من تاب بعد أن تعاطى السببا | فقد أتى بما عليه وجبا |
"فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:160]، وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه
من تاب بعد أن تعاطى السببا | فقد أتى بما عليه وجبا |
هذا من شروط التوبة الزائدة على الشروط المعروفة فيما يقتضي ذلك، وكذلك الإصلاح لما أفسده، إذا كان بث بدعة في كتاب، أو نحو ذلك، فإنه يحتاج أن يُبين، فإن نشره في مواقع الشبكة، يحتاج أن يُبين، نشر باطلًا، نشر مجونًا، شبهة لبس بها على الناس، فهذا يحتاج إلى البيان، والإصلاح لما أفسده، أوقع وحشة بين الناس بسبب النميمة، فتفرقوا، وتقاطعوا بسببه، ثم تاب، وبقي هؤلاء في قطيعة، فيحتاج أن يصلح ما أفسده، قذف إنسانًا في عرضه، وشوه سمعته، ولطخ عرضه زورًا، وكذبًا، ثم قال: تبت إلى الله، وهذا بقي يكابد، ويعاني مما قيل فيه، فيحتاج هذا إلى الإصلاح لما أفسده، وبيان، فلا يكفي مجرد الندم، والعزم ألا يعود في المستقبل، والإقلاع، ونحو هذا، بل لا بد من الإصلاح، والبيان، وهكذا الذي يقع منه التحريف، والكذب على الله ونحو هذا، وأصحاب المذاهب المنحرفة الذين عرفوا بها، ودعوا إليها، ونشروها، لربما كتبوا فيها الكتب، والمؤلفات، ثم يقال: تاب في آخر حياته، ولا يُعرف عنه نقض لهذه الأشياء، وقد يكون هذا الرجل قد عُرف أنه رئيس لحزب اشتراكي، أو بعثي، أو غير ذلك، ويقال: تاب في آخر حياته، ولا يُعرف أنه تكلم، وأصلح، وبيّن أن ما كان عليه باطل، وضلال، وأنه لا يجوز لأحد أن يتبعه، وهو كان من أكبر الداعين إلى هذا، ويحمل الناس عليه بكل ما استطاع من قوة، ثم يقال: تاب بعد هذا، التوبة ليست مجرد ندم في مثل هذه الحالات، بل لا بد من بيان، ولا بد من إصلاح، فيُظهر للناس أن هذا باطل، فالإنسان الذي كان على انحرافات، وضلالات، وعلى مذاهب منحرفة، كالليبرالية، ونحوها، ثم بعد ذلك يقال: تاب، فيحتاج أن يُبين إن ما كان عليه ضلال، وباطل؛ لأنه كان يدعو إليه، ويكتب فيه، عمراً مديداً، فلا تصح توبته؛ لأن هذا شرط من شروط التوبة.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة:159].
قال الله تعالى بعدها: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:160] إلا الذين تابوا أي: رجعوا عن هذا الإجرام، وهو الكتمان للبينات والهدى التي بيّنها الله -تبارك وتعالى- وأصلحوا في أنفسهم، وأصلحوا ما أفسدوه، أو بدلوه، أو كتموه فبينوه كل ذلك داخل في هذا الإصلاح، فأولئك أقبل توبتهم، وأُجازيهم بالمغفرة، وأنا التواب الذي يقبل التوبة عن عباده، الرحيم بهم؛ إذ وفقتهم للتوبة، وقبلتها منهم.
فيُؤخذ من هذه الآية: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:160] نُلاحظ هنا أن الله -تبارك وتعالى- ذكر هذا القيد (الإصلاح) مع التوبة وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فهذا الإصلاح يشمل -والله تعالى أعلم- بالنسبة للتوبة إصلاح الحال، فالذي يكون على حال غير مرضية، فإن التوبة النصوح، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- التي تكون متضمنة للصدق والإخلاص، مع العزم على أن لا يعود، إضافة إلى الإقلاع، وأن تكون شاملة من جميع الذنوب والخطايا، وأن يكون حال العبد بعد التوبة خير من حاله قبل التوبة.
فمن الناس من يقول: إنه تاب، لكن لا يُرى عليه أثر التوبة، فقد يك ون هذا الإنسان من المفسدين ومن أهل الفواحش، أو من أصحاب المسكرات والمخدرات، أو نحو ذلك، ويقول: بأنه تاب، لكن لا يظهر عليه أثر التوبة بالإقبال على الطاعة، والإقبال على الله، وتغير الحال، ومن ثَم فإن آثارها لا تظهر على وجهه، ولا تظهر على سلوكه وعمله ولسانه وحاله، فهذا من الإصلاح.
إضافة إلى أن هذا الإصلاح يشمل إصلاح ما أفسده قبل توبته، فإذا كان هذا قد أفسد غيره بكتب وضعها، أو بمواد صوتية تُسمع وفيها بدع وضلالات وأهواء، أو فيها شهوات، أو مواقع سيئة إباحية، أو نحو هذا، فإنه لا يكفي أن يقول: أتوب، بل عليه أن يُزيل هذا الفساد الذي وضعه، وهذه الكتب التي ألفها عليه أن يسحبها من الأسواق، وأن يكتب في إبطالها، فهذه الشبهات التي أذاعها ونشرها، أو البدع التي روجها عليه أن يُبين بُطلان ذلك، وأنه قد تراجع عنه، وهذا من جملة ما يدخل في الإصلاح، وهو أيضًا من البيان الذي ذكره الله في هذه الآية وَبَيَّنُوا فهذا شرط.
فالكثير ممن يُضل الناس ثم يتوب قد يتهيب من إعلان توبته، وبيان ضلالته، بل البعض ربما يدع التوبة لئلا يُقال بأنه كان من قبل على ضلال، وقد يكون رئيس أو شيخ طائفة من طوائف أهل البدع والضلالات، وله أتباع وأموال وعنده من يعملون بالسُخرة، ونحو ذلك، فإذا تاب فهذا يقتضي في نظره أن كل تلك المزاولات والأعمال والمؤلفات والدروس أنها كانت على ضلالة، وأن عمله لا شيء، فقد لا يفعل، فقد يتوب سرًّا، ولا يُشعر الناس أنفةً وكبرًا، أو لئلا تذهب هذه الوجهات والجاه، أو الأموال التي تأتيه، أو الشهرة التي ذاعت، فيكون له في هذا الباطل مصالح من شهرة أو معيشة، فلا يُبين للناس.
وقد يترك البيان خوفًا من قيام هؤلاء الأتباع عليه، فـإنهم سينقمون عليه، وسيُظللونه وسيشنون عليه حربًا، ويُحذرون الناس منه، وقد يكون أهل تلك الناحية على هذا الضلال والانحراف، فلا يُبين أنه كان منحرفًا، وأن ما كان يُقرره لهم في كتاباته أو في مجالسه أو في دروسه، أو نحو ذلك أنه مخالف للحق، وهكذا إذا كان كاتمًا لما جاء عن الله وعن رسوله ﷺ فإنه لا يكفي أن يتوب من هذا الكتمان، بل عليه أن يُبين الحق الذي كتمه، وهكذا إذا كان مع هذا الكتمان تحريف، فإنه يجب عليه أن يُبين وجه ذلك، ولا يتوب فيما بينه وبين الله، فإن الإفساد الواقع بسببه لا بد من رفعه كشرط في توبته، فهذا ظاهر في هذه الآية؛ وذلك أنه إن لم يُبين بقي الحق مُلتبسًا، وبقي كثير من الناس يعملون بتلك الضلالة التي قررها لهم، وعلمهم إياها، ونشرها، ويأتي من يقرأون في هذه الكتب أو المواقع، ويجدون مثل هذه الانحرافات فيغترون بها، فلا بد من نقضها.
كما يُؤخذ من قوله: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:160] فدخول الفاء تدل على التعقيب المُباشر، فتوبة الله -تبارك وتعالى- على العبد تأتي مُباشرة بعد توبة العبد، فالله أفرح بتوبة العبد كما قال النبي ﷺ: لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح[1].
فالله أشد فرحًا بتوبة العبد من هذا الذي قد يأس من أن يجد راحلته التي عليها أسباب الحياة والنجاة من الطعام والشراب، وتُبلغه إلى المكان الذي يُريد، فهذا تصوير بديع لهذه التوبة، وموقع هذه التوبة عند من تاب إليه؛ ولذلك قال: فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:160] فتوبة الله على العبد التائب تكون مُباشرة، فهذا فيه إغراء بالتوبة، وترغيب فيها، ويعود الحال إلى ما كان عليه قبل الذنب فتطوى صفحة الذنب، وتكون صفحة العبد بيضاء ليس فيها شائبة؛ ولهذا ينبغي على العبد أن يتوب من جميع الذنوب، وأن يُكثر من التوبة، وأن يُجددها، وأن لا يستجيب لدواعي الشيطان الذي ربما يصور له أنه مُتلاعب بالتوبة إذا كثُرت ذنوبه وتكررت، بل كل توبة تجلو ما قبلها من الذنب، فيُصقل القلب، ويعود العبد إلى حال نقية، لا ذنب عليه، فهذا يغيظ الشيطان، فالشيطان يغويه بالمعصية، فإذا تاب العبد رجع عمل الشيطان بائرًا، فلم يخرج منه بشيء، فيُزين له أن هذه التوبة لا تنفع، وأنها استهزاء وسخرية بمقام الرب -تبارك وتعالى.
ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية بهذه الإشارة إلى البعيد: فَأُوْلَئِكَ لعلو مرتبتهم، ورفعة درجة التائبين.
ثم هذا التعقيب وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:160] فيه ترجية برحمة الله وترغيب بالتوبة، يقول: أنا التواب الذي أوفق للتوبة، وأقبلها من العبد، الرحيم بعباده الذي يعفو عن الزلة، ويبدل هذه السيئات حسنات فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [سورة الفرقان:70] فهنا يقول: وَأَنَا التَّوَّابُ جاء بهذه الصيغة (التواب) التي تدل على التكثير، فهو كثير التوبة على العباد بتوفيقهم، كثير القبول منهم على كثرة ذنوب العباد، وعلى كثرة هؤلاء العباد، فهو تواب، ليس كالخلق الذي ربما يعفو عن الزلة مرة واحدة، فإذا زاد عفا في الثانية، فإذا جاءت الثالثة قال: هذا المُنتهى، يكفي ثلاث مرات، وأما الله -تبارك وتعالى- فهو التواب، وإن تعاظمت ذنوب العبد.
ويكفي في هذا حديث الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، فالله -تبارك وتعالى- رحيم بعباده، حيث رغبهم في التوبة، وقبلها منهم بعد أن وفقهم، وهداهم إليها، ومن هنا لا يحصل القنوط من الرب -تبارك وتعالى- ومن عفوه، وإنما يفر العبد منه إليه، فإذا خافه فر إليه، والتجأ إليه بالتوبة والاستغفار والرجوع إلى الحِمى الآمن بصدق وإخلاص وإقلاع واعتراف وندم، وعندها يثق بتوبة الله -تبارك وتعالى- عليه، وهو أصدق القائلين وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ فهذا يؤكد ما قبله، ويُرغب في التوبة.
وفيه التفات أيضًا من الغيبة إلى التكلم، فالله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ثم قال: أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:159، 160] فلم يقل: ألعنهم، وإنما قال: يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:159، 160] فهذان فعلان مختلفان، اللعن، وهذه التوبة على العباد، فكأنهم لقربهم بتوبتهم استحقوا المخاطبة مُباشرة أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:160] وهذه الجملة الاسمية وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تدل على الثبات والاستقرار، فهذا وصف ثابت له -تبارك وتعالى- لئلا يكون آيسين من رحمته، لكن يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ جاء بالفعل الدال على التجدد، ففي اللعن عُبر بالفعل، وفي التوبة والرحمة عُبر بالاسم، والتعبير بالاسم أثبت من التعبير بالفعل، كما هو معلوم.
والتوبة لا تختص بأهل الجرائم العِظام، والذنوب الكِبار، وإنما التوبة تكون لكل أحد، فها هم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يتوبون إلى الله وهم خيار الخلق، والنبي ﷺ كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم الواحد أستغفر الله وأتوب إليه، وفي المجلس الواحد سبعين مرة، ومائة مرة، وهو أفضل الخلق وأشرفهم.
وبعد أن وجهه ربه بقوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر:1- 3] كان يكثر من الاستغفار والتسبيح بختم هذه الأعمال الجليلة، والدعوة والجهاد في هذه المدة الطويلة، ويختم ذلك بالاستغفار والتوبة، فكان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي[2] وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فماذا يقول غيره إذًا؟!