الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُا۟ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُوا۟ مُهْتَدِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16]، روى السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من الصحابة أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وقال مجاهد: آمنوا ثمّ كفروا، وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [سورة فصلت:17].
من هذه العبارات التي أوردها - رحمه الله - في معنى اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وهي: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، آمنوا ثم كفروا، استحبوا الضلال على الهدى، ما الذي أرادوا الوصول إليه من خلالها؟ هل يوجد إشكال متبادر في الآية حاولوا أن يبينوا المراد على وجه يرتفع به هذا الإشكال فعبروا بمثل هذه العبارات؟

ظاهر آية أن ثمة معاوضة كما قال الشاعر:

بدلت بالجمة رأساً أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا  

فهذا له جمة وشعر جميل ثم تحول إلى شيء آخر، وله ثنايا واضحات تحولت إلى شيء آخر، وبالإسلام استعاض النصرانية.

فمعنى المعاوضة أن أقول مثلاً: بُدِّلت بالقلم الساعة، أو اشتريت بالقلم الساعة، أو نحو هذه العبارات فهذه معاوضة، فهؤلاء أهل النفاق اشتروا الضلالة، ودفعوا الثمن الهدى.

وهنا يرد سؤال عن هذه المعاوضة في طرفيها: هل هؤلاء كانوا أصلاً يملكون شيئاً من الهدى استعاضوا به الضلالة، هل حصلت لهم معاوضة بأن دفعوا الهدى، وأخذوا الضلال؟

إذا قلنا: إن هؤلاء آمنوا ثم كفروا، كما قال الله : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [سورة المنافقون:3]، وقوله في الموضع الآخر في وصف المنافقين في سورة براءة لما توعدهم حينما استهزؤوا في تبوك: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة التوبة:66]، من قال من أهل العلم بأنهم كانوا مؤمنين، ثم تحولوا إلى النفاق لسبب أو لآخر، فالمعاوضة واضحة، فهم بذلوا الهدى، والإيمان، واستعاضوا عنه بالكفر.

وعلى القول الآخر وهو أن هؤلاء من غير المؤمنين أصلاً، بل وهم كفار منذ البداية في الباطن؛ فأي هدىً دفعوه، وبذلوه؟

فهنا يكون معنى العبارات لا تدل على حصول المعاوضة، ويكون معنى اشتروا الضلالة أي: استحبوا العمى على الهدى، بمعنى اختاروا، وآثروا.

وواقع الأمر أن المنافقين على قسمين: قسم آمنوا ثم نافقوا، فهؤلاء واضح أنهم بذلوا الهدى، وأخذوا مكانه الضلال، والنفاق، والكفر.

وقسم من هؤلاء لم يؤمنوا أصلاً مثل عبد الله بن أبي الذي قال: إني أرى أن هذا الأمر قد توجه، فادخلوا فيه، وكلامه هذا في الظاهر وإلا فهو يخفي الكفر كما قال الله عن اليهود: وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة آل عمران:72] أي أنه لما يرى الناس هؤلاء العلماء من أهل الكتاب قد دخلوا في الإسلام فهذا يعتبر انتصار ضخم للإسلام، فإذا ارتدوا قالوا: لا بد أنهم لم يرتدوا إلا لأنهم رأوا أموراً لا يمكن أن تتفق مع دين صحيح.

فالحاصل أن هؤلاء على نوعين، والآيات جميعاً لا إشكال فيها، فآية براءة مثلاً: قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إذا قلنا: إن بعضهم كانوا على الإيمان، ثم كفروا، فهذا لا إشكال فيه، وإذا قلنا: إنهم منافقين أصلاً فهذا لا إشكال فيه؛ إذ المعنى: قد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه، أي بعد إيمانكم المزعوم المظهر الذي أجريت عليكم أحكامه حيث نطقتم بالشهادتين.

ويكون معنى قوله: اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى كقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ [سورة البقرة:17] أي عرف دلائل الحق، وعرف أحقية ما جاء به النبي ﷺ، ورأى أنوار الإسلام وبراهينه، ثم بعد ذلك نكص، وترك ذلك، وأدار ظهره له، نسأل الله العافية، فـاشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى أي: استحبوا وآثروا إن لم يكونوا على الإيمان ابتداءً، ومن هنا يزول الإشكال، فابن كثير - رحمه الله - ما صرح بالإشكال؛ لكنه أتى بعبارات السلف، وهذا توجيه عبارات السلف، ومحاملها، والله أعلم.

وحاصل قول المفسرين فيما تقدم: أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى أي: بذلوا الهدى ثمناً للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر كما قال تعالى فيهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [سورة المنافقون:3]، أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى، كما يكون حال فريق آخر منهم.
هذا كلام جيد، ومعناه أن الفريق الأول الذين كانوا على الهدى استعاضوا الضلال بالهدى، والفريق الثاني الذين لم يكونوا على الهدى آثروا واستحبوا الضلال على الهدى.

فإنهم أنواع، وأقسام؛ ولهذا قال تعالى: فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ أي: ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ أي: راشدين في صنيعهم ذلك، وروى ابن جرير عن قتادة فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِين قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة، وهكذا رواه ابن أبي حاتم بمثله سواء.

في قوله تعالى: فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ هذا الختام مناسب غاية المناسبة لما ذُكر قبله، حيث قال: اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى، فناسب أن يختم ذلك بقوله: فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ أي: ما ربحت تجارتهم، بل هذه صفقة خاسرة، وأصل التجارة إنما تستعمل في البيع والشراء الذي يقصد به الربح في المعاوضات، وصار يستعمل في مثل هذه المعاني، فالعمل بطاعة الله هو تجارة مع الله - تبارك وتعالى -، فالإنسان له رأس مال وهو هذه الدقائق، والثواني، والساعات يتجر فيها مع الله ، فمنهم من يغبن في هذه التجارة فيشغل وقته بمعصية الله ، ويشمر في ذلك، ويدفع الأموال، ويبذلها ليشتري منزلاً في النار، فإذا جاء يوم القيامة حصل التغابن قال تعالى: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [سورة التغابن:9] فهؤلاء شمروا، واستغلوا رؤوس هذه الأموال، فحصلوا أعلى المنازل في الجنة، وأولئك حجزوا فيها مقاعد في النار، وليس ذلك فحسب؛ بل إن أهل الجنة ورثوا منازل أهل النار في الجنة، والعكس.

وهذا غاية التغابن بين الناس، مع أن الغبن أصله يكون في الصفقة في التجارة، حيث يغبن التاجر إذا باع سلعة بيعاً بُخس فيه في الثمن، كأن تكون ثمن السلعة يساوي مائة - مثلاً - وباعها بعشرة، أو اشتراها بمائة، وهي تساوي عشرة، فهذا مغبون.

مرات الإستماع: 0

"اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [البقرة:16] عبارة عن تركهم الهُدى مع تمكنهم منه، ووقوعهم في الضلالة فهو مجاز بديع".

هكذا يقولون بأن هذا من قبيل المجاز، وقد لا يُسلم لهم بذلك، فإن الله - تبارك، وتعالى - سمى المعاملة معه تجارة: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] وسماه بيعاً: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111] وسماه شراء: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] وسمى ما يحصل من الخسارة في الصفقة: خسارة، وسمى ذلك غبناً، وسمى يوم القيامة بيوم التغابن قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] فهذا لا يختص بالبيع، والشراء، والمُعاطاة المادية، بل بالتعامل مع الله - تبارك، وتعالى -.

اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] يعني: أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، استعاضوا بالضلالة عن الهدى، هذه العبارة هي في ضمنها جواب لسؤال في هذا الموضع، وهو: أن هؤلاء لم يكونوا على هدى فأين المعاوضة؟ اشترى كذا: يعني استبدل شيئاً بشيء، كما يقول أحدهم:

أَخَذْتُ بالجُمَّةِ رأْساً أَزْعَرَا وبالثَّنايا الواضحاتِ الدُّرْدُرَا
وبالطَّويلِ العُمْرِ عُمْراً أَنْزَرا كما اشترى المسْلِمُ إذْ تَنَصَّرا[1]

 

يعني: استعاض، واستبدل الإيمان بالنصرانية، فهذا كان على الإيمان، ثم صار نصرانياً، كما اشترى المؤمن إذ تنصرا، فهؤلاء أهل النفاق لم يكونوا على الإيمان اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] فهم لم يكونوا على هدى، ولم يبذلوا الهدى، ولم يكونوا عليه أصلاً اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] فماذا يقال عنهم؟ يقال: استعاضوا عن الهدى بالضلال، وهذا باعتبار أنهم كانوا على إيمان، ثم كفروا، كما يقوله بعض السلف كمجاهد: آمنوا، ثم كفروا[2] وأما باعتبار أنهم منذ البداية لم يكونوا على إيمان حقيقي، فإنه يُمكن أن يُفسر ذلك يقال: أخذوا الضلالة، واشتروا الضلالة، اختاروا الضلالة، وآثروها على الهدى، وكما يقول قتادة: "استحبوا الضلالة على الهدى"[3] وكما قال الله - تبارك، وتعالى - في ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17] ] هذا يُفسر به هذا الموضع، فاستحبوا العمى - الذي هو الضلال - على الهدى، كقوله: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] يعني: أنهم اعتاضوا عن الهدى بالضلالة، سواء كانوا ممن آمن، ثم كفر، أو استحب الضلال على الهدى، كما يقوله الحافظ ابن كثير[4] وغيره.

يقول: "اشتروا الضلالة عبارة عن تركهم الهدى مع تمكنهم منه، ووقوعهم في الضلالة، فهو مجاز بديع" ليس كذلك.

"فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] ترشيح للمجاز؛ لما ذكر الشراء ذكر ما يتبعه من الربح، والخُسران، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز أيضاً".

الآن قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] ترشيح للمجاز، ما معنى ترشيح للمجاز؟ إذا كان في الكلام ما يقوي المُشبه به، ويُلائمه كان ذلك ترشيحاً عندهم، يعني: تقوية للاستعارة، أو المجاز، إذا كان ذلك في الكلام ما يقوي المُشبه به، ويُلائمه، أما إذا ذُكر ما يُلائم المُشبه، فيسمونه التجريد، فهنا في هذه الآية اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] شبه الضلالة بسلعة، فالمُشبه: الضلالة، والمُشبه به: السلعة، فهذه السلعة من شأنها أن تُباع، وتُتشرى، فحذف المُشبه به (السلعة) اشتروا الضلالة، يعني: جعل الضلالة كأنها سلعة، شبهها بسلعة، لكن هنا لم يذكر المُشبه به، لم يذكر السلعة في الكلام، هل ذُكر المُشبه به؟ الجواب: لا، لكن دل عليه لازم من لوازمه، وهو فعل الشراء، فالشراء يكون للسلِع، فيلزم أن يكون هناك سلعة تُشترى، ثم بعد ذلك انظر إلى العبارة فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] هذا مُناسب للمُشبه به، وهو السلعة، فهذا عندهم ترشيح، يعني: أنه يقوي المُشبه به، اشتروا الضلالة، المُشبه هو الضلالة، المُشبه به شبهها بالسلعة، ما القرينة الدالة على هذا؟ هي ذكر الشراء، فالاشتراء يكون للسلعة، مع أن هذا المُشبه به غير مُصرح به، لكن وجد ما يقويه فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] فالتجارة هي المُعاطاة، والبيع، والشراء، وتداول السلع، فهذه هي التجارة.

مع أن قوله: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] مُناسب لضلالهم، فيكون من قبيل التجريد، يعني: آخر الآية فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] هذا يقوي المُشبه به عندهم، فيكون من قبيل الترشيح، لكن آخرها: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] هذا يُناسب الضلالة، فهذا الذي يسمونه التجريد، يعني وجد في الكلام ما يقوي جانب المُشبه، فصار في الكلام ما يقوي جانب المُشبه به فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] فإذا نظرت إلى هذا قلت: هذا من قبيل الترشيح، وإذا نظرت إلى قوله: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] فهو يقوي جانب المُشبه، وهو الضلالة، التي شُبهت بالسلعة، فيكون من قبيل التجريد.

نحن لا نعرض لهذه القضايا، ولا نشتغل بها، لكن هو أشار إليها، فلا بُد أن يُفهم المراد، وتُفك مثل هذه العبارات، ولا نُمرها كما جاءت، فهذا ليس بمُراد، ولا بد لطالب العلم أن يفهم مراد أهل العلم، بصرف النظر عما تحتها، لكن يفهم ذلك على وجه الإجمال.

والذين يثبتون المجاز ليس عندهم إشكال في هذا، والذين يقولون: هذا حقيقة، فالتجارة كما تكون في السلع التي يتعاطها الناس، ونحو ذلك، تكون أيضاً في الأعمال، والتعامل مع الله - تبارك، وتعالى -؛ ولهذا سمى الثواب أجراً، والأصل في الكلام أنه حقيقة، فلماذا يُحمل على المجاز؟ ومن أين لهم من أن الاستعمال الأول هو في كذا، والاستعمال الثاني هو في كذا؟ فسياق الكلام، وسباقه، ولحاقه، كل ذلك يتبادر منه معنىً، وهذا المعنى الذي يتبادر هو الحقيقة، حتى لو قيل: بأن اللفظ هذا المشهور منه عند الإطلاق هو كذا، فاُستعمل في المعنى الآخر الذي هو الأضعف لقرينة، يقال: المُتبادر هو الحقيقة.

يعني: حينما يقال: الأسد هو الحيوان المُفترس، فإذا اُستعمل في الرجل الشجاع يقولون هذا مجاز؛ لأنه اُستعمل فيما وضع له ثانيًا، الوضع الأول يقولون: الحيوان المفترس، نقول: حينما يقول القائل: رأيت أسداً يضرب بسيفه في أرض المعركة، نقول: هذا حقيقة، باعتبار أن الحقيقة هي ما يسبق إلى الذهن، فالذي يسبق إلى الأذهان حينما يُقال: يضرب بسيفه في أرض المعركة أنه ليس السبُع، فهذا لا يكون - كما قالوا -: إنه من قبيل المجاز، والذين يثبتون المجاز يتوسعون في هذه الأمور، وتعرفون المجاز يقول به طوائف من أهل السنة، لكنهم لا يجرون ذلك في الأمور الغيبية، من أوصاف الله  وحقائق الآخرة، وما إلى ذلك.

والترشيح ترجيح، لكنه ليس هكذا بإطلاقه، يعني: هو نوع من الترجيح، ترجيح أن ذلك تقوية للمُشبه به، وإلا فإن تقوية المُشبه هو ترجيح، فيسمونه تجريداً، يعني هذه اصطلاحات خاصة، وهو تقوية، لكن تقوية المُشبه به يقولون لها: ترشيح، وهذا تجريد، وكله تقوية.

"لما ذكر الشراء ذكر ما يتبعه من الربح، والخسران، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز أيضاً؛ لأن الرابح، أو الخاسر هو التاجر".

هكذا يقول، ومضى ما فيه "إسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز؛ لأن الرابح، والخاسر"، والله يقول: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] كيف يقال هذا مجاز؟!

يعني المجاز أبرز قضية، وصفة، وسِمة يتفقون عليها جميعاً أنه يصح نفيه، فإذا قلت مثلاً: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10] فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16] يمكن أن يقال هذا ليس بتجارة، التجارة في البيع، والشراء في السلع، وهل في القرآن شيء يصح نفيه؟ لا يمكن، هم يتفقون على أن المجاز يصح نفيه، تقول: رأيت أسداً يقاتل، يقال: ليس بأسد، هذا رجل، لكن لو قلت: رأيت رجلاً يقاتل، لا أحد يستطيع أن يقول: هذا ليس برجل، هذا حيوان مُفترس، ما أحد يمكن هذا ينفي الحقيقة، لكن المجاز يتفقون على أنه يصح نفيه جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77] الجدار يقولون: ليس له إرادة، كيف الله يقول: يُريد؟

وبعض أهل العلم بالغ في الرد عليهم فقال:، وما المانع أن يكون للجدار إرادة، والله ذكر تسبيح كل شيء، والنبي ﷺ قال: إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسلم عليّ قبل أن أُبعث[5] وحنين الجذع[6] وقال لشجرتين: انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما، لأم بينهما - يعني جمعهما - فقال: التئما علي بإذن الله فالتأمتا[7] في حديث جابر  في صحيح مسلم، فقالوا: فما المانع أن يكون للجدار إرادة؟ 

 ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: 74] قالوا فما المانع أن يكون للجدار إرادة؟

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] يقولون: المجاز يصح نفيه، والقرية لا تُسأل، وإنما يُسأل أهلها، فهذا قالوا: مجاز علاقة الحالية بالمحالية، وجه السؤال للقرية، وهي لا تُسأل، والمقصود سؤال الحال فيها، وهم أهلها، قالوا: وهذا مجاز، فلا تُسأل القرية، يقال: ما المُتبادر حينما يقال: واسأل القرية؟ فالقرية تُطلق على البُنيان، وتُطلق على ساكنيها، فالمُتبادر هو الحقيقة، هذا المُتبادر إما أن يكون لشُهرة اللفظ في هذا المعنى، وهذا الذي يسمونه هم الحقيقة، الأسد الحيوان المُفترس، وإما لوجود ما يدل على المعنى من السياق، أو ما يسبق اللفظ، وما يتبعه، كل ذلك من القرائن يدل على المُراد - والله أعلم -.

"وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] في هذا الشراء، أو على الإطلاق، وقال الزمخشري: نفى الربح في قوله: فَمَا رَبِحَتْ [البقرة: 16] ونفى سلامة رأس المال في قوله: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16]".

وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] بهذا الشراء، أو على الإطلاق، الله أطلقه وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] فيبقى على إطلاقه، ما كانوا مهتدين في حال من الأحوال في شراءهم هذا، في أحوالهم كلها، في نفاقهم، في تحيرهم، في طُغيانهم، كل ذلك، والأصل أن حذف المُتعلق يدل على العموم المُناسب، حذف المُتعلق يعني المُقدر المحذوف وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] ما قال: مهتدين في شراءهم، ولا في بيعهم، ولا في تجارتهم، وإنما أطلقه، فيُحمل على العموم، وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] يعني: في تحيرهم، وضلالهم، ونفاقهم، وفي إيثارهم الدنيا على الآخرة، واختيار الضلالة على الهدى، وما إلى ذلك.

  1.  الأبيات في الأضداد لابن الأنباري (ص: 72) بدون نسبة، ونسبها في التقفية في اللغة (ص: 425)، لأبي النجم.
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (1/326).
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (1/ 325).
  4.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/185).
  5.  أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة برقم: (2277).
  6.  أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر برقم: (918).
  7. أخرجه مسلم في كتاب الزهد، والرقائق، باب حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر برقم: (3012).