الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ ۝ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:14-15] يقول تعالى: وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: آمَنَّا، وأظهروا لهم الإيمان، والموالاة، والمصافاة، غروراً منهم للمؤمنين، ونفاقاً، ومصانعة، وتقية، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم.
وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ يعني: إذا انصرفوا وذهبوا، وخلصوا إلى شياطينهم، وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم من أحبار اليهود، ورؤوس المشركين، والمنافقين، قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مَرَدَتُه، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112].
وقوله: قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا - أي: إنا على مثل ما أنتم عليه، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم، ونلعب بهم.
وقال الضحاك، عن ابن عباس - ا -: قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ ساخرون بأصحاب محمد ﷺ، وكذلك قال الرّبيع بن أنس وقتادة.
وقوله تعالى جواباً ومقابلة على صنيعهم: اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:15] قال ابن جرير: أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [سورة الحديد:13] الآية.
وقوله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [سورة آل عمران:178] الآية، قال: فهذا وما أشبهه من استهزاء الله - تعالى ذكره -، وسخريته، ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به، فهذا إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم، وعقابه لهم؛ مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [سورة الشورى:40]، وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة:194] فالأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما.
قال: وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك؛ لأن المكر، والخداع، والسخرية على وجه اللعب، والعبث؛ منتف عن الله بالإجماع، وأما على وجه الانتقام، والمقابلة بالعدل، والمجازاة؛ فلا يمتنع ذلك.

يقول - تبارك وتعالى - عن هؤلاء المنافقين: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ [سورة البقرة:14] يقول ابن جرير - رحمه الله تعالى -: شياطين كل شيء مردته.

ويكون الشيطان من الإنس ومن الجن فعن أبي ذر  قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو في المسجد فجلست فقال: يا أبا ذر هل صليت قلت: لا، قال: قم فصلِّ قال: فقمت فصليت ثم جلست، فقال: يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس، والجن قال: قلت: يا رسول الله وللإنس شياطين؟! قال: نعم[1]، وعن عائشة - ا - أن النبي ﷺ قال: إني لأنظر إلى شياطين الإنس، والجن؛ قد فروا من عمر[2]، وعن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: الكلب الأسود شيطان[3]، فالكفرة من الجن شياطين، والذين يضلون الناس، ويغوونهم من الإنس؛ هم شياطين.

فهؤلاء الذين ذكرهم الله في سورة البقرة إذا خلوا بشياطين الإنس ممن يوافقونهم، وينكرون عليهم إظهار الإسلام، والدخول فيه؛ يعاتبونهم على ذلك فيقولون: نحن معكم في حقيقة الأمر، ولكننا نفعل ذلك استهزاءً بهم أي بالمؤمنين.

فردَّ الله عليهم بقوله: اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، والمراد باستهزاء الله بهؤلاء كما يقول ابن كثير: فهذا إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم، وعقابه لهم؛ مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان.

ابن كثير - رحمه الله - هنا لم يصرح بأن ذلك من قبيل المشاكلة، ولكن كلامه لا يفهم منه إلا هذا، وهو أن الاستهزاء، والمكر، والكيد، والمخادعة؛ إنما يكون على سبيل المقابلة فيكون من باب استعمال اللفظ في مقابل لفظ آخر عُبِّر به عن فعل هؤلاء فحسب، ولكن المعنى ليس بمراد، وهذا ما يسميه البلاغيون بالمشاكلة، وهذا كثير لدى بعض من يكتب في التفسير، وفي موضوعات شتى، سواء المعاصرين أو غيرهم ممن هم من أهل السنة ومن غيرهم.

وهذه مسألة تحتاج إلى تحرير، وذلك أن المشاكلة نوع من المجاز، ومنهم من يجعل المشاكلة قسماً مستقلاً بذاته وليس من المجاز، ولكنهم يتفقون جميعاً على أنها لا حقيقة لها في الطرف الآخر، وإنما هي فقط مشاكلة لفظية، فحقيقة هذه المشاكلة أن يستعمل لفظاً في مقابل لفظ عُبِّر به عن فعل الفاعلين، وإن لم يرد معنى هذا الفعل حينما استعمله أولاً في المقابلة.

ومن أوضح الشواهد أو من أشهر الشواهد التي يحتجون بها قول الشاعر:

قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

فيقولون: الجبة والقميص لا تطبخ، لكنه استعمل هذا اللفظ فقط في مقابل لفظهم الذي عبروا به.

وقالوا: إذا قال هؤلاء: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ، فقال الله: اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، فإن الله ليس من شأنه أن يستهزئ؛ لأن الاستهزاء صفة نقص وهي مذمومة ولا تليق بالله ، وإنما أتى بهذا اللفظ في مقابل قولهم:  إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ فقابلهم على ذلك، وليس ذلك يعود إلى الله منه شيء.

قالوا: فإن قيل: ما المراد بقوله: اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، يقال: المراد أنه يجازيهم، ويعاقبهم على هذا الاستهزاء، أو أنه يستدرجهم، أو يمدهم في طغيانهم يعمهون - كما ذكر ذلك في ختام الآية - فإذا جاء يوم القيامة ذهب عنهم ذلك النور، وحصلت لهم الظلمة على الصراط كما وصف الله .

وبهذا الجواب أجابوا عن قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [سورة النساء:142]، فقالوا: الله لا يخدع ولا ينسب إليه الخداع، وإنما المراد أنه عبر بعبارة إزاء العبارة التي وصف بها فعل هؤلاء دون أن يعود من ذلك على الله شيء، وهكذا.

وهذا الكلام ليس بصحيح، وليس ذلك قول أهل السنة، فهذه الصفات التي لا تكون من صفات الكمال بإطلاق؛ تكون كمالاً في بعض الأحوال، فالله لا يوصف بهذا بإطلاق، فلا يقال عن الله - تعالى الله وجل وعز - لا يقال عنه: كائد، ولا يقال عنه: خادع، ولا يقال عنه: مستهزئ؛ لكن إن صدر ذلك في حق من يستحق ذلك ممن يستهزئ فإن ذلك يكون كمالاً، فالله يستهزئ بهم، كما قال هو .

والذي يخادع الناس، ويستهزئ بهم، ويمكر بهم، ويستخف بمبادئهم، ومشاعرهم، ودينهم وما أشبه ذلك إذا عامله أحد من الناس معاملة يستدرجه فيها حتى يوقع به كان ذلك كمالاً؛ لأنه خلص الناس من شره بأسلوب مجاراته في هذا الأمر بعض المجاراة حتى أوقعه، فالله يستهزئ بهؤلاء الذين يستهزئون، ولذلك فإن الصحابة لم يستغربوا من مثل هذا الاستعمال كما وقع ذلك للمتأخرين، ولا توقفوا فيه؛ وذلك لسلامة فطرهم، وأيضاً لكمال ذوقهم اللغوي، فهم يفهمون المراد من هذا في كلام العرب، وقل مثل ذلك في المخادعة والمكر إلى آخره.
ومن هذه الأوصاف ما يقول بعض العلماء من أهل السنة عنها بأنها لا يكون بحال إلا على سبيل المقابلة، وهذا ليس بلازم في بعض هذه الصفات لا في كلها، فما جاء على سبيل المقابلة فإنه يقال: هذا لا يكون كمالاً إلا على سبيل المقابلة، وما جاء من غير ذلك فإنه يكون كمالاً في المقامات التي تصلح لمثله مثل الكيد، فالكيد جاء على سبيل المقابلة كما في قوله تعالى:إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا [سورة الطارق:15-16]، لكنه جاء في غير هذا المقام مثل قوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:183].

ومثل المكر في قوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة الأنفال:30]، فهو قابل فعلهم بمثله، وجاء من غير ذلك مثل: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ [سورة الأعراف:99].

وعلى كل حال نحن ندور مع هذه النصوص، وكل ذلك كمال في حق الله ، لكن الله لا يوصف بشيء من ذلك وصفاً مطلقاً في كل الأحوال، فلا يقال: الله كائد، ولا يقال: الله ماكر، ولا يقال: الله مخادع؛ فهذا لا يليق ولا يصلح؛ لأن ذلك ليس بكمال في جميع الأحوال، إنما يكون كمالاً في حال دون حال، والله تعالى أعلم.

فالحاصل أن ظاهر كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن ذلك من قبيل المشاكلة، وهذا فيه نظر، حتى إننا نقرأ لبعض الكاتبين من أهل السنة في هذا العصر من يقول: هذا على سبيل المشاكلة، وسمعت بعض المتخصصين في العقيدة من يقول: هذا مشاكلة، لا حقيقة له، بينما تجد هذه المسائل في كتب أهل السنة من الأئمة المتقدمين أنهم لا يجدون أي إشكال في بيان المراد منها من غير اللجوء إلى المجاز، أو تأويل هذا بالتأويلات المتكلفة.

وبالنسبة لمعنى استهزاء الله بهم في قوله: اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ هو ما ذكره هنا في قوله: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.

فالله يستدرجهم، ويزيدهم من الأسباب التي تزيد في غوايتهم، وهلاكهم، حتى إذا لقوا الله حصل لهم شيء من النور، ثم يذهب هذا النور، ويبقون في ظلمة على الصراط، وهم أحوج ما يكونون فيه إلى النور، فهذا كله من استهزاء الله بهم، وهذا كله كمال في حق الله لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ لأنه إذا كان ذلك على سبيل المقابلة، والعدل؛ فإنه كمال.

يقول: قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مردته: هل كل ما بعد هذا الكلام هو من كلام ابن جرير، حتى ما وضع له عناوين؟

هذا يعتبر خلل في الاختصار؛ لأن ظاهر هذا الكلام جميعاً أن ابن كثير يذكر هذا من عنده، وإنما نقل ذلك عن بعضهم ثم بين المراد، فنقلُه بهذه الطريقة فيه نظر.

قوله: فهذا إخبار من الله أنه مجازيهم: هذا كلام ابن جرير يحكي عن أقوام، وليس هذا كلام أهل السنة، فنحن نقول: إن الله لا يمكر بالماكرين فقط، بل يمكر بمن يستحق المكر، وكل ما ورد في مقابل فعل الفاعلين ممن فعلوا جنس هذا الفعل؛ فهذا يثبت في المقابل، وما ذُكر استقلالاً يذكر استقلالاً، لكن لا يوصف الله بالأوصاف التي ليست هي كمال من كل وجه على سبيل الاستقلال.

وقوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:15] روى السدي عن ابن عباس وابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي ﷺ و وَيَمُدُّهُمْ: يملي لهم، وقال مجاهد: يزيدهم، وقال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55-56] قال ابن جرير: والصواب يزيدهم على وجه الإملاء، والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأنعام:110].

كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني جزاءً على كفرهم به أول مرة ختم الله على قلوبهم فقلَّب هذه القلوب والأبصار فصارت ترى الحق باطلاً، والباطل حقاً، واستحسنوا ذلك، وزين لهم، فحصل لهم من الأسباب التي تزيد في غوايتهم حتى لم يبق لهم عند الله نصيب، نسأل الله العافية.

والطغيان: هو المجاوزة في الشيء كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [سورة الحاقة:11] قال ابن جرير: والعمه: الضلال، يقال عمه فلان يعمه عمها وعموهاً إذا ضل.
قال: وقوله: فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ في ضلالتهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه، وعلاهم رجسه؛ يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم، وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى، وأغشاها فلا يبصرون رشداً، ولا يهتدون سبيلاً.

  1. أخرجه النسائي في كتاب: الاستعاذة - باب: الاستعاذة من شر شياطين الإنس (5507) (ج 8 / ص 275)، وأحمد برقم (21586) (ج 5 / ص 178)، والطبراني في الكبير (7871) (ج 8 / ص 217)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "ومداره على علي بن يزيد وهو ضعيف"، وكذا ضعفه الألباني كما في سنن النسائي.
  2. أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب – باب: في مناقب عمر بن الخطاب (3691) (ج 5 / ص 621)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2914).
  3. أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة - باب: قدر ما يستر المصلي (510) (ج 1 / ص 365).

مرات الإستماع: 0

"اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] فيه ثلاثة أقوال: تسمية العقوبة باسم الذنب كقوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54]، وقيل: يُملي لهم بدليل قوله: وَيَمُدُّهُمْ [البقرة: 15]، وقيل: يفعل بهم في الآخرة ما يُظهر لهم أنه استهزأ بهم".

أنه استهزأ هكذا؟

في الحاشية: استهزاء.

نعم ما يُظهر لهم أنه استهزاء بهم، فهذا هو الأقرب - والله أعلم -.

"وقيل: يفعل بهم في الآخرة ما يُظهر لهم أنه استهزاء بهم، كما جاء في سورة الحديد: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]".

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] هذه الأقوال التي ذكرها الثلاثة: الأول: تسمية العقوبة باسم الذنب، وهو الاستهزاء، فسمى العقوبة باسمه، يعني: أن ذلك من قبيل المجاز، أنه لا حقيقة له، فهذا تأويل للصفة، تسمية العقوبة باسم الذنب، وصفة الاستهزاء صفة ثابتة لله يستهزأ بهؤلاء المُستهزئين، بأهل الإيمان، ولا يصح إنكارها بحال من الأحوال، وهي من الصفات الفعلية، دلت عليها هذه الآية، وفي الحديث في الرجل الذي يكون آخر من يخرج من النار: أتستهزئ مني، وأنت رب العالمين[1].

فقال: "كقوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54]" هم يؤلون هذا، ونظائره، فلا يثبتون المكر، وإنما يقولون: فعل بهم فعل أهل المكر، أو أن ذلك من قبيل المُشاكلة، يعني: أنه سمى فعله مكراً مُشاكلة لفعلهم الذي هو مكر، يعني أن ذلك في التسمية فقط، كما ذكرنا في شواهده في مناسبات سابقة:

قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جُبة وقميصا[2]

يقولون: الجُبة، والقميص لا تُطبخ، لكن لما كان بحاجة إلى لباس، وعرضوا عليه الطعام، قالوا: اقترح شيئاً نجد لك طبخه، فشاكل اللفظ، فقال: قلت: اطبخوا لي جُبة، وقميصا، فقالوا: هذا من باب المُشاكلة، وهذه المُشاكلة بعضهم يجعلها من قبيل المجاز، وبعضهم يقول غير ذلك، لكن لا يقولون: إنها حقيقة، وهذا للأسف تجد أنه يجري على بعض ألسنة بعض طُلاب العلم من أهل السنة، دون أن يشعر، يعني: هو يجد مثل هذه العبارة، فينقلها في كلامه أو كتابه، فيقول: هذا من قبيل المُشاكلة، وهو لا يعرف حقيقة هذه الكلمة، أو هذا الكلام، وما تحته من التأويل، فهذا لا يُقال: إنه مُشاكلة، وإنما يقال: صفة المكر ثابتة، لله لكنها ليست على الإطلاق، يعني لا يقال: الله ماكر، ولكن يقال: بأن ذلك بمن يستحق ذلك، ولا يقال في المكر: إنه لا بد أن يكون على سبيل المقابلة لمكرهم، كما يذكره بعض أهل العلم من أهل السنة؛ لأن ذلك لا يُشترط أن يكون على سبيل المُقابلة لمكرهم، وإنما يكون بمن يستحق ذلك أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف:99] هنا ما ذكر مكرهم، يعني لم يذكره في مقابل مكرهم، لكن وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [النمل:50] هنا في مقام المُقابلة.

والاستهزاء ذكره في مقابل استهزاءهم إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ۝ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:14-15] فالمقصود أن هذا كله من الصفات الفعلية الثابتة لله التي لا تُثبت على سبيل الإطلاق، فيقال: الله مُستهزئ، الله ماكر، ونحو ذلك، لا يقال هذا، وإنما يقال: الله - تبارك، وتعالى - يمكر بأهل الشر، والفساد، والنفاق، والكفر، ويمكن بالماكرين، والله يستهزأ بهؤلاء المُستهزئين، من الكفار، والمنافقين، فهذا القول الأول الذي ذكره.

"وقيل: يُملي لهم بدليل قوله: وَيَمُدُّهُمْ [البقرة:15]" يُملي لهم يعني يزيد في الآجال، والأعمار، وأيضاً في العطاء الدنيوي، فيبقون على كفرهم، وضلالهم، ونفاقهم، ويستمرئونه؛ ولهذا يقولون: إذا رأيت الله يُعطي العبد، وهو على غير استقامة، وطاعة، فإن ذلك يكون من قبيل الاستدراج وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183] فسمى هذا الإملاء كيداً، يعني: هو من كيده بهم، وهكذا هنا: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] "قيل: يُملي لهم، ولكن هذا يُمكن أن يُفسر به: الكيد؛ لأن الكيد هو مكر خفي، وإيصال الضرر بطريقة خفية، فلا يقال: بأن الاستهزاء هو الإملاء لهم، هذا يمكن أن يُفسر به الكيد.

يقول: "وقيل: يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزاء بهم، كما جاء في سورة الحديد ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]" لا نحتاج إلى أن نقول: يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزاء، بل نقول: يستهزأ بهم.

"وذلك أنه أجرى لهم في الدنيا ما للمؤمنين" أجرى عليهم أحكام أهل الإيمان، فيأخذون من الغنيمة إذا شهدوا المعركة، ويأخذون من الفيء، ونحو ذلك، وتُقبل منهم كلمة التوحيد، ويُعاملون في الظاهر على أنهم من جُملة المسلمين، هذا في الدنيا، فإذا كان في الآخرة ميز الله بين الفريقين، فهنا ينطفأ نورهم، ويُضرب بينهم، وبين أهل الإيمان بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، عندها يُدركون، وينادون أهل الإيمان: ألم نكن معكم، فيظنون أن ذلك يجري لهم في الآخرة، وكذلك أيضاً في الدنيا كانوا يحلفون لأهل الإيمان إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ۝ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون: 1-2]، وقاية، تُرس فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المنافقون:2] صدوا أهل الإيمان، صدوا عن اتباع الرسول ﷺ صدوا عن الجهاد في سبيل الله، هذا كله بمعنى صد المتعدية، وصدوا في أنفسهم، فلم يكونوا على اهتداء، فهذا صد اللازمة، فصد تأتي لازمة، ومُتعدية، والقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهم بهذه المثابة، يحلفون فيُقبل ذلك منهم في الدنيا، فإذا جاءوا في الآخرة يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة:18] يبعثهم الله جميعاً: يجمع أجزاءهم التي تفرقت، وتحللت في الأرض، أو يجمع المنافقين جميعاً، أي يُحشرون مجتمعين، فيحلفون له، الفاء تدل على التعقيب المُباشر، يظنون أن الآخرة مثل الدنيا، أنهم إذا حلفوا قُبل منهم، فيحلفون له كما يحلفون لكم، هم في ذلك كله يظنون أن ذلك يجري على الله - تبارك، وتعالى - ويحسبون أنهم على شيء، فهذا الذي - والله أعلم - أنه يُفسر به قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] بما أجرى لهم ما يكون للمؤمنين في الدنيا، ثم بعد ذلك يحصل التمييز بينهم، وبين أهل الإيمان في الآخرة اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] فيغترون بهذا الذي عُملوا به في الدنيا، وقُبل منهم، فإذا جاءت الآخرة حصل الميز، والفرق بين أهل الإيمان، وأهل النفاق، فيلقون في النار، بل في الدرك الأسفل من النار.

"وَيَمُدُّهُمْ [البقرة:15] يزيدهم، وقيل: يُملي لهم، وقد ذكر يعمهون".

"وَيَمُدُّهُمْ [البقرة:15] يزيدهم، وقيل: يُملي لهم" الإمداد غير الإملاء، لكن الإملاء له نوع ارتباط بالإمداد، فالإمداد إذا كان في المدة، والبقاء، فهذا هو الإملاء، يُملي لهم: يُمدهم، والمدد يكون بالعطاء، أو بما يحصل به الإمداد شيئاً بعد شيء، يقال: المدد من الجيش، ومن المقاتلين، والمدد من الطعام، والشراب، والمدد من النصر، والإعانة، والتوفيق، ونحو ذلك، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ [البقرة:15] فهم حيث ينغمسون في الطغيان، ويتجاوزون الحد، ومع ذلك الله - تبارك، وتعالى - يُعطيهم من أسباب القوة، ويُعطيهم من أسباب التمكين المُؤقت، الذي يغترون به، ويعطيهم من الأموال، والأولاد، والعافية في الأبدان ما يحصل معه الإغراق في ضلالاتهم، والاستمرار عليها، بحيث أن الواحد لا يُراجع نفسه؛ وذلك أن المصائب من شأنها أن تُذكر الإنسان، وأن تُعيده إلى رُشده، وصوابه، فينظر فيما هو عليه من الحال، والعمل، أما هؤلاء فهم في غي، ومع ذلك في نعمة، وعافية، ورغد وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون: 4] فهي أجسام من الواضح أنها مُنعمة مُترفة، وليس فيها شحوب، ولا يبدو عليها آثار الضعف، والسهر، أو الاعتلال، وإنما هي في غاية الراحة، والنعمة، فالنعيم يظهر على وجه الإنسان، سواء كان هذا النعيم من النعيم المادي، أو كان ذلك من نعيم القلب، فنعيم القلب يظهر بالإشراق، والنعيم المادي يظهر بما يبدو على بشرة الإنسان، وهيئته، وصورته من الجمال، ونظارة الظاهر، وما إلى ذلك بسبب الرغد، والراحة، والنعمة، كما يقول الشاعر يصف مترفةً:

لو دب ذرٌ فوق ضاحي جلدها  لأبان من آثارهن حدورُ[3]

يقول: لشدة رقة الجلد، ونعومته لو دب ذر فوق ضاحي جلدها، ظاهر الجلد؛ لأبان من آثارهن حدورُ، فتظهر آثار الذر لو مشت عليه؛ لصفاء هذا الجلد، ونقاءه، ورقته، لكن الإنسان الذي يكون في عمل، وعناء، وكد في طلب العيش، ونحو ذلك من فلاحة، ونحوها، لربما كانت اليد غليظة، وآثار الشمس ظاهرة.

قال: "وقد ذكر يعمهون" الإمداد هنا المقصود به: أي يزيدهم على وجه الإملاء، والترك لهم في عتوهم، وتمردهم، كما يقوله ابن جرير [4] - رحمه الله - وغيره.

والعمه: المقصود به الضلال وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] يعني: في ضلالهم، وكفرهم يترددون، حيارى، ضُلالاً - نسأل الله العافية - لا يجدون إلى المخرج سبيلاً، فأصل العمه: التردد في الأمر، والتحير فيه، كما مضى في الغريب، وهذا هو السر في بقاء كثير من أهل النفاق، والضلال على حالهم، هو الإمداد، والمكر الذي يمكره الله بهم، فيبقون على باطلهم، وضلالاتهم، وحربهم على دين الله - تبارك، وتعالى - وأهل الإيمان، ومع ذلك يحصل لهم من العطاء المادي ما يحصل به الاغترار، حتى يموت الواحد منهم، ويوافيه، وهو على حاله التي كان عليها. 

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجاً برقم: (187).
  2.  البيت بدون نسبة في مفتاح العلوم (ص: 424).
  3. البيت بدون نسبة في العين (3/179)، ونسبه في أساس البلاغة (1/174)، وتهذيب اللغة (4/236) لعمر بن أبي ربيعة.
  4. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (1/320).

مرات الإستماع: 0

الله -تبارك وتعالى- يقول في جملة ما وصفهم به: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [سورة البقرة:14] فهؤلاء إذا قابلوا أهل الإيمان قالوا آمنا، يُخبرون عن إيمان لا حقيقة له، لكنهم إذا رجعوا إلى شياطينهم من مردة الكفار أكدوا لهم أنهم ما زالوا على غيهم وضلالهم وكفرهم، وإنما كانوا يقولون ما قالوا سُخرية واستهزاء بأهل الإيمان إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.

فتأمل هذه الآية حيث إن التعبير فيها جاء في الخطاب الذي يوجهونه إلى أهل الإيمان قَالُوا آمَنَّا وحينما خاطبوا إخوانهم من هؤلاء المردة والشياطين من الكفار قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ فحينما خاطبوا أهل الإيمان لم يؤكدوا هذا الخطاب، وإنما جاءوا به هكذا خبرًا مُجردًا آمَنَّا لكن حينما خاطبوا شياطينهم أكدوه إِنَّا مَعَكُمْ مع أن المُتبادر لأول وهلة لدى السامع أن يقول: إنهم بحاجة إلى أن يؤكدوا كلامهم مع أهل الإيمان، يقولون للمؤمنين: إننا آمنا؛ لأنهم يدعون دعوة كاذبة، فيحتاجون إلى تأكيد كلامهم، وأما إذا رجعوا إلى شياطينهم فيكفي أن يقولوا لهم نحن معكم، ولا يحتاج إلى أن يقولون أكثر من ذلك مما يؤكدون به الكلام، "إنا" يعني إننا معكم، وإن هذه تفيد التوكيد هي بمنزلة إعادة الجملة مرتين، كأنهم يقولون لهم نحن معكم نحن معكم، وهؤلاء الشياطين يعلمون أنهم معهم، وقد ذكر بعض أهل العلم ملحظًا في ذلك: أن هؤلاء لحذقهم في التمثيل والتصنع، ولعب الأدوار فهم يظهرون بصورة أهل الإيمان بطريقة لربما تجعل إخوانهم من المردة والشياطين يتصورون أنهم فعلاً دخلوا في الإيمان، فاحتجوا إلى أن يؤكدوا لهم أنهم إنما يفعلون ذلك سُخرية واستهزاء، ويقولون: اطمئنوا نحن نستهزئ فقط، وإلا فإننا معكم أكدوا لهم؛ لأن هؤلاء دخلهم الريب حينما رأوا هذا الحذق في التمثيل.

فهؤلاء أهل النفاق كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "المنافق يستطيع أن يبكي بعين واحدة، ثم يوقفها ويبكي بالعين الثانية"، يعني: لديه قدرة عجيبة في التصنع والتمثيل، وإظهار ما ليس في باطنه، وما لا يكون عليه اعتقاده.

هكذا جاء هذا اللفظ مُغايرًا فيه بين الخطابين، خطاب أهل الإيمان: "آمنا" بلا تأكيد؛ لئلا يدخل شيء من الشك والريب في نفوس أهل الإيمان حينما يرون هؤلاء يحاولون أن يؤكدوا صدقهم وإيمانهم، لكن احتاجوا إلى هذا التأكيد مع إخوانهم من الشياطين المردة وقادة الكفر والضلال؛ لأن أولئك دخلهم الريب لما رأوا من هؤلاء من القدرة على الظهور بمظهر أهل الإيمان، فظنوا أنهم آمنوا فعلاً فطمأنوهم وقالوا لهم إنا معكم، إننا معكم إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ إنا معكم، لاحظ أكدوا كلامهم، والله المستعان.

ولاحظ هنا هذه المفارقة في الجُمل، "آمنا"، "إنا معكم"، فخاطبوا أهل الإيمان بالجملة الفعلية "آمنا"، فآمن فعل ماضي، وخاطبوا الشياطين بالجملة الاسمية "إنا معكم"، والجملة الاسمية أثبت تدل على الثبوت فدل ذلك على أن هذا الإيمان المُدعى قصير المدى، أما الكفر فهو الأصل الثابت المُتجذر في نفوسهم إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.

وهذا الإيمان المُدعى لا يتجاوز الأفواه، لا يتجاوز الألسن، فلم يصل إلى القلوب، هو بقدر ما يلتقون بأهل الإيمان، وكذا أيضًا فإن ركونهم إلى هؤلاء الشياطين دائم مستمر، فهو راسخ في نفوسهم إِنَّا مَعَكُمْ يعني: في كل شيء على الكفر والمُحادة لله -تبارك وتعالى- وعداوة أهل الإيمان، إنما ذلك صدر منهم على سبيل الاستهزاء والسُخرية إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [سورة البقرة:14] الاستهزاء بمثل هذه القضايا لا شك أنه يُنبئ عن نفس قد مُلئت بالخُبث والسوء والفساد، وانطوت على الشر والعِناد، فهو يستهزئ بهذه الحقائق الكبرى، قضية الإيمان التي تنبني عليها النجاة؛ ولهذا رد الله -تبارك وتعالى- عليهم بقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فالجزاء من جنس العمل وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:15] فمن استهزائه بهم -تبارك وتعالى: أن الله يُمهلهم، ويُعطيهم، يُعطيهم الأموال والأولاد، ويمد لهم في الأعمار، ويظنون أن هذا من المِنح والفضائل الألطاف، ولم يعلموا أن ذلك هو من قبيل الاستدراك ليزدادوا كفرًا وغيًا، فيزدادوا من الأحمال والأوزار التي يستحقون بها الدرك الأسفل من النار بكل جدارة.

فالمنافقون كما قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء:145] فهم في قعرها، وكما قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [سورة النساء:142] فالله -تبارك وتعالى- يُملي لهم، ويُجري عليهم أحكام الظاهر في الدنيا، فتُحقن دمائهم وتُحرز أموالهم، ثم بعد ذلك يصيرون إلى عذاب الله -تبارك وتعالى- وبأس المصير.

هذا بالإضافة إلى ما يقع لهم في هذه الحياة الدنيا، وقد صور الله -تبارك وتعالى- حالهم، وما هم فيه من القلق الدائم والخوف المُستمر، كما قال الله : يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [سورة المنافقون:4] فهم لأنهم يعيشون على الكذب، ويقتاتون على الكذب يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [سورة المنافقون:4] فهم قلقون دائمًا، فالذي لا يعيش على الصدق يكون في حال من القلق؛ لأنه يشعر أنه سيُكشف في كل لحظة.

فالصدق هو النجاة، وهو الطريق، الصدق مع الله -تبارك وتعالى- والصدق مع الرسول ﷺ والصدق مع الناس، فالصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، فهم يعيشون في خوف مُستمر، والخائف يظن كل نداء يوجه وخطاب، أو آيات تنزل أنها تنزل فيه، وأن هذا النداء، أو الحشد إنما يوجه إليه يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [سورة المنافقون:4] كما قال جرير يهجو رهط الأخطل:

ما زلت تحسب كل شيء بعدهم خيلاً تكر عليهم ورجالا[1]

هذا يصور حال المُنهزم أنه في حال من الذعر والخوف، بحيث إنه إذا رأى شجرة، أو رأى شيئًا ظن أنها خيل يُغير عليه ويُطارده ويُلاحقه.

وآخر يصور حال المُنهزمين يقول:

وضاق الأرض حتى كان هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً[2]

يعني: لو رأى ورقة تطير في الهواء ظن أنه فارس يُلاحقه ويُطارده، هكذا الخائف يتوهم المخاوف في كل شيء، حتى إنه لربما يفزع من ظله إذا رآه، فهؤلاء بهذه الحال في الدنيا، ثم يموت شر ميتة، لا مكارم، ولا فضائل، ولا إنجازات، ولا أعمال صالحة، ولا إيمان، ثم بعد ذلك يصيرون إلى حال في البرزخ لا يُحسدون عليها، ولا يُحمدون، ثم يصيرون بعد ذلك إلى ما وصف الله -تبارك وتعالى- في القيامة حيث ينطفئ النور، ويتخبطون دون الصراط، في ظلمة لا يُبصرون معها شيئًا، فيقولون لأهل الإيمان: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ۝ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [سورة الحديد:13، 14] يعني: في الدنيا، انتظروا نقتبس من هذا النور، فهذا من استهزاء الله -تبارك وتعالى- بهم.

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [سورة البقرة:15] وهذا فيه إثبات صفة الاستهزاء لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته، وهي من الصفات الفعلية الخبرية الثابتة له -تبارك وتعالى- لمن يستحق، فهو يستهزئ بهؤلاء المُستهزئين، يستهزئ بهؤلاء المنافقين الذين يستحقون ذلك.

فدل ذلك أيضًا على أن الاستهزاء بالمُستهزئ الذي يستهزئ بأهل الحق، فإن ذلك الاستهزاء به حينما يحيق به سوء عمله أن ذلك لا يُعاب، الأصل أن الاستهزاء لا يُحمد هكذا بإطلاق، ولكنه إذا كان بمن يستحق بذلك المُستهزئ المُستهتر، فإنه يكون محمودًا.

موسى  لما قال لابني إسرائيل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا تستهزئ بنا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67] فدل ذلك على أن الذي يستهزئ بالناس أنه من الجاهلين، فالمؤمن لا يستهزئ، بل العاقل لا يستهزئ بالناس، ولا يسخر منهم، وإنما يحمد ربه -تبارك وتعالى- على العافية، وقد علمنا النبي ﷺ كيف نقول إذا رأينا المُبتلى؟

فهذا هو شأن أهل الإيمان، ولكن الاستهزاء حينما يوجه لمن يكون مُستهزئًا مُستخفًا بأهل الإيمان، فذلك يكون في موضعه، ولذلك في الآخرة: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [سورة المطففين:34] يضحكون منهم؛ لأنهم كانوا يضحكون منهم في الدنيا، ويسخرون بهم في الدنيا، والجزاء من جنس العمل.

فـ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [سورة البقرة:15] ولاحظ أنه جاء بالفعل المضارع يستهزئ، هم يستهزئون إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [سورة البقرة:14].

فاستهزاؤه -تبارك وتعالى- يتجدد بهؤلاء وقتًا بعد وقت وحينًا بعد حين، فالله يُرسل عليهم من ألوان العقوبات في الدنيا والآخرة ما يكون من مُقتضيات هذا الاستهزاء، كما قلنا مما يحصل لهم في الدنيا من المخاوف والمصائب.

وكذلك أيضًا ما يحصل لهم في الآخرة من انطفاء النور، ثم بعد ذلك يصيرون إلى الدرك الأسفل من النار.

وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة البقرة:15] يعني: كما قال الله : وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة الأعراف:183] فهؤلاء حينما يُعطيهم الله من طول الأعمار ويوسع عليهم في الأرزاق، ويُكثر لهم من الأولاد؛ فإن ذلك يزيدهم غيًا وضلالاً وكُفرًا فيستمرئون ما هم عليه، ويظنون أن ذلك هو الطريق والمسلك الصحيح، فيموتون على هذه الحال السيئة، ولا يرجعون، ولا يرعوون أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55، 56]. 

  1.  العقد الفريد (3/ 72). 
  2.  اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي (ص:1061).