الجمعة 28 / ربيع الآخر / 1446 - 01 / نوفمبر 2024
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلْهُدَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِى ٱلْكِتَٰبِ ۙ أُو۟لَٰٓئِكَ يَلْعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم مجالس في تدبر القرآن الكريم مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ۝ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ [سورة البقرة:159-162] هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة، والهدي النافع للقلوب، من بعد ما بيّنه الله تعالى لعباده من كتبه التي أنزلها على رسله."الآن هذه الآية ظاهرها العموم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:159] فهي عامة في ظاهرها، وبعض أهل العلم كابن جرير على عادته - كما عُرف فيما سبق - أنه يقول: إن هذه الآيات جميعاً قد نزلت في أهل الكتاب، لا سيما اليهود، فهم الذين كتموا صفة النبي ﷺ، وأحقية ما جاء به - عليه الصلاة، والسلام -، وكتموا أمر القبلة.. إلى غير ذلك من الأمور التي كتموها.
كما حرفوا، وكتموا ما أنزل الله في كتبهم، فجعلوه قراطيس يبدونها، ويخفون كثيراً، فالآية، وإن كان يدخل فيها هؤلاء دخولاً أولياً إلا أن ظاهرها العموم، فيدخل فيها كل من كتم ما أنزل الله ، لكن ذلك قيّده الله - تبارك، وتعالى - بقوله: مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [سورة البقرة:159]، ومعنى ذلك أن هذا الكتمان المتوعد عليه هو مما يحتاج إلى بيان، وهي البينات، والهدى، من الأمور التي توضح الحق، وتجليه، والناس يفتقرون إلى هذا الإيضاح، والبيان فيكتم عنهم، أو يقال لهم غير ذلك مما لا يعتقده الإنسان، فيتكلم بخلاف ما يؤمن به، وينعقد قلبه عليه، فهذا كله من الكتمان، والكذب على الله إذا قال غير ذلك مغيراً للحقيقة التي علمها عن الله ، فهذا أخطر.
والمراتب في هذا متفاوتة أعظمها أن يكتم الحق، وأن يبدي غيره، فيكذب، ويقول: حكم الله في المسألة كذا، على خلاف ما يعتقد، ويغيّر حقائق الدين، ويلبّس على الناس فهذا أعظم، المرتبة الثانية: أن لا يذكر لهم هذا التلبيس، ولكنه لا يُبين، لا يظهر الحق الذي عرفه، وما أكثر ما يقع الناس في هذا، وقد عرفنا في اقتضاء الصراط: أن هذه الأمة أشبهت أهل الكتاب في أمور كثيرة، منها: كتمان الحق، فهذه الأمة، وإن لم تقع في تحريف الكتاب نصاً بلفظه، ولكنها وقعت في التحريف في معانيه، وتحريف المعاني هو تغييرها عن وجها الذي أراده الله - تبارك، وتعالى -، فهذا القيد في قوله: مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [سورة البقرة:159] يخرج كتمان ما لا يحتاج إليه الناس، أو ما يتضررون بمعرفته، وفي الحديث المشهور - حديث أبي هريرة - في البخاري، لما قال: "حفظت عن رسول الله ﷺ، وعاءين، أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم"، وذلك مما لا يحتاج إليه الناس من الأمور التي تتعلق بأحداث، وأشخاص؛ لأن النبي ﷺ أخبر عن أمور كثيرة مما سيقع، وما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق إلا وقد ذكر لهم منه خبراً - عليه الصلاة، والسلام -، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه.
فهناك أخبار تتعلق بأناس كانوا يعاصرون أبا هريرة، ولهذا كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من إمارة السفهاء"، وكان يقول: "اللهم لا تدركني سنة ستين" فمات سنة سبع، وخمسين، وقيل: سنة ثمان، وخمسين، وقيل: تسع، وخمسين، وسنة ستين كانت فيها إمارة يزيد بن معاوية، وفي إمارته حصل ما حصل من قتل الحسين، ووقعة الحرة، وفيها نُصب المنجنيق على جبل أبي قبيس فضربت الكعبة، وتخرقت، وحوصر ابن الزبير، وحصلت فيها للمسلمين أمور عظيمة في ذلك العهد.
فالمقصود أن كتمان ما لا يحتاج إليه الناس أمر لا حرج فيه، ولهذا فإن من العلم ما لا يُطلب نشره، وكما قيل: "ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"، وتعرفون حديث معاذ: "أفلا أبشر الناس؟" فقال: لا، وبيّن له علة ذلك إذاً يتكلوا
[1]، وحديث عمر مع أبي هريرة لما أعطاه النبي ﷺ نعله - القصة المعروفة - في بشارة من قال: لا إله إلا الله، ومات لا يشرك بالله دخل الجنة، فدفعه عمر على صدره حتى وقع.
فالمقصود أنه ما كل ما يُعلم يقال، إذا كان هذا الكلام الذي يقال للناس يورثهم شيئاً من التهاون، أو التساهل، أو الإرجاء، أو أنه لا تبلغه عقولهم، ولا تحيط به أفهامهم فيحملونه على غير وجهه فإنه لا يُطلب ذكره، ونشره في الناس، ولذلك كان بعض الأئمة لا يرى التحديث ببعض الأبواب من العلم؛ لئلا تفهم على غير وجهها، ولا حاجة للتمثيل بأكثر مما ذكرت، فنحن في زمان صار الناس يتشبثون فيه بكل شيء من أجل تسويغ ما هم عليه.
"قال أبو العالية: نزلت في أهل الكتاب، كتموا صفة محمد ﷺ، ثم أخبر تعالى أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء، فيلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون."طبعاً هذا المقصود به العالم الذي يبيّن الحق للناس، وهؤلاء يفترض فيهم العلم؛ لأن الكتمان إنما يكون من أهل العلم، والناس إنما ينتظرون منهم البيان، ما ينتظرونه من غيرهم، وهم الذين يسمع الناس منهم، وتمتد إليهم أعناقهم، فإذا سكتوا ضاع الناس، وبقي الحق خفياً عليهم، فهؤلاء الذين يلعنهم اللاعنون يفترض فيهم أنهم من أهل العلم، ولذلك ذكرتُ من قبل أنه على قدر المقام يكون الملام، وأن أسوأ مثلين في القرآن هما لأهل العلم، الأول: كَمَثَلِ الْكَلْبِ [سورة الأعراف:176]، والثاني: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ [سورة الجمعة:5] فهذان مثلان لأهل العلم الذين لم يتحملوا تبعته، ولم يقوموا به كما أمر الله .
فهذه نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا الحق، وهي في هذه الأمة أشد؛ لأن هذه الأمة أشرف، وأعظم، ولذلك فإنه يلحقهم من العتب أعظم مما يلحق غيرهم.
"وقد ورد في الحديث المسند من طرقٍ يشد بعضها بعضاً عن أبي هريرة ، وغيره: أن رسول الله ﷺ، قال: من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار[2]، وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحداً شيئاً، إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:159] ...الآية، وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم."يعني على هذا الآن وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159] أي يلعنهم كل شيء، هذا هو القول الأول، يعلنهم الناس، والملائكة، والجن، وتلعنهم الدواب، وإذا قلنا: يلعنهم الناس فإن ذلك يعني أن جميع الناس يلعنونهم ليس فقط أهل الإيمان، مع أنه يرد على هذا أن الكثيرين لم يطلعوا على فعلهم، أكثر الناس ما اطلعوا على جرمهم، وكتمانهم، بل ربما ما عرفوهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن أهل الضلال، والشر يعجبهم هذا الكتمان، وهم أكثر الناس: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116] فهؤلاء كيف يلعنونهم؟ فلهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا اللعن يكون في الآخرة؛ لأنهم يرون أثر ذلك عياناً فيلعنونهم على هذا الكتمان؛ لأنهم أضلوهم، ولبسوا عليهم، فأودوا بهم إلى هذا المصير، وبعضهم يقول: في الدنيا، والآخرة تلعنهم الدواب، ويلعنهم أهل الإيمان، ومن اطلع على فعلهم، ويلعنهم جميع الناس، والجن في الآخرة، وبعض أهل العلم يقول: إنما يكون هذا اللعن، من الملائكة، ومن أهل الإيمان، وهم الناس، فلفظ الناس يكون من العام الذي أريد به الخصوص، وهو أسلوب عربي معروف، كما في قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ [سورة آل عمران:173] فليس كل الناس قالوا ذلك، وليس كل الناس قيل له ذلك، فالعام تارة يراد به ظاهره من العموم، وتارة يراد به معنىً خاص، فهو، وإن كان بظاهره عاماً فإنه في معنى من معاني هذا العام، العام المراد به الخصوص فيكون المراد به أهل الإيمان، والملائكة، كما قال الله على الكفار: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة البقرة:161] فابن جرير الطبري - رحمه الله - يحمل اللعن هنا وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159] على أن المراد به لعن هؤلاء، الملائكة، والناس أجمعين، - والله أعلم -.
"وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159] يعني تلعنهم الملائكة، والمؤمنون، وقد جاء في الحديث: إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر[3]، وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله، والملائكة، والناس أجمعون، واللاعنون أيضاً، وهم كل فصيح، وأعجمي، إما بلسان المقال، أو الحال، أن لو كان له عقل، ويوم القيامة، - والله أعلم -.ابن كثير يحمل الآية على جميع المعاني المذكورة، فما لا يتأتى في الدنيا فإنه يكون في الآخرة، وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159] ممن لم يبلغه فعلهم من أهل الإيمان، أو ممن يرتضي فعلهم في الدنيا، فهو لا يلعنهم، لكنه يلعنهم في الآخرة، فكل ذلك واقع، ومِن كل مَن يتأتى منه اللعن، من الإنسان، أو الجن، أو الملائكة، أو الدواب فإنها تلعن عصاة بني آدم، كما أن الحيتان تستغفر للعالم فإنها كذلك تلعنه إذا كتم الحق.
  1. أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا [ج1 - ص 59 – 128]، ومسلم  في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً [ج1 - ص61 – 53] . 
  2. في المسند [ج2 - ص 495 – 10425] عن أبي هريرة، وقال شعيب الأرنؤوط  في تعليقه على المسند: "صحيح، وهذا إسناد حسن" ، وأخرجه الترمذي  أيضاً عن عن أبي هريرة في كتاب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم [ج 5 - ص 29 – 2649]  وابن ماجه عن أنس بن مالك، في افتتاح الكتاب في الإيمان، وفضائل الصحابة، والعلم، باب من سئل عن علم فكتمه [ج1 - ص97 - 264]، وابن حبان عن عبد الله بن عمرو، في كتاب العلم، باب الزجر عن كتبة المرء السنن مخافة أن يتكل عليها دون الحفظ لها [ج1 -   ص 298 – 96]، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة [ج1 - ص182 – 345]، والطبراني في المعجم الكبير عن طلق بن علي [ج8 - ص 334 – 8251]، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم:6284.
  3. أخرجه الترمذي عن أبي الدرداء في كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة [ج 5 - ص 48 – 2682] بلفظ: إنه ليستغفر للعالم من في السماوات، ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر، وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان، وفضائل الصحابة، والعلم، باب فضل العلماء، والحث على طلب العلم [ج1 -   ص81 – 223]، وأحمد في المسند [ج 5 -   ص196 – 21763]، والدارمي في المقدمة، باب في فضل العلم، والعالم [ج1 - ص110 - 342]، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه [ج1 - ص43 – 182] .

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ اليهود كتموا أمر محمد ﷺ".

 إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ قال: اليهود، مع إن اللفظ عام، فهو يشمل اليهود، وغيرهم، وفِي الْكِتَابِ قال: التوراة، فحملها على أهل الكتاب جمعٌ من السلف كابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس، وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله -[1]: أنها في أهل الكتاب أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ومما كتموه أمر النبي ﷺ وأنه مرسل من عند الله، فهذا مما يدخل فيه، وكذلك ما يكتمونه من شرائع الدين، ويحرفونه، ويبدلونه، كما قال الله - تبارك، وتعالى -: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام: 91].

فقال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187] لكن كانت النتيجة فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران: 187] فهذا الاشتراء باعتبار أنهم يتعوضون به الرُشا، وما إلى ذلك مما ينالون به حظوة، أو دنيا، فيكتمون الحق، أو يبدلونه، وكل مبدل يكون قد كتم الحق، وزيادة، فلا يختص بأمر النبي ﷺ فيدخل فيه ما يتعلق بالنبي، ويدخل فيه ما يكتمونه مثل: رجم الزاني، حيث كتموه، وذكروا أن المنزل عليهم إنما هو التسويد، وأن يطاف به، ويُشهر على حمار، ونحو ذلك، وكان هذا من التبديل، وكذلك أيضًا ما يتعلق بصفة النبي ﷺ فيجدونه ربعة... إلخ، فيقولون: طويلًا، بائن الطول، ويبدلون الأوصاف، فهذا أيضاً من التحريف، والكتمان، وهكذا.

فالكتمان هنا يدخل في أهل الكتاب دخولًا أوليًا، ولكن من شابههم من هذه الأمة فهو متوعد بهذه العقوبة، وكما قيل: على قدر المقام يكون الملام، فإذا كان أولئك قد لحقهم بسبب هذا الكتمان هذا اللعن، فمن وقع فيمن، وقعوا فيه من هذه الأمة التي هي أشرف، وكتابها أكمل، ونبيها ﷺ فإن ذلك يكون في حقه أقبح، وأشد، فلا يقال: إن هذا اللعن يختص بأهل الكتاب، ومن كتم من هذه الأمة يكون بمنأى، وبمنجا من ذلك - والله أعلم -.

 "فِي الْكِتَابِ التوراة هنا. اللَّاعِنُونَ الملائكة، والمؤمنون، وقيل: المخلوقات إلا الثقلين، وقيل: البهائم لما يصيبهم من الجدب لذنوب الكاتمين للحق".

 اللَّاعِنُونَ الملائكة، والمؤمنون، هذا قال به الربيع بن أنس، وأبو العالية، وقتادة، وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله- كأنهم أخذوا ذلك من قوله - تبارك، وتعالى -: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فرأوا أن هذا من قبيل التفسير لهذا الموضع.

وقيل: "المخلوقات إلا الثقلين" إلا الثقلين باعتبار أن فيهم المؤمن، والكافر، فالكافر لا يلعنهم، لكن الآيات، والناس أجمعين، فمن لا يلعنهم في الدنيا يلعنهم في الآخرة، وقد أخبر الله  عن أحوالهم في الآخرة، وفي النار أنهم يلعن بعضهم بعضًا.

وقيل: "البهائم لما يصيبهم من الجدب لذنوب الكاتمين للحق" وجاء عن مجاهد - رحمه الله -: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم[2] وهذا معنى: يلعنهم اللاعنون.

فيدخل في الآية: الملائكة، والناس؛ لقوله تعالى: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وما وراء ذلك مثل البهائم، ونحو ذلك فهذا يحتمل، والنبي ﷺ أخبر معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر[3] ووجه بعضهم هذا باعتبار أنه يعلم الناس حدود الله - تبارك، وتعالى - فينضبطون معها، فتخرج الأرض بركتها، وينزل الغيث، وتسلم أيضًا الدواب من العدوان، والأذى، فلا يحصل لها الهلاك بسبب الجدب، الذي يكون نتيجة للعصيان، ولا يقع عليها أيضًا العدوان بسبب هؤلاء الناس الذين ينضبطون مع حدود الله - تبارك، وتعالى - فقالوا: هذا الذي يعلم الناس الخير يحصل بسبب ذلك العافية، والسلامة لهذه الدواب، وتنعم، ونحو ذلك، فتستغفر لهم، وهذا الذي يكتم يلعنه كل شيء عكس ذاك، وكذلك الدواب على هذا القول باعتبار أن ذلك يكون سببًا لكثير من الشر، والفساد، وضياع الحق، واختلاط الحق بالباطل، ونحو هذا - والله أعلم -.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 250 - 251).
  2.  بنحوه في تفسير الطبري = جامع البيان (2/ 735).
  3.  المعجم الأوسط (6/ 214 - 6219)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1023 - 5883).

مرات الإستماع: 0

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159].

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ وذلك بإخفاء الحق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- ويدخل في ذلك أهل الكتاب بما كانوا يُخفونه مما عرفوا من دلائل نبوة محمد ﷺ وما جاء به أحبار اليهود وعلماء النصارى، وهكذا كل من كتم الحق الذي عرفه بعدما أظهره الله -تبارك وتعالى- للناس، هؤلاء يلعنهم الله يطردهم من رحمته، ويلعنهم اللاعنون من الملائكة والناس حتى الدواب تلعنهم أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة البقرة:161] فهذا مما يدخل في جملة اللاعنين.

وقد جاء أيضًا أن الدواب والجُعلان كذلك أيضًا هي تشكو من عصاة بني آدم لما يحصل بسبب عصيانهم من الجدب والهلاك والآفات، وما إلى ذلك، ولهذا كان العالم الذي يُعلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، قال أهل العلم: والسبب في ذلك أن هؤلاء إذا عرفوا ما جاء به الشرع انكفوا عن الإفساد وفعل ما لا يحل، فسلمت النفوس، والأموال وسلمت الدواب، ولم يحصل الإفساد في الأرض، ولم يمتنع القطر؛ لأن الناس قد أدوا حق الله عليهم، وأخرجت الأرض بركتها، وما إلى ذلك، فيستغفر له كل شيء؛ لأنه يدل الناس على هذا.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [سورة البقرة:159] هؤلاء الذين يكتمون هذه البينات ذمهم الله -تبارك وتعالى- وتوعدهم باللعن أيًّا كانت دوافعهم، فدوافع هؤلاء الذين يكتمون قد تكون مادية دنيوية لما يتقاضونه من الرُشى والأموال، أو كان ذلك بسبب المحاباة وإيثار رضا المخلوقين على رضا الله -تبارك وتعالى- أو غير هذا من الدوافع كإرضاء الجماهير كما يقال، والسير في ركاب الناس، وما يطلبونه مما يوافق أهواءهم، ولهذا ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن مدار هذه العِلل والدوافع ترجع إلى عدم الرسوخ في الإيمان، وكذلك إيثار رضا المخلوق على رضا الخالق، هذا ذكره الأستاذ: محمد الخضر حُسين[1].

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا: لعن كاتم الحق، وأخبر الله -تبارك وتعالى- بذلك، هؤلاء عليهم لعنة الله، هذا الحق الذي بينه في كتابه، فهذا خلاف مقصود الشارع من البيان، فقد كتم الحق وأخفاه، وأظهر خلاف ما أبطن، يعني: الحق أظهره الله، فلم يكن ذلك عن خفاء، أو لبس أو اشتباه، فمن سكت عن بيان الحق فهو كاتم له، ومن حرفه وبدله وغيره يكون قد كتم الحق وأيضًا حصل لبس الحق بالباطل، يعني: هذا أشد.

فكل مُحرف للحق يكون كاتمًا له وزيادة، وكذلك من يذم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ويُضيف إليهم الكذب، فهذا من أسوء هؤلاء كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.

ويؤخذ من هذه الآية من الفوائد: أن على أهل العلم أن يُبينوا للأمة الحق كما جاء في الشرع؛ فإن وظيفتهم هي حفظ علم الدين مع البلاغ، فإذا لم يبلغوهم ذلك، أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الجناية، فيتعدى ضرر ذلك إلى الناس جميعًا بل إلى غير الناس كما ذكرت فتلعنهم البهائم وغير البهائم.

يقول شيخ الإسلام في موضع آخر: "فلعنهم اللاعنون حتى البهائم"[2] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159].

يؤخذ من هذه الآية: أن هذا الكتمان أنه في غاية السوء، وذلك أنه كان بعد البيان، بعد أن بينه الله -تبارك وتعالى- للناس، ولا عذر لهم بحال من الأحوال أنهم لم يستبينوا الحق على الوجه المطلوب، أو نحو ذلك.

كذلك يؤخذ من هذه الآية: تعبير هنا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ بالفعل المضارع لدلالة على أن ذلك هو ديدنهم، وأنهم مستمرون عليه، وأن ذلك يتكرر فلم يُعبر بلفظ الماضي فيوهم ذلك أن هذا قد وقع من قوم في الزمان الماضي، فتحدث القرآن عنهم، وإنما يتحدث عن الذين يكتمون، فالذين يكتمون هؤلاء يوجدون في كل زمان، فهم متوعدون بذلك، ففيه إقامة الحجة على الحاضرين.

ولاحظوا التعبير في اسم الإشارة للبعيد في قوله: أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ فهذا أبعث للسامع في تأمل حالهم، والالتفات إليهم وفيه من تحقير شأنهم لبُعد هؤلاء عن رحمة الله -تبارك وتعالى- ولاحظ هنا هذه الجُمل في الخبر أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ لم يقل واللاعنون، وإنما قال: يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ للتوكيد والتعظيم فأتى بالفعل المضارع يلعنهم المقتضي للتجدد لتجدد مقتضيه وهو قوله: يَكْتُمُونَ.

وفي قوله -تبارك وتعالى: يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ التفات مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ هذا في المُتكلم، لم يقل: أولئك نلعنهم، وإنما قال: فأولئك يلعنهم الله، بصيغة الغائب، فمثل هذا الالتفات إلى الغائب من المُتكلم كأنه يُشعر بالسخط عليهم والإعراض عنهم، فجاء بضمير الغائب إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى هذا المُتكلم أَنزَلْنَا نحن يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ما قال نلعنهم، فتحول في الخطاب من المُتكلم إلى الغائب، وذلك لإظهار السُخط عليهم والله تعالى أعلم، وأبرز لفظ الجلالة أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ لم يقل: نلعنهم، فأظهر هنا في موضع يصح فيه الإضمار، وهذا يفيد تربية المهابة، وفيه من الفخامة ما لا يكون في الضمير.

قوله -تبارك وتعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ يقول مجاهد -رحمه الله: دواب الأرض تقول: إنما مُنعنا المطر بذنوبكم[3].

فهذا كله يترتب على هذا الكتمان، وهذا يدل على أن بقاء الإنسان سلبيًا لا ينفع، ولا يبذل، ولا يُقدم العلم الذي علمه، أن ذمته بذلك لا تبرأ بحال من الأحوال، فهو مؤاخذ على هذا، والطريق إنما هو ببذل العلم ونُصح الخلق، والبلاغ للناس، والقيام بما أمر الله -تبارك وتعالى- به، أما أن يبقى العالم كعامة الناس لا يُنتفع بعلمه، ولا يبذله، ولا يُعلم الناس ما علمه الله ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر؛ فإنه لا يسلم بهذا، فهو متوعد باللعن، قد يكون كافًا في حاله، غير مُقارف للمنكرات والموبقات، حفظ لسانه من أعراض الناس، ولكنه لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يُبلغ، بل يكتم فمثل هذا تُلاحقه اللعنة مرتين.

هنا في الكتمان: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [سورة البقرة:159] وكذلك أيضًا في قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:78، 79].

ويقول: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ المائدة:63] فلا تبرأ الذمة بما قد يتوهمه الإنسان، أو يُزينه لنفسه أنه لا شأن له بالناس، فينطوي على نفسه، ويكون حاله كحال العامة لا يُنتفع بعلمه، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر فإنه متوعد باللعن، والله المستعان. به. 

  1. موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (1/ 285).  
  2.  مجموع الفتاوى (28/ 187). 
  3.  تفسير ابن كثير (1/ 473). 

مرات الإستماع: 0

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159].

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ وذلك بإخفاء الحق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- ويدخل في ذلك أهل الكتاب بما كانوا يُخفونه مما عرفوا من دلائل نبوة محمد ﷺ وما جاء به أحبار اليهود وعلماء النصارى، وهكذا كل من كتم الحق الذي عرفه بعدما أظهره الله -تبارك وتعالى- للناس، هؤلاء يلعنهم الله يطردهم من رحمته، ويلعنهم اللاعنون من الملائكة والناس حتى الدواب تلعنهم أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة البقرة:161] فهذا مما يدخل في جملة اللاعنين.

وقد جاء أيضًا أن الدواب والجُعلان كذلك أيضًا هي تشكو من عصاة بني آدم لما يحصل بسبب عصيانهم من الجدب والهلاك والآفات، وما إلى ذلك، ولهذا كان العالم الذي يُعلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، قال أهل العلم: والسبب في ذلك أن هؤلاء إذا عرفوا ما جاء به الشرع انكفوا عن الإفساد وفعل ما لا يحل، فسلمت النفوس، والأموال وسلمت الدواب، ولم يحصل الإفساد في الأرض، ولم يمتنع القطر؛ لأن الناس قد أدوا حق الله عليهم، وأخرجت الأرض بركتها، وما إلى ذلك، فيستغفر له كل شيء؛ لأنه يدل الناس على هذا.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [سورة البقرة:159] هؤلاء الذين يكتمون هذه البينات ذمهم الله -تبارك وتعالى- وتوعدهم باللعن أيًّا كانت دوافعهم، فدوافع هؤلاء الذين يكتمون قد تكون مادية دنيوية لما يتقاضونه من الرُشى والأموال، أو كان ذلك بسبب المحاباة وإيثار رضا المخلوقين على رضا الله -تبارك وتعالى- أو غير هذا من الدوافع كإرضاء الجماهير كما يقال، والسير في ركاب الناس، وما يطلبونه مما يوافق أهواءهم، ولهذا ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن مدار هذه العِلل والدوافع ترجع إلى عدم الرسوخ في الإيمان، وكذلك إيثار رضا المخلوق على رضا الخالق، هذا ذكره الأستاذ: محمد الخضر حُسين[1].

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا: لعن كاتم الحق، وأخبر الله -تبارك وتعالى- بذلك، هؤلاء عليهم لعنة الله، هذا الحق الذي بينه في كتابه، فهذا خلاف مقصود الشارع من البيان، فقد كتم الحق وأخفاه، وأظهر خلاف ما أبطن، يعني: الحق أظهره الله، فلم يكن ذلك عن خفاء، أو لبس أو اشتباه، فمن سكت عن بيان الحق فهو كاتم له، ومن حرفه وبدله وغيره يكون قد كتم الحق وأيضًا حصل لبس الحق بالباطل، يعني: هذا أشد.

فكل مُحرف للحق يكون كاتمًا له وزيادة، وكذلك من يذم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ويُضيف إليهم الكذب، فهذا من أسوء هؤلاء كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.

ويؤخذ من هذه الآية من الفوائد: أن على أهل العلم أن يُبينوا للأمة الحق كما جاء في الشرع؛ فإن وظيفتهم هي حفظ علم الدين مع البلاغ، فإذا لم يبلغوهم ذلك، أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الجناية، فيتعدى ضرر ذلك إلى الناس جميعًا بل إلى غير الناس كما ذكرت فتلعنهم البهائم وغير البهائم.

يقول شيخ الإسلام في موضع آخر: "فلعنهم اللاعنون حتى البهائم"[2] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159].

يؤخذ من هذه الآية: أن هذا الكتمان أنه في غاية السوء، وذلك أنه كان بعد البيان، بعد أن بينه الله -تبارك وتعالى- للناس، ولا عذر لهم بحال من الأحوال أنهم لم يستبينوا الحق على الوجه المطلوب، أو نحو ذلك.

كذلك يؤخذ من هذه الآية: تعبير هنا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ بالفعل المضارع لدلالة على أن ذلك هو ديدنهم، وأنهم مستمرون عليه، وأن ذلك يتكرر فلم يُعبر بلفظ الماضي فيوهم ذلك أن هذا قد وقع من قوم في الزمان الماضي، فتحدث القرآن عنهم، وإنما يتحدث عن الذين يكتمون، فالذين يكتمون هؤلاء يوجدون في كل زمان، فهم متوعدون بذلك، ففيه إقامة الحجة على الحاضرين.

ولاحظوا التعبير في اسم الإشارة للبعيد في قوله: أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ فهذا أبعث للسامع في تأمل حالهم، والالتفات إليهم وفيه من تحقير شأنهم لبُعد هؤلاء عن رحمة الله -تبارك وتعالى- ولاحظ هنا هذه الجُمل في الخبر أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ لم يقل واللاعنون، وإنما قال: يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ للتوكيد والتعظيم فأتى بالفعل المضارع يلعنهم المقتضي للتجدد لتجدد مقتضيه وهو قوله: يَكْتُمُونَ.

وفي قوله -تبارك وتعالى: يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ التفات مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ هذا في المُتكلم، لم يقل: أولئك نلعنهم، وإنما قال: فأولئك يلعنهم الله، بصيغة الغائب، فمثل هذا الالتفات إلى الغائب من المُتكلم كأنه يُشعر بالسخط عليهم والإعراض عنهم، فجاء بضمير الغائب إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى هذا المُتكلم أَنزَلْنَا نحن يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ما قال نلعنهم، فتحول في الخطاب من المُتكلم إلى الغائب، وذلك لإظهار السُخط عليهم والله تعالى أعلم، وأبرز لفظ الجلالة أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ لم يقل: نلعنهم، فأظهر هنا في موضع يصح فيه الإضمار، وهذا يفيد تربية المهابة، وفيه من الفخامة ما لا يكون في الضمير.

قوله -تبارك وتعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ يقول مجاهد -رحمه الله: دواب الأرض تقول: إنما مُنعنا المطر بذنوبكم[3].

فهذا كله يترتب على هذا الكتمان، وهذا يدل على أن بقاء الإنسان سلبيًا لا ينفع، ولا يبذل، ولا يُقدم العلم الذي علمه، أن ذمته بذلك لا تبرأ بحال من الأحوال، فهو مؤاخذ على هذا، والطريق إنما هو ببذل العلم ونُصح الخلق، والبلاغ للناس، والقيام بما أمر الله -تبارك وتعالى- به، أما أن يبقى العالم كعامة الناس لا يُنتفع بعلمه، ولا يبذله، ولا يُعلم الناس ما علمه الله ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر؛ فإنه لا يسلم بهذا، فهو متوعد باللعن، قد يكون كافًا في حاله، غير مُقارف للمنكرات والموبقات، حفظ لسانه من أعراض الناس، ولكنه لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يُبلغ، بل يكتم فمثل هذا تُلاحقه اللعنة مرتين.

هنا في الكتمان: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [سورة البقرة:159] وكذلك أيضًا في قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:78، 79].

ويقول: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ المائدة:63] فلا تبرأ الذمة بما قد يتوهمه الإنسان، أو يُزينه لنفسه أنه لا شأن له بالناس، فينطوي على نفسه، ويكون حاله كحال العامة لا يُنتفع بعلمه، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر فإنه متوعد باللعن، والله المستعان. به. 

  1. موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (1/ 285).  
  2.  مجموع الفتاوى (28/ 187). 
  3.  تفسير ابن كثير (1/ 473). 

مرات الإستماع: 0

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159].

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ وذلك بإخفاء الحق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- ويدخل في ذلك أهل الكتاب بما كانوا يُخفونه مما عرفوا من دلائل نبوة محمد ﷺ وما جاء به أحبار اليهود وعلماء النصارى، وهكذا كل من كتم الحق الذي عرفه بعدما أظهره الله -تبارك وتعالى- للناس، هؤلاء يلعنهم الله يطردهم من رحمته، ويلعنهم اللاعنون من الملائكة والناس حتى الدواب تلعنهم أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة البقرة:161] فهذا مما يدخل في جملة اللاعنين.

وقد جاء أيضًا أن الدواب والجُعلان كذلك أيضًا هي تشكو من عصاة بني آدم لما يحصل بسبب عصيانهم من الجدب والهلاك والآفات، وما إلى ذلك، ولهذا كان العالم الذي يُعلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، قال أهل العلم: والسبب في ذلك أن هؤلاء إذا عرفوا ما جاء به الشرع انكفوا عن الإفساد وفعل ما لا يحل، فسلمت النفوس، والأموال وسلمت الدواب، ولم يحصل الإفساد في الأرض، ولم يمتنع القطر؛ لأن الناس قد أدوا حق الله عليهم، وأخرجت الأرض بركتها، وما إلى ذلك، فيستغفر له كل شيء؛ لأنه يدل الناس على هذا.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [سورة البقرة:159] هؤلاء الذين يكتمون هذه البينات ذمهم الله -تبارك وتعالى- وتوعدهم باللعن أيًّا كانت دوافعهم، فدوافع هؤلاء الذين يكتمون قد تكون مادية دنيوية لما يتقاضونه من الرُشى والأموال، أو كان ذلك بسبب المحاباة وإيثار رضا المخلوقين على رضا الله -تبارك وتعالى- أو غير هذا من الدوافع كإرضاء الجماهير كما يقال، والسير في ركاب الناس، وما يطلبونه مما يوافق أهواءهم، ولهذا ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن مدار هذه العِلل والدوافع ترجع إلى عدم الرسوخ في الإيمان، وكذلك إيثار رضا المخلوق على رضا الخالق، هذا ذكره الأستاذ: محمد الخضر حُسين[1].

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا: لعن كاتم الحق، وأخبر الله -تبارك وتعالى- بذلك، هؤلاء عليهم لعنة الله، هذا الحق الذي بينه في كتابه، فهذا خلاف مقصود الشارع من البيان، فقد كتم الحق وأخفاه، وأظهر خلاف ما أبطن، يعني: الحق أظهره الله، فلم يكن ذلك عن خفاء، أو لبس أو اشتباه، فمن سكت عن بيان الحق فهو كاتم له، ومن حرفه وبدله وغيره يكون قد كتم الحق وأيضًا حصل لبس الحق بالباطل، يعني: هذا أشد.

فكل مُحرف للحق يكون كاتمًا له وزيادة، وكذلك من يذم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ويُضيف إليهم الكذب، فهذا من أسوء هؤلاء كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.

ويؤخذ من هذه الآية من الفوائد: أن على أهل العلم أن يُبينوا للأمة الحق كما جاء في الشرع؛ فإن وظيفتهم هي حفظ علم الدين مع البلاغ، فإذا لم يبلغوهم ذلك، أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الجناية، فيتعدى ضرر ذلك إلى الناس جميعًا بل إلى غير الناس كما ذكرت فتلعنهم البهائم وغير البهائم.

يقول شيخ الإسلام في موضع آخر: "فلعنهم اللاعنون حتى البهائم"[2] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159].

يؤخذ من هذه الآية: أن هذا الكتمان أنه في غاية السوء، وذلك أنه كان بعد البيان، بعد أن بينه الله -تبارك وتعالى- للناس، ولا عذر لهم بحال من الأحوال أنهم لم يستبينوا الحق على الوجه المطلوب، أو نحو ذلك.

كذلك يؤخذ من هذه الآية: تعبير هنا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ بالفعل المضارع لدلالة على أن ذلك هو ديدنهم، وأنهم مستمرون عليه، وأن ذلك يتكرر فلم يُعبر بلفظ الماضي فيوهم ذلك أن هذا قد وقع من قوم في الزمان الماضي، فتحدث القرآن عنهم، وإنما يتحدث عن الذين يكتمون، فالذين يكتمون هؤلاء يوجدون في كل زمان، فهم متوعدون بذلك، ففيه إقامة الحجة على الحاضرين.

ولاحظوا التعبير في اسم الإشارة للبعيد في قوله: أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ فهذا أبعث للسامع في تأمل حالهم، والالتفات إليهم وفيه من تحقير شأنهم لبُعد هؤلاء عن رحمة الله -تبارك وتعالى- ولاحظ هنا هذه الجُمل في الخبر أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ لم يقل واللاعنون، وإنما قال: يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ للتوكيد والتعظيم فأتى بالفعل المضارع يلعنهم المقتضي للتجدد لتجدد مقتضيه وهو قوله: يَكْتُمُونَ.

وفي قوله -تبارك وتعالى: يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ التفات مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ هذا في المُتكلم، لم يقل: أولئك نلعنهم، وإنما قال: فأولئك يلعنهم الله، بصيغة الغائب، فمثل هذا الالتفات إلى الغائب من المُتكلم كأنه يُشعر بالسخط عليهم والإعراض عنهم، فجاء بضمير الغائب إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى هذا المُتكلم أَنزَلْنَا نحن يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ما قال نلعنهم، فتحول في الخطاب من المُتكلم إلى الغائب، وذلك لإظهار السُخط عليهم والله تعالى أعلم، وأبرز لفظ الجلالة أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ لم يقل: نلعنهم، فأظهر هنا في موضع يصح فيه الإضمار، وهذا يفيد تربية المهابة، وفيه من الفخامة ما لا يكون في الضمير.

قوله -تبارك وتعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ يقول مجاهد -رحمه الله: دواب الأرض تقول: إنما مُنعنا المطر بذنوبكم[3].

فهذا كله يترتب على هذا الكتمان، وهذا يدل على أن بقاء الإنسان سلبيًا لا ينفع، ولا يبذل، ولا يُقدم العلم الذي علمه، أن ذمته بذلك لا تبرأ بحال من الأحوال، فهو مؤاخذ على هذا، والطريق إنما هو ببذل العلم ونُصح الخلق، والبلاغ للناس، والقيام بما أمر الله -تبارك وتعالى- به، أما أن يبقى العالم كعامة الناس لا يُنتفع بعلمه، ولا يبذله، ولا يُعلم الناس ما علمه الله ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر؛ فإنه لا يسلم بهذا، فهو متوعد باللعن، قد يكون كافًا في حاله، غير مُقارف للمنكرات والموبقات، حفظ لسانه من أعراض الناس، ولكنه لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يُبلغ، بل يكتم فمثل هذا تُلاحقه اللعنة مرتين.

هنا في الكتمان: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [سورة البقرة:159] وكذلك أيضًا في قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۝ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [سورة المائدة:78، 79].

ويقول: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ المائدة:63] فلا تبرأ الذمة بما قد يتوهمه الإنسان، أو يُزينه لنفسه أنه لا شأن له بالناس، فينطوي على نفسه، ويكون حاله كحال العامة لا يُنتفع بعلمه، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر فإنه متوعد باللعن، والله المستعان. به. 

  1. موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (1/ 285).  
  2.  مجموع الفتاوى (28/ 187). 
  3.  تفسير ابن كثير (1/ 473).