الخميس 27 / ربيع الآخر / 1446 - 31 / أكتوبر 2024
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ ۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا۟ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ۝ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:165-167]، "يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا، ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا له أنداداً أي أمثالاً، ونظراء يعبدونهم معه، ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له، ولا ند له، ولا شريك معه."فقوله - تبارك، وتعالى -: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] الأنداد سبق مراراً في دروس متعددة كشرح كتاب التوحيد، وغيره أن الند هو: النظير المناوئ، تقول: فلان ند لفلان أي نظير له مناوئ، فهو أخص من مطلق النظير، أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [سورة البقرة:165] قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] يحتمل معنيين، يحتمل أن يكون المراد كما قال ابن كثير هنا: كحبه، أي كما يحبون الله، سوّوا بين محبة هؤلاء الأنداد، وبين محبة الله - تبارك، وتعالى -، فكانت محبتهم بهذا الاعتبار محبة شركيةً ناقصة، ونقصانها أنهم قد صرفوا جزءا منها إلى هؤلاء الأنداد، والنظراء، وهذا الذي عليه كثير من المحققين من أهل العلم كالشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله -، وتلميذه ابن القيم، وهو الذي مشى عليه ابن كثير هنا، فيكون معنى: كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] أي كما يحبون الله، ولهذا كانت محبة أهل الإيمان كاملة؛ لأنه لم يصرف نصيب منها لشيء من الأنداد، والنظراء، والآلهة، ولهذا قال: وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [سورة البقرة:165].
والمعنى الآخر الذي تحتمله الآية هو أن قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] أي كحب المؤمنين لله، ثم بيّن أن حب المؤمنين أكمل من حب هؤلاء المشركين، وذلك أن حب هؤلاء المشركين لله ليس بخالص، وإنما هو مبعض، فجعلوا جزءا، ونصيباً من هذه المحبة لغيره، وأما أهل الإيمان فمحبتهم خالصة، فهذا المعنى كما ترون ليس هو الظاهر المتبادر، وقد لا يخلو من إشكال، يعني كأنه يقول: يحبونهم كما يحب المؤمنون الله، ثم يقول: وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [سورة البقرة:165] في البداية جعل محبتهم بمنزلة محبة المؤمنين لله، ثم قال: إن الذين أمنوا أكثر حباً لله منهم، فكأنه ليس كالقول الأول في ظهوره، ورجحانه بهذا الاعتبار، فكيف يقول: كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] يعني: كحب المؤمنين لله، ثم جعل حب المؤمنين لله أكمل؟! بينما الأول لا إشكال فيه، يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ [سورة البقرة:165] أي كمحبتهم هم لله، فكانت محبة أهل الإيمان أكمل، وأعظم؛ لأنه لا تشريك فيها، فرجحان القول الأول ظاهر، وليس فيه إشكال، - والله تعالى أعلم -.
"وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً، وهو خلقك[1]. وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [سورة البقرة:165]، ولحبهم لله، وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم، وتوحيدهم له لا يشركون به شيئاً، بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه." هو يشير إلى سبب نقص محبة المشركين أنها مبعضة، شرّكوا فيها فنقص جزء منها، أو شطرها فصارت لتلك الأنداد، وعلى كل حال القول الثاني: كحب المؤمنين لله، قال به طائفة من السلف فمن بعدهم، وهو اختيار ابن جرير الطبري - رحمه الله - .
"ثم توعد تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك فقال: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة البقرة:165] يقول: لو يعلمون ما يعاينونه هنالك، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم، وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال."لاحظ الآن كيف فسر قوله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ [سورة البقرة:165] ماذا قال؟ قال: "لو يعلمون" ففسّر الرؤية هنا بالعلم، والرؤية تارة تكون بصرية، وتارة تكون علمية، رؤية بالعلم، ورؤية بالقلب، والآية هنا تحتمل المعنيين، وفيها قراءات ثلاث متواترة، قراءة الياء هذه وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ [سورة البقرة:165]، وهي قراءة أهل مكة، وأهل الكوفة، وأبي عمرو البصري، وهي القراءة التي نقرأ بها.
فعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون المراد بذلك العلم، أي: "لو يعلمون" كما قال ابن كثير، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الرؤية البصرية، فيكون المعنى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ [سورة البقرة:165] في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة البقرة:165]، فيكون إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [سورة البقرة:165] أي: يعاينونه بأبصارهم، فالرؤية هنا في: إِذْ يَرَوْنَ [سورة البقرة:165] يمكن أن تكون بصرية، أي: حين يرون العذاب، وشدة النكال لعلموا أن القوة لله جميعاً.
ويحتمل أن تكون الرؤية "علمية" لو يعلمون حقيقة قوة الله، وشدة عذابه لتبينوا ضرر اتخذاهم للآلهة، فصارت الرؤية علمية.
والقراءة الثانية بالتاء "ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب" ففي قراءة التاء الخطاب ظاهره أنه موجه إلى النبي ﷺ، ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب لعلمت أن القوة لله جميعاً، والنبي ﷺ يعلم ذلك قطعاً، وهو أعلم الناس بالله ، وبشرعه، وجزائه، وهو أخشاهم لله لكمال علمه، ولكن المراد بذلك أمته، فالنبي ﷺ يُخاطب تارة، ويراد أمته بهذا الخطاب، وهذا كثير في القرآن، فالأمة كما سبق مراراً قد تخاطب في شخص قدوتها - عليه الصلاة، والسلام -، وهذا الذي اختاره ابن جرير الطبري - رحمه الله - في تفسير قوله: "ولو ترى" أي يا محمد، والمراد أمته؛ لأنه أعلم الأمة بالله ، فما يقال في حقه: "لعلمْتَ أن القوة لله جميعاً"؛ لأنه يعلم ذلك، وله كمال العلم في هذه القضية.
أما القراءة الثالثة فهي في قوله: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [سورة البقرة:165] قرئت بالمبني للمجهول: "إذ يُرون"، وعلى هذه القراءة تكون الرؤية في الثانية بصرية، وعلى القراءة الأولى: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [سورة البقرة:165] أيضاً الرؤية بصرية، يعني يعاينونه بأبصارهم، والاختلاف إنما هو في الأولى "ولو ترى"، "ولو يرى"، - والله أعلم -.
  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قول الله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} [سورة البقرة: 31].

مرات الإستماع: 0

"وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين:

إحداهما: المحبة العامة، التي لا يخلو منها كل مؤمن، وهي واجبة.

والأخرى: المحبة الخاصة، التي ينفرد بها العلماء، الربانيون، والأولياء، والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإن سائر مقامات الصالحين: كالخوف، والرجاء، والتوكل، وغير ذلك هي مبنية على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، وأن الراجي إنما يرجو منفعة نفسه، بخلاف المحبة، فإنها من أجل المحبوب، فليست من المعاوضات".

يعني ما هي الآن محبة الخاصة، التي ينفردون بها؟! فالمحبة مراتب بلا شك، والنبي ﷺ يقول: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين[1] هذا في محبة النبي ﷺ، فكيف بمحبة الله - تبارك، وتعالى - ؟! فيكون ربه - تبارك، وتعالى - هو المحبوب الأعظم، الذي لا يقدم على محبته محبة النفس، أو الولد، والوالد، والناس أجمعين، فقد ذكر النبي ﷺ في هذا الحديث أنواع المحبوبات، فمحبة الوالد التي يكون معها الإجلال، والتعظيم، ومحبة الولد، التي يكون معها الشفقة، ومحبة الناس لما بينهم من المشاكلة، ونحو ذلك، فمحبة الله - تبارك، وتعالى - أعظم من ذلك في قلب المؤمن، فهذا مضى الكلام عليه في الكلام على الأعمال القلبية في المحبة، ومراتب الناس في المحبة.

وقوله - تبارك، وتعالى -: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِكحب الله على قولين للمفسرين:

القول الأول: منهم من يقول: يحبونهم كحب الله، أي يسوون بين محبة هؤلاء، ومحبة الرب - تبارك، وتعالى - وهذا شرك في المحبة، ثم هم يقولون بعد ذلك، حينما يعاينون الحقائق تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ۝ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97، 98] وهذا الذي عليه أكثر أهل العلم في تفسير الآية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[2] والحافظ ابن القيم - رحم الله الجميع -.

القول الثاني: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ يعني كمحبة المؤمنين لله، كما يحب المؤمنون ربهم - تبارك، وتعالى -.

وهذا أضعف من الذي قبله؛ لأن الله قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وذلك أن محبة المؤمنين خالصة، ليس فيها تشريك، ومحبة هؤلاء محبة شركية، فهي دون محبة أهل الإيمان؛ ولهذا قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ فمحبتهم خالصة، ومعنى أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ قيل: أشد حبًا من محبة هؤلاء لربهم - تبارك، وتعالى -؛ لأن محبة أهل الإيمان خالصة، وهذا هو المعنى الراجح فيها.

وبعضهم يقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ يعني أعظم محبة لله من محبة هؤلاء لمعبوداتهم الباطلة.

"واعلم أن سبب محبة الله معرفته، فتقوى المحبة على قدر قوة المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين، أو كلاهما إذا اجتمعا، ولا شك أنهما اجتمعا في حق الله تعالى على غاية الكمال.

فالموجب الأول: الحسن، والجمال.

والآخر: الإحسان، والإجمال، فأما الجمال: فهو محبوب بالطبع، فإن الإنسان بالضرورة يحب كل ما يستحسن، ولا جمال مثل جمال الله في حكمته البالغة، وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التي تروق العقول، وتبهج القلوب، وإنما يدرك جمال الله تعالى بالبصائر، لا بالأبصار".

 

وهم يوم القيامة يرونه، فلا يكون لهم نعيم أعظم من النظر إليه - تبارك، وتعالى - والنبي ﷺ قال: إن الله جميل يحب الجمال[3] فهو جميل في ذاته، وجميل في صفاته - تبارك، وتعالى -.

ولا شك أن معرفة الله - تبارك، وتعالى - هي الجالب للمحبة، فمن عرفه بأسمائه، وصفاته، وكمالاته أحبه، والقلوب مفطورة على محبة الكمال، والجمال، وهكذا سائر الصفات؛ ولهذا كان التعرف على الله - تبارك، وتعالى - بما عرف به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله ﷺ في السنة من أنفع ما يكون للعبد في تنمية الإيمان، وتربية هذه الأعمال القلبية في نفسه، فجُمعت مثل هذه في الكتب التي تشرح الأسماء الحسنى، فلو أن الإنسان أكثر من النظر فيها، والتفكر في ملكوت السماوات، والأرض، والتفكر في الآيات المتلوة، والتدبر؛ لأورثه ذلك تعظيم الله، وإجلاله، ومحبته، والخوف منه، ورجاءه، ونحو ذلك.

"وأما الإحسان: فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر، وإنعامه عليهم باطن، وظاهر، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] ويكفيك أنه يحسن إلى المطيع، والعاصي، وإلى المؤمن، والكافر، وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو في الحقيقة منه [وحده] فهو المستحق للمحبة وحده.

واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح، من الجدّ في طاعته، والنشاط لخدمته، والحرص على مرضاته، والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه، والأنس بذكره، والاستيحاش من غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل ما يحبه الله، وكل مَن يحب الله، وإيثار الله على كل مَن سواه، قال الحارث المحاسبي: المحبة تسليمك إلى المحبوب بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك، وروحك، ثم موافقته سرًا، وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه".

يقول: "والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات"، ونحو هذا، لكن أكمل الهدي هدي النبي ﷺ وهدي أصحابه، والنبي ﷺ يقول: الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم[4].

وما ذكره عن الحارث المحاسبي، وهو من المتكلمين، وهو أيضًا ممن له ميل إلى التصوف، يقول: "المحبة تسليمك إلى المحبوب بكليتك..." إلخ، هذا تفسير للمحبة بلوازمها، ليس هذا معنى المحبة، وإنما تفسير لها باللازم، فكثير من الأعمال القلبية تُفسر إما بسببها، أو بلازمها، أو بجزء معناها.

"وَلَوْ تَرَى من رؤية العين، والَّذِينَ ظَلَمُوا مفعول، وجواب (لو) محذوف، وهو العامل في (أن) والتقدير: لو ترى الذين ظلموا لعلمت أن القوّة لله، أو لعلموا أن القوّة لله، وقرئ (يَرَى) بالياء، وهو على هذه القراءة من رؤيا القلب، والَّذِينَ ظَلَمُوا فاعل، وأَنَّ الْقُوَّةَ مفعول (يرى) وجواب (لو) محذوف، والتقدير: لو يرى الذين ظلموا أن القوة لله لندموا، ولاستعظموا ما حل بهم".

قراءة أهل مكة، والكوفة، وأبي عمرو بالياء[5] وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وقد فسرها أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - بقوله: "لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة؛ لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعًا"[6] يعني هذا على فرض رؤيته في الدنيا، لو أنهم رأوه في الدنيا؛ لعلموا أن القوة لله جميعًا وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وعلى قول أبي عبيد هنا فالرؤية بصرية.

والمؤلف يقول على هذه القراءة من رؤيا القلب وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: لو يعلم، لكن على قول أبي عبيد أن ذلك في الدنيا، أنهم لو يرون عذاب الله لعلموا أن القولة لله جميعًا، وبعضهم يقول كما قال المؤلف: بأن الرؤيا علمية، يعني لو يعلمون حقيقة قوة الله، وشدة عذابه؛ لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: ولو يعلم الذين ظلموا إذ يرون العذاب، يعني حين يرون العذاب أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا فقراءة يَرَى يحتمل أن تكون الرؤية بصرية، ويحتمل أن تكون الرؤية علمية.

القراءة الأخرى (ولو ترى) قرأ بها الباقون، وظاهر الخطاب أنه موجه للنبي ﷺ ويكون المعنى: لو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب؛ لعلمت أن القوة لله جميعًا، وتكون الرؤية على هذا بصرية، لو تراهم حين يرون العذاب يعني ما يكونون فيه من الشدة، والفزع، ومعاناة العذاب، والألم لعلمت أن القوة لله جميعًا، فهؤلاء تتلاشى كل تلك الدعاوى العريضة التي كانوا يدعونها، ومظاهر القوة، والمكابرة، والعناد، والطغيان، والعدوان على الخلق، ويكونون في غاية الضعف، وعندها تعلم أن القوة لله جميعًا، وهذا المعنى، على هذه القراءة، قال به ابن جرير - رحمه الله -[7] وأن ذلك المراد به الأمة، يعني أن الأمة خوطبت بشخص النبي ﷺ فيكون ذلك صالحًا لأفراد الأمة.

وفي قراءة ابن عامر (إذ يُرَون العذاب أن القوة لله جميعًا) وهنا كلام المؤلف يقول: (ولو ترى) من رؤية العين، والَّذِينَ ظَلَمُوا مفعول، يعني، ولو ترى الذين ظلموا، فهو مفعول به، يقول: "وجواب (لو) محذوف" فجواب (لو) يُحذف في مقامات الوعيد؛ لأن ذلك أبلغ في تصوير الشدة، حذف جواب لو في مقام الوعيد يدل على التهويل ليذهب الذهن كل مذهب، في تصور هذ الشدة، والهول.

يقول: وهو العامل في (أن) أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا يقول: والتقدير: ولو ترى الذين ظلموا لعلمت، هذا العامل المحذوف، الذي هو جواب (لو) وهو لعلمت أن القوة لله جميعًا.

وعلى القراءة الثانية: لعلموا أن القوة لله جميعًا، ويمكن يُقدر غير هذا، لارعووا، أو لخافوا، أو لانكفوا عن الشرك، ونحو ذلك، أو لعلموا أن القوة لله جميعًا على قراءة وَلَوْ يَرَى فيكون المقدر عند المؤلف: لعلموا أن القوة لله جميعًا، وعلى قراءة: يَرَى يكون الذين ظلموا فاعل، وأن القوة مفعول (يرى) قال: "وجواب لو محذوف، والتقدير: ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله لندموا، ولاستعظموا ما حل بهم". 

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله ﷺ أكثر من الأهل، والولد، والوالد، والناس أجمعين، وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة برقم: (44).
  2.  جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم (2/ 255).
  3.  أخرجه أحمد (6/ 338 - 3789) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1270 - 7674).
  4.  أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء برقم: (4032) وصححه الألباني.
  5. إعراب القرآن للنحاس (1/ 88).
  6.  إعراب القرآن للنحاس (1/ 88).
  7.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 285).

مرات الإستماع: 0

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ [سورة البقرة:164] الآية، قال بعد ذلك: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [سورة البقرة:165] ومع هذه البراهين القاطعة، والأدلة الواضحة على وحدانيته -تبارك وتعالى- وعظمته وقدرته الكاملة، لكن من الناس من يتخذ من دون الله أندادًا، يحبونهم كحب الله، ويتخذون معبودات باطلة من الأصنام والأوثان والأولياء، ويجعلونهم نُظراء لله -تبارك وتعالى- يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ فبعض أهل العلم يقول: يُحبونهم محبة يسوون فيها محبة هؤلاء الأولياء بمحبة الله، يعني: يُحبونهم كمحبتهم لله، حيث جعلوهم بهذه المنزلة، وهذا ما يُسمى بشرك المحبة، فإنه لا يجوز للإنسان أن يصل بمحبة غير الله -تبارك وتعالى- إلى مثل هذا الحد، فكيف إذا كان يُحب المعبودات الباطلة التي لا يجوز أن تُحب أصلاً.

وبعض أهل العلم يقول: يُحبونهم كحب الله، يعني: كما يُحب الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله، فهذان قولان معروفان لأهل العلم، والذين آمنوا أشد حبًا لله من محبة هؤلاء لأوليائهم ومعبوداتهم، وبعضهم يقول: والذين آمنوا أشد حبًا لله؛ لأنهم قد أخلصوا المحبة، وهؤلاء قد أشركوا فيها، فأضعفوها.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [سورة البقرة:165] أي: لو يعلم الذين ظلموا بالشرك والكفر في هذه الحياة الدنيا، حين يشاهدون عذاب الله -تبارك وتعالى- في الآخرة، ويعلمون عندئذٍ أن الله هو المتفرد بالقوة والقدرة والتدبير، وأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب، فحُذف هنا الجواب، أي: لما اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونهم من دون الله، ويتقربون إليهم؛ ولذلك كانوا جاهلين، وكل من عبد غير الله فهو في غاية الجهل.

ويُؤخذ من هذه الآية -أيها الأحبة- ما يتعلق بالانحراف بالمحبة وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [سورة البقرة:165] فقد يتخذ صنمًا، وقد يتخذ معبودًا غيره من البشر، وقد يتعلق بمحبوب يصل به ذلك التعلق والمحبة إلى حال لا تجوز ولا تصح بحال من الأحوال، فيكون عبدًا له؛ ولهذا يقول النبي ﷺ: تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة[1] الحديث، هذه المحبة، محبة الزوجة، أو المال، أو الولد، أو محبة معشوق من امرأة يعشقها، ونحو ذلك، حينما تتعاظم في القلب، فإن هذا قد يُفضي به إلى حال يُخل بإيمانه واعتقاده.

وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أنه قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، واحتج بهذه الآية، وقال: ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله، وضعف الإيمان، والله تعالى إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المُشركة، وعن قوم لوط المشركين، يقول: والعاشق المُتيم يصير عبدًا لمعشوقه، مُنقادًا له، أسير القلب له[2] نسأل الله العافية، عشاق الصور والذين تتعلق نفوسهم وقلوبهم بالذوات الجميلة، وبذوي الصباحة والجمال، ونحو ذلك من النساء وغيرهم، فهؤلاء قد يصل بهم العشق إلى حال يكون هذا العاشق عبدًا لهذا المعشوق، وهذا جاء في كلام الشعراء وغيرهم عبر التاريخ، وقد يُصاب الرجل في عقله بسبب العشق، وأحد هؤلاء تعلق بفتى وصار يُردد عند الموت؛ لما قيل له: قل لا إله إلا الله، قال:

أسلَمُ يا راحةَ العليلِ ويا شِفا المدنِف النحيلِ
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل[3]

وذاك الرجل الذي رأى جارية، وكانت تسأل وتقول: أين الطريق إلى حمام منجابِ؟ قال: هذا، وأشار إلى بيته فدخلت، فلما علمت أنه خدعها، احتالت وطلبت منه أن يأتي بشيء من المُسكر، فخرج لا يلوي على شيء وترك الباب مفتوحًا، فخرجت بعده، فجاء فلم يجدها، فأُصيب في عقله، فكان يُردد في الطرقات:

ورُب قائلة يومًا وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجابِ؟[4]

فالشاهد أن هذا الرجل أُصيب في عقله، حيث تعلق بهذا الجارية؛ لأنها كانت في غاية الجمال، فلما كان عند الاحتضار قيل له: يا فلان قل لا إله إلا الله، قال:

ورُب قائلة يومًا وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجابِ؟

ومثل هذا حصل لأقوام ممن يتعلق بنوع من المال، كالذي يتعلق بالإبل ويُحبها محبة لا تصلح لشيء من هذا الحُطام، فلما كان عند الاحتضار، قيل له: يا فلان قل: لا إله إلا الله، قال كلمة: الحمض من الإبل والإبل من الحمض، كلمة يقولها أهل الإبل، الحمض نبت تُحبه الإبل، ويؤثر في لحمها وألبانها، إذا رعت الحمض، فهذا الرجل يقول مثل هذه الكلمة عند الاحتضار، وغير هذا كثير.

فالمقصود: أن العبودية هي عبودية القلب، والحرية هي حرية القلب، فقد يكون العبد في الظاهر كما قال شيخ الإسلام في كتاب العبودية ملكًا مُطاعًا، ولكنه قد يكون في الباطن أسيرًا وعبدًا لغيره؛ ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله: بأن هذه الأشياء التي في أيدي الناس من المُمتلكات والأموال، ينبغي أن يكون كالكنيف -أعزكم الله- الذي يجلس عليه لحاجته، يعني: لا تدخل القلب، فإن هذه الدنيا إذا دخلت في القلب أفسدته، فهذا هو الطريق.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [سورة البقرة:165] على أن محبة الله -تبارك وتعالى- من العبادة، بل هي من أجل العبادات؛ لأن الله تعالى جعل من سوى غيره به فيها مُشركًا، متخذًا لله ندًا، فدل ذلك على أن محبة الله -تبارك وتعالى- من العبادة، بل هي أساس العبادة؛ لأن أساس العبادة مبني على الحب والتعظيم.

ويُؤخذ من هذه الآية: أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [سورة البقرة:165] أن هذه الأنداد لا تُحب، ولا تستحق أن تُحب؛ لأنها معبودات باطلة من دون الله -تبارك وتعالى- فاستدل بهذه الآية شيخ الإسلام على أن من جعل ما لم يأمر الله -تبارك وتعالى- بمحبته وأضاف ذلك إلى الله، بأن الله أمر، أو شرع بأن يُحب، فإن هذا يكون مبدأ الإشراك.

ويُؤخذ من هذه الآية من الفوائد أيضًا: شدة حب أهل الباطل والأهواء لباطلهم وأهوائهم، انظروا هذه المعبودات الباطلة: من أصنام وأحجار، تُحب هذه المحبة العظيمة، ويُتعلق بها هذا التعلق العظيم، وقد قيل لسُفيان بن عُيينة -رحمه الله: إن أهل الأهواء يُحبون ما ابتدعوه من أهوائهم حبًا شديدًا، تجده متعلق بهذه الضلالة يموت دونها، فقال: أنسيت قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [سورة البقرة:165] وقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [سورة البقرة:93][5] أُشربوا -كما ذكرنا سابقًا- إذا كان القلب يُشرب محبة عجل معبود من دون الله باطل إلى هذا الحد، بحيث تتخلل محبته في القلوب، فالله أولى بأن يُحب محبة تتخلل القلوب.

ويؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [سورة البقرة:165] مراجعة النفس، ومحاسبة العبد لنفسه؛ لئلا يطلع الله -تبارك وتعالى- في قلبه على خلاف ذلك، فالله يقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [سورة البقرة:165] فلا يليق أن يكون في قلب المؤمن ما يتعلق به ويُحبه بحيث يُزاحم محبة الله -تبارك وتعالى- فهذا لا يليق، ولو أن العبد استشعر هذا لصار حب الله -تبارك وتعالى- فوق كل محبوب، ولصار أثر هذا الحب على جوارحه وحاله، فيُبادر إلى مرضاته وطاعته، ويلهج بذكره، ومن أحب شيئًا فإنه يلهج بذكره، ويأنس حينما يذكره، أو يُذكر عنده، فما بال الكثيرين حينما يكون في مجلسًا من مجالس الذكر يتململ، ولا يأنس، ولا يجد نفسه وقلبه في هذه المجالس، يرى الدقائق ساعات، والساعات أيام، فمثل هذا لا يليق أبدًا، فالمحبة لها علامات ودلائل وبراهين تظهر على صاحبها.

ويُؤخذ من هذه الآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [سورة البقرة:165] أنه بقدر الإيمان تكون المحبة، فإذا ازداد الإيمان ازدادت المحبة؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فهذا الإيمان إذا ازداد ازداد التعلق بالله والمحبة له، وإذا نقص الإيمان نقصت المحبة؛ ولهذا فإن هؤلاء الذين يعانون من العشق، والتعلق العاطفي كما يُقال، إنما ذلك لنقص محبتهم لله فتكون هذه القلوب فارغة، فتُملأ بهذا الاشتغال، وهذه المحبة لغير الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يتسع لمحبة هذه الصور، ومن ثَم لا يحصل التعلق بها بحال من الأحوال، أولئك الذين يُعانون من هذا المرض، متعلق بفلانة، أو فلان، وقد تتعلق المرأة بامرأة، وهذا يكثُر في الفتيات والنساء بما يسمونه بالإعجاب، وهو نوع من التعلق العاطفي، فهذا لون من العشق، ولا يصح بحال من الأحوال، وإنما يكون في القلوب الفارغة، فإذا فرغ القلب وخلا من محبة الله، فإنه يمتلأ بمحبة غيره، ويشتغل به، ويُقبل عليه.

وفي قوله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [سورة البقرة:165] حُذف جواب (لو) ومثل هذا الحذف في مقامات الوعد أو الوعيد يدل على التفخيم، يعني: لو يرون ذلك لرأوا أمرًا هائلاً عجيبًا عظيمًا، لا يُقادر قدره، فيُحذف لتذهب النفس كل مذهب في تقديره، هذا أكبر من أن يصور، أو يُحد، فيسرح الذهن بتأمل ذلك وتتطلبه، فهو لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة والألم، وما إلى ذلك، وهكذا على كل حال، فإن من كان صادقًا في محبة الله -تبارك وتعالى- فلا بد أن يُعبد نفسه له، ولا بد أن يُقبل عليه، وأن يشتغل بطاعته، ويعمل بمرضاته، ويتلذذ بمناجاته، ويكون أحسن الأحوال والأوقات، حينما يخلو بذكره؛ ولهذا كان ابن المنكدر -رحمه الله- وهو من التابعين يقول: إني لأدخل في الليل فيهولني، فينقضي وما قضيت منه أربي[6] والآخر يقول: إني لأفرح بالظلام، يعني: من أجل الصلاة، وقيام الليل، ومناجاة الله فإذا كان العبد يجد نفسه، ويفرح في السمر في أمور لا طائل تحتها، وحديث الناس، وما إلى ذلك، فإن هذا يدل على خلل في المحبة. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال برقم: (6435).
  2.  أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 26) والفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 289) وقاعدة في المحبة (ص: 76).
  3.  الداء والدواء = الجواب الكافي ط عالم الفوائد (1/ 389).
  4.  القصة والبيت في الداء والدواء = الجواب الكافي ط عالم الفوائد (1/ 388).
  5.  العبودية (ص: 68).
  6.  اللطائف (ص: 5)