الخميس 27 / ربيع الآخر / 1446 - 31 / أكتوبر 2024
وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوا۟ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا۟ مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَٰلَهُمْ حَسَرَٰتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا [سورة البقرة:167] أي: لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء، ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم، بل نوحد الله تعالى بالعبادة، وهم كاذبون في هذا، بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون، كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك، ولهذا قال: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167] أي: تذهب، وتضمحل، كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23]، وقال تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [سورة إبراهيم:18].. الآية، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء [سورة النــور:39].. الآية، ولهذا قال تعالى:
وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:167]." 
قوله: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167] قال: تذهب، وتضمحل، هي تذهب، وتضمحل، وأكثر من هذا، فهي ليست تذهب، وتضمحل فقط، بل تكون عليهم حسرات، والحسرات: جمع حسرة: وهي أعظم الشدة، والضيق، ويكون الإنسان بسبب ذلك في حال لا يحسد عليها، قد انقطعت به الأسباب، ويحصل له بسبب ذلك من الألم ما لا يقادر قدره.
يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ السيئة حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [سورة البقرة:167] فتكون سبباً لآلام نفوسهم، وقلوبهم، وسبباً للشدة الواقعة بهم، فيتمنى الواحد منهم أن بينه، وبينها بعد المشرقين، وأنه لم يفعل شيئاً من ذلك، ولم يقارف منها شيئاً، ولهذا يقولون: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:].

مرات الإستماع: 0

"أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ أي: سيئاتهم، وقيل: حسناتهم إذا لم تقبل منهم، أو ما عملوا لآلهتهم".

كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ فبعضهم يقول: هذه الأعمال هي السيئات، والذنوب، وبعضهم يقول: الحسنات وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] فلما يرون هذه الأعمال تصير كالهباء، وكالرماد، فلا يجدون عائدة، ولا ثوابًا عند الله - تبارك، وتعالى - فيكون ذلك حسرة عليهم، ويمكن أن يقال - والله تعالى أعلم -: إن (أعمال) مضاف إلى معرفة، وهذا للعموم، فهم يرون تلك الأعمال التي عملوها من عبادة غير الله - تبارك، وتعالى - والإشراك به، والتقرب إلى هذه المعبودات الباطلة، فيتحول ذلك إلى عذاب، فيكون حسرات عليهم، فالإنسان يعذب على الشرك، وعلى العمل لغير الله - تبارك، وتعالى - ولا يكون ذلك باطلًا، حابطًا، ذاهبًا فحسب، بل يُعذب عليه، فتتحول هذه الأعمال السيئة من المعاصي، والجرائم، والإشراك إلى حسرات يوم القيامة، ومثل هذا كله لا شك أنه يدعو إلى المحاسبة، والمراجعة، فيجعل الإنسان عمله كله لله - تبارك، وتعالى - لا يُرائي بشيء من عمله إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48، 116] فهو لا يرجع بالسلامة من الرياء، والسمعة، بحيث يذهب العمل لا له، ولا عليه، ولكنه يكون جرمًا، وذنبًا من أعظم الذنوب، ومعلوم أن جنس الإشراك أعظم من جنس الكبائر، هذا من حيث الجنس لا من حيث الأفراد، وهكذا في قوله: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ تقطعت بهم الأسباب أيضًا، وصارت الأعمال حسرات، فهناك لا معين، ولا مغيث، ولا ناصر، ولا شفيع، ولا حميم.

وإنما الكل مشغول بنفسه، فهذه الأعمال السيئة، والمعاصي، والجرائم تتحول إلى عذاب، وحسرات على أصحابها، فلربما يستمتع بها في الدنيا، ولكنها تتحول إلى حسرات يوم القيامة، فالعاقل لا يُقدم على شيء يكون في حقه حسرة، والواقع أنها حسرات أيضًا في الدنيا قبل الآخرة لما يصيبهم بسببها من الألم، والنكد، وشدة العيش، والوحشة التي لا تفارق قلوبهم، مع ما هم فيه من المتع، والملذات، فلسان الحال، كما قال الشاعر:

دع عنك لومي فإنَ اللوم إغراءُ وداوني بالتي كانت هي الداءُ[1]

نسأل الله العافية، يعني أنه يشرب الخمر، ثم بعد ذلك يشرب على شربه لعله يجد بذلك راحة، وإجمامًا لتلك النفس المستوحشة - والله المستعان -.

  1. البيت لأبي نواس انظر: درة الغواص في أوهام الخواص (ص: 143).

مرات الإستماع: 0

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية والتي بعدها: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [سورة البقرة:167] أنه ينبغي للمؤمن أن لا يكون إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، فإن ذلك لا يكون له عذرًا عند الله -تبارك وتعالى- وإنما عليه أن يطلب الحق، وأن يلزمه، وأن لا يتبع غيره في أمر من الأمور إلا إذا تبينه، كما سمعتم في الآية التي كانت في هذه الصلاة: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [سورة الإسراء:36] وَلا تَقْفُ أي: لا تتبع، و(ما) تفيد العموم مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ في قضايا الاعتقاد والعمل، والسلوك، والشائعات والأخبار وما يُنشر وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] لا تقل قولاً لم تتبينه، ولا تحكم بحكم لم تتبينه، ولا تعتقد اعتقادًا لم تتوثق من صحته، ولا تتقرب إلى الله بعمل لم تتيقن مشروعيته، وتعلم ذلك وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36].

ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [سورة البقرة:167] أنهم في هذه الحال يتمنون لو أنهم عادوا إلى الدنيا ثانية، وتخلصوا مما تورطوا فيه، فالعاقل في زمن الإمكان ينبغي عليه أن يعمل بما تمناه هؤلاء الذين خابوا، وأدركوا وعاينوا الحقائق، فيتمنون الرجوع، لكن بعد فوات الأوان، فهذا النفس طالما أنه يتردد، وهذه الروح تعمر الجسد، فلا زال الفرصة مُمكنة، فينظر العبد فيما تمناه هؤلاء الذين قد شاهدوا وعاينوا، ويعمل على حال ينجو منها من مثل هذه الأماني والمواقف، حيث لا ينفعه ذلك التمني.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:167] فعبر هنا بالجملة الاسمية وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ ولم يُعبر بالفعل، فلم يقل: وما يُخرجون من النار؛ لأن الجملة الاسمية تدل على الثبوت، فهي تفيد أن بقاءهم في النار ثابت باقٍ أبدي سرمدي، فذلك تقنيط لهم من الرجوع إلى الحياة الدنيا، أو الخروج، فهذا الحكم لن يتبدل، ولن يتحول، ولن يتغير، فهم خالدون فيها أبدًا، نسأل الله العافية، فليست مدة معينة يُرجي الإنسان الخروج بعدها، ولو طالت، ولكنه بقاء بلا انتهاء، وبلا أمد، لا يُحد بالزمن الطويل الكثير الذي يمكن أن يصل إليه مدارك البشر في الإحصاء والعد، بل هو شيء لا انتهاء له.

فالإنسان قد يتبرم ويضيق ذرعًا بعلة تنزل به، وشدة تحل به، فكيف بالنار التي تلظى، يبقى فيها أبدًا على هذه الحال؟! فلو بقي الإنسان مدة طويلة بلا انقضاء في العراء والبرد والشمس، ونحو ذلك لأهلكه هذا، ولم يُطق هذا اللون من العذاب، فكيف بنار وقودها الناس والحجارة؟! فهذا لو تفكر به العاقل لاشتغل بطاعة الله وانكف عن كل ما لا يليق، وصار في حال من الإخبات والعبادة والطاعة والانقياد في ظاهره وباطنه، ولكنها الغفلة الغالبة علينا، فهي التي تجعل الإنسان ينطلق ويلهو في هذه الدنيا، ويأخذ، ويقول، ما لا يحل، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك أين فلان؟ يُقال: ارتحل، وعندها يجد أعماله تتمثل له في صور وأشكال، إما أن يُسر بها، وإما أن يُساء.