"وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ الواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى:
أحدها: أنه لا ثاني له، فهو نفي للعدد.
والآخر: أنه لا شريك له، ولا نظير.
والثالث: أنه واحد لا يتبعض، ولا ينقسم، وقد فسر المراد به هنا بقوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ".
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ الله - تبارك، وتعالى - إله واحد، بمعنى: أنه فرد صمد، لم يزل، وحده فهو المتفرد بذاته، وصفاته، وأفعاله، وهو الواحد في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، فهو متوحد في جميع الكمالات، ليس له فيها مثيل، ولا نظير، هذا معنى الواحد، وأما ما ذكره هنا بأن الواحد، كما في النوع الثالث - جعله على ثلاثة معان -: أنه لا يتبعض، ولا ينقسم، فهذا غير صحيح، هذا قول المتكلمين، ونحن نقول: بأن الله - تبارك، وتعالى - متصف بأوصاف الكمال، سواء كان ذلك في ذاته، أو في صفاته، وأفعاله، سواء كان ذلك في الصفات الذاتية، أو في الصفات الفعلية، المتعلقة بالمشيئة، والإرادة.
فالله - تبارك، وتعالى - له الكمال المطلق، ولا نقول كما يقول هؤلاء من المتكلمين بهذه العبارات المحدثة، التي هي مجملة، تحتمل حقًا، وباطلًا، فنحن لا نقول: بأن الله يتبعض، ولا نقول: بأن الله لا يتبعض، بل نجتنب هذه العبارات، ونسأل هؤلاء الذين أحدثوا مثل هذه العبارات، التي لم ترد في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام السلف الصالح : ماذا تريدون بهذه العبارات؟ فهم بهذا - كما هو معلوم - نفوا الصفات الذاتية: كالوجه، واليد، ونحو ذلك، الصفات الذاتية غير المعنوية، فالمعنوية مثل العلم، والذاتية مثل الوجه، هكذا وقع لطوائف من أهل الكلام من الأشاعرة، وغيرهم، ومن هنا فإن الله - تبارك، وتعالى - عندهم لا يُرى حقيقة، وإن كان الأشاعرة يثبتون الرؤية، لكن يقولون: هذه الرؤية لا إلى جهة.
والواقع أنه عندهم لا يُرى حقيقة؛ لأنه ليس له حقيقة قائمة بنفسها عندهم، فلا يُشار إليه، أنه في العلو مثلًا، ولا يوصف بذلك، لا يقال: بأن الله في العلو، أو متصف بالعلو، أو نحو هذا، والله - تبارك، وتعالى - يقول: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] ويقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ونحو ذلك.
فحينما يقولون: لا يتبعض، ولا ينقسم، هم يعتقدون أن إثبات هذه الصفات الذاتية غير المعنوية أن هذا يقتضي إثبات الأبعاض، والأجزاء بالنسبة لله - تبارك، وتعالى - وهكذا جاء تفسير الواحد عندهم، تجد هذا في كلام كثير من المتكلمين، حينما يعرفون الواحد، وهذا غير صحيح وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ أي: أنه المعبود وحده، لا إله إلا هو في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4].
فثبت له ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله ﷺ من غير تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل.
"واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات:
الأولى: توحيد عامة المسلمين، وهو الذي يعصم النفس، والمال في الدنيا، وينجي من الخلود في النار في الآخرة، وهو نفي الشركاء، والأنداد، والصاحبة، والأولاد، والأشباه، والأضداد".
فهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - ولا يقال: إن هذا هو توحيد عامة المسلمين، وإنما هذا هو التوحيد الذي يجب على المكلف أن يحققه.
"الدرجة الثانية: توحيد الخاصة، وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده، ويُشاهد ذلك بطريق المكاشفة، لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن؛ وإنما مقام الخاصة في التوحيد يقين في القلب بعلم ضروري، لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله، والتوكل عليه وحده، واطراح جميع الخلق، فلا يرجو إلا الله، ولا يخاف أحدًا سواه؛ إذ ليس يرى فاعلًا إلّا إياه، ويرى جميع الخلق في قبضة القهر ليس بيدهم شيء من الأمر، فيطرح الأسباب، وينبذ الأرباب".
مثل هذا من جملة كلام الصوفية، ولا حاجة إلى مثل هذا التقسيم، لكن الإيمان على مراتب:
فمن الناس من يكون كامل الإيمان، عظيم التوكل، ومن الناس من يكون إيمانه دون ذلك، فقوله هنا: "وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده، ويشاهد ذلك بطريق المكاشفة، لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن" يعني بمعنى أنه يصل إلى ذلك بحصول اليقين في نفسه، الذي يصل به إلى مرتبة المكاشفة هذه، التي تسمى عند الصوفية بوحدة الشهود، وهذا النوع - وحدة الشهود - يعني أن يرى جميع الأفعال أنها صادرة من الله، يعني يصل إلى هذه المرتبة، فهذه قد تكون مقدمة لعقيدة وحدة الوجود، وهذا أوضح في الدرجة الثالثة، يعني هذه مرتبة فوق توحيد العامة عنده، فالدرجة التي فوقها هي: أشبه ما تكون بعقيدة وحدة الوجود، وإن لم يكن المؤلف يقصد هذا، لكن من الصوفية من وصل إلى ذلك، وصاروا على عقيدة وحدة الوجود، كما هو معلوم عند غلاتهم.
"والدرجة الثالثة: ألا يرى في الوجود إلا الله وحده، فيغيب عن النظر إلى المخلوقات، حتى كأنها عنده معدومة، وهذا الذي تسميه الصوفية: مقام الفناء، بمعنى الغيبة عن الخلق، حتى أنه قد يفنى عن نفسه، وعن توحيده، أي: يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله".
فهذا يشبه كلام قول أهل وحدة الوجود، لكن الفرق بين هذا، وبين قول أهل وحدة الوجود أن أهل وحدة الوجود، يرون أن كل هذه المشاهدات، أنها هي الإله المعبود، وأنه ليس ثمّ إلا الله - تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا - كما قال أحدهم عن نفسه: "ما في الجُبة إلا الله" وغيره من الكلام القبيح الذي لا يحسن إيراده من عبارات هؤلاء الغلاة، لكن على كل حال هذا الكلام يشبه كلامهم، وإن لم يقصده المؤلف، فهو هنا لا يقصد أن جميع الموجودات أنها هي الله، فهذا لا شك أنه من أعظم الإلحاد، لكن يقصد هنا مرتبة الفناء، يعني أنه يغيب عنها لا يشاهدها، ولا يراها، فهي بمنزلة العدم عنده، وهذا كله من الكلام الباطل، والتخليط الذي لا حاجة إليه، وحال النبي ﷺ وحال أصحابه هي أكمل الأحوال، وليس عندهم هذا الفناء، ولا هذه الوحدة - وحدة الشهود - ولا غير ذلك من هذه الأمور المحدثة.
فقول أهل وحدة الوجود يقوم على اعتقادهم بإنكار الموجودات، أو ادعاء أن الوجود كله مظهر من مظاهر الوجود الإلهي، هذه الصورة هي الصورة المشهورة، المعروفة عند أهل وحدة الوجود، وعليها قول ذاك الذي يقول: "ما في الجبة إلا الله"، وعبارات أخرى مشابهة لهذا معروفة لهؤلاء الملاحدة، وهم زنادقة، لكن هذه الصورة الأخرى التي هي عقيدة أهل وحدة الوجود التي تُبنى على إنكار الموجودات، هذا يشبه كثيرًا هذا الكلام الذي يذكره، لكنه هنا لا يقصد أنها غير موجودة، ولكنه يصل إلى مرتبة بحيث يغيب عنها، كأنه يشتغل عنها بربه، فينصرف ذهنه، وقلبه، وعقله عنها، فكأنه لا يراها، ولا يشعر بها، فهو يقصد هذا، لكنه كان في غنى عن هذا كله.