يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً [سورة البقرة:168] سُمي (حلالاً) ربما لانحلال عقدة الحظر عنه، وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:168] خطوات الشيطان: جمع خُطوة، والخطوة تقال بالفتح خَطوة، وتقال بالضم خُطوة، والخَطوة: هي واحدة الخَطْو، تقول: خطوت خطوة، يعني واحدة، خطوتين، ثلاث، والخُطوة: هي ما بين القدمين حال الخَطْو، وأما الخَطوة: فهي الواحدة، تقول: هذه خَطوة، خَطَوات الدرس كما يقال، وخَطَوات الموضوع، والخَطَوات التي نسير عليها، المقصود بها الواحدة، وتجمع على خَطَوَات، خَطوة خَطَوَات، فَعْلَة فَعَلات، هذا هو الأصل أنه بالفتح تقول: حلَقات، وحسَرات، وزفَرات إلا لضرورة الشعر، يقول الشاعر:
حُمّلتُ زفْرات الضحى فأطقتها | وما لي بزفْرات العشيِّ يدانِ[1] |
طالب: يقول الأصفهاني: "الحسرُ: كشف الملبس عما عليه، يقال: حسرت عن الذراع، والحاسر: من لا درع عليه، ولا مغفر.
لا، هات الحسرات.
طالب: هو ذكر المعنى ثم سرد الآيات التي ذُكرت فيها.
قال: "والحاسر من لا درع عليه، ولا مغفر، والمحسرة المكنسة، وفلان كريم المحسّر كناية عن المختبر، وناقة حسير: انحسر عنها اللحم، والقوة، ونوق حسراء، والحاسر: المعيا لانكشاف قواه، ويقال للمعيا: حاسر، ومحسور، أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره، وقوله : يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:4] يصح أن يكون بمعنى حاسر، وأن يكون بمعنى محسور، قال تعالى: فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29]، والحسرة: الغم على ما فاته، والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على مرتكبه، أو انحسرت قواه من فرط غم، أو أدركه إعياء من تدارك ما فرط منه، قال تعالى: لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [سورة آل عمران:156]، وقالوا: َوَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة الحاقة:50]، وقال تعالى: يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [سورة الزمر:56]، وقال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167]، وقوله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد [سورة يــس:30]، وقوله تعالى في وصف الملائكة: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ [سورة الأنبياء:19]..[2].
ولا يستحسرون أي: لا ينقطعون، والكلمة في كل استعمالاتها ترجع إلى معنى الكلال، والانقطاع، حسير: يعني كليل، يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:4] يعني كليل، ومنه قول الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها | فبيضٌ وأما جلدها فصليبُ[3] |
يقول: "بها جيف الحسرى"، وهي الإبل، والدواب المنقطعة من طول المسير، "فأما عظامها فبيض" أي: تلوح عظامها ميتة من زمان متفسخة، "وأما جلدها فصليبُ" جلودها يابسة.
فالمقصود - على كل حال - أن قوله: حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167] جمع حسرة، وهي شدة الضيق، والغم الذي يحصل لهم بسبب التفريط، والتضييع، ولذلك هنا لما قال: إنها ذهبت، واضمحلت فيكون ذلك سبباً لهذا الغم الذي وقع لهم، إذا رأوا أعمالهم قد ذهبت، واضمحلت ما الذي يحصل؟ يحصل لهم الحسرة، يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [سورة الزمر:56].
"لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه، فذكر في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالاً من الله طيباً، أي: مستطاباً في نفسه غير ضارٍ للأبدان، ولا للعقول، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي: طرائقه، ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البَحَائر، والسوائب، والوصائل، ونحوها مما كان زيّنه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض ابن حمار - ، وأرضاه - الذي في صحيح مسلم عن رسول الله ﷺ أنه قال: يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال، وفيه: وإني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم[4].
وقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:168] تنفير عنه، وتحذير منه، كما قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة فاطر:6]، وقال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [سورة الكهف:50].
وقال قتادة، والسدي في قوله: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة البقرة:168] كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان.
وروى عبد بن حميد عن ابن عباس - ا - قال: "ما كان من يمين، أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين."فقد مضى بعض الكلام بالأمس على قوله - تبارك، وتعالى - : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً، وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:168]، وعرفنا معنى الخطوات من جهة اللغة، وهنا قال: "كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان"، وهذا التفسير تفسير صحيح، إذ إن اتباع خطوات الشيطان هو اتباع مسالكه، وطرائقه، وما يزينه للناس، ويمليه لهم، هذه هي خطوات الشيطان، فيكون الإنسان متبعاً له، مطيعاً له، والشيطان كما هو معلوم إنما يأتي كل إنسان بحسب حاله، فهو - كما يقول ابن القيم - رحمه الله -: يشم قلبه، فإن رأى فيه ميلاً إلى التشديد جاءه من هذا الباب فأوقعه في الغلو، وإن كان فيه ميل إلى الشهوات جاءه من هذا الباب، وإذا كان فيه ميل إلى الجهاد جاءه من هذا الباب، وإذا كان فيه ميل إلى الحسبة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والغيرة جاءه من هذا الباب، وهكذا فهو يزين له شيئاً فشيئاً يوقعه في أمر، ثم يجره ذلك إلى ما بعده، حتى يوقعه في الأمر العظيم الذي ربما لم يخطر في بال هذا الإنسان أنه سيصل إليه في يوم من دهره.
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:168] أي ظاهر العداوة، ليست عداوته بخافية عليكم، وأصل العداوة معروفة، وأظن سبق الكلام على هذا المعنى، وأن أصله في كلام العرب مأخوذ من أن أحد المتعاديين في عدوة، والآخر في العدوة الأخرى، وعدوة الوادي هي شقه، وجانبه، كما يقال في الشقاق، والمشاقة هذا في شق، وهذا في شق، والمحادة هذا في حد، وهذا في حد، وهكذا.
- هذا البيت من قصيدة نونية طويلة عدتها ثلاثة، وسبعون بيتاً لعروة بن حزام العذري، المتوفى - على ما ذكر الذهبي في تاريخه - في خلافة عثمان سنة ثلاثين من الهجرة، لعشر بقين من شوال، وقيل: سنة ثمان، وعشرين، ومن محاسن شعره قصيدته هذه التي ضمنها حكاية حاله بألفاظ رقيقة، ومعان أنيقة يقول في مطلعها: خليلي من عليا هلال بن عامر *** بصنعاء عوجا اليوم، وانتظرانيولا تزهدا في الأجر عندي، واجعلا *** فإنكما بي اليوم مبتليانيُنظر: خزانة الأدب (ج1/ص432)، وتزيين الأسواق في أخبار العشاق (ج1/ص60)، وشرح ابن عقيل (ج4/ص112)، وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك (ج1/ص438).
- غريب القرآن للأصفهاني (ج1/ص118).
- هذا البيت من قصيدة طويلة لعلقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس، مطلعها:طَحَا بِكَ قَلْبٌ في الحِسَانِ طَرُوبُ *** بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حانَ مَشِيبُيُكَلِّفُنِي لَيْلَى، وقد شَطَّ، وَلْيُها ***، وعادَتْ عَوَادٍ بيننا، وخُطُوبُيُنظر: خزانة الأدب (ج3/ص106)، والجليس الصالح، والأنيس الناصح (ج1/ص239)، والمفضليات (ج1/ص71)، ومنتهى الطلب من أشعار العرب (ج1/ص13).
- أخرجه مسلم في كتاب الجنة، وصفة نعيمها، وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، وأهل النار (ج8/ص158 - 7386 ).