ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية والتي بعدها: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [سورة البقرة:167] أنه ينبغي للمؤمن أن لا يكون إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، فإن ذلك لا يكون له عذرًا عند الله -تبارك وتعالى- وإنما عليه أن يطلب الحق، وأن يلزمه، وأن لا يتبع غيره في أمر من الأمور إلا إذا تبينه، كما سمعتم في الآية التي كانت في هذه الصلاة: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [سورة الإسراء:36] وَلا تَقْفُ أي: لا تتبع، و(ما) تفيد العموم مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ في قضايا الاعتقاد والعمل، والسلوك، والشائعات والأخبار وما يُنشر وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] لا تقل قولاً لم تتبينه، ولا تحكم بحكم لم تتبينه، ولا تعتقد اعتقادًا لم تتوثق من صحته، ولا تتقرب إلى الله بعمل لم تتيقن مشروعيته، وتعلم ذلك وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36].
ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [سورة البقرة:167] أنهم في هذه الحال يتمنون لو أنهم عادوا إلى الدنيا ثانية، وتخلصوا مما تورطوا فيه، فالعاقل في زمن الإمكان ينبغي عليه أن يعمل بما تمناه هؤلاء الذين خابوا، وأدركوا وعاينوا الحقائق، فيتمنون الرجوع، لكن بعد فوات الأوان، فهذا النفس طالما أنه يتردد، وهذه الروح تعمر الجسد، فلا زال الفرصة مُمكنة، فينظر العبد فيما تمناه هؤلاء الذين قد شاهدوا وعاينوا، ويعمل على حال ينجو منها من مثل هذه الأماني والمواقف، حيث لا ينفعه ذلك التمني.
ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:167] فعبر هنا بالجملة الاسمية وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ ولم يُعبر بالفعل، فلم يقل: وما يُخرجون من النار؛ لأن الجملة الاسمية تدل على الثبوت، فهي تفيد أن بقاءهم في النار ثابت باقٍ أبدي سرمدي، فذلك تقنيط لهم من الرجوع إلى الحياة الدنيا، أو الخروج، فهذا الحكم لن يتبدل، ولن يتحول، ولن يتغير، فهم خالدون فيها أبدًا، نسأل الله العافية، فليست مدة معينة يُرجي الإنسان الخروج بعدها، ولو طالت، ولكنه بقاء بلا انتهاء، وبلا أمد، لا يُحد بالزمن الطويل الكثير الذي يمكن أن يصل إليه مدارك البشر في الإحصاء والعد، بل هو شيء لا انتهاء له.
فالإنسان قد يتبرم ويضيق ذرعًا بعلة تنزل به، وشدة تحل به، فكيف بالنار التي تلظى، يبقى فيها أبدًا على هذه الحال؟! فلو بقي الإنسان مدة طويلة بلا انقضاء في العراء والبرد والشمس، ونحو ذلك لأهلكه هذا، ولم يُطق هذا اللون من العذاب، فكيف بنار وقودها الناس والحجارة؟! فهذا لو تفكر به العاقل لاشتغل بطاعة الله وانكف عن كل ما لا يليق، وصار في حال من الإخبات والعبادة والطاعة والانقياد في ظاهره وباطنه، ولكنها الغفلة الغالبة علينا، فهي التي تجعل الإنسان ينطلق ويلهو في هذه الدنيا، ويأخذ، ويقول، ما لا يحل، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك أين فلان؟ يُقال: ارتحل، وعندها يجد أعماله تتمثل له في صور وأشكال، إما أن يُسر بها، وإما أن يُساء.