كل حال سبق في الكلام على أصول التفسير في (مقدمة شيخ الإسلام) في فوائد معرفة أسباب النزول أن ذلك يفيد في فهم المعنى، وقلنا: إن ذلك على درجات، فأحياناً يتوقف المعنى عليه، ولا يفهم إلا به، وأحياناً ينحل به الإشكال، وأحياناً يكون مُعِيناً على الفهم يتضح به المراد، وأحياناً هو من باب الفضلة، والزيادة فتفهم الآية من غير معرفة سبب النزول، فهو على مراتب، وهذا التفصيل لعله من أحسن ما يقال، وتجد من أهل العلم من يقول بهذا، فهذا في طرف، وهذا في طرف، بهذا التفصيل.
على كل حال هذا مما قد يتوقف عليه فهم المعنى، وإلا فلو بقي الناس مع ظاهر الآية ربما فهموا أنه لا يجب عليهم السعي، وعروة بن الزبير ليس أعجمياً، بل هو عربي قح، ورجل من أهل النبوغ، والعلم، والفقه، ففهم هذا الفهم، فأحياناً يتوقف المعنى عليه، فهذا مثال على سبب النزول الذي يتوقف عليه المعنى، وإن أردت أن تنزل درجة فقل: ينحل به الإشكال.
"وفي رواية عن الزهري أنه قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: إن هذا العلم ما كنتُ سمعته، ولقد سمعتُ رجالاًَ من أهل العلم يقولون: إن الناس - إلا من ذكرتْ عائشةُ - ا - كانوا يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية..."فلا زال المفسر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يتحدث عن قوله تبارك، وتعالى: فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] فذكر قول عائشة - ا - لعروة بن الزبير - رحمه الله -، وذلك أن الأنصار حين كانوا يهلون لمناة بالمُشلَّل، فكان مَن أهلّ هذا الإهلال لهذه الطاغية مناة يتحرج من السعي بين الصفا، والمروة، فأخبرهم الله أن هذا الحرج منتفٍ عنهم، وأنها من شعائر الله ، ثم أورد هذه الرواية الأخرى، فقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: إن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: إن الناس - إلا من ذكرتْ عائشةُ - يعني الأنصار، يعني أن تحرجهم كان من وجه آخر، وهو أنهم كانوا يعتقدون أن الصفا، والمروة من شعائر الجاهلية، ومن أعمال الجاهلية، وأن السعي بينهما ليس من شعائر الله، ولا من دينه الذي ارتضاه.
وكذا قول من قال، أو توهم أن السعي بين الصفا، والمروة لم يأمر الله به، وإنما قال: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [سورة الحـج:29] فالذي جاء الأمر صريحاً به هو الطواف بالبيت، وليس السعي بين الصفا، والمروة، فالمقصود أن هذا، وغيره مما يُذكر، كل ذلك لا إشكال فيه، فيمكن أن يكون بعضهم قد تحرج بسبب توهمه أن ذلك من عمل الجاهلية، أو لمِا كان يعتقده من عدم حل ذلك لمِا كان يفعله بعض العرب كالأنصار من التحرج من السعي بينهما؛ لأنهم كانوا يهلون لمناة بهذا المكان الذي هو المُشلَّل، والمُشلَّل: محل بين مكة، والمدينة، قريب من رابغ، أو قديد، وهو المكان الذي كانت إلى ناحيته غزوة المصطلق، فالمقصود أن السبب يمكن أن يكون هذا، وهذا، وهذا، ويمكن أن تجتمع هذه الأشياء جميعاً، فأخبرهم الله أن ذلك من شعائر الله، وأن هذا التحرج لا محل له، وأن هذا السعي بين الصفا، والمروة لا علاقة له بأمر الجاهلية، ويؤخذ، وجوب السعي بينهما من أمر النبي ﷺ بذلك، وفعله، فقد كان يسعى ﷺ، والناس يسعون بين يديه، ويأمرهم بالسعي، وقد قال ﷺ: خذوا عني مناسككم[6] فلا يسقط بحال من الأحوال، فهو ركن من أركان الحج، وبعضهم يقول: هو واجب من، واجباته، وليس هذا محل الكلام على هذه القضايا، وإنما الطريق الذي نمشي عليه هو بيان كلام ابن كثير - رحمه الله -، وتوجيه الأقوال التي يذكرها.
"وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا، والمروة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ [سورة البقرة:158] قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء، وهؤلاء..."هذا النص الذي أورده عن أبي بكر بن عبد الرحمن - وهو من التابعين - من النصوص النادرة التي يندر أن تقف على مثلها مما يُتعرف به على منهج السلف في التفسير، ومما تستنبط منه القواعد، والأصول التي يُبنى عليها التفسير، ولذلك ذكرتُ في بعض المناسبات في الكلام على أصول التفسير أن ذلك يؤخذ من جملة أمور: منها:
استقراء الآثار، والنصوص الواردة، والأخبار عن رسول الله ﷺ، وعن الصحابة، والتابعين، فإن من تتبع ذلك فإنه يجد، ولا بد بعض ما تؤخذ منه الأصول التي يُبنى عليها التفسير، فهذا النص النادر يُؤخذ منه ما يتعلق بأسباب النزول، وهو أن الأسباب إذا تعددت، ولم تكن متباعدة تُحمل الآية عليها جميعاً، يقال: هذه الآية نزلت بسبب هذا، وهذا، وهذا، ولا نحتاج إلى أن نرجح بين هذه الأسباب، وقد ذكرت لكم من قبل المسلك في هذا في أسباب النزول إذا تعددت، فإننا ننظر أولاً إلى الصحة فنستبعد الضعيف، ثم ننظر بعد ذلك إلى العبارة، وعرفتم أن أسباب النزول منها ما هو صريح، ومنها ما هو غير صريح، فنستبعد غير الصريح، ثم ننظر في الصحيح الصريح، فإن كان ذلك في وقت متقارب حُملت الآية على هذه الأسباب جميعاً، كما في قصة عويمر العجلاني، وهلال بن أمية في اللعان.
وإن كانت متباعدة حُملت الآية على التعدد بأنها نزلت أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة، ولا مانع من هذا، وبعض أهل العلم يسلك مسلك الترجيح في هذه الحالة، وهذا ذكرنا له أمثلة مثل نزول سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1] لما سأله المشركون، واليهود: صف لنا ربك، وكذلك: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126] في أحد، وفي عام الفتح لما قال سعد بن عبادة : "اليوم ذهبت قريش"، وكانت معه راية الخزرج من الأنصار فأخذها منه النبي ﷺ، وأعطاها لابنه قيس.. إلى غير ذلك من الأمثلة.
"وقد روى البخاري نحو ذلك عن أنس ، وقال الشعبي: كان إساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما، فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية."لو أردنا الآن أن نطبق القاعدة - التي ذكرناها قبل قليل - على هذه المرويات سنستبعد بعضها، يعني مثل هذه الرواية عن الشعبي هي من قبيل المرسل، والمرسل من الضعيف، وهكذا نُبقي الروايات الصحيحة الصريحة، والصريحة هي ما كانت مثل سبب نزول هذه الآية، أو يذكر، واقعة، أو سؤالاً ثم يقول: "فأنزل الله"، أو "فنزلت الآية" أما ما يقول فيه: "نزلت هذه الآية في كذا" فإن هذا يحتمل أن يكون من قبيل التفسير، وأن يكون من قبيل سبب النزول، ولذلك اختلفوا في غير الصريح هل له حكم الرفع، أو ليس له حكم الرفع لوجود الاحتمال؟، وسبق الكلام على هذا؛ لأنه عند تتبع الروايات أحياناً قد تجد رواية أخرى صريحة في هذا الذي هو غير صريح، نفس الحديث تجده في بعض الروايات صريحاً، وفي بعضها غير صريح، وأحياناً تجد أوله غير صريح، وآخره يصرح بعبارة تدل على أنه فعلاً سبب النزول، وهي نفس الرواية، وهذا له أمثلة ذكرتها من قبل في شرح مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية.
"وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل: أن رسول الله ﷺ لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا، وهو يقول: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ [سورة البقرة:158] ثم قال: أبدأُ بما بدأ الله به[7] وفي رواية النسائي: ابدءوا بما بدأ الله به[8].
وروى الإمام أحمد عن حبيبة بنت أبي تجراة - ا - قالت: رأيتَ رسول الله ﷺ يطوف بين الصفا، والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره، وهو يقول: اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي[9]."
يعني هذا أمر، والأمر يفيد الوجوب، كأنه يقول: وإن ظن ظان أن الآية غير صريحة لأنها نفت الحرج، فإن ذلك جاء صريحاً عن رسول الله ﷺ.
"واستُدل بهذا الحديث على أن السعي بين الصفا، والمروة ركن في الحج، وقيل: إنه واجب، وليس بركن، فإن تركه عمداً، أو سهواً جبره بدم، وقيل: مستحب، والصحيح: أنه ركن أو واجب، فقد بيّن الله تعالى أن الطواف بين الصفا، والمروة من شعائر الله، أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج، وقد تقدم في حديث ابن عباس - ا -: أن أصل ذلك مأخوذ من تِطْواف هاجر، وتردادها بين الصفا، والمروة في طلب الماء لولدها، لما نفد ماؤهما، وزادهما حين تركهما إبراهيم هنالك، وليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت الضيعة على ولدها هنالك، ونفد ما عندهما قامت تطلب الغوث من الله ، فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا، والمروة متذللة، خائفة، وجلة، مضطرة، فقيرة إلى ، حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمم التي ماؤها طعام طعم، وشفاء سقم، فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره، وذله، وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله ليزيح ما هو به من النقائص، والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب، والمعاصي إلى حال الكمال، والغفران، والسداد، والاستقامة، كما فُعل بهاجر - عليها السلام-. "على كل حال العلماء يتكلمون على حِكَم أعمال الحج، وهناك أمور ظاهرة مثل هذا، فأصله هذا الاقتداء، وصار شرعاً لأهل الإسلام، وهو من دين إبراهيم ﷺ، فيتكلمون على هذا، وعلى غيره، وهذا الكلام منه ما هو متكلف، ومنه ما الحكمة فيه ظاهرة، وهذا مِن الذي تظهر حكمته، فهذا الاستحضار الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لا شك أنه استنباط صحيح، ولذلك أن هاجر - رحمها الله - كانت تسعى بين الصفا، والمروة، وذلك لشدة ما نزل بها، حتى جاءها الفرج، فالذي يسعي بين الصفا، والمروة يستحضر ألطاف الله ، وفقره، وحاجته، وذله فهو ليس بحاجة الآن إلى الشراب، أو إلى الطعام، أو إلى المؤنس، وإنما هو بحاجة إلى أمور أخرى، فيستحضر هذه المعاني، ويستحضر أنه ليس، وحده الذي يسلك هذا الطريق، وإنما سلكه سالكون قبله، إلى غير ذلك مما يذكره أهل العلم، وهو كثير جداً في أعمال المناسك.
وقد تكلمت في بعض المناسبات عن العقيدة في المناسك، وما يؤخذ مما يتعلق بالاعتقاد، فمما يتعلق بالاعتقاد في مثل هذه القضية ما ذكره ابن كثير، وهو التجاء العبد إلى الله في حال الشدة، والحاجة، فلا يلتجئ إلى أحد من خلقه، وإنما يلتجئ إلى الله ليفرج عنه.. إلى غير ذلك.
"وقوله: وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا [سورة البقرة:158] قيل: زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة، وتاسعة، ونحو ذلك، وقيل: يطوف بينهما في حجة تطوع، أو عمرة تطوع، وقيل: المراد تطوّع خيراً في سائر العبادات."يعني الآن هذه أقوال ثلاثة، أما الأول: فهو غير صحيح، تَطَوَّعَ خَيْرًا [سورة البقرة:158] يعني: زاد على سبعة أشواط، فهذه زيادة في العبادة غير مشروعة، فهي من قبيل البدعة، فالنبي ﷺ سعى سبعة أشواط، وقال: خذوا عني مناسككم[10]، وهذا وإن كانت الآية تحتمله في ظاهرها إلا أن ذلك ليس بمراد؛ لأن السنة مبينة للقرآن.
بقي الاحتمال الثاني: وهو أن هذا التطوع بالسعي، والسعي لا يكون عبادة مستقلة بمعنى أن الإنسان إذا فرغ من عمرته مثلاً فأراد أن يتطوع فإن له أن يسعى بين الصفا، والمروة كما أن له أن يطوف، فالسعي لا يشرع بهذا الوجه، على المشهور الراجح الذي عليه عامة أهل العلم، لا يتطوع بالسعي، وإن كان ظاهر الآية أيضاً يحتمله، فبقي أن ذلك إنما يكون في عمرة أخرى، أو في حجة أخرى؛ لأن العمرة الأولى واجبة، والحجة الأولى واجبة، فمن زاد فإن الله شاكر عليم، فإن الله يثيبه، ويطلع على عمله فيجازيه عليه، هذا هو الأقرب في معنى هذه الآية، أن هذا التطوع إنما يكون بالسعي في نسك آخر لا يجب عليه؛ لأن الواجب حصل بالأول، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وبعضهم يطلق ذلك، ويقول: من تطوع خيراًً بالصدقة، وألوان القربات من صلاة، وصوم، ونحو ذلك فإن الله يثيبه على هذا العمل، لكن لما كان الكلام على الصفا، والمروة، والسعي، فإن الأقرب أن يحمل ذلك على التطوع بهذه العبادة على وجه الخصوص في هذه الآية.
"وقيل المراد: تطوّع خيراً في سائر العبادات، حكى ذلك الرازي، وعُزي الثالث إلى الحسن البصري، - والله أعلم -.
وقوله: فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:158] أي يثيب على القليل بالكثير، عليم بقدر الجزاء، فلا يبخس أحداً ثوابه، لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40]."
نحن عرفنا معنى الشكر، والشاكر، وشكر الله للعبد، وشكر العبد للرب، فالمقصود أن من معاني شكر الله للعبد ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - أنه يعطي على القليل الكثير، وأيضاً يجازي المحسن بإحسانه، فهو يجازيه بإحسانه، ويزيده، ويضاعف له ذلك أضعافاً كثيرة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فهذا من معاني شكر الرب للعبد.
هذه العبارة التي ذكرها: "حكى ذلك الرازي" ما الفرق بينها، وبين ما لو قال: "وذكره الرازي بحثاً"، أو يقول مثلاً: "وذكره الرازي احتمالاً"، وما هو لازم الرازي، بل أي واحد، مثلاً: "ذكره النووي احتمالاً".
طالب:........
أحسنت هو هذا، أنه لم يقل به أحد: ذكره بحثاً، هم يولدون الأقوال، فهو لم يذكره على أنه يتبناه، ويرجحه، ولكنه ذكر أن هذا القول مما تحتمله الآية، أو يحتمله الحديث، لكنه لم ينسبه لأحد، ما عُرف له قائل، وهو لم يذكره على أنه يتبناه، يقول به، ويرجحه، يقول: "ذكره احتمالاً"، "ذكره بحثاً" من باب توليد الأقوال.
  1. أخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء (ج2/ص968 - 2901)، وأحمد في المسند (ج6/ص165 - 25361)، وصححه الألباني في الإرواء (981)، والمشكاة (2534)، والروض النضير (1018).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الذبح قبل الحلق (ج 2/ص615 - 1634)، وفي باب إذا رمى بعدما أمسى، أو حلق قبل أن يذبح ناسياً، أو جاهلاً  (ج2/ص618 - 1647)  وفي كتاب الأيمان، والنذور، باب إذا حنث ناسياً في الأيمان (ج6/ص2454 - 6289)  ومسلم في الحج، باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمى (ج 4/ص84 - 3224 ). 
  3. أخرجه  البخاري في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ [جزء 1 - ص3 - 1:]، وفي كتاب الأيمان، والنذور باب النية في الأيمان [جزء 6 - ص2461 - 6311:]، وفي كتاب الحيل باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان، وغيرها  [جزء 6 - ص2551 - 6553]، وهو في مسلم بلفظ الإفراد: إنما الأعمال بالنية في كتاب الإمارة باب قوله ﷺ: ( إنما الأعمال بالنية)، وأنه يدخل فيه الغزو، وغيره من الأعمال [جزء 3 - ص 1515 - 1907].
  4. في المسند (ج6/ص144 - 25155) قال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين غير أن سليمان بن داود الهاشمي أخرج له أصحاب السنن، والبخاري".
  5. البخاري في كتاب الحج، باب، وجوب الصفا، والمروة، وجُعِلَ من شعائر الله (ج2/ص592 - 1561)، ومسلم في الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا، والمروة ركن لا يصح الحج إلا به (ج4/ص69 - 3140).
  6. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، في كتاب الحج، باب الإيضاع في، وادي محسر [ج5 - ص125:]، وصححه الألباني في إرواء الغليل [ج4 - ص271:]، وهو في مسلم في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً بلفظ: لتأخذوا مناسككم  [ج2 - ص942:]، وفي سنن أبي داود في كتاب المناسك، باب في رمي الجمار [ج1 - ص604:]، وفي المسند [ج3 - ص 318 - 14459:].
  7. أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ [ج 2 - ص 886 - 147:].
  8. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، في كتاب الحج، الدعاء على الصفا [ج 2 - ص 413 - 3968:] في المسند [ج3 - ص394 - 15280:]، وقال شعيب الأرنؤوط  في تعليقه على المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  9. في المسند [ج6 - ص421 - 27407:]  وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "حسن بطرقه، وشاهده، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الله بن المؤمل، وقد اضطرب فيه".، وأخرجه الدارقطني في كتاب الحج، باب المواقيت [ج2 - ص255 - 85:]، و الطبراني في المعجم الكبير [ج24 - ص226 - 573:]  والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الحج، باب، وجوب الطواف بين الصفا، والمروة، وأن غيره لا يجزئ عنه [ج5 - ص98 - 9149:]، وصححه الألباني في إرواء الغليل [ج4 - ص290:].
  10. سبق تخريجه في حاشية رقم (1).

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ جبلان صغيران بمكة".

مضى الكلام في الغريب أن الصفا يقال: للحجر الأملس، والمروة بعضهم يقول: إن أصلها الأحجار الصغيرة اللينة، وبعضهم يقول عكس هذا: أنها موصوفة بالصلابة، وبعضهم يقول: تقال لهذا، وهذا، وبعضهم يقول: بيض براقة، وبعضهم يقول: سود، هذا في المروة، لكن الصفا، والمروة، هما جبلان صغيران معروفان.

 "مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي: معالم دينه، واحدها شعيرة، أو شِعَارة".

شِعَارة أي العلامة، يعني من أعلام دينه، أو أعلام مناسكه، يعني مواضع العبادة، التي أشعرها الله - تبارك، وتعالى - إعلامًا لعباده من السعي بين الصفا، والمروة، وكذلك أيضًا مكان النحر (المنحر)، وكذلك أيضًا مثل عرفة، كل هذا من شعائر الله، فهي من أعلام المناسك، وأعلام الدين.

 إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ وشعائر الله منها ما يتعلق بالمناسك، ومنها ما يتعلق بغير ذلك، فالأذان من الشعائر، وإعفاء اللحية من شعائر الدين أيضاً، يعني هي من الأمور الظاهرة، وصلاة الجماعة هي من الشعائر، وهكذا وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ [الحج: 32] أي: أعلام الدين الظاهرة.

 "فَلا جُناحَ عَلَيْهِ إباحة للسعي بين الصفا، والمروة، والسعي بينهما واجب عند مالك، والشافعي، وإنما جاء بلفظ يقتضي الإباحة لأن بعض الصحابة امتنعوا من السعي بينهما؛ لأنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له: إساف، وعلى المروة صنم يقال له: نائلة، فخافوا أن يكون السعي بينهما تعظيمًا للصنمين، فرفع الله ما، وقع في نفوسهم من ذلك".

هذا جاء في أثر عن الشعبي، وهو مرسل، يعني لا يصح، لكن صح من حديث عائشة - ا - في سؤال عروة المشهور، حينما سألها عن ذلك، حيث توهم أن السعي بين الصفا، والمروة غير واجب[1]؛ لأن الله قال: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فغاية ما هنالك هو رفع الحرج، إذن ذلك لا يُطلب فيه ما هو فوقه من الندب، أو الوجوب؛ لأن المندوب هو ما طلبه الشارع طلبًا غير جازم، والواجب: ما يكون الطلب فيه جازمًا، ففهم عروة هذا، فردت عليه عائشة - ا - من جهة اللفظ، أنه لو قُصد هذا لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما.

لكنه قال: أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ثم ذكرت موضع الشاهد، وهو التعليل الآخر له، وهو سبب النزول، وسبب النزول يرتفع به الإشكال في مثل هذا الموضع، أسباب النزول أحيانًا قد لا تُفهم الآية إلا به، وقد يرتفع الإشكال، وقد يتضح المعنى اتضاحًا يكون أجلى، وقد يكون ذلك لدفع تهمة، أو لبيان منقبة، وقد يكون سبب النزول غير مؤثر في شيء من ذلك، فأسباب النزول تتفاوت من جهة التعلق بالمعنى من جهة كشفه، ومدى توقف المعنى عليه، فعائشة - ا - كان مما ذكرت له، لما بينت له اللفظ، والخطأ في فهمه قالت: ولكنها إنما أُنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا، والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا، والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ يعني معناها: أنها نزلت بسبب تحرج هؤلاء الأنصار من ذلك في جاهليتهم، فسألوا النبي ﷺ: هل هذا التحرج باقي بعد الإسلام، أو غير باقي؟ وهذا في الصحيحين[2].

وفي رواية عن الزهري قال عروة: سألت عائشة - ا - فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة: 158] فو الله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا، والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا، والمروة، فلما أسلموا، سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا، والمروة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] الآية[3].

لاحظ يقول أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء، وفي هؤلاء[4].

وهذا شاهد نادر في حمل الآية على السببين من أسباب النزول، يعني أن تكون نزلت لأكثر من سبب، فيقول: يحتمل أن تكون نزلت بسبب منع اعتقد أن هذا من أعمال الجاهلية، فتحرج أن يفعله بعد الإسلام، أو أن ذلك باعتبار أنه لم يُذكر، وإنما الذي ذُكر هو الطواف بالبيت، فأنزل الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فهنا معرفة سبب النزول يكشف هذه الإشكال، فلا يكون كما فهم عروة. 

وعائشة - ا - صرحت في هذا الحديث بأنه ليس لأحد أن يترك السعي بين الصفا، والمروة، لأن هذا واجب، لكن العلماء اختلفوا هل هو ركن أو واجب؟ يعني من قالوا: إنه لازم، اختلفوا هل هو ركن لا يصح الحج إلا به، ولا يجبر بدم، أو أنه واجب؟

"ثم إن السعي بينهما واجب بالسنة، قالت عائشة - ا -: سن رسول الله ﷺ السعي بين الصفا، والمروة، وليس لأحد تركه، وقيل: إن الوجوب يؤخذ من قوله: شَعَائِرِ اللَّهِ وهذا ضعيف؛ لأن شعائر الله: منها واجبة، ومنها مندوبة، وقد قيل: إن السعي مندوب".
 

وأيضًا يؤخذ من السنة أن النبي ﷺ سعى بين الصفا، والمروة، هو يقول: خذوا عني مناسككم[5] قوله: "وقد قيل: إن السعي مندوب" فهذا نُقل عن بعض السلف، ولكن هذا بعيد كل البُعد، فلا داعي لتبني قول كهذا، والإغراب على الناس، أو نشر هذا في رسالة، أو في كتاب، فإن ذلك لا يحسن من طالب العلم، يكفينا قول عائشة - ا -: فسن رسول الله ﷺ السعي بين الصفا، والمروة، وليس لأحد تركه، وقوله ﷺ: خذوا عني مناسككم[6] .

 "يَطَّوَّفَ أصله يتطوف، ثم أدغمت التاء في الطاء، وهذا الطواف يراد به السعي سبعة أشواط.  وَمَنْ تَطَوَّعَ عام في أفعال البر، أو خاص بالسعي بين الصفا، والمروة، فيقتضي أن السعي بينهما تطوع، ويؤخذ الوجوب من السنة، أو معنى (تطوع) التطوّع بحج بعد حج الفريضة".

 

 وَمَنْ تَطَوَّعَ قال: "عام في أفعال البر"، وهذا منقول عن الحسن البصري - رحمه الله -[7] يعني وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا بأعمال من صدقات، ونوافل متنوعة، وذكر، ونحو ذلك، يتقرب بها إلى الله.

قال: "أو خاص بالسعي بين الصفا، والمروة" باعتبار أن السياق، والكلام في السعي إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ فإذا ربطناه بموضوع السعي باعتبار أن السياق يرتبط به "فيقتضي أن السعي بينهما تطوع" يعني أنه ليس من الشعائر اللازمة فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا على ما فهمه عروة، وما قاله بعض السلف: أن ذلك لا حرج عليه أن يطوف، فمن تطوع خيرًا فعله، وهو غير واجب عليه، فإنه الله شاكر عليم، لكن هذا بعيد.

وبعضهم قال: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا بالزيادة على الأشواط السبعة، فسعى ثمانية، أو تسعة، أو نحو ذلك، وهذا أبعد، وإن قال به بعض من ينتسب إلى العلم، ويحتمل وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا بأن يأتي به في حج تطوع، أو عمرة تطوع، غير الفريضة، الحج واجب في العمر مرة، والأرجح أن العمرة واجبة في العمر مرة، فمن تطوع خيرًا بحج، أو عمرة، وسعى فيهما، فإن الله شاكر عليم.

وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[8].

فعلى القول الأول: "عام في أفعال البر" يعني المراد فعل خيرًا غير واجب عليه، فيدخل في هذا نفقات الإنسان، وصدقاته في الحج، وفي غير الحج، وفي العمرة، وأعماله، وقراءة القرآن، والذكر، والاشتغال بالطواف غير النسك الواجب عليه، فكل هذا داخل في التطوع. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب وجوب الصفا، والمروة، وجعل من شعائر الله برقم: (1643) ومسلم في كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا، والمروة ركن لا يصح الحج إلا به برقم: (1277).
  2.  سبق تخريجه.
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب وجوب الصفا، والمروة، وجعل من شعائر الله برقم: (1643)، ومسلم في كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا، والمروة ركن لا يصح الحج إلا به برقم: (1277).
  4.  أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب وجوب الصفا، والمروة، وجعل من شعائر الله برقم: (1643)، ومسلم في كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا، والمروة ركن لا يصح الحج إلا به برقم: (1277).
  5.  أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 204 - 9524)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (4/ 316 - 1119).
  6.  سبق تخريجه.
  7.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 472).
  8.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (2/ 728).
     [صادق1]بعد هذا سقط لم ينقله المفرغ، وهو مهم من دقيقة (43) إلى (46)

مرات الإستماع: 0

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:158].

الصفا والمروة هما الجبلان المعروفان، جبلان صغيران في طرفي المسعى، من جهة الشرق بالنسبة للكعبة، الصفا والمروة من شعائر الله، معالم الدين الظاهرة، فهذا الدين فيه شعائر كالأذان والتكبير الذي يُجهر به كتكبيرات العيد، والتلبية، وكذلك أيضًا هذه الأعمال التي في الحج من الطواف، والذبح والهدي والقلائد وما إلى ذلك، كله من شعائر الله، أعلام الدين الظاهرة، التي جعل الله تعظيمها دليلاً على تقوى القلوب وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحج:32] فهذه الشعائر منها ما هو أعمال، ومنها ما هو مواضع كالصفا والمروة، ومنها ما هو هيئات كإعفاء اللحية، فهي من شعائر الدين، فالأمور الظاهرة يُقال لها شعائر، والأمور الباطنة الخفية يُقال لها أمانات، فالطهارة أمانة لا يطلع عليها أحد، الصيام أمانة قد يُفطر ولا يعلم به أحد، قد يُفطر بالنية لا ينوي الصوم، ولا يشعر به أحد، وإن لم يأكل ويشرب، والغُسل من الجنابة أمانة من الأمانات الناس لا يطلعون عليه، وهكذا.

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ أعلام الدين الظاهرة التي صرنا مُتعبدين بها بالسعي بين هذين الجبلين.

فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ من قصد البيت الحرام يريد النُسك الأكبر وهو الحج، أو النُسك الأصغر وهو العمرة، فلا حرج عليه أن يسعى بينهما، فالسعي بينهما واجب، ولكنه جاء التعبير هنا بنفي الحرج لمناسبة وهي تتعلق بحال كانوا عليها قبل الإسلام؛ حيث كانوا يعتقدون أن ذلك من أعمال الجاهلية؛ إذ كانوا في الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة لوجود أصنام على الصفا، فكانوا يعتقدون أن هذا العمل هو طواف بهذه الأصنام، وأن ذلك ليس من دين إبراهيم لما أسلموا تحرجوا فظنوا أن هذا من بقايا ومآثر الجاهلية وأعمال الجاهلية، فصار عندهم شيء من التحرج من السعي، هل هو من العمل المشروع، أو أنه من العمل الممنوع؟

وبعضهم لربما تحرج لمعنى آخر غير تعظيم الأصنام التي كانت عليه؛ إذ كان بعضهم لهم طقوس في الجاهلية فيما يتعلق بأعمال الحج في السعي وغيره، ومن نظر في تاريخ العرب وأعمالهم في النُسك رأى أحوالاً متُباينة، فبعضهم يتحرج لهذا، وبعضهم يتحرج لذاك، الشاهد أنه لما وقع الحرج عند هؤلاء سواء من تحرج من أجل هذه الأصنام، أو من تحرج لأمر آخر كان عليه في الجاهلية من مزاولات تتصل بالسعي، فرفع الله عنهم هذا الحرج، وبين أنها من شعائر الله ليس كما ظنوا أن ذلك من أعمال الجاهلية، فقال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] الجناح الحرج فلا حرج عليه، لما تحرجوا نفى عنهم الحرج، فهذه الآية لم تكن مبتدأة، وإنما كانت إزالة للإشكال ورفعًا لتحرج وقع عند بعضهم، فجاء ذلك لبيانه، وتعريف الناس بهذه الشعائر، وأنها من دين الله وأعلام دينه الظاهرة، وليست من آثار الجاهلية ومآثرها.

وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا [سورة البقرة:158] بفعل الطاعات بمعنى أنه يتقرب إلى الله بألوان القُربات المالية والبدنية إضافة إلى أعماله التي شرع فيها كالحج، أو العمرة، من عمرة أخرى على سبيل التطوع وحجة أخرى على سبيل التطوع، أو الازدياد من أعمال البر بالهدي والنفقات المالية، ونحو ذلك فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:158] يُثيب على القليل بالكثير، ولا يضيع عنده عمل العاملين، وهو عليم بأعمالهم، وأحوالهم، ونياتهم، ومقاصده، ونفقاتهم وما يقع في قلوبهم في أثناء ذلك من إخبات، أو ما يقع من استثقال وتبرم كل ذلك يعلمه.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد والهدايات من قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [سورة البقرة:158] تعظيم الصفا والمروة ما منشأ ذلك؟ ما أصل السعي بين الصفا والمروة؟ وكيف صار ذلك من شعائر الله؟

كما قد علمتم، هي حركة قد جرت باعثها الشدة التي وقعت لامرأة ضعيفة وحيدة بين هذه الجبال في هذا الوادي غير ذي الزرع مع صغيرها الذي لا يدفع عن نفسه ولا عنها، يتضاغى من الجوع والعطش، وتراه في حال لا تُحتمل، فلا تجد تعبيرًا عما يدور في نفسها إلا بهذا الذهاب والمجيء، تتردد بين جبلين صغيرين، يُحيط بهما جبال كِبار، فماذا عسى أن تقطع بهذه الخطوات الضعيفة؟ وماذا عسى أن ترى من خلال هذه المواقع التي هي أشبه بالتلاع منها بالجبال، جبلان صغيران، وامرأة ضعيفة تتردد بينهما عسى أحدًا يقدم فيُغيث، ثم بعد ذلك يأتي الفرج.

هذه المرأة لم تكن نبيه بل كانت هبة وهبها ملك مصر -كما هو معروف- لسارة زوج إبراهيم أخدمها هاجر، فكانت بهذه المثابة، فوهبتها سارة لإبراهيم فأنجبت منه هذا الولد، وانظر كيف بلغ أمرها وحالها، وخطوات هذه المرأة، حينما يتأمل الإنسان هذه الأجيال والأمم من بعد إبراهيم  حيث أمر الله أن يُنادي بالناس بالحج، فلا يتم حج أحد بعد أن يطوف بالبيت ولا العمرة إلا أن يذهب ويخطو بين هذين الجبلين بعدد ما خطت هذه المرأة سبعة أشواط، يبدأ بالصفا إلى المروة هذا في غاية العجب، وفيه من العِبر ما لا يُقادر قدره، فانظر كيف يصنع الله بأوليائه؟ هل كان يخطر في بال هذه المرأة وهي تُكابد وتُعاني أن هذه الأُمم والجموع من العرب والعجم على مر الأجيال القادر منهم، والضعيف والعاجز المحمول، والماشي، والراكب كل هؤلاء لزامًا يسعون بين الصفا والمروة، اقتداء بهذه المرأة.

فالله لا يُضيع أولياءه بل يرفعهم أي رفعة -أيها الأحبة- تبلغ هذا المبلغ، امرأة ليست نبية، امرأة وهي هبة من ملك مصر كخادمة، ثم بعد ذلك يكون من نسلها، ومن نسل هذا الولد خير أمة أخرجت للناس كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110] ويخرج من هؤلاء صفوة الخلق محمد ﷺ لو كانت هذه المرأة وهي تذهب وتجيء تتصور هذا المشهد الآن هذه الجموع التي تأتي من أصقاع المعمورة، ومن لا يأتي فهو يترقب، ويتشوف، ويتطلع، ويُقطع قلبه الشوق للمجيء إلى هذه المحال والمواضع، انظروا ما صنع الله بها وبولدها، فالمؤمن يُحسن الظن بربه والله لا يُضيع أجر من أحسن عملا، لكنه يبتليهم، وكان ابتلاء شديدًا امرأة وحيدة في هذه الأماكن، غريبة في مكان لا زرع فيه ولا ماء، جبال سوداء، ثم بعد ذلك يقع لها هذه الأمور جميعًا.

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [سورة البقرة:158] والشعائر يجب أن تُعظم وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحج:32] فتعظيم الصفا وتعظيم المروة وما بينهما، تعظيم السعي هذا كله من تقوى القلوب، وهذا التعظيم يقتضي أمورًا من التطهير للمكان ومن تعظيمه وتفخيمه وإجلاله، والمهابة التي تكون في القلوب، ومحبة هذه المواضع إضافة إلى التأدب عندها، فلا يدخلها وهو خاوي القلب مشغول بحديث جانبي مع غيره يُضاحكه ويُحادثه، وكأنه جاء إلى سوق، أو إلى نُزهة، أو لربما قطع الوقت في السعي وهو يتحدث بهاتفه، أو لربما يتلفت وينظر إلى النساء الغاديات الرائحات ينظر إلى ما حرم الله من العورات، وهو في مثل هذا المكان فهذا خلاف التعظيم.

وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحج:32] ما هي شعائره؟ منها الصفا والمروة، وما يُعمل هنالك من السعي، ومن هنا لا يجوز لأحد أن يستخف بشيء من هذا، فيقول: هذا السعي لا معنى له، أو يقول: الإسراع ما بين العلمين لا معنى له، أو يسخر ممن يفعل هذا، أو يضحك منهم أو يتندر بالحجاج والمعتمرين والساعين، فهذا لا يُعظم شعائر الله.

وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ [سورة الحج:32] أما الإفساد والإساءة إلى هذه البِقاع فهذا من أعظم الاستخفاف بها والعدوان، والله يقول: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحج:25] فعبر هنا بالإرادة التي عدي فعلها يُرد فيه بإلحاد بالباء مما يدل على أن فعل الإرادة هنا مضمن معنى فعل آخر يُعدى بالباء وهو الهم، من يهم مجرد الهم بالإساءة والعدوان الإلحاد بظلم قال: نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فكيف لو أنه صدر عنه عمل يُسيء إلى بيت الله الحرام، أو إلى من يعمرون هذا البيت من الحجاج والمعتمرين أو المصلين، أو نحو ذلك؟

وهذه الإساءات أنواع منهم من يُباشر ذلك بيده، كما فعل القرامطة قتلوا الناس على الصفا والمروة، وكما يتوعد أحفادهم وأتباعهم، ويوجد في كتبهم من ذلك أشياء أن مهديهم سيقتل الحجيج بين الصفا والمروة، هذا موجود في كتبهم المُعتمدة.

وكذلك أيضًا يدخل في هذا العدوان كل من يؤدي إلى تخويف الناس، أو إعطاء انطباع سيء عن الحرم عن المسعى عن المطاف عن بيت الله الحرام ويدخل في هذه الصور الظالمة الآثمة لمشاهد تنفر منها النفوس من أمور تقع بقدر الله -تبارك وتعالى- قد لا يكون للناس يد فيها، فتصور وتُنشر، ولربما تُغير هذه الصور ويُجرى عليها بعض التزويق وتصور على أنها أحداث جديدة كأنها أشياء متجددة حدثت وتُنشر في قنوات سيئة، فهذا كله من العدوان والظلم، وهو خلاف تعظيم شعائر الله، وشعائر الله لا تقبل المتاجرة والمزايدة من أي طرف كان، الجميع يجب عليه أن يخضع، وأن يُعظم.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [سورة البقرة:158] هذا دليل على أن غير الحاج والمعتمر لا يتطوع بالسعي؛ لأنه قيده بالحج والعمرة فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا إذًا غير الحاج والمعتمر لو أنه باقي في البيت هل له أن يطوف بين الصفا والمروة سبعة أشواط تطوعًا؟ الجواب: لا، هل يتقرب إلى الله بالسعي في غير النُسك في الحج والعمرة؟ الجواب: لا، لا يُشرع ذلك بخلاف الطواف بالبيت فهو عبادة تابعة للحج والعمرة، وهو عبادة أيضًا مستقلة فقد صح عن النبي ﷺ أن تحية الطواف، والله قال: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [سورة الحج:26] فذكر الطواف على سبيل الاستقلال، ولم يُربط ذلك بالحج، أو العمرة.

إذًا: التطوع بالسعي لا يُشرع، وقوله -تبارك وتعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:158] حمله بعض أهل العلم على التطوع بالنفقة باعتبار أن الخير يُطلق ويُراد به المال، تطوع خيرًا، يعني: بمال يبذله ونفقة يُنفقها في حجه وسفره على الرفقاء، أو على أهل البيت من المحتاجين والمساكين، أو بالهدي، أو نحو ذلك والواقع أن المعنى أعم من هذا، فالمال وإن قيل له خير وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] إلا أن ذلك لا ينحصر به، لكن يمكن أن يدخل في ذلك كما أشرت قبل قليل بحج تطوع وبعمرة تطوع، وبطواف تطوع طواف في البيت، وكذلك بنفقة وصدقة، وسائر أفعال الخيرات، فهذا لكن لا يختص ذلك بالسعي؛ فإن السعي لا تطوع فيه، فيكون قدرًا زائدًا عليه، ولهذا عطفه بالواو إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا يعني: زائدًا على السعي بين الصفا والمروة والنُسك من الحج أو العمرة فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ.

ثم تأمل قوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا طيب من تطوع شرًا بالبدع والمُحدثات؛ فإن الله لا يقبل ذلك، ولا يشكر له عمله ولا سعيه، عنده بدع أعمال بدعية، من أوراد وأعمال ومزاولات من البدع والمحدثات، فهذا لا يقبله الله من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1] فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110].

وتأمل أيضًا هذا التوكيد، بقوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [سورة البقرة:158] أوكد بـ "إن" باعتبار أن المخاطبين لديهم شيء من التردد، فاحتاجوا إلى التأكيد، والعرب تؤكد الكلام بالمؤكدات بحسب حال السامع، أو المُخاطب، وما عنده من التردد كما هو معلوم.

وتأمل ختم هذه الآية بهذين الوصفين: فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ فذلك في غاية المناسبة، فهذا التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد والنية، فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل، إذا تصدق، إذا طاف تطوعًا، إذا قدم الهدي، وما إلى ذلك، فالله شاكر عليم، العلم هنا يدخل فيه العلم بالمقاصد والنيات، يعلم قصده ونيته، هل هو يُكاثر يُفاخر، هل هو يتباهى يتكثر بالحج والعمرة؟ يتكثر بالنفقات، بنوع الحملة التي يذهب فيها، الفندق الذي يسكنه، بعض الناس يتباهون حتى في هذه الأشياء، يتباهى في المكان الذي يسكنه، نحن نسكن في المكان الفلاني، سكنا في المكان الفلاني، ثم ماذا؟ العبرة بالقبول، والعمل الذي يكون عليه الإنسان والنية والصدق مع الله مع صحة العمل، وتعجب من أشياء أحيانًا لا تصدقها لا ندري هل هي من باب التركيب والطُرف، أو أنها حقائق؟

أحيانًا نقرأ إعلانًا لا ندري ما حقيقته إعلان من يمكن أن يأتوا مع الإنسان بحسب المواصفات والطلب في الطول والعرض، والهيئة، والجنسية يأتون معه في المناسبة كأنهم رفقاء، وكأنهم بمبالغ مادية على كل شخص بحسب العدد الذي تريد، المباهاة والمفاخرة أصبحت بيع للمُتابعين فيما نسمع في هذه الحسابات في تويتر وغيره، بيع يُباع، هذا تُباع معه القلوب والعقول، والله المستعان، والله أعلم. 

  1.  أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، رقم: (1718).