كما حرفوا، وكتموا ما أنزل الله في كتبهم، فجعلوه قراطيس يبدونها، ويخفون كثيراً، فالآية، وإن كان يدخل فيها هؤلاء دخولاً أولياً إلا أن ظاهرها العموم، فيدخل فيها كل من كتم ما أنزل الله ، لكن ذلك قيّده الله - تبارك، وتعالى - بقوله: مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [سورة البقرة:159]، ومعنى ذلك أن هذا الكتمان المتوعد عليه هو مما يحتاج إلى بيان، وهي البينات، والهدى، من الأمور التي توضح الحق، وتجليه، والناس يفتقرون إلى هذا الإيضاح، والبيان فيكتم عنهم، أو يقال لهم غير ذلك مما لا يعتقده الإنسان، فيتكلم بخلاف ما يؤمن به، وينعقد قلبه عليه، فهذا كله من الكتمان، والكذب على الله إذا قال غير ذلك مغيراً للحقيقة التي علمها عن الله ، فهذا أخطر.
والمراتب في هذا متفاوتة أعظمها أن يكتم الحق، وأن يبدي غيره، فيكذب، ويقول: حكم الله في المسألة كذا، على خلاف ما يعتقد، ويغيّر حقائق الدين، ويلبّس على الناس فهذا أعظم، المرتبة الثانية: أن لا يذكر لهم هذا التلبيس، ولكنه لا يُبين، لا يظهر الحق الذي عرفه، وما أكثر ما يقع الناس في هذا، وقد عرفنا في اقتضاء الصراط: أن هذه الأمة أشبهت أهل الكتاب في أمور كثيرة، منها: كتمان الحق، فهذه الأمة، وإن لم تقع في تحريف الكتاب نصاً بلفظه، ولكنها وقعت في التحريف في معانيه، وتحريف المعاني هو تغييرها عن وجها الذي أراده الله - تبارك، وتعالى -، فهذا القيد في قوله: مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [سورة البقرة:159] يخرج كتمان ما لا يحتاج إليه الناس، أو ما يتضررون بمعرفته، وفي الحديث المشهور - حديث أبي هريرة - في البخاري، لما قال: "حفظت عن رسول الله ﷺ، وعاءين، أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم"، وذلك مما لا يحتاج إليه الناس من الأمور التي تتعلق بأحداث، وأشخاص؛ لأن النبي ﷺ أخبر عن أمور كثيرة مما سيقع، وما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق إلا وقد ذكر لهم منه خبراً - عليه الصلاة، والسلام -، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه.
فهناك أخبار تتعلق بأناس كانوا يعاصرون أبا هريرة، ولهذا كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من إمارة السفهاء"، وكان يقول: "اللهم لا تدركني سنة ستين" فمات سنة سبع، وخمسين، وقيل: سنة ثمان، وخمسين، وقيل: تسع، وخمسين، وسنة ستين كانت فيها إمارة يزيد بن معاوية، وفي إمارته حصل ما حصل من قتل الحسين، ووقعة الحرة، وفيها نُصب المنجنيق على جبل أبي قبيس فضربت الكعبة، وتخرقت، وحوصر ابن الزبير، وحصلت فيها للمسلمين أمور عظيمة في ذلك العهد.
فالمقصود أن كتمان ما لا يحتاج إليه الناس أمر لا حرج فيه، ولهذا فإن من العلم ما لا يُطلب نشره، وكما قيل: "ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"، وتعرفون حديث معاذ: "أفلا أبشر الناس؟" فقال: لا، وبيّن له علة ذلك إذاً يتكلوا
[1]، وحديث عمر مع أبي هريرة لما أعطاه النبي ﷺ نعله - القصة المعروفة - في بشارة من قال: لا إله إلا الله، ومات لا يشرك بالله دخل الجنة، فدفعه عمر على صدره حتى وقع.
فالمقصود أنه ما كل ما يُعلم يقال، إذا كان هذا الكلام الذي يقال للناس يورثهم شيئاً من التهاون، أو التساهل، أو الإرجاء، أو أنه لا تبلغه عقولهم، ولا تحيط به أفهامهم فيحملونه على غير وجهه فإنه لا يُطلب ذكره، ونشره في الناس، ولذلك كان بعض الأئمة لا يرى التحديث ببعض الأبواب من العلم؛ لئلا تفهم على غير وجهها، ولا حاجة للتمثيل بأكثر مما ذكرت، فنحن في زمان صار الناس يتشبثون فيه بكل شيء من أجل تسويغ ما هم عليه.
"قال أبو العالية: نزلت في أهل الكتاب، كتموا صفة محمد ﷺ، ثم أخبر تعالى أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك، فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء، فيلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون."طبعاً هذا المقصود به العالم الذي يبيّن الحق للناس، وهؤلاء يفترض فيهم العلم؛ لأن الكتمان إنما يكون من أهل العلم، والناس إنما ينتظرون منهم البيان، ما ينتظرونه من غيرهم، وهم الذين يسمع الناس منهم، وتمتد إليهم أعناقهم، فإذا سكتوا ضاع الناس، وبقي الحق خفياً عليهم، فهؤلاء الذين يلعنهم اللاعنون يفترض فيهم أنهم من أهل العلم، ولذلك ذكرتُ من قبل أنه على قدر المقام يكون الملام، وأن أسوأ مثلين في القرآن هما لأهل العلم، الأول: كَمَثَلِ الْكَلْبِ [سورة الأعراف:176]، والثاني: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ [سورة الجمعة:5] فهذان مثلان لأهل العلم الذين لم يتحملوا تبعته، ولم يقوموا به كما أمر الله .
فهذه نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا الحق، وهي في هذه الأمة أشد؛ لأن هذه الأمة أشرف، وأعظم، ولذلك فإنه يلحقهم من العتب أعظم مما يلحق غيرهم.
"وقد ورد في الحديث المسند من طرقٍ يشد بعضها بعضاً عن أبي هريرة ، وغيره: أن رسول الله ﷺ، قال: من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار[2]، وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحداً شيئاً، إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:159] ...الآية، وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم."يعني على هذا الآن وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159] أي يلعنهم كل شيء، هذا هو القول الأول، يعلنهم الناس، والملائكة، والجن، وتلعنهم الدواب، وإذا قلنا: يلعنهم الناس فإن ذلك يعني أن جميع الناس يلعنونهم ليس فقط أهل الإيمان، مع أنه يرد على هذا أن الكثيرين لم يطلعوا على فعلهم، أكثر الناس ما اطلعوا على جرمهم، وكتمانهم، بل ربما ما عرفوهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن أهل الضلال، والشر يعجبهم هذا الكتمان، وهم أكثر الناس: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116] فهؤلاء كيف يلعنونهم؟ فلهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا اللعن يكون في الآخرة؛ لأنهم يرون أثر ذلك عياناً فيلعنونهم على هذا الكتمان؛ لأنهم أضلوهم، ولبسوا عليهم، فأودوا بهم إلى هذا المصير، وبعضهم يقول: في الدنيا، والآخرة تلعنهم الدواب، ويلعنهم أهل الإيمان، ومن اطلع على فعلهم، ويلعنهم جميع الناس، والجن في الآخرة، وبعض أهل العلم يقول: إنما يكون هذا اللعن، من الملائكة، ومن أهل الإيمان، وهم الناس، فلفظ الناس يكون من العام الذي أريد به الخصوص، وهو أسلوب عربي معروف، كما في قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ [سورة آل عمران:173] فليس كل الناس قالوا ذلك، وليس كل الناس قيل له ذلك، فالعام تارة يراد به ظاهره من العموم، وتارة يراد به معنىً خاص، فهو، وإن كان بظاهره عاماً فإنه في معنى من معاني هذا العام، العام المراد به الخصوص فيكون المراد به أهل الإيمان، والملائكة، كما قال الله على الكفار: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة البقرة:161] فابن جرير الطبري - رحمه الله - يحمل اللعن هنا وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159] على أن المراد به لعن هؤلاء، الملائكة، والناس أجمعين، - والله أعلم -.
"وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159] يعني تلعنهم الملائكة، والمؤمنون، وقد جاء في الحديث: إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر[3]، وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله، والملائكة، والناس أجمعون، واللاعنون أيضاً، وهم كل فصيح، وأعجمي، إما بلسان المقال، أو الحال، أن لو كان له عقل، ويوم القيامة، - والله أعلم -.ابن كثير يحمل الآية على جميع المعاني المذكورة، فما لا يتأتى في الدنيا فإنه يكون في الآخرة، وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159] ممن لم يبلغه فعلهم من أهل الإيمان، أو ممن يرتضي فعلهم في الدنيا، فهو لا يلعنهم، لكنه يلعنهم في الآخرة، فكل ذلك واقع، ومِن كل مَن يتأتى منه اللعن، من الإنسان، أو الجن، أو الملائكة، أو الدواب فإنها تلعن عصاة بني آدم، كما أن الحيتان تستغفر للعالم فإنها كذلك تلعنه إذا كتم الحق.
- أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا [ج1 - ص 59 – 128]، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً [ج1 - ص61 – 53] .
- في المسند [ج2 - ص 495 – 10425] عن أبي هريرة، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "صحيح، وهذا إسناد حسن" ، وأخرجه الترمذي أيضاً عن عن أبي هريرة في كتاب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم [ج 5 - ص 29 – 2649] وابن ماجه عن أنس بن مالك، في افتتاح الكتاب في الإيمان، وفضائل الصحابة، والعلم، باب من سئل عن علم فكتمه [ج1 - ص97 - 264]، وابن حبان عن عبد الله بن عمرو، في كتاب العلم، باب الزجر عن كتبة المرء السنن مخافة أن يتكل عليها دون الحفظ لها [ج1 - ص 298 – 96]، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة [ج1 - ص182 – 345]، والطبراني في المعجم الكبير عن طلق بن علي [ج8 - ص 334 – 8251]، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم:6284.
- أخرجه الترمذي عن أبي الدرداء في كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة [ج 5 - ص 48 – 2682] بلفظ: إنه ليستغفر للعالم من في السماوات، ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر، وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان، وفضائل الصحابة، والعلم، باب فضل العلماء، والحث على طلب العلم [ج1 - ص81 – 223]، وأحمد في المسند [ج 5 - ص196 – 21763]، والدارمي في المقدمة، باب في فضل العلم، والعالم [ج1 - ص110 - 342]، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه [ج1 - ص43 – 182] .