الخميس 27 / ربيع الآخر / 1446 - 31 / أكتوبر 2024
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُوا۟ مِمَّا فِى ٱلْأَرْضِ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ ۚ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ۝ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:168-169] لما بيّن تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق، شرع يبيّن أنه الرزاق لجميع خلقه."هذا الكلام الذي يذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا هو ما يعرف بالمناسبة بين الآية، وبين الآية التي قبلها، والمقصود بالمناسبة: وجه الارتباط بين الآية، وما قبلها، وهناك أنواع أخرى من المناسبة على كل حال، لكن هنا يقرر وجه الارتباط بين الآية، وبين ما قبلها، لما بيّن تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق شرع يبيّن أنه الرازق لجميع خلقه.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً [سورة البقرة:168] سُمي (حلالاً) ربما لانحلال عقدة الحظر عنه، وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:168] خطوات الشيطان: جمع خُطوة، والخطوة تقال بالفتح خَطوة، وتقال بالضم خُطوة، والخَطوة: هي واحدة الخَطْو، تقول: خطوت خطوة، يعني واحدة، خطوتين، ثلاث، والخُطوة: هي ما بين القدمين حال الخَطْو، وأما الخَطوة: فهي الواحدة، تقول: هذه خَطوة، خَطَوات الدرس كما يقال، وخَطَوات الموضوع، والخَطَوات التي نسير عليها، المقصود بها الواحدة، وتجمع على خَطَوَات، خَطوة خَطَوَات، فَعْلَة فَعَلات، هذا هو الأصل أنه بالفتح تقول: حلَقات، وحسَرات، وزفَرات إلا لضرورة الشعر، يقول الشاعر:
حُمّلتُ زفْرات الضحى فأطقتها وما لي بزفْرات العشيِّ يدانِ[1]
قال: (بزفْرات)، وهذا قليل جداً، وهو يرد في ضرورة الشعر.
طالب: يقول الأصفهاني: "الحسرُ: كشف الملبس عما عليه، يقال: حسرت عن الذراع، والحاسر: من لا درع عليه، ولا مغفر.
لا، هات الحسرات.
طالب: هو ذكر المعنى ثم سرد الآيات التي ذُكرت فيها.
قال: "والحاسر من لا درع عليه، ولا مغفر، والمحسرة المكنسة، وفلان كريم المحسّر كناية عن المختبر، وناقة حسير: انحسر عنها اللحم، والقوة، ونوق حسراء، والحاسر: المعيا لانكشاف قواه، ويقال للمعيا: حاسر، ومحسور، أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره، وقوله : يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:4] يصح أن يكون بمعنى حاسر، وأن يكون بمعنى محسور، قال تعالى: فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29]، والحسرة: الغم على ما فاته، والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على مرتكبه، أو انحسرت قواه من فرط غم، أو أدركه إعياء من تدارك ما فرط منه، قال تعالى: لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [سورة آل عمران:156]، وقالوا: َوَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة الحاقة:50]، وقال تعالى: يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [سورة الزمر:56]، وقال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167]، وقوله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَاد [سورة يــس:30]، وقوله تعالى في وصف الملائكة: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ [سورة الأنبياء:19]..[2].
ولا يستحسرون أي: لا ينقطعون، والكلمة في كل استعمالاتها ترجع إلى معنى الكلال، والانقطاع، حسير: يعني كليل، يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:4] يعني كليل، ومنه قول الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيضٌ وأما جلدها فصليبُ[3]
يصف الشاعر بيداء - حراء - واسعة، لا يقطعها إلا الواحد بعد الواحد من الناس، يقول: قطعتها، وبها جيف الحسرى، وهي النوق تنقطع في السفر من طول المشي، والمسير، فتحرِن الواحدة منها في مكانها، ولا تقوم منه، وتموت، وينقطع بها السير لشدة ما يلحقها من التعب.
يقول: "بها جيف الحسرى"، وهي الإبل، والدواب المنقطعة من طول المسير، "فأما عظامها فبيض" أي: تلوح عظامها ميتة من زمان متفسخة، "وأما جلدها فصليبُ" جلودها يابسة.
فالمقصود - على كل حال - أن قوله: حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167] جمع حسرة، وهي شدة الضيق، والغم الذي يحصل لهم بسبب التفريط، والتضييع، ولذلك هنا لما قال: إنها ذهبت، واضمحلت فيكون ذلك سبباً لهذا الغم الذي وقع لهم، إذا رأوا أعمالهم قد ذهبت، واضمحلت ما الذي يحصل؟ يحصل لهم الحسرة، يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [سورة الزمر:56].
"لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه، فذكر في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالاً من الله طيباً، أي: مستطاباً في نفسه غير ضارٍ للأبدان، ولا للعقول، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي: طرائقه، ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البَحَائر، والسوائب، والوصائل، ونحوها مما كان زيّنه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض ابن حمار - ، وأرضاه - الذي في صحيح مسلم عن رسول الله ﷺ أنه قال: يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال، وفيه: وإني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم[4].
وقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:168] تنفير عنه، وتحذير منه، كما قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة فاطر:6]، وقال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [سورة الكهف:50].
وقال قتادة، والسدي في قوله: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة البقرة:168] كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان.
وروى عبد بن حميد عن ابن عباس - ا - قال: "ما كان من يمين، أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين."
فقد مضى بعض الكلام بالأمس على قوله - تبارك، وتعالى - : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً، وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:168]، وعرفنا معنى الخطوات من جهة اللغة، وهنا قال: "كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان"، وهذا التفسير تفسير صحيح، إذ إن اتباع خطوات الشيطان هو اتباع مسالكه، وطرائقه، وما يزينه للناس، ويمليه لهم، هذه هي خطوات الشيطان، فيكون الإنسان متبعاً له، مطيعاً له، والشيطان كما هو معلوم إنما يأتي كل إنسان بحسب حاله، فهو - كما يقول ابن القيم - رحمه الله -: يشم قلبه، فإن رأى فيه ميلاً إلى التشديد جاءه من هذا الباب فأوقعه في الغلو، وإن كان فيه ميل إلى الشهوات جاءه من هذا الباب، وإذا كان فيه ميل إلى الجهاد جاءه من هذا الباب، وإذا كان فيه ميل إلى الحسبة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والغيرة جاءه من هذا الباب، وهكذا فهو يزين له شيئاً فشيئاً يوقعه في أمر، ثم يجره ذلك إلى ما بعده، حتى يوقعه في الأمر العظيم الذي ربما لم يخطر في بال هذا الإنسان أنه سيصل إليه في يوم من دهره.
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:168] أي ظاهر العداوة، ليست عداوته بخافية عليكم، وأصل العداوة معروفة، وأظن سبق الكلام على هذا المعنى، وأن أصله في كلام العرب مأخوذ من أن أحد المتعاديين في عدوة، والآخر في العدوة الأخرى، وعدوة الوادي هي شقه، وجانبه، كما يقال في الشقاق، والمشاقة هذا في شق، وهذا في شق، والمحادة هذا في حد، وهذا في حد، وهكذا.
  1. هذا البيت من قصيدة نونية طويلة عدتها ثلاثة، وسبعون بيتاً لعروة بن حزام العذري، المتوفى - على ما ذكر الذهبي في تاريخه - في خلافة عثمان سنة ثلاثين من الهجرة، لعشر بقين من شوال، وقيل: سنة ثمان، وعشرين، ومن محاسن شعره قصيدته هذه التي ضمنها حكاية حاله بألفاظ رقيقة، ومعان أنيقة يقول في مطلعها: خليلي من عليا هلال بن عامر *** بصنعاء عوجا اليوم، وانتظرانيولا تزهدا في الأجر عندي، واجعلا *** فإنكما بي اليوم مبتليانيُنظر: خزانة الأدب (ج1/ص432)، وتزيين الأسواق في أخبار العشاق (ج1/ص60)، وشرح ابن عقيل (ج4/ص112)، وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك (ج1/ص438).
  2. غريب القرآن للأصفهاني (ج1/ص118).
  3. هذا البيت من قصيدة طويلة لعلقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس، مطلعها:طَحَا بِكَ قَلْبٌ في الحِسَانِ طَرُوبُ *** بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حانَ مَشِيبُيُكَلِّفُنِي لَيْلَى، وقد شَطَّ، وَلْيُها ***، وعادَتْ عَوَادٍ بيننا، وخُطُوبُيُنظر: خزانة الأدب (ج3/ص106)، والجليس الصالح، والأنيس الناصح (ج1/ص239)، والمفضليات (ج1/ص71)، ومنتهى الطلب من أشعار العرب (ج1/ص13).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الجنة، وصفة نعيمها، وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، وأهل النار (ج8/ص158 - 7386 ).

مرات الإستماع: 0

"كُلُوا أمر محمولٌ على الإباحة".

الأمر يأتي لمعان منها: الإباحة، والأصوليون يمثلون بمثل هذه الآية كثيرًا على مجيئه للإباحة، فهي في سياق الامتنان، وليس هذا للوجوب كما هو معلوم كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ وإذا أراد الإنسان أن يتعمق في مثل هذا، ويقول: الأكل الذي تبقى معه المهجة واجب، ونحو ذلك، فليس هذا هو المقصود.

"حَلالًا حال مِمَّا فِي الْأَرْضِ أو مفعول بـكُلُوا أو صفة لمفعول محذوف أي: شيئا حلالًا".

الحلال سمي بذلك قيل: لانحلال عقدة الحظر عنه فـحَلَالًا حال مِمَّا فِي الْأَرْضِ يعني: كلوا مما في الأرض حال كونه حلالًا، أو مفعول بـكُلُوا كلوا حلالًا، أو صفة لمفعول محذوف: كلوا شيئًا حلالًا، لكن هذا لا يخلو من بُعد، وتكلف؛ لأن الأصل عدم التقدير، وهذه الآية هي في سياق الامتنان، وإلا فكما قال الشاطبي - رحمه الله -[1]: بأنه لم يُعهد في كلام الله - تبارك، وتعالى - الحث على الأكل، والشرب، والجماع، ونحو ذلك من الغرائز التي تدعو إليها طبيعة الإنسان، وما جُبِل عليه، وما رُكّب فيه، فهو يسعى إلى هذا، ويحتاج إلى شيء من الترويض، وإنما يأتي الحث كثيرًا على الصبر، والصلاة، والإنفاق في سبيل الله، ونحو ذلك من الأعمال التي تتطلب جهدًا، ومجاهدة، ومشقة، فيأتي ذلك كثيرًا، ولذلك تجد الأمر بالصلاة كثيراً، والأمر بالصبر كثيراً، والأمر بالإنفاق كثيراً، إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ لأن هذا يحتاج إلى مجاهدة، لكن ما يقول لهم: كلوا، واشربوا، لا تفرطوا في هذا، وجامعوا نساءكم، ونحو ذلك؛ لأن هذا لا يحتاج أنه يؤمر به، بل النفوس تجمح إليه، والله - تبارك، وتعالى - يقول: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 187] يعني: ينقطع الصبر عن مقاربة النساء ليلة الصوم، فأباحه لهم لضعفهم، وأما قوله - تبارك، وتعالى -: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة: 187] فهذا الأمر للإباحة، ولكن وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قيل: لا تنسوا العبادة في ليالي العشر، ويشغلكم عنها الاستمتاع بالنكاح.

وقيل: المعنى وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ بطلب ليلة القدر، وبعضهم يقول: ليكن لك نية في هذا الجماع، يعني طلب الولد، فحتى في هذا المقام يذكرهم بما هو أهم.

"حلالاً حالٌ مما في الأرض، أو مفعول بـ(كلوا) أو صفة لمفعول محذوف، أي: شيئاً حلالاً طيباً، طَيِّبًا يحتمل أن يريد الحلال، أو اللذيذ".

أي: طيب من جهة الكسب، لا يكون محرمًا إما بكسبه، أو لوصفه، مثل: الخمر، والخنزير، والميتة، والدم، والربا، والرُشا، ونحو ذلك، فهذه خبيثة لوصفها، فهذا يحتمل أن يريد الحلال، أو اللذيذ حَلَالًا طَيِّبًا يعني المستلذ، والجيد كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا فالأول يكون أراد به ما طاب من جهة الحِل، وهذا ما طاب من جهة الجودة، واللذة، ونحو ذلك، قوله - تبارك، وتعالى - في خبر أصحاب الكهف: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذهِ إِلَى الْمَدِينَةِ [الكهف: 19] من أجل أن يأتيهم بطعام، صفة هذا الطعام أَزْكَى طَعَامًا [الكهف: 19] فأزكى فيه قولان: أزكى يعني من جهة الكسب، يعني أنه ليس فيه شبهة، ولم يأتِ بطريق محرم، أو نحو هذا، وهذا هو الأقرب.

والمعنى الثاني: أزكى يعني المستلذ، والأجود، والأفضل، والأكمل، قالوا: إن هؤلاء كانوا من أبناء الملوك، فيبحثون عن الأجود من الطعام، وهذا بعيد؛ لأن هؤلاء الذين آووا إلى الكهف، وتركوا الدنيا، وراءهم، لا يبحثون عن اللذيذ، والأجود في الأصناف، إنما يبحثون عن الحلال.

"خُطُواتِ الشَّيْطانِ ما يأمر به، وأصله من خطوة المشي، وقال المنذر بن سعيد: يحتمل أن يكون من الخطيئة، ثم سهلت همزته، وقرئ بضم الطاء، وإسكانها، وهما لغتان".

الخطوات جمع خطوة، بعضهم يقول: إنها بالضم للمسافة التي بين القدمين، يقال: خطوة، والخَطوة بالفتح واحد ة الخطو، تقول: خطوت خطوة، وخطوتين، وثلاث، وتقال: الخُطوة للمسافة بين القدمين، تقول: زد على هذه المساحة خُطوة، يعني ما بين القدمين، وبعضهم يقول: هما لغتان، فـخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ما يأمر به، ويزينه، ويسوله، ويمليه، ويدرج الإنسان فيه، فهو يبدأ معه بالأسهل، ومع كل أحد بما يناسبه، وما يميل إليه، فيأتي إلى صاحب العبادة الذي يميل إلى النسك، ونحو ذلك يأتيه من هذا الطريق، ويأتي إلى من به نوع شدة من هذا الطريق، ويأتي إلى من به ميل إلى النساء من هذا الطريق، وهكذا، فيدرجه شيئًا فشيئًا يغريه بنظرة، ثم بعد ذلك لا يزال به، حتى يوقعه بالفاحشة.

يقول: "وأصله من خطوة المشي، وقال المنذر بن سعيد" هو البلوطي - رحمه الله - من العلماء الذين كانوا على عقيدة السلف، وهو الوحيد - فيما أعلم - من المتقدمين الذي له كتاب في الفرق، والمؤلف على عقيدة أهل السنة، والجماعة، وإن كان كلامه - رحمه الله - في بعض القضايا لا يخلو من إشكالات، أو غرابة.

يقول: "يحتمل أن يكون من الخطيئة، ثم سهلت" هذا بعيد "وقرئ بضم الطاء" خُطُوات، وخُطْوات، فـ(خُطْوات) هذه قراءة نافع، وأبي عمرو، وحمزة، والباقون بالضم[2] خُطُوَاتِ فهما لغتان.

فـخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ هي طرائقه، ومسالكه، ويدخل في ذلك ما يضل به أتباعه من تحريم الحلال، أو تحليل الحرام، فالله - تبارك، وتعالى - لما أمر بالأكل مما في الأرض حلالًا طيبًا، بخلاف حال المشركين الذين حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم الله، وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا [الأنعام: 138] إلى آخر ما ذكر الله - تبارك، وتعالى - عنهم من تحريم هذه الطيبات، التي أباحها الله لهم، فهذا داخل في ذلك، وفي الحديث المشهور: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم[3].

والله - تبارك، وتعالى - يقول: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] ويقول: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف: 50] وبعض السلف كقتادة، والسدي يقولون: كل معصية لله - تبارك، وتعالى - فهي من خطوات الشيطان[4].

وجاء عن ابن عباس : ما كان من يمين، أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين[5].

فالمقصود أن خطوات الشيطان هي مسالكه، وما يغري به، والله يقول: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [المجادلة: 10] يعني من تزيينه، وتسويله، وإملائه، ونحو ذلك.

  1.  الموافقات (3/ 387).
  2. معاني القراءات للأزهري (1/ 188).
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الجنة، وصفة نعيمها، وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، وأهل النار برقم: (2865).
  4.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (1/ 281 - 1508) وتفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 479).
  5.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 479).

مرات الإستماع: 0

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:168، 169] يا أيها الناس كلوا مما في الأرض من رزق الله -تبارك وتعالى- حلالاً قد أباحه لكم، طيبًا؛ وذلك أنه لا تبعة فيه، وهو أيضًا طاهر غير نجس، نافع غير ضار، ولا تتبعوا طُرق الشيطان ومسالكه التي يغوي بها: بالمنكر والفاحشة، ويصد عن سبيل الله -تبارك وتعالى- ويتلاعب بكثير من الناس في أبواب التحليل والتحريم، فيحرمون ما أحل الله -تبارك وتعالى- أو يحلون ما حرمه، أو يقعون في شيء من محدثات الأمور من البدع والمخالفات.

 إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ ظاهر العداوة مُبِينٌ مكاشر بالعداوة.