الجمعة 28 / ربيع الآخر / 1446 - 01 / نوفمبر 2024
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَمَاتُوا۟ وَهُمْ كُفَّارٌ أُو۟لَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

ثم أخبر تعالى عمن كفر به، واستمر به الحال إلى مماته بأنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا [سورة البقرة:161-162] أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة، ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي لا يخفف عنهم العذاب، (فيها) أي لا ينقص عما هم فيه، وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ [سورة البقرة:162] أي لا يغيّر عنهم ساعة واحدة، ولا يفتر، بل هو متواصل دائم، فنعوذ بالله من ذلك." يعني قوله: خَالِدِينَ فِيهَا [سورة البقرة:162] يمكن أن يعود إلى اللعنة؛ لأنها هي المذكورة قبله، والضمير الأصل أن يرجع إلى المخبر عنه، إلى أقرب مذكور، وقد يرجع الضمير إلى غير مذكور، وذكرنا له أمثلة في عدد من المناسبات، يرجع إلى غير مذكور يدل عليه السياق، وهذا لا مانع منه، فيمكن أن يكون المراد بالضمير - الهاء - هنا: خَالِدِينَ فِيهَا [سورة البقرة:162] أي النار، فهي، وإن لم تكن مذكورة لكن السياق يدل عليها، وهل بين القولين منافاة فنحتاج إلى أن نرجح بينهما؟ ليس بينهما منافاة؛ لأن هؤلاء الذي لعنهم الله أين جزاؤهم إن لم يغفر الله لهم، ويتداركهم برحمته؟ جزاؤهم النار، وإذا كانوا خالدين في اللعنة فمعناها أنهم خالدين في النار، وهكذا، فلا منافاة بين القولين.
فصل: لا خلاف في جواز لعن الكفار:
وقد كان عمر بن الخطاب ، ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت، وغيره."
وبعض المتحذلقين في هذا الزمان يقول لك: يا أخي ادعُ لهم بالهداية، ما كل الناس يُدعى له بالهداية، بعض الناس يُدعى له بالهلاك، واللعن، وأن الله يمحقه، وجبريل ﷺ جاء أنه كان يأخذ من وحل البحر، ويضعه في فم فرعون لئلا تدركه الرحمة، فكان يقول: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [سورة يونس:90] فخاف أن تدركه الرحمة فوضع في فمه الوحل، فليس دائماً الدعاء بالهداية، أحياناً يُدعى له بالهداية، وأحياناً يُدعى أن الله لا يهديه، وأن يطمس على قلبه، وموسى، وهارون - عليهما الصلاة، والسلام - كيف دعيا؟ قالا: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ، وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:88]، فهؤلاء الأنبياء هم أرحم الخلق بالخلق، ومع ذلك نوح ﷺ لما بيّن الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن دعا عليهم بالهلاك، فقال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ۝ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [سورة نوح:26-27] فلكل مقام مقال، أحياناً يكون المناسب هو الدعاء بالهداية، وأحياناً نسأل الله أن يربط على قلبه، ويموت على ما هو عليه، وأن يهلكه، وأن يلعنه، فلعن الكفار هذا ثابت في الكتاب، والسنة، وعليه عمل المسلمين منذ زمن رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا، فلا إشكال فيه.
"فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن؛ لأنا لا ندري بما يختم الله له."هي مسألة خلافية، لكن أكثر أهل العلم على أنه لا يلعن المعيّن لهذا السبب، وقد لعن النبي ﷺ رجالاً بأعيانهم، لعن سهيل بن عمرو العامري، وصفوان بن أمية، وجماعة، وأسلموا، هداهم الله إلى الإسلام، وقال الله لنبيه ﷺ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [سورة آل عمران:128]، ولعن النبي ﷺ قبائل بعينها، ذكوان، وعصية، القبائل التي غدرت بالقراء، فأخذ منه بعض أهل العلم جواز لعن المعيّن، ولكن الذي عليه عامة أهل العلم أنه لا يلعن المعيّن، ولعْن النبي ﷺ رجالاً بأعيانهم يكون ذلك مما يختص به، ومن ثم فإن الإنسان يتحرز من هذا، ولا يلعن المعيّن، ولكنه يلعن الصنف لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله[1]، ولكن ذلك لا يعني وقوع اللعن على هذا الذي ورد فيه الوعيد باللعن لاختلال شرط، أو لوجود مانع، وسبق الكلام في سورة النور على قول الله - تبارك، وتعالى - في الذين يرمون المحصنات: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة النــور:23] فبعض أهل العلم يقول: إن المقصود به الكفار المشركون الذين كانوا يطعنون في عرض من خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة، كل هذا من أجل توجيه كيف لعنوا في الدنيا، والآخرة؟ والذي يُلعن في الدنيا، والآخرة لا يبقى له نصيب، فقالوا: هذا في الكفار، وهذا فيه نظر، وبعضهم قال: هذا خاص في عائشة بعد ما بيّن الله ما يتعلق بها، وبعضهم قال: هذا في عبد الله بن أُبي، وبعضهم قال: هذا فقط في أمهات المؤمنين، والآية عامة، والجواب عن هذا الإشكال: أن هذا جزاؤه إن تحقق فيه ذلك، وإلا فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن هذه النصوص من الوعيد، واللعن قد تتخلف عن المعيّن إما بسبب مغفرة الله ، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو توبة، أو شفاعة، هذه الأمور قد يتخلف بسببها مقتضى اللعن، فلا يبقى على هذا المعيّن، فالذين يرمون المحصنات المؤمنات الغافلات لعنوا في الدنيا، والآخرة، ما لم يُكفَّر ذلك عنهم بسبب من هذه الأسباب، ولا إشكال، - والله أعلم -.
"وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعيّن، وفي قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده، فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله ﷺ: لا تلعنه فإنه يحب الله، ورسوله[2] فدل على أن من لا يحب الله، ورسوله يُلعن، - والله أعلم -."طبعاً هذا استنباط، وفي بعض الروايات أنه نهاهم من أجل ألا يعينوا عليه الشيطان، فالمقصود أن من أراد أن يتتبع الآثار التي ورد فيها اللعن سواء عن النبي ﷺ، أو عن السلف ، وعن الصحابة فسيجد من هذا أشياء، لكن يبقى عندنا الأصل، وهو: ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء[3]، وأن الله لم يتعبدنا باللعن، فما ينبغي أن ينصرف هم الإنسان إلى البحث عن نصوص اللعن من أجل أن يلعن، فالله ما كلفك بهذا، ولا تعبدك به، فينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن اللعن، ولا يشتغل به، وإنما يشتغل بذكر الله ، وشكره، وطاعته، ونحو ذلك، لكن الكلام فيمن يتفلسف على الناس، ويقول: لا يجوز لعن الكفار، ادعُ لهم بالهداية، وينكر على من يلعنهم، نقول له: لا، هذا الكلام غير صحيح، لكن إذا سألَنَا إنسانٌ نقول له: أنت لم تُتعبد بهذا، فأما لعن المعين فكُف عنه، وأما اللعن بالعموم فإن الكفار يلعنون في القنوت عموماً لعن الله اليهود، والنصارى[4]، وما إلى ذلك.
  1. أخرجه مسلم في كتاب اللباس، والزينة، باب تحريم فعل الواصلة، والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة، والنامصة، والمتنمصة، والمتفلجات، والمغيرات خلق الله [ج3 - ص1678 - 120].
  2. أخرجه بهذا اللفظ أبو يعلى في المسند [ج1 - ص 161 - 176]، والبزار [ج1 - ص 393 - 269]، وعبد الرزاق في المصنف في  كتاب الطلاق، باب حد الخمر [ج7 - ص381 - 13552]، وهو في البخاري: بلفظ: ((لا تلعنوه فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله، ورسوله)) في كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة [ج 6 -   ص2489 - 6398].
  3. أخرجه الحاكم في المستدرك في  كتاب الإيمان [ج 1 -   ص 57 - 29]، وسكت عنه الذهبي في التلخيص، والبيهقي في شعب الإيمان في الرابع، والثلاثون من شعب الإيمان، وهو باب في حفظ اللسان،  فصل، ومما يجب حفظ اللسان منه الفخر بالآباء، وخصوصا بالجاهلية، والتعظيم بهم [ج4 - ص 293 - 5149]، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم:5381.
  4. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور [ج1 - ص 446 - 1265]، وفي باب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه، وسلم -، وأبي بكر، وعمر - ا - [ج1 - ص468 - 1324]، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب النهى عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها، والنهى عن اتخاذ القبور مساجد [ج1 - ص 376 - 19]. 

مرات الإستماع: 0

"وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ هم المؤمنون، فهو عموم يراد به الخصوص؛ لأن المؤمنين هم الذين يعتد بلعنهم للكافرين، وقيل: يلعنهم جميع الناس في الآخرة".

لأن الآية نص صريح وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فـ(أل) هذه تدل على العموم، ثم أكد هذا العموم بقوله: أَجْمَعِينَ فهذا نص في العموم، فكيف يقال: المقصود بهم أهل الإيمان؟! 

مرات الإستماع: 0

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [سورة البقرة:161، 162] إن الذين كفروا وبقوا على هذا الكفر، واستمروا عليه إلى وفاتهم، هؤلاء عليهم لعنة الله، وهو طردهم من رحمته، والملائكة تلعنهم، وجميع الناس يلعنونهم خَالِدِينَ فِيهَاَ أي: لهم الدوام الأبدي السرمدي، والمذكور قبله هو اللعن.

ولهذا قال بعض أهل العلم: إن معنى خَالِدِينَ فِيهَاَ أي: اللعنة، وفسره بعضهم بالنار؛ لأن ذلك هو المعهود في القرآن، فإذا ذُكر الخلود فإنما يكون بدار القرار، إما الجنة، وإما النار، فحمله طوائف من أهل العلم على الخلود في النار، وقالوا: إن الضمير هنا يعود إلى غير مذكور، لكنه معلوم في السياق، والضمير قد يعود إلى غير مذكور إذا كان ذلك معلومًا لدى السامع، كقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1] فالضمير في أَنزَلْنَاهُ يعود إلى ماذا؟ إلى القرآن، ولم يكن له ذكر قبل ذلك، فهذا له نظائر في كتاب الله -تبارك وتعالى- وفي كلام العرب.

والواقع أن بين القولين مُلازمة، فإن هؤلاء لهم اللعنة، وهذه اللعنة تستتبع الخلود في النار، فإن الله -تبارك وتعالى- إذا طردهم من رحمته، فمعنى ذلك أنهم أبعد ما يكونون عن رحمته، وعن دار الرحمة، وهي الجنة، أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء[1] كما في الحديث القدسي، فالقولان مُتلازمان، ولا حاجة إلى الترجيح، فـخَالِدِينَ فِيهَاَ المراد: اللعنة التي تستبع دخول النار، والبقاء والخلود فيها.

ويُؤخذ من هذه الآية من الفوائد: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [سورة البقرة:161] أن من كفر ولكن الله أدركه برحمته فآمن، فإن ذلك لا يكون مصيره من اللعن والخلود في النار، هذا بمفهوم المخالفة، ومن هنا لا يستطيع المرء أن يحكم على أحد من الأحياء بجنة ولا نار، إلا لمن حكم له الشارع؛ لأن الأعمال بالخواتيم، ولا ندري بماذا يُختم لهذا؟ والعلماء تكلموا في الشهادة للمعين بالجنة أو النار لغير من شهد له الله ورسوله، ولهم كلام في هذا معروف، والذين منعوا من ذلك قالوا: إنه يُقال على سبيل العموم بأن الكفار في النار، وأن المؤمنين في الجنة.

والمقصود: أن الكفار الذين يستحقون اللعن والخلود في النار هم الذين ماتوا على الكفر وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فهذه الآية مُقيدة للآيات الأخرى التي جاءت مُطلقة في مصير الكفار من غير قيد بموتهم على الكفر، فيكون ذلك مُقيدًا بهذا القيد، والمُطلق محمول على المُقيد، فكل ما جاء من بيان مصير الكفار أنه النار فهو مُقيد بهذه الآية أنهم يموتون على الكفار.

فإن قيل: لعن الله -تبارك وتعالى- للعبد يكفي، فما وجه ذكر لعن الملائكة، والناس أجمعين؟ بعض أهل العلم قال: إن ذلك يقتضي أن هؤلاء قد عرفوا باستحقاق اللعن لسوء عقائدهم وأعمالهم وكفرهم، ونحو ذلك، فلا يشفع لهم شافع، ولا يلتفت إليهم أحد، ولا يُدافع عنهم أحد، ولا يقف معهم أحد، نسأل الله العافية عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة البقرة:161] فلا يرحمهم راحم، فهذا لدى الجميع قد عُرف أنهم أهل إجرام وكفر وفساد، وإذا كان الرب -تبارك وتعالى- وهو أرحم الراحمين قد لعنهم، فكيف الشأن بمن دونه؟! إذا كان الله وهو العظيم الأعظم فمن الشأن بالخلق، الذين إذا غضب الواحد منهم ربما ظلم من غضب عليه، أو أساء إليه، وتمنى لو أنه حاق به أشد العذاب، ولعنه، ونحو ذلك.

أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة البقرة:161] فهذه الآية فيها تحذير من الإصرار على الضلال والانحراف والكفر عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة البقرة:161] لماذا؟ لأنهم كفروا وماتوا وهم كفار، لا يترك العبد التوبة، فهي نفس واحدة، ولا يدري من يوافي، ولا يؤجل فقد تخترمه المنية، ثم بعد ذلك لا ينفعه الندم، ويتمنى الرجعة فلا يتمكن، ثم بعد ذلك تكون الخسارة الأبدية المُحققة، التي لا يمكن أن يحصل بعدها ربح ولا استدراك، هناك في المستقبل الكبير، المستقبل الحقيقي، والسعادة الحقيقية، والشقاء الحقيقي، وليست هذه الدنيا بحرها وبردها وعوارضها وأعراضها، فكل ذلك يتقلب ويتحول، ولكن هناك الخسران الحقيقي، والفوز الحقيقي، فيُبادر العبد بالرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- والاستغفار والتوبة، ويترك الإصرار.

وهذا أيضًا يُبين لنا مدى الحاجة إلى المزيد من بذل الجهد لتبليغ هذا الحق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى؛ لننقذ ما يمكن إنقاذه من النار، ومن عذاب الله فإن هؤلاء الكفار الذين يموتون على الكفر يلقون مصيرًا هائلاً مهما متعوا في هذه الحياة الدنيا، فإن خروج نفس الواحد منهم يعني أن ذلك قد حوله إلى الشقاء الدائم، الذي لا سعادة بعده، ولا يرى بعده روحًا ولا راحة ولا نعيمًا ولا بردًا ولا شرابًا إلا حميمًا وغساقًا.

فلذلك إذا أدركنا هذا المعنى -أيها الأحبة- إدراكًا صحيحًا، فإن هذا يقتضي ويستدعي أن نبذل كل جهد مُستطاع لتبليغ الدين، وأن نحمل رحمة للخلق من أجل أن ننقذهم من النار، يعني: لا نتحدث مع الناس باستعلاء، أو بطريقة تُنفرهم من قبول الحق، أو نتحدث بحديث من ظاهر اللسان دون أن يكون في القلب حرص وصدق في دعوة هؤلاء، فلا يحصل القبول، وإنما نكون جادين صادقين مُخلصين، نُحب لهم الخير والنجاة من عذاب الله فندعوهم من هذا المُنطلق، وهذا يكون أدعى للقبول والاستجابة.

والرسل -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يدعون أقوامهم بكل مُستطاع، سرًّا وجهارًا، ومجتمعين ومتفرقين، وكانوا ينصحون لهم غاية النصح، ويمحضون لهم النصيحة، ويصدقون في مشاعرهم.

ولذلك فإن الله -تبارك وتعالى- يهون على النبي ﷺ فيقول: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6] لشدة ما كان يجد، فما كان يقول: ما شأني وهؤلاء؟ أنا أُبلغ ثم بعد ذلك هم الذين يُلاقون المصير، ويتحملون النتائج؟ لا، بل كان يتألم لحال هؤلاء الناس.

وهكذا الداعية الصادق -أيها الأحبة- المحب للخير للناس يُشفق، ولو وجد الناس مثل هذه المشاعر الصادقة لرأيت استجابة أكبر وأعظم مما نحن عليه اليوم، فالذي يحول بيننا وبين هذا أمور كثيرة، تتعلق تارة بحظوظ النفس، فنحن قد نعمل من أجل المال، إذا كان الإنسان موظفًا في هذا المجال يتقاضى عليه، وقد نعمل من أجل الشهرة، وقد نعمل لتعزيز الذات، وقد نعمل من أجل كتابة تقرير في نهاية الشهر، أو في نهاية السنة، كم كلمة ألقيناها، وكم زيارة، وكم محاضرة، وكم من الأعمال والجهود التي بذلناها؟ وقد نعمل من باب إبراء الذمة فقط، من غير حرص، لكن أسلموا أو لم يسلموا هذا لا يعنيني، اهتدوا أو لم يهتدوا هذا لا يعنيني، والخطيب يطبع الخطبة من الشبكة، ثم يأتي ويقرأ هذه الخطبة على الناس تحلة قسم؛ لأنه يشعر أنه مكلف بذلك وعليه أن يُلقيه عن كاهله، فإذا ألقى هذه الخطبة استراح، لكن الصادق هو الذي يعمل على هذه الخطبة من الجمعة إلى الجمعة، ويجمع أفكاره، ويعيش مع الموضوع الذي يُلقيه، فهذا الذي ينتفع به الناس، ويتأثرون بكلامه.

فنحن أمام أمر هائل كبير في المستقبل الذي ينتظر الخلق جميعًا، إما جنة وإما نار، وما بين الإنسان وهذا إلا الموت، وهو لا يدري في أي ساعة يموت؟ ثم يصير إلى روح وراحة، أو يصير إلى عذاب.

وقد يُقعدنا بالنهوض بهذه الدعوة على الوجه المطلوب أحيانًا عدم اليقين، ليس عندنا يقين بهذه القضايا، نعلمها ولكن لو كنا نتيقن حقيقة مثل هذا، ونعرف قدر هذه القضية وهذا الدين الذي نحمله لصرنا نواصل العمل في الليل والنهار في تبليغه، ونُصح الخلق، ودعوتهم.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ [سورة البقرة:161] فبدأ بلعنة الله؛ لأن هذا هو الأشد والأعظم والباقي تبع له، فلعنته -تبارك وتعالى- هي التي تستتبع لعن الملائكة، والناس أجمعين، فلعن الله -تبارك وتعالى- لعبد من عباده لا شك أن وقعه وأثره أعظم، وبعد ذلك يأتي الملائكة لمنزلتهم، وعلو مرتبتهم، ثم بعد ذلك الناس يعلنونهم، ولاحظ قوله: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة البقرة:161] فظاهره يدخل فيه أهل البر والفجور، والله -تبارك وتعالى- أخبرنا عما يكون بين طوائف الكفار كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [سورة الأعراف:38]، نسأل الله العافية.

بعضهم يقول: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [سورة الأعراف:38] يعني: لعنت الأمة الأخرى، وبعضهم يقول: كلما دخل جيل من الكفار لعن الذي قبله، باعتبار أنهم هم الذين وطئوا لهم ومهدوا الكفر، وتلقوا عنهم هذه التعاليم، وبعضهم يقول: المقصود بذلك إذا دخلت أمة لعنت أختها: أن الأتباع يلعنون المتبوعين والكبراء الذين أضلوهم، وهذا كله وغيره مما يكون من لعن هؤلاء -نسأل الله العافية- بعضهم لبعض، فالكافر يلعنه الكافر، والله يقول: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166] أسباب النجاة والخلاص، فلا يوجد أمل، وماذا يُغني عنهم التلاعن؟ وماذا يغني عنهم السؤال والطلب أن يُضاعف العذاب لهؤلاء أو أولئك؟ لا يُغني عنهم، لكن لا يجدون إلا هذا خَالِدِينَ فِيهَاَ إذا قلنا: إن ذلك يرجع إلى النار، فهذا تفخيم لشأنها، ولم يسبق لها ذكر، فهذا يكفي في التهويل، أو دلالة اللعن عليها. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [سورة ق:30] برقم: (4850) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، برقم: (2846).