على كل حال إنما يأمركم بالسوء، وهو كل ما يسوء، ويقبح، من كل ذنب، ومعصية، والفحشاء، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
قيل: سمي السوء بذلك لأنه يسوء صاحبه إذا رآه في صحيفته، والفحشاء يقول بعضهم: إن أصلها سوء المنظر، يعني حساً، ثم استُعمل فيما يقبح من جهة المعنى، وعلى كل حال الفحشاء: كل ذنب عظم فهو من الفحشاء، والسياق قد يحدد بعض المعاني، والعُرف قد يخص الفحشاء بنوع من الذنوب العظام؛ ولهذا كانت الفاحشة تطلق في الغالب على الزنا، وما في معناه، وتفسيره هنا الفحشاء بالمعاصي لا يخلو من إشكال؛ لأن ليس كل المعاصي يقال لها: فحشاء، وليس كل معصية فاحشة، وإنما ذلك يقال لما عَظُم الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم: 32] على المعنى المشهور أن اللمم هي الصغائر.
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ يدخل فيها الإشراك، ونسبة الصاحبة، والولد، والشريك إلى الله - تبارك، وتعالى - وتحريم الحلال، ونحو ذلك.
هذا العدو إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ فجاء بهذه الصيغة والأداة التي تُعد ثاني أقوى صيغة من صيغ الحصر عند اللغويين والأصوليين (إنما) يعني: هو لا يأمركم بشيء آخر، فلا يمكن أن يأمرك بمعروف، أو خير، أو فضيلة، أو صلة، أو نحو ذلك إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:169] أن تقولوا على الله ما لا تعلمون في أبواب الاعتقاد والشرك ونسبة الأنداد والأولاد والزوجات، وكذلك أن تقول على الله ما لا تعلمون في الحلال والحرام والتشريع، وما إلى ذلك من الكذب على الله -تبارك وتعالى- والقول عليه وعلى كتابه ودينه بلا علم.
ويُؤخذ من هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا [سورة البقرة:168] أن الأصل في المطعومات الحِل، فهي حلال أحله الله -تبارك وتعالى- وطيبه، فإذا كان هذا هو الأصل، فإن حين لا نجد في كتاب الله، أو في سنة رسوله ﷺ نصًا يتعلق بتحليل نوع من المأكولات، فإنا نبقى على الأصل، وهو الحِل، ما لم يكن ضارًا.
وزاد بعض أهل العلم ما لم يكن مُستخبثًا عند العرب، فهذه الحيوانات التي قد توجد في أمكان بعيدة لم يرد فيها دليل خاص يتصل بحِل، ولا حُرمة، فالله قد ذكر بهيمة الأنعام، وجاء في السنة: "نهى رسول الله ﷺ عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير"[1] فهناك أشياء ليست بذوات مخالب، ولا بذوات أنياب، ولم يتطرق إليها نص، فنرجع إلى هذا الأصل، وهي أنواع من الحيوانات، وأنواع من الأطعمة، مما يستجد للناس في ذلك، ما لم يكن ضارًا فهو حلال.
كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا [سورة البقرة:168] (مما) فـ(ما) تفيد العموم، وفي قوله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [سورة البقرة:29] أعم من هذه، فتلك استدل بها الأصوليون والفقهاء على أن الأصل في الأشياء الحِل، من المأكول المطعوم والملبوس والمركوب، وما إلى ذلك، فالأصل في هذه الأشياء أن الله خلقها للناس من أجل أن ينتفعوا بها، إلا ما ورد دليل بتحريمه، أو عُرف ضرره، فعند ذلك يُمنع منه.
وفي قوله: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة البقرة:168] هذا فيه إشارة إلى دور الشيطان وأثره في حرمان بني آدم من كثير من الطيبات التي أباحها الله لهم، أو تحليل بعض ما حرمه الله عليهم، وقد ذكر الله خبر المشركين في هذا الباب في سورة الأنعام، كما في قوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا [سورة الأنعام: 138] الآية، ففرَّقوا بين هذه الأشياء، واستحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل الله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ [سورة الأنعام: 139] فهذا كله من التشريع الجاهلي الذي كان عليه أهل الجاهلية، وكذلك ما كانوا يحرمون ويُحللون ويسيبون من السوائب مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة المائدة:103] فالسائبة والوصيلة والحام كل ذلك مما كانوا يُشرعون مما يُحرمونه على أنفسهم، أو يزاولون فيه أو معه مزاولات لم يأذن الله -تبارك وتعالى- بها.
كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة البقرة:168] هذه الخطوات -كما هو معلوم- هي مبدأ كل عمل، وهي الخواطر والأفكار، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فهذه الخواطر توجب التصورات، والتصورات توجب الإرادات، والإرادات تتحول إلى عزائم، ثم بعد ذلك تتحول وتُترجم إلى فعل في الخارج، وكان مبدأ ذلك الخاطرة التي صارت فكرة، ثم تحولت إلى إرادة وعزيمة، ثم بعد ذلك مع التكرار تتحول إلى عادة.
يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله: فصلاح كل هذا بصلاح الخطوة الأولى[2] وهي الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة البقرة:168] فخطوات الشيطان هي مسالكه، وما يُمليه ويُزينه ويُحسنه للإنسان، فهو يُدرج الإنسان بالمُنكر خطوة خطوة؛ ولذلك سماها خطوات، فهذا من قبيل استدراجه لبني آدم، فالخطوة مسافة يسيرة يخطوها الإنسان برجله، هكذا الشيطان يبدأ بداية يسيرة في باب البدع والمُحدثات، أو في باب المعاصي، حتى تألف النفس ذلك، ثم ينقله إلى ما فوقه، ويرقيه إلى أن يصل إلى أمور عظيمة، وقد يخرج من رِبقة الدين، وما كان يظن بحال من الأحوال في يوم من دهره أنه سيتحول إلى ذلك.
انظر إلى هذا الإنسان الذي صار مثلاً مروجًا للمخدرات، وقد باع الفضيلة والفضائل، وباع كل بر ومعروف وصلة، وقطع أقرب الناس إليه، فصار يفعل فعل الشياطين، وليس له همة ولا نهمة إلا في قضاء وطره، وترويج المنكر والشر والفساد، هذا لا يبدأ هكذا لكن البداية كانت ربما يسيرة، كأن يُجرب تعاطي أمرًا على سبيل الدعابة أو المزاح أو نحو ذلك مع الأقران والزملاء، أن يُدخن مرة واحدة، ثم بعد ذلك يتكرر ثانية وثالثة، حتى يصير عادة، ثم بعد ذلك تطلب نفسه ما هو فوقه، ويُزين له شياطين الإنس والجن أمورًا أخرى، فيتحول إليها، ثم بعد ذلك تكون نفسه موطأة لمزيد من المنكر، وقد ألفت ما مضى من ذلك، فصارت مُهيأة لقبول ما هو أعظم منه، حتى يصير بعد ذلك إلى حال -نسأل الله العافية- يتحول فيها إلى شيطان من شياطين الإنس.
وهكذا هذا الإنسان الذي يتعاطى الفواحش ربما لم يبدأ بهذا لكن كانت البداية نظرة محرمة أو صورة عارية، تُغري النفس بالرذيلة، ثم بعد ذلك تبدأ النفس تتطلع وتجتر هذه المشاهد والصور، ثم بعد ذلك يكون ذلك إرادة لها، ثم يتحول ويترجم إلى عزيمة، ثم بعد ذلك يكون فعلاً في الخارج، وقد يكون ذلك بتدريج من نوع آخر بتأويلات فاسدة يُزينها الشيطان لمن عنده شيء من الورع، والشيطان يأتي لكل أحد من الناس بالطريق التي تصلح لمثله.
وكثير من السلف يذكرون خبرًا أصله من الإسرائيليات، والنبي ﷺ قال: وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[3] وذلك في قوله -تبارك وتعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ [سورة الحشر:16] فهذا معناه في الظاهر -والله تعالى أعلم- هو في إغواء الشيطان لابن آدم بالكفر، ثم يتبرأ منه بعد ذلك في النار، حينما يدخل أهل النار النار، يقوم خطيبًا ويقول: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [سورة إبراهيم:22].
فهذا هو الأقرب في معنى الآية -والله تعالى أعلم- ولكن كثير من الصحابة فمن بعدهم يذكرون هذه الواقعة، وحاصلها بروايتها المختلفة: أن أربعة من بني إسرائيل اكتتبوا في غزوة، وهم إخوة، وكانت لهم أخت فتفكروا كيف يصنعون بها، فاهتدوا إلى راهب في دير، أو في صومعة، فقالوا: قد اكتتبنا في غزوة كذا، وكانوا يُطيلون الغياب في مغازيهم، ويبقون السنة وأكثر من ذلك، وهذه أختنا ليس لها أحد نريد أن نضعها أمانة عندك حتى نرجع، فأبى وامتنع، فقالوا: نبني لها صومعة قريبًا من صومعتك.
فقال: شأنكم، فبنوا لها صومعة، وجعلوها في هذه الصومعة، فكان هذا الرجل في صومعته لا يخرج منها، ثم يضع الطعام عند باب صومعته من الخارج، ويُغلق الباب، فتأتي هذه المرأة، وتأخذ الطعام، وترجع إلى صومعتها.
ثم جاءه الشيطان، فقال: هذه عورة وأنت مؤتمن عليها، وأنت أولى بالخروج منها، فهلاّ وضعت الطعام عند باب صومعتها؛ لئلا تخرج، فتكون عُرضة للآفات، فصار يضع الطعام عند باب صومعتها، ثم ينصرف، ثم تفتح الباب وتأخذ هذا الطعام، فجاءه الشيطان فقال: لو أنك حادثتها من وراء الباب، حتى تأنس بصوتك، فهي لم تألف الانفراد، وهي امرأة ضعيفة.
فجعل يجلس خلف الباب، والباب مُغلق، فيُحدث ويُذكر ويعظ، من باب أنه يُدخل عليها شيء من الأُنس والنفع والفائدة، ثم بعد ذلك جاءه الشيطان وقال: لو أنك جلست إلى الباب من الداخل تراك وتأنس برؤيتك، فإنها لم تألف الانقطاع، فتستوحش بعدم رؤية الناس، فصار يجلس داخل الصومعة قريبًا من الباب لتراه ويتحدث، فما زال الشيطان به حتى وقع بها، فحملت، ثم بعد ذلك ولدت، فقتل هذا المولود، وقتل هذه البنت.
ثم جاءه الشيطان وقال له: أنت الآن تفتضح ويفتضح من وراءك ممن يمثلون الدين، فقتلها ودفنها، فلما جاء إخوتها سألوا عنها، فأثنى عليها خيرًا، ثم قال: هذه بنت نِعم المرأة، صالحة، وقد أصابها مرض شديد، ثم ماتت، وأشار إلى ناحية عند شجرة، وقال: هذا قبرها، فشكروه، ودعوا له، وانصرفوا، فأصبحوا وقد تغيرت نفوسهم ذات يوم، فقال أحدهم: والله لقد رأيت شيئًا لا أدري ما هو، فسألوه عنه فأبى، أن يذكره، فقال الآخر: والله أنا لقد رأيت شيئًا لا أدري ما هو، والثالث والرابع، كلهم قالوا مثل ذلك، فتحدثوا به، وإذا بالخبر بحالٍ من التطابق، فالرؤيا كانت واحدة، فقالوا: ما هذا إلا لشيء، فذهبوا إلى سلطانهم، وأخبروه فجيء بهذا الراهب، ثم بعد ذلك ابتلي وامتحن، فاعترف، ودلهم على قبرها الحقيقي، وأنه قتلها وقتل هذا الغُلام.
ثم جاءه الشيطان، فقال له: أنا صاحبك الذي أوقعك في هذا كله، والآن لا يكون ذلك عليك، وإنما يكون على الدين وحملته، فاسجد لي سجدة واحدة أُخلصك مما أنت فيه، فسجد الرجل، فكانت نفسه فيها، فهذه القصة فيها عبرة، وتُمثل هذا الجانب أو هذا النوع من الاستدراج لدى ذوي الورع، كيف يأتيه من باب الورع، فما يزال به حتى يوقعه في الأمر المكروه.
فهذه خطوات الشيطان، لا يسترسل معها الإنسان، وإنما يقطع ذلك، وإن أتيت إلى الأبواب الأخرى مثل الطهارة والصلاة والعبادات والوسوسة فيها، وما إلى ذلك، تجد أنها تبدأ بخطوات، فإذا أعاد من غير موجب دخل عليه الشيطان، وبدأ يُلبس عليه، ثم بعد ذلك يصير في حال من البلاء والشدة، يُعيد الوضوء من صلاة العصر إلى الثانية عشرة ليلاً.
وقد حدثني بعضهم أنه ترك الصلاة شهرًا لا يُصلي، وحدثني غيره أنه بقي سنة لا يغتسل من الجنابة، فهذا الذي يُريده الشيطان، وكانت القضية هي تحرز وورع أعد، ربما لم تُكبر تكبيرة الإحرام كما ينبغي، ربما لم تمسح رأسك، ربما لم يبلغ الماء المواضع التي يجب أن يبلغها، فإذا أطاعه فإنه يملأ قلبه من هذه الوساوس، ويُفسد عليه العبادة، وكذلك ما يتعلق بالنظر إلى الآخرين، وسوء الظن بهم، فإذا فتح هذا الباب، فإنه ربما يُسيء الظن بكل من حوله، وعند ذلك يستوحش من هؤلاء الناس، ويظن بهم الظنون السيئة، وأنهم يتربصون به شرًا، ولا يريدون به خيرًا، وإذا رأى اثنين يتحدثان ظن أنهما إنما يتحدثان في أمر يتعلق به، ونحو ذلك، فتكون حاله في غاية السوء في حال لا يمكن أن تُطاق.
وقل مثل ذلك في أمور تتعلق بطهارة الجسد، ونحو هذا، حتى يصل الأمر بالإنسان أنه يشك بالأرض التي يمشي عليها، وفي كل شيء، وفي الجدران: أنها قد تنجست وتلوثت، ثم بعد ذلك يتنزه ويتورع ويحتاط من أن يمس شيئًا، فيكون في حال لا يستطيع معها العيش، فتتحول هذه العبادات بدلاً من أن تكون راحة للقلب: إلى لون من العذاب بفعل الشيطان.
وتسمية ذلك بالخطوات يدل على أن الشيطان لن يقف عند الأولى، هي تبدأ بواحدة، إذًا اقطع الطريق، فإذا أغراك بنظرة محرمة فاقطع هذا الطريق؛ لأنه سلسلة، وإذا أغراك بإعادة في صلاة أو طهارة فاقطع هذا الطريق، وإذا أغراك وأغواك بشيء من المعاصي، فاعلم أنها ليست هي فقط، لا، هناك بعدها ثانية وثالثة ورابعة، وهكذا إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة البقرة:168] إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ [سورة البقرة:169] إذًا لا يكون ناصحًا بحال من الأحوال فلماذا يُطاع؟
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة البقرة:168] أكد هذا الخبر بـ(إن) التي بمنزلة إعادة الجملة مرتين، عدو بيّن العداوة، وظاهر العداوة، مُكاشر بها، فهذا كما أخبر الله -تبارك وتعالى- عنه يتوعد ويتهدد لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً [سورة الإسراء:62] يعني يأخذ بالحنك، فهو عدو، يتربص بهم، يقول: لأحتنكن ذرية آدم هذا الذي أُمرت بالسجود له، وكُرم عليّ، ثم طُردت بسببه من العالم العلوي، والملأ الأعلى، سأفعل بذريته هذه الأفاعيل.
وهو الذي أخرجنا من الجنة، بإخراج أبينا آدم -عليه الصلاة والسلام- من الجنة، وبالقسم هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [سورة طه:120] وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:21] يعني: يحلف الأيمان من أجل الإغواء والإغراء، هو ليس عنده شيء يخسره؛ لأنه خسر رحمة الله، فهو يفعل كل شيء ليتمكن من ابن آدم، بحيث يموت على الكفر، بالبدع، فإن لم يستطع فعلى الكبائر، فإن لم يستطع فعلى الإصرار على الصغائر، فإن لم يستطع فإنه يأتيه في النوم، ويُزعجه بالرؤى السيئة، ويُجلب عليه -كما قال ابن القيم- بخيله ورجله، ويُسلط عليه شياطين الإنس، فيؤذونه ويُقلقونه ويشغلونه، هذا فعل الشيطان بابن آدم، عدو مبين إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ [سورة البقرة:169] السيئة قيل لها سيئة لأنها تسوء صاحبها، فكل ما يسوء يُقال له: سوء، فالمعاصي سوء؛ لأنها ترجع على صاحبها بالضرر، والفواحش وهي ما عظُم وقبُح من الذنوب والآثام، فهذا من عطف الخاص على العام، فالفحشاء هي نوع من السوء، لكنها عظائم وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:169] فلاحظ أنه ذكر هذا مترقيًا: السوء، وأعظم منه الفحشاء، وأعظم من ذلك القول على الله لا علم، بحيث يُقال: هذا حلال، وهذا حرام، ويُشرع من دون الله -تبارك وتعالى- أو يُبتدع البدع المُخالفة للشرع، ونحو ذلك، فهذا كله داخل في القول على الله بلا علم.