أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16]، روى السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من الصحابة : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وقال مجاهد: آمنوا ثمّ كفروا، وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [سورة فصلت:17].
من هذه العبارات التي أوردها - رحمه الله - في معنى اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وهي: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، آمنوا ثم كفروا، استحبوا الضلال على الهدى، ما الذي أرادوا الوصول إليه من خلالها؟ هل يوجد إشكال متبادر في الآية حاولوا أن يبينوا المراد على وجه يرتفع به هذا الإشكال فعبروا بمثل هذه العبارات؟
ظاهر آية أن ثمة معاوضة كما قال الشاعر:
بدلت بالجمة رأساً أزعرا | وبالثنايا الواضحات الدردرا |
كما اشترى المسلم إذ تنصرا |
فهذا له جمة وشعر جميل ثم تحول إلى شيء آخر، وله ثنايا واضحات تحولت إلى شيء آخر، وبالإسلام استعاض النصرانية.
فمعنى المعاوضة أن أقول مثلاً: بُدِّلت بالقلم الساعة، أو اشتريت بالقلم الساعة، أو نحو هذه العبارات فهذه معاوضة، فهؤلاء أهل النفاق اشتروا الضلالة، ودفعوا الثمن الهدى.
وهنا يرد سؤال عن هذه المعاوضة في طرفيها: هل هؤلاء كانوا أصلاً يملكون شيئاً من الهدى استعاضوا به الضلالة، هل حصلت لهم معاوضة بأن دفعوا الهدى، وأخذوا الضلال؟
إذا قلنا: إن هؤلاء آمنوا ثم كفروا، كما قال الله : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [سورة المنافقون:3]، وقوله في الموضع الآخر في وصف المنافقين في سورة براءة لما توعدهم حينما استهزؤوا في تبوك: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة التوبة:66]، من قال من أهل العلم بأنهم كانوا مؤمنين، ثم تحولوا إلى النفاق لسبب أو لآخر، فالمعاوضة واضحة، فهم بذلوا الهدى، والإيمان، واستعاضوا عنه بالكفر.
وعلى القول الآخر وهو أن هؤلاء من غير المؤمنين أصلاً، بل وهم كفار منذ البداية في الباطن؛ فأي هدىً دفعوه، وبذلوه؟
فهنا يكون معنى العبارات لا تدل على حصول المعاوضة، ويكون معنى اشتروا الضلالة أي: استحبوا العمى على الهدى، بمعنى اختاروا، وآثروا.
وواقع الأمر أن المنافقين على قسمين: قسم آمنوا ثم نافقوا، فهؤلاء واضح أنهم بذلوا الهدى، وأخذوا مكانه الضلال، والنفاق، والكفر.
وقسم من هؤلاء لم يؤمنوا أصلاً مثل عبد الله بن أبي الذي قال: إني أرى أن هذا الأمر قد توجه، فادخلوا فيه، وكلامه هذا في الظاهر وإلا فهو يخفي الكفر كما قال الله عن اليهود: وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة آل عمران:72] أي أنه لما يرى الناس هؤلاء العلماء من أهل الكتاب قد دخلوا في الإسلام فهذا يعتبر انتصار ضخم للإسلام، فإذا ارتدوا قالوا: لا بد أنهم لم يرتدوا إلا لأنهم رأوا أموراً لا يمكن أن تتفق مع دين صحيح.
فالحاصل أن هؤلاء على نوعين، والآيات جميعاً لا إشكال فيها، فآية براءة مثلاً: قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إذا قلنا: إن بعضهم كانوا على الإيمان، ثم كفروا، فهذا لا إشكال فيه، وإذا قلنا: إنهم منافقين أصلاً فهذا لا إشكال فيه؛ إذ المعنى: قد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه، أي بعد إيمانكم المزعوم المظهر الذي أجريت عليكم أحكامه حيث نطقتم بالشهادتين.
ويكون معنى قوله: اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى كقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ [سورة البقرة:17] أي عرف دلائل الحق، وعرف أحقية ما جاء به النبي ﷺ، ورأى أنوار الإسلام وبراهينه، ثم بعد ذلك نكص، وترك ذلك، وأدار ظهره له، نسأل الله العافية، فـاشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى أي: استحبوا وآثروا إن لم يكونوا على الإيمان ابتداءً، ومن هنا يزول الإشكال، فابن كثير - رحمه الله - ما صرح بالإشكال؛ لكنه أتى بعبارات السلف، وهذا توجيه عبارات السلف، ومحاملها، والله أعلم.
وحاصل قول المفسرين فيما تقدم: أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى أي: بذلوا الهدى ثمناً للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر كما قال تعالى فيهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [سورة المنافقون:3]، أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى، كما يكون حال فريق آخر منهم.
هذا كلام جيد، ومعناه أن الفريق الأول الذين كانوا على الهدى استعاضوا الضلال بالهدى، والفريق الثاني الذين لم يكونوا على الهدى آثروا واستحبوا الضلال على الهدى.
فإنهم أنواع، وأقسام؛ ولهذا قال تعالى: فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ أي: ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ أي: راشدين في صنيعهم ذلك، وروى ابن جرير عن قتادة فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِين قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة، وهكذا رواه ابن أبي حاتم بمثله سواء.
في قوله تعالى: فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ هذا الختام مناسب غاية المناسبة لما ذُكر قبله، حيث قال: اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى، فناسب أن يختم ذلك بقوله: فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ أي: ما ربحت تجارتهم، بل هذه صفقة خاسرة، وأصل التجارة إنما تستعمل في البيع والشراء الذي يقصد به الربح في المعاوضات، وصار يستعمل في مثل هذه المعاني، فالعمل بطاعة الله هو تجارة مع الله - تبارك وتعالى -، فالإنسان له رأس مال وهو هذه الدقائق، والثواني، والساعات يتجر فيها مع الله ، فمنهم من يغبن في هذه التجارة فيشغل وقته بمعصية الله ، ويشمر في ذلك، ويدفع الأموال، ويبذلها ليشتري منزلاً في النار، فإذا جاء يوم القيامة حصل التغابن قال تعالى: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [سورة التغابن:9] فهؤلاء شمروا، واستغلوا رؤوس هذه الأموال، فحصلوا أعلى المنازل في الجنة، وأولئك حجزوا فيها مقاعد في النار، وليس ذلك فحسب؛ بل إن أهل الجنة ورثوا منازل أهل النار في الجنة، والعكس.
وهذا غاية التغابن بين الناس، مع أن الغبن أصله يكون في الصفقة في التجارة، حيث يغبن التاجر إذا باع سلعة بيعاً بُخس فيه في الثمن، كأن تكون ثمن السلعة يساوي مائة - مثلاً - وباعها بعشرة، أو اشتراها بمائة، وهي تساوي عشرة، فهذا مغبون.