الخميس 27 / ربيع الآخر / 1446 - 31 / أكتوبر 2024
إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُوا۟ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوا۟ وَرَأَوُا۟ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلْأَسْبَابُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم، وتبري المتبوعين من التابعين، فقال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ [سورة البقرة:166] تبرأت منهم الملائكة التي كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا."قوله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ [سورة البقرة:166] يحتمل أن يكون بدلاً من قوله: إِذْ يَرَوْنَ [سورة البقرة:165] الذي سبق، فيكون المعنى: "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حباً لله، ولو يرى الذين ظلموا إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا"، "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب في ذلك الحين يتبرأ المتبِّعون من المتبَّعين" إذا رأوا العذاب في ذلك الحين يحصل التبرؤ بين الأتباع، والمتبوعين، فيكون: "إذ تبرأ الذين اتبعوا" بدل من قوله: "إذ يرون العذاب" فهم إذ يرون العذاب ما الذي يحصل؟ يحصل التبرؤ بين الأتباع، والمتبوعين.
"فتقول الملائكة: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [سورة القصص:63]، ويقولون:سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سورة سبأ:41]."يعني كل من عُبد من دون الله يتبرأ من عابديه، فالملائكة عبدتهم بعض العرب فهؤلاء يتبرءون، والجن من عبدهم تبرءوا منه، والصالحون، والأنبياء من عبدهم تبرءوا منه، وهكذا، حتى الشيطان يتبرأ من أتباعه.
"والجن أيضاً تتبرأ منهم، ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ۝ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [سورة الأحقاف:5-6]، وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ۝ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [سورة مريم:81-82]، وقال الخليل لقومه: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة العنكبوت:25]، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۝ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة سبأ:31-33]، وقال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة إبراهيم:].
وقوله: وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166] أي عاينوا عذاب الله، وتقطعت بهم الحيل، وأسباب الخلاص، ولم يجدوا عن النار معدلاً، ولا مصرفاً، قال عطاء: عن ابن عباس -ا-: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [(166) سورة البقرة:] قال: المودة، وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح."
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166] أي جميع الصلات التي كانت بينهم في الدنيا، لم يعد هناك بينهم وشيجة، ولا سبب للنجاة، تقطعت بينهم المودة، وأسباب الخلاص، والنجاة، فصار كل واحد مرتهن بعمله.

مرات الإستماع: 0

"إِذْ تَبَرَّأَ بدل من إِذْ يَرَوْنَ أو استئناف، والعامل فيه محذوف، وتقديره: اذكر".

 كما سبق بأن (إذ) في مثل هذا كثير من أهل العلم يقولون: إن العامل فيه مقدر محذوف دائمًا تقديره: (اذكر) إذ تبرأ الذين اتبعوا، ويمكن أن يكون بدلًا من إِذْ يَرَوْنَ.

"الَّذِينَ اتُّبِعُوا هم الآلهة، أو الشياطين، أو الرؤساء من الكفار، والعموم أولى".

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا يقول: هم الآلهة، أو الشياطين، أو الرؤساء من الكفار، والعموم أولى.

والله - تبارك، وتعالى - أخبرنا عن براءة الملائكة ممن عبدهم من دون الله - تبارك، وتعالى - تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ [القصص: 63] هذا قول الملائكة: مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [القصص: 63] وهكذا في قوله عن الملائكة أنهم: قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 41] وهكذا في قول الله - تبارك، وتعالى -: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ۝ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5، 6] فهذا في عموم المعبودات، وهكذا في قوله: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ۝ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81، 82] فهذا في كل المعبودات، وهكذا في يوم القيامة أيضًا يتبرؤون منهم ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [العنكبوت: 25] فهذا يشمل كل ما عُبد من دون الله - تبارك، وتعالى - والله المستعان -.

"الْأَسْبابُ هنا الوصلات من الأرحام، والمودّات". 

جماعة من السلف فسروه بالمودة، وهذا تفسير له بجزء المعنى، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ أسباب الخلاص، والنجاة من العلائق، والأنساب، والقرابات، والمودات، والصلات التي كانت في الدنيا.

مرات الإستماع: 0

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:166، 167] فهؤلاء حينما يُعاينون العذاب في الآخرة، يتبرأ الرؤساء المتبعون من الأتباع إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [سورة البقرة:166] هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أندادًا يُحبونهم كحب الله لو يرون العذاب يوم القيامة لعرفوا أنهم كانوا في ضياع وذهاب عن الحق، وأنهم كانوا يبذلون المحبة والطاعة والعبادة لمن لا يستحقها، فهنالك يتبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا، ويرون العذاب معاينة، وتتقطع الوصلات التي بينهم.

وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ من قرابة في الدنيا واتباع ودين وغير ذلك من الروابط، فكل ذلك ينحل ويتلاشى، ويبقى الواحد منهم منفردًا يواجه مصيره، ويلقى جزاء عمله، عند ذلك تحصل لهم الحسرات، فيقول الأتباع: يا ليت لنا عودة إلى الدنيا، فنُعلن براءتنا من هؤلاء المتبوعين، كما أعلنوا براءتهم منا، ونتبرأ منهم كما تبرؤوا منا.

كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ فيرون هذه الأعمال الباطلة من الشرك، وما كانوا يعملونه، ويتقربون به في الحياة الدنيا إلى غير الله -تبارك وتعالى- مما يرجون به الثواب، وينتظرون عائدته في الآخرة، فكل ذلك يتحول إلى حسرات، كفرهم يرونه حسرات، ومعاصيهم يرونها حسرات عليهم يوم القيامة، فيحصل لهم غاية الندم، ويُخلدون في النار، لا يخرجون منها أبدًا.

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ [سورة البقرة:166] فهؤلاء حينما عبدوا غير الله، واتبعوا من لا يستحق الاتباع، خاب ظنهم، وبطل سعيهم، وحق عليهم عذاب الله -تبارك وتعالى- ولم تدفع عنهم هذه الأنداد، ولا هؤلاء الذين يتبعونهم من دون الله -تبارك وتعالى- شيئًا، ولم يُغنوا عنهم من عذاب الله من شيء، بل يتحول ذلك كله إلى ضرر ونكد وندامة وحسرة، وعند ذلك تحصل البراءة التي يحصل بها غاية الندامة، حينما يتبرأ المتبعون من المُتبعين، فيتمنون لو أنهم رجعوا ثانية ليتبرؤوا منهم في الدنيا، وهكذا العلاقات وكل ما لا يُراد به وجه الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك كله يتلاشى ويزول.

وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ إنما يوصل إلى الله -تبارك وتعالى- بالإيمان والعمل الصالح، ومن كان يظن أنه يصل بأعمال مُبتدعة، أو بشرك بالله أو كان يظن أنه يصل إلى الله عبر طرائق مُحدثة، ينتسب إليها من طرق صوفية وخرافة، وما إلى ذلك، فهؤلاء مخطئون فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [سورة الكهف:110] فلا ينفعه عند ذلك متبوع: من شيخ لطريقة، أو من سادن قبر، أو من غير هؤلاء من المُضلين إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166].

وهكذا حينما يُطيع الإنسان أحدًا من الخلق فيما يدعوه إليه، ويأمره به، وإن كان مخالفًا لأمر الله فهؤلاء أيضًا يندمون، ويُدركون يوم القيامة أنهم قد وضعوا الطاعة في غير موضعها، ويتحسرون حيث لا ينفع الندم إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [سورة الأحزاب:67] فهذا العذر لا يُقبل، ولا ينفع، ولا يُجدي عنهم شيئًا، فعلى العبد البِدار في سلوك الطريق التي تحصل بها النجاة عند الله أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [سورة يونس:62، 63] فالإيمان والتقوى والعمل الصالح، والاعتصام بالكتاب والسنة ظاهرًا وباطنًا فهذا هو الطريق.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: إِذْ تَبَرَّأَ [سورة البقرة:166] فجاء بالفعل الماضي بعد إذ إِذْ تَبَرَّأَ [سورة البقرة:166] مع أن هذا الأمر سيقع في المستقبل، سيتبرأون منهم، فعبر بالماضي لأنه متحقق الوقوع، فيُعبر بالماضي عن المستقبل إيذانًا وإشعارًا بتحقق وقوعه وحصوله، كما قال الله في أول سورة النحل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1] يعني: القيامة، والقيامة لم تأتِ بعد، لكنه عبر بالماضي عن مستقبل لأنه مُتحقق الوقوع.