فصل: لا خلاف في جواز لعن الكفار:
وقد كان عمر بن الخطاب ، ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت، وغيره."وبعض المتحذلقين في هذا الزمان يقول لك: يا أخي ادعُ لهم بالهداية، ما كل الناس يُدعى له بالهداية، بعض الناس يُدعى له بالهلاك، واللعن، وأن الله يمحقه، وجبريل ﷺ جاء أنه كان يأخذ من وحل البحر، ويضعه في فم فرعون لئلا تدركه الرحمة، فكان يقول: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [سورة يونس:90] فخاف أن تدركه الرحمة فوضع في فمه الوحل، فليس دائماً الدعاء بالهداية، أحياناً يُدعى له بالهداية، وأحياناً يُدعى أن الله لا يهديه، وأن يطمس على قلبه، وموسى، وهارون - عليهما الصلاة، والسلام - كيف دعيا؟ قالا: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ، وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:88]، فهؤلاء الأنبياء هم أرحم الخلق بالخلق، ومع ذلك نوح ﷺ لما بيّن الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن دعا عليهم بالهلاك، فقال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [سورة نوح:26-27] فلكل مقام مقال، أحياناً يكون المناسب هو الدعاء بالهداية، وأحياناً نسأل الله أن يربط على قلبه، ويموت على ما هو عليه، وأن يهلكه، وأن يلعنه، فلعن الكفار هذا ثابت في الكتاب، والسنة، وعليه عمل المسلمين منذ زمن رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا، فلا إشكال فيه.
"فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن؛ لأنا لا ندري بما يختم الله له."هي مسألة خلافية، لكن أكثر أهل العلم على أنه لا يلعن المعيّن لهذا السبب، وقد لعن النبي ﷺ رجالاً بأعيانهم، لعن سهيل بن عمرو العامري، وصفوان بن أمية، وجماعة، وأسلموا، هداهم الله إلى الإسلام، وقال الله لنبيه ﷺ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [سورة آل عمران:128]، ولعن النبي ﷺ قبائل بعينها، ذكوان، وعصية، القبائل التي غدرت بالقراء، فأخذ منه بعض أهل العلم جواز لعن المعيّن، ولكن الذي عليه عامة أهل العلم أنه لا يلعن المعيّن، ولعْن النبي ﷺ رجالاً بأعيانهم يكون ذلك مما يختص به، ومن ثم فإن الإنسان يتحرز من هذا، ولا يلعن المعيّن، ولكنه يلعن الصنف لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله[1]، ولكن ذلك لا يعني وقوع اللعن على هذا الذي ورد فيه الوعيد باللعن لاختلال شرط، أو لوجود مانع، وسبق الكلام في سورة النور على قول الله - تبارك، وتعالى - في الذين يرمون المحصنات: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة النــور:23] فبعض أهل العلم يقول: إن المقصود به الكفار المشركون الذين كانوا يطعنون في عرض من خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة، كل هذا من أجل توجيه كيف لعنوا في الدنيا، والآخرة؟ والذي يُلعن في الدنيا، والآخرة لا يبقى له نصيب، فقالوا: هذا في الكفار، وهذا فيه نظر، وبعضهم قال: هذا خاص في عائشة بعد ما بيّن الله ما يتعلق بها، وبعضهم قال: هذا في عبد الله بن أُبي، وبعضهم قال: هذا فقط في أمهات المؤمنين، والآية عامة، والجواب عن هذا الإشكال: أن هذا جزاؤه إن تحقق فيه ذلك، وإلا فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن هذه النصوص من الوعيد، واللعن قد تتخلف عن المعيّن إما بسبب مغفرة الله ، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو توبة، أو شفاعة، هذه الأمور قد يتخلف بسببها مقتضى اللعن، فلا يبقى على هذا المعيّن، فالذين يرمون المحصنات المؤمنات الغافلات لعنوا في الدنيا، والآخرة، ما لم يُكفَّر ذلك عنهم بسبب من هذه الأسباب، ولا إشكال، - والله أعلم -.
"وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعيّن، وفي قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده، فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله ﷺ: لا تلعنه فإنه يحب الله، ورسوله[2] فدل على أن من لا يحب الله، ورسوله يُلعن، - والله أعلم -."طبعاً هذا استنباط، وفي بعض الروايات أنه نهاهم من أجل ألا يعينوا عليه الشيطان، فالمقصود أن من أراد أن يتتبع الآثار التي ورد فيها اللعن سواء عن النبي ﷺ، أو عن السلف ، وعن الصحابة فسيجد من هذا أشياء، لكن يبقى عندنا الأصل، وهو: ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء[3]، وأن الله لم يتعبدنا باللعن، فما ينبغي أن ينصرف هم الإنسان إلى البحث عن نصوص اللعن من أجل أن يلعن، فالله ما كلفك بهذا، ولا تعبدك به، فينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن اللعن، ولا يشتغل به، وإنما يشتغل بذكر الله ، وشكره، وطاعته، ونحو ذلك، لكن الكلام فيمن يتفلسف على الناس، ويقول: لا يجوز لعن الكفار، ادعُ لهم بالهداية، وينكر على من يلعنهم، نقول له: لا، هذا الكلام غير صحيح، لكن إذا سألَنَا إنسانٌ نقول له: أنت لم تُتعبد بهذا، فأما لعن المعين فكُف عنه، وأما اللعن بالعموم فإن الكفار يلعنون في القنوت عموماً لعن الله اليهود، والنصارى[4]، وما إلى ذلك.
- أخرجه مسلم في كتاب اللباس، والزينة، باب تحريم فعل الواصلة، والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة، والنامصة، والمتنمصة، والمتفلجات، والمغيرات خلق الله [ج3 - ص1678 - 120].
- أخرجه بهذا اللفظ أبو يعلى في المسند [ج1 - ص 161 - 176]، والبزار [ج1 - ص 393 - 269]، وعبد الرزاق في المصنف في كتاب الطلاق، باب حد الخمر [ج7 - ص381 - 13552]، وهو في البخاري: بلفظ: ((لا تلعنوه فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله، ورسوله)) في كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة [ج 6 - ص2489 - 6398].
- أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الإيمان [ج 1 - ص 57 - 29]، وسكت عنه الذهبي في التلخيص، والبيهقي في شعب الإيمان في الرابع، والثلاثون من شعب الإيمان، وهو باب في حفظ اللسان، فصل، ومما يجب حفظ اللسان منه الفخر بالآباء، وخصوصا بالجاهلية، والتعظيم بهم [ج4 - ص 293 - 5149]، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم:5381.
- أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور [ج1 - ص 446 - 1265]، وفي باب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه، وسلم -، وأبي بكر، وعمر - ا - [ج1 - ص468 - 1324]، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب النهى عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها، والنهى عن اتخاذ القبور مساجد [ج1 - ص 376 - 19].