قال ابن كثير - رحمه الله -: آمنوا ثم كفروا أخذاً من قوله تعالى: اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17]، فالمقصود بالنار هنا على قول ابن كثير - وهو قول طائفة من السلف - أنهم دخلوا في الإيمان، ثم بعد ذلك نكصوا فلم يرجعوا إليه، فهذا مثل الذي استوقد ناراًـ ثم انطفأت عليه تلك النار، وبالمناسبة فهذا هو أول مثل في القرآن.
وقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] هذا أول مثل في القرآن، وقد قال الله تعالى عن الأمثال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43]، وهذا المثل والذي بعده الذي هو قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19] كلام أهل العلم فيه كثير جداً، ويمكن أن نشير إلى بعض الملاحظ التي ينطلقون منها في تفسير هذين المثلين.
فالمثل الأول وهو قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17]، إذا تأملت في لفظ اسْتَوْقَدَ لربما تشعر وكأنه استعار شيئاً وهو النور، ثم إن هذا النور إنما كان من النار، ولم يكن من عند أنفسهم، فهو شيء منفصل عنهم، وهذا قد يشعر بخلاف ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - لأنه نور مستعار كقميص استعاروه، وذلك لغرض في نفوسهم، ثم ما لبثوا أن تحول إلى شيء آخر، ومعنى هذا الكلام أنهم أظهروا الدخول في الإسلام، أو دخلوا في الإسلام على القول الآخر وهو الذي أشار إليه ابن كثير، ويكون المقصود أن هذا حصل لمدة مؤقتة بحيث إنهم لما أظهروا هذا الإسلام حصلت لهم مصالح كالذكر الجميل - الذي لا يستفيض -، وإجراء أحكام الإسلام عليهم، فصاروا يأخذون من الغنيمة والفيء من بيت مال المسلمين، وصار لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، فحقنوا دماءهم، وأحرزوا ممتلكاتهم، وصاروا كغيرهم بخلاف الآخرين من القبائل الكفار الذين يقاتلون، فيُقتلون، ويؤسرون، ويسترقون، وتؤخذ أموالهم غنائم.
وبعض أهل العلم فسرها بقوله: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ [سورة المائدة:64] أي أنه استوقد ناراً للفتنة ثم أطفأها الله، وهذا القول في غاية البعد، وهو من تفسير القرآن بالقرآن الذي يخطئ فيه المفسر بالربط، حيث إن الاجتهاد له مدخل في تفسير القرآن بالقرآن، وهذا مثال عليه.
ويقول بعض أهل العلم: إن هذا المثل مضروب لهم في الدنيا، وبعضهم يقول: في البرزخ، وبعضهم يقول: في الآخرة، والصواب أنه يحمل على الأحوال الثلاثة، فهم أظهروا هذا فهتكهم الله في الدنيا، وفي البرزخ يلقون العذاب، في الآخرة يحصل لهم الظلمة، ويتساقطون في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [سورة النساء:145].
وكما قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [سورة الحديد:13].
وسواء قلنا: إنهم دخلوا في الإسلام فعلاً، أو كانت القضية مجرد إظهار للإسلام؛ فهذا كله لا منافاة فيه، فمنهم من كان كذا، ومنهم من كان كذا، وبالتالي هم في الواقع سواءً، فالذين دخلوا في الإسلام عرفوا حجج الدين، وبراهينه، وصدق ما جاء به النبي ﷺ، وكان مآلهم أن انتكسوا وارتكسوا، والذين تظاهروا بالإسلام، وكانوا داخل الصف الإسلامي، ويصلون مع النبي ﷺ، ويأتون الغزوات، ويرون المعجزات، هم في الحقيقة لا يؤمنون.
وعلى كل حال فالمعاني الدقيقة التي تذكر في هذا المثل، وتنزيل كل لفظة فيه على معنىً يتعلق بالمنافقين؛ من العلماء من نحى منحىً آخر عن ذكرها وقال: هذا المثل مثل مركب، وأصل الأمثال المركبة لا تحتاج أن تنزل كل لفظة أو جملة فيها على من ضربت له من أجل أن يحصل تفسير هذه اللفظة والجملة بناءً على حال هذا الإنسان، وإنما يؤخذ المثل ككل، بمعنى أن هذه الأمثال لا تفسر جملة جملة إلا على سبيل إيضاح غريب الألفاظ، لا على سبيل التنزيل على من ضربت له كلمة كلمة، وجملة جملة؛ فقد تكون بعض الجمل إنما ذكرت ليفهم منها المراد على سبيل الإجمال، وإن لم يكن لهذه الجملة معنىً يخصها يتعلق بمثل هذا الإنسان الذي ضربت له بمفردها، وإنما هي مع غيرها تعطي تصوراً على هذا.
وبناء على ذلك يقولون: المراد بهذا المثل الذي ضربه الله في هذه السورة أن هؤلاء القوم قد تظاهروا بالدخول في الإسلام فحصلت لهم مكاسب، وعرفوا براهين الحق، ثم تركوا ذلك، وأداروا ظهورهم له، وأعرضوا عنه، فصاروا فاقدين للنور، وصاروا في ظلمة كما وصف الله هذا الإنسان الذي أوقد النار في مكان مظلم، فلما سُرَّ بها، وفرح بها، وحصل له بها الدفء، وشعر بالأمن بعد أن كان خائفاً من شدة الظلام من حوله، وحصلت له منها منافع أخرى فهو يتسدفئ بها، ويصنع طعامه؛ فإذا بها انطفأت في وقت هو أحوج ما يكون إليها، وهكذا حال هؤلاء المنافقين حيث ينطفئ هذا النور عنهم في الآخرة على الصراط الذي هو أدق من الشعرة، وأحدُّ من السيف كما وصف النبي ﷺ[1] نسأل الله العافية.
قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17-18]: "تقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى؛ بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله، وانتفع بها، وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنس بها؛ فبينا هو كذلك؛ إذ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد لا يبصر، ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشَد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا، ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقوله تعالى: ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ أي: ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان، وتركهم في ظلمات، وهو ما هم فيه من الشك، والكفر، والنفاق.
لاَّ يُبْصِرُونَ: لا يهتدون إلى سبيل خير، ولا يعرفونها، وهم مع ذلك صم لا يسمعون خيراً، بكم لا يتكلمون بما ينفعهم، عميٌ في ضلالة، وعماية البصيرة كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج:46]، فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة".
فهذا المثل ضربه الله للمنافقين مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً[سورة البقرة:17]: والسين والتاء للطلب، ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك يشعر بأن هذا مستعار، فهذا الإيمان، أو هذا الذي حصل لهم مما انتفعوا به في الدنيا بحقن الدماء، وإحراز الأموال؛ لم يكن نابعاً من داخل نفوسهم، وإنما هو شيء استقدموه، واستفادوه من غيرهم، وذلك أنهم أظهروا الإيمان للمؤمنين، ودخلوا معهم في الإيمان ظاهراً؛ فحصلوا هذه الغنيمة البائسة، وهي أنه لم يكن لهم من ذلك إلا إحراز الأموال، وحقن الدماء، دون أن يكون ذلك مؤثراً فيهم في انشراح الصدر، ونور البصيرة، والانتفاع بالحق الذي يسمعونه صباح مساء عند رسول الله ﷺ، وكان نتيجة ذلك أنهم أبعد ما يكونون عن الهدى، والحق، فلا يتكلمون به، ولا يصدر عنهم، ثم ما يلبث ذلك أن يتلاشى جميعاً كما ينطفئ نورهم في الآخرة عند الصراط، ويبقون في ظلمات؛ فكذلك هذا النور الذي استعاروه، واقتبسوه؛ ما يلبث أن يذهب ثم بعد ذلك يعرفون الحقائق، وتنجلي لهم الأمور وتنكشف، ويذهب ذلك الضياء الذي استضاؤوا به مؤقتاً، ثم بعد ذلك تبقى حرارة النار التي أوقدوها، وإحراقها، ودخانها، وهذا يصور حال هؤلاء المنافقين كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ: هذا دخوله في الإيمان ظاهراً، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا: هذا يدل على أنهم دخلوا في الإيمان، ثم رجعوا عنه، على قول هؤلاء الذين ذكرنا لا يكون لازماً أنهم دخلوا في الإيمان؛ إنما دخلوا فيه ظاهراً فاستفادوا هذه الفوائد الدنيوية، ولهذا فإن الله يقول في مثل هؤلاء: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة التوبة:66]؛ فهم لم يكونوا مؤمنين في حقيقة الأمر، وإنما المقصود - والله تعالى أعلم - قد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه.
فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ: فهذا المنافق ادعى الدخول في الإسلام فاستفاد مثل صاحب النار الذي أوقدها، أضاءت له المنطقة المحيطة القريبة منه، ثم بعد ذلك ما تلبث أن تنطفئ.
ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17]: ذهب النور، وبقيت الحرارة.
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17-18] تقدير هذا المثل: أن الله سبحانه شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله، وانتفع بها، وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتَأنَّس بها، فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقوله تعالى: ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ أي: ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان، وتركهم في ظلمات، وهو ما هم فيه من الشك، والكفر، والنفاق.
لاَّ يُبْصِرُونَ: لا يهتدون إلى سبيل خير، ولا يعرفونها، وهم مع ذلك صم لا يسمعون خيراً، بكم لا يتكلمون بما ينفعهم، عميٌ في ضلالة، وعماية البصيرة كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج:46]، فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
فهذا المثل ضربه الله للمنافقين مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] والسين والتاء للطلب، ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك يشعر بأن هذا مستعار، فهذا الإيمان، أو هذا الذي حصل لهم مما انتفعوا به في الدنيا بحقن الدماء، وإحراز الأموال؛ لم يكن نابعاً من داخل نفوسهم، وإنما هو شيء استقدموه، واستفادوه من غيرهم، وذلك أنهم أظهروا الإيمان للمؤمنين، ودخلوا معهم في الإيمان ظاهراً، فحصلوا هذه الغنيمة البائسة وهي أنه لم يكن لهم من ذلك إلا إحراز الأموال، وحقن الدماء، دون أن يكون ذلك مؤثراً فيهم في انشراح الصدر، ونور البصيرة، والانتفاع بالحق الذي يسمعونه صباح مساء عند رسول الله ﷺ، وكان نتيجة ذلك أنهم أبعد ما يكونون عن الهدى والحق، فلا يتكلمون به، ولا يصدر عنهم، ثم ما يلبث ذلك أن يتلاشى جميعاً كما ينطفئ نورهم في الآخرة عند الصراط، ويبقون في ظلمات؛ فكذلك هذا النور الذي استعاروه، واقتبسوه؛ ما يلبث أن يذهب ثم بعد ذلك يعرفون الحقائق، وتنجلي لهم الأمور وتنكشف، ويذهب ذلك الضياء الذي استضاؤوا به مؤقتاً، ثم بعد ذلك تبقى حرارة النار التي أوقدوها، وإحراقها، ودخانها، وهذا يصور حال هؤلاء المنافقين كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ: هذا دخوله في الإيمان ظاهراً، وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا: هذا يدل على أنهم دخلوا في الإيمان ثم رجعوا عنه، على قول هؤلاء الذين ذكرنا لا يكون لازماً أنهم دخلوا في الإيمان، إنما دخلوا فيه ظاهراً، فاستفادوا هذه الفوائد الدنيوية، ولهذا فإن الله يقول في مثل هؤلاء: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة التوبة:66]، فهم لم يكونوا مؤمنين في حقيقة الأمر، وإنما المقصود - والله تعالى أعلم - قد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه.
فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ: فهذا المنافق ادعى الدخول في الإسلام فاستفاد، مثل صاحب النار الذي أوقدها، أضاءت له المنطقة المحيطة القريبة منه، ثم بعد ذلك ما تلبث أن تنطفئ.
ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17]: ذهب النور، وبقيت الحرارة.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18] لا يتكلمون بالحق، ولا يبصرونه مهما كانت دلائله ظاهرة - نسأل الله العافية - يحضر مع النبي ﷺ، وتنزل الآيات، ويسمعها؛ فإذا خرج قال: مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16] إلى هذا الحد مَاذَا قَالَ آنِفًا!!
حاضر مع الحاضرين عند رسول الله ﷺ، وتظن أنه استفاد، وأنه تأثر مع الآخرين بالآيات التي تليت عليهم، فإذا خرج إذا به يسأل: ماذا كان يقول النبي - عليه الصلاة والسلام - كما حصل حينما كان يستسقي النبي ﷺ إذا أجدب الناس في أسفاره، وفي حضره، فيأتي الله بالخير، فيقول أحدهم: إنما هو سحاب عارض!.
في بعض البلاد قام الدعاة واستسقوا - قبل سنوات - ثم أنزل الله المطر، فقام المنافقون من أرباب الصحف، والكتاب، والمحاربين لله ورسوله، وبدؤوا يتهكمون، ويقولون: هؤلاء درسوا الأحوال الجوية، وعرفوا أنه يوجد منخفض أو مرتفع جوي، ووقتوا صلاتهم في هذا الوقت من أجل أن يضحكوا على الناس، ويقولون: استسقينا فنزل المطر.
مثل هؤلاء مهما جاء من الآيات لا تزيدهم إلا كفراً، وإعراضاً، والذي جعلهم كذلك هو الله تبارك وتعالى؛ لأنهم هانوا عليه فأذلهم، لذلك تجد الواحد منهم لا ينتفع بما يسمع فهو أصم، ولا ينطق بالحق فهو أبكم لا ينطق إلا بالباطل، ولا يكتب إلا الباطل، ولا يدعو إلا إلى الباطل، فهو شر محض، وجندي من جند الشيطان، وكل ما قرأت له مقالة أصابك ما يصيبك من الغم، والحزن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [سورة البقرة:18]: لا يرون الحق، ولا يرون دلائله أبداً، فهم لا يرجعون إليه؛ لأن المنافذ قد سدت.
أحياناً ترى عبراً فيقول: هذه كافية لمن كان له قلب، أو ترى إنساناً يموت من يموت له، فيذهب في جنازته، وتقول: لعله يرجع ويتأثر، لكن أنَّى له بهذا، وقد قفل عليه كل شيء.
فمثل هؤلاء لا يؤسف عليهم، فالله لو شاء لما كانوا كذلك، فله حكمة بالغة في ذلك، قال تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [سورة يونس:99].
إن ما نشاهده هذه الأيام من حرب الله ورسوله عن طريق هؤلاء الكتاب حيث أظهروا كل المستور، وأعلنوا عن عداوتهم للإسلام بكل مناسبة، وبدون مناسبة، فمثل هؤلاء هانوا على الله فأذلهم وأهانهم، ولن يضروا الله شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم.
- أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: معرفة طريق الرؤية (183) (ج 1 / ص 167) عن أبي سعيد الخدري .