الإثنين 24 / ربيع الآخر / 1446 - 28 / أكتوبر 2024
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُلُوا۟ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ وَٱشْكُرُوا۟ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ۝ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:172 - 173] يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء، والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء، والعبادة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [سورة البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك[1]، ورواه مسلم، والترمذي."ولهذا حمل هذه الآية جمع من السلف كعمر بن عبد العزيز - رحمه الله -، والضحاك، وجماعة على أن المراد بها الكسب الحلال، يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة البقرة:168] المقصود بها الكسب الحلال، وكثير من أهل العلم يحملون هذه الآية على أن المقصود بها الامتنان على خلقه، فهذا الأمر أمر إباحة، وتعرفون أن الأمر كما يذكره الأصوليون يأتي لمعان كثيرة منها الأصل أنه يأتي للوجوب، وقد يكون لمعنىً آخر لقرينة كالاستحباب، والإباحة، ونحو ذلك.
فهنا كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً، على هذا يكون هذا الأمر للإباحة، والامتنان، ولهذا الأصوليون يوردون هذه الآية - وكذلك الفقهاء - في مقام الكلام على أن الأصل في الأشياء الحل، والإباحة، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، والعبادات الأصل فيها المنع، والفروج الأصل فيها المنع، وبعضهم يذكر الذبائح أيضاً يقول: الأصل فيها المنع إلا ما ذبح، أو ذكي بالطريقة الشرعية.
"ولما امتنّ تعالى عليهم برزقه، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، وسواء كانت منخنقة، أو موقوذة، أو متردية، أو نطيحة، أو قد عدا عليها السبع.
وقد خصص من ذلك ميتة البحر؛ لقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ [سورة المائدة:96] على ما سيأتي - إن شاء الله -، ولحديث العنبر في الصحيح[2]، وفي المسند، والموطأ، والسنن قوله في البحر: هو الطهور ماؤه، والحل ميتته[3]، وروى الشافعي، وأحمد، وابن ماجه، والدارقطني حديث ابن عمر - ا - مرفوعاً: أحل لنا ميتتان، ودمان، السمك، والجراد، والكبد، والطحال[4]، وسيأتي تقرير ذلك - إن شاء الله - في سورة المائدة."
فقوله - رحمه الله - هنا: "إلا الميتة"، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، سواء كانت منخنقة، أو موقوذة، أو متردية، يعني بأي سبب ماتت سوى التذكية، حتى ولو كان بفعل الإنسان، فإن ذلك لا يحلها إلا بالتذكية، اللهم إلا ما جاء في الصيد، سواء كان عن طريق الجوارح، والكلاب المعلمة، أو الطيور التي يُصطاد بها، أو كان ذلك عن طريق ما تُصاد به مما يحل أكل ما صيدت به كالسهام، والرماح، ونحو ذلك، وأما ما عدا هذا فإنه لا يحل.
فلو ضرب الصيد بحجر فإنه لا يحل، وكذلك الصبيان مثلاً حينما يضعون الحجر في المقلاع، ويرمون به الطائر فإنه لا يحل؛ لأن هذا من قبيل الموقوذة التي رميت بحجر، وكذلك لو صدمه بالسيارة، أو نحو هذا، وسيأتي في آية المائدة - إن شاء الله -، ووجه الاستثناء في آية: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] يعني هل هو يعود إلى المذكورات حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ [سورة المائدة:3]. ..؟ وهل الموقوذة، والمتردية، والنطيحة إذا أدركت، وهي في حال النزع فذكيت هل تحل؟ أو أن ذلك الاستثناء منقطع؟ يأتي - إن شاء الله - تفصيل هذا.
"مسألة: ولبن الميتة، وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي، وغيره."هذه المسألة جاءت استطراداً، ولو حذفها المختصِر، وأبقى على ما يتعلق بتفسير الآيات فقط لكان أولى، أو ذكرها على الأقل عند الكلام على آية المائدة مثلاً، أو عند: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [سورة الأنعام:145].
يقول: "لبن الميتة، وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي، وغيره"؛ لأنه جزء متولد منها، أما بالنسبة للبن فواضح، ويكفي أنه في وعاء نجس؛ لأن الميتة من الأعيان تصير عيناً نجسة، فهذا الوعاء نجس، واللبن شيء قليل من شأنه أن يتغير بهذا الوعاء النجس.
وأما بالنسبة للبيض فقال: "عند الشافعي، وغيره" مع أن هذا عند الشافعي، ولكن في مذهب الشافعية يُفرق بالنسبة للبيض بين ما كان قشرته صلبة فإنه لا ينجس؛ لأن النجاسة لا تصل إليه، فصار في حكم المنفصل فيجوز أكله، لذا قال: "لأنه جزء منها".
والمالكية، يقولون: البيض سواء كان قشره بلغ حال الشدة، والصلابة، أو لم يبلغ فإنه لا يؤكل؛ لأنه جزء منها.
وتعرفون الذي سأل عمر بن الخطاب فقال: "ما تقول في رجل وطأ دجاجة ميتة فخرج منها بيضة، ففقست فرخاً، فهل هذا الفرخ الذي صار دجاجة نجس أم طاهر؟ يحل أكله، أو ما يحل أكله؟ فقال: من أين أنت؟ قال: من العراق، قال: فعل الله بأهل العراق كذا كذا، يعني أنه سؤال متكلف.
"وقال مالك في رواية: هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة."يعني هو طاهر بنفسه لكنه تنجس بسبب أن هذا الوعاء النجس صار ظرفاً له، وفرق بين قول الإمام مالك، وبين المذهب، وقول الشافعي، والمذهب، وقول الإمام أحمد، والمذهب، وإلا فالأحناف يرون حتى اللبن - لبن الميتة - طاهرا فضلاً عن البيض.
"وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف."بكسر الهمزة (إنفحة)، ويقال أيضاً بتشديد الحاء (إنفحّة)، وإنفحة الميتة معروفة، فالعجل الصغير قبل أن يأكل العشب، وما في معناه، وما زال يرضع من أمه فقط، فإن هذا الوعاء الذي هو بمنزلة المعدة، أو الكرش قبل أن يصير كذلك يؤخذ فيجبن به، يوضع في اللبن فيساعد على تحويله إلى مادة أخرى، وهي الجبن، فإذا أكل العشب هذا الجدي، أو العجل الصغير فإن ذلك الوعاء يتحول إلى كرش يصير شيئا آخر، فإذا كان العجل ميتاً مثلاً، وأخذ منه تلك المادة فهي نجسة بطبيعة الحال، لكن إذا وضعت في الحليب، وتحولت إلى جبن هل يحل أكله، أو لا يحل؟ وتعرفون أن هذه المسألة مسألة مطروقة، والصحابة   لما ذهبوا إلى فتوح العراق، وفارس نُقل عنهم أنهم أكلوا من تلك الأجبان في تلك البلاد المفتوحة، مع أنهم يصنعون الجبن بهذه الطريقة، فعلل ذلك بعض أهل العلم بأن هذا شيء يسير يوضع في الحليب فلا يحصل به تغير بسبب النجاسة، والكلام في هذه المسألة ليس هذا موضعه، لكن ابن كثير - رحمه الله - تطرق لها هنا.
"وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف، والمشهور عندهم أنها نجسة، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس، فقال القرطبي في التفسير هاهنا: يخالط اللبن منها يسير، ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع، وقد روى ابن ماجه عن سلمان : سئل رسول الله ﷺعن السمن، والجبن، والفراء..."ما الفرق بين الجُبُن، والجُبْن؟
الجُبُن: المأكول، والجُبْن: الخوف، بضم الباء هو المأكول، وبالسكون هو الضعف عن المواجهة، أي: الجبان.
"فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه[5]، وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير، سواء ذكِّي، أو مات حتف أنفه، ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليباً..." يعني أن الخنزير لا تطهره الذكاة، وكذلك كل السباع، وما يحرم أكله فإن الذكاة لا تؤثر فيه شيئاً، فسواء ذكي، أو مات حتف أنفه فالأمر في ذلك سيان.
الفرق بين الموت حتف أنفه - بهذا القيد -، وبين الذكاة، الذكاة تكون بالطريقة الشرعية، ويلحق بها ما في حكمها كالصيد، وكذلك أيضاً ما ندَّ من البهائم التي ليست هي وحشية في أصلها، وكذلك مثلا لو أن الدابة - البعير مثلاً - سقط في بئر، ولم يتبين منه إلا دبره - الجزء الأخير منه -، والباقي في البئر، كيف يوصل إلي هذا، وهو ما مات؟
طالب:.......
لا، ما هو بالشوزن، الآن هو في البئر، وأنت تستطيع الوصول إليه، لكن لا تستطيع نحره؛ لأن رقبته، ومقدمه داخل في البئر، وقد ملأ البئر، ولا تستطيع أن تصل إليه، فماذا يُصنع به؟ يمكن أن يتوصل إلى إزهاق نفسه من آخره فيكون ذلك مستثنى.
ولو ندّ البعير - هرب -، ولم يمكن الوصول إليه إلا عن طريق الرمي يُؤكل، أو ندت شاة فرميت في قلبها، أو في كبدها فماتت تُؤكل.
"ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليباً، أو أن اللحم يشمل ذلك، أو بطريق القياس على رأي."هذه صور ثلاث في المسألة.
الله يقول: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145] فالمحرم هو لحم الخنزير، طيب، والشحم؟ بعض أهل العلم يقول: يلحق به قياساً لعدم الفارق، ولكن هل هذا يحتاج إلى قياس؟ أو أن اللحم في كلام العرب إذا أطلق فإنه يصدق على الأبيض، والأحمر، يعني الشحم، واللحم، فكل ذلك يقال له: لحم، إذا أطلق دخل فيه هذا، وهذا، وهذا هو الأقرب، فهو ليس من باب القياس.
يقول: "إما تغليباً" تغليباً بمعنى أنه ذكر اللحم لأنه هو الغالب، أي أكثر في البهيمة، وهو المقصود أصلاً فذكره تغليباً، لكن الأقرب - والله أعلم - أن اللحم في كلام العرب يطلق على هذا، وهذا، وهذه المسألة تجدون فيها كلاماً، ومناقشات بين بعض الفقهاء، وبين الظاهرية، ولعله يأتي - إن شاء الله - عند الكلام على قوله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145].
"وكذلك حَرَّم عليهم ما أهِلَّ به لغير الله، وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب، والأنداد، والأزلام، ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له."الإهلال أصله: رفع الصوت، ومنه الإهلال بالتلبية، فصار ذلك يقال عند الذبح، أو النحر؛ لأنهم يذكرون أسماء آلهتهم عند ذبح هذه البهائم، والدواب، يذبحونها لهذه للأصنام، فقيل له: إهلال، فصار ذلك يطلق، ولو كان من غير رفع الصوت، يقال: أهل به لغير الله، حتى لو لم يتكلم بشيء لا في سره، ولا في نطقه، ولكنه نوى أن تكون هذه لغير الله فإنه يحرم أيضاً أكلها، وإذا ذكر غير اسم الله فإنه يحرم أكلها من باب أولى، فصار عندنا - فيما أهل به لغير الله - ثلاث صور، وكلها داخلة في التحريم من حيث الحقيقة.
"وأورد القرطبي عن عائشة - ا - أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين، فقالت: ما ذُبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم." معناه أن هذه الذبائح لا يحل أكلها لكن غير الذبائح لو صنعوا طعاماً آخر كالحلوى، أو الكيك، أو نحو هذا بمناسبة العيد فهل يؤكل هذا، أو لا يؤكل؟ أو أقاموا سوقاً بهذه المناسبة هل يجوز الشراء منه، أو لا يجوز؟ هي مسألة معروفة، وأظن مر بنا طرف منها في اقتضاء الصراط المستقيم، فبعض أهل العلم يفرق بين الذبائح، وبين المطعومات الأخرى، وذكرنا - في ذلك الحين - أنه إذا فهم أن ذلك من مشاركتهم، أو أن فيه نوعا من المشاركة لهم، أو الإقرار على أعيادهم فإن الإنسان قد يمتنع من الأكل، والقبول لهديتهم بتلك المناسبة، وما أشبه ذلك.
طالب:......
كيف؟
طالب:......
ليس هذا محل اتفاق، ولاحظ كلام عائشة - ا -: "وكلوا من أشجارهم" يعني المقصود لو جاءوا بشيء صُنع من البر، أو الذرة، أو نحو هذا، وليس المقصود: امسكوا شجرهم، وكلوا من الثمر، والمسألة على كل حال ليس هذا موضعها، الأصل في التفسير هنا أن نتكلم فقط على ما يتعلق بالآيات.
"ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة، والاحتياج إليها، عند فقد غيرها من الأطعمة، فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ [سورة البقرة:173] أي: في غير بغي، ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:173] أي: في أكل ذلك، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:173]، وقال مجاهد: فمن اضطر غير باغٍ، ولا عادٍ قاطعاً للسبيل، أو مفارقاً للأئمة، أو خارجاً في معصية الله فله الرخصة." قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ [سورة البقرة:173] الاضطرار معروف، ومعناه: أن يشرف على الهلكة، وليس مجرد الجوع الذي يستطيع معه الصبر من غير لحوق التلف، أو الضرر الشديد الذي يشرف به على الهلكة.
غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ [سورة البقرة:173] في غير بغي، ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد فلا إثم عليه، مجاوزة الحد في ماذا؟ بعض أهل العلم يفسر: غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ أي: غير متجاوز الحد في أكله هذا، كأن يأكل أكثر من الحاجة، أو أن يأكل تشهياً، أو أن يأكل من غير ضرورة، أو أن يلجأ إلى الأكل مع وجود بديل أخف منه، كالذي ما وجد شيئا مذكى لكنه وجد - على خلاف بين أهل العلم - طعاماً لإنسان لم يأذن له به، أو وجد صيداً في الحرم، ووجد ميتة أيهما يقدم؟ هذه مسائل فيها خلاف، مسألة الصيد بعض أهل العلم يقول: لا يُقْدم على الصيد؛ لأن الله أباح الميتة مطلقاً للمضطر، والصيد حُرم على الإنسان إذا كان محرماً، أو كان في الحرم - وإن لم يكن محرماً -، فقالوا: هذا ألصق به، وأعلق، وأخص، فلا يقرب الصيد، هذا قول لبعض أهل العلم، وبعضهم قال: يُقْدم على الصيد.
لكن لو وجد طعاماً لإنسان لم يأذن به هل يُقْدم عليه، أو يُقدِّم الميتة؟ يُقدِّم طعام هذا الإنسان إلا إذا كان ذلك سيؤدي إلى تهمة له بالسرقة، وقطع يده.
المقصود أن الإنسان لا يُقْدم على الميتة إلا في حال الاضطرار، ثم إن الضرورة تقدر بقدرها غَيْرَ بَاغٍ [سورة البقرة:173].
وإذا أبيح له الميتة فهل له أن يأكل حتى الشبع؟ وهل له أن يأكل ذلك تشهياً يقول: فرصة آكل حتى أشبع؟ الضرورة تقدر بقدرها.
وقد يظهر بغيه، وتجاوزه، وتعديه ببعض تصرفاته، كما لو أنه جلس يصنع هذه اللحوم بطرق يتفنن فيها، هذا حال إنسان مضطر؟! يقول: ما دام أنه أبيحت الميتة أنا سأصنع كبابا عراقيا، وكبابا إيرانيا، وأفعل من ألوان هذه الأشياء التي أراها في لوحات الشوارع، هذا متجاوز للحد.
كما لو أبيح له التصوير مثلاً لضرورة، ويوم جاء يتصور، وهو ليس من عادته أن يلبس الزر، أو العقال، فذهب، ولبس عقالا، وضبط نفسه، ومشط لحيته، وركب أزاريره، وربما لبس معها ثوب زينة، وجاء في أبهى صورة، فهل هذا يعتبر مضطراً؟! ما هو مضطر، هذا صار عنده بغي.
"ولا عادٍ" أي: ما لم يكن عاصياً في سفره كقاطع الطريق، ومن خرج على الإمام، وما شابه ذلك؛ لأن هذه الرخصة صار من شأنها أن تعينه على باطله، وظلمه، ومعصيته، بناءً على أن العاصي لا يترخص بالرخص، مثل مسألة القصر هل للعاصي في سفره أن يصلي الصلاة قصراً، ويجمع بين الصلاتين أم لا؟ هذه مسألة خلافية.
"ومن خرج باغياً، أو عادياً، أو في معصية الله فلا رخصة له، وإن اضطر إليه، وكذا روي عن سعيد بن جبير، وقال سعيد - في رواية عنه -:  وعن مقاتل بن حيان: غَيْرَ بَاغٍ [سورة البقرة:173] يعني: غير مستحله، وعن ابن عباس - ا - غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ قال: غَيْرَ بَاغٍ في الميتة "وَلا عَادٍ" في أكله، وقال قتادة: فمن اضطر غير باغ، ولا عاد قال: غَيْرَ بَاغٍ في الميتة أي في أكله، أن يتعدى حلالاً إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة."هذا - كما مثلت - كمن يجد شيئا يسد به الرمق لكنه يقول: لا، أنا أريد أكل لحم، طيب عندك هذه الأشياء من النباتات، وتستطيع أن تستغني بها الآن! قال: لا، أنا أريد لحما، فمثل هذا يعتبر باغيا، كذلك إذا أكله تشهياً، فالباغي قد يكون من صوره: الأكل فوق الحاجة، أو أن يأكله تشهياً، أو نحو ذلك، والعادي على قول بعضهم: هو الذي يأكل، ويجد مندوحة عنه، يجد شيئاً آخر.
على كل حال ابن جرير الطبري - رحمه الله - يحمله على جميع هذه المعاني، "غير باغ، ولا عاد" سوى الخارج في المعصية فإنه لا يقول به، يقول: رخصة من الرخص، لا يستثنى منها أحد، لكن "غير باغ، ولا عادٍ" أن يأكل، وهو يجد مندوحة، أو أن يأكل فوق الحاجة، أو أن يأكل في غير حال الاضطرار، أو أن يأكل تشهياً، وتلذذاً بهذا الأكل، أو نحو ذلك من الصور التي تدل على أن هذا الإنسان باغٍ، أو عادٍ.
"مسألة: إذا، وجد المضطر ميتة، وطعام الغير بحيث لا قطع فيه، ولا أذى فإنه لا يحل له أكل الميتة." على كل حال وجد مضطر ميتة، وطعام الغير، هذا يأكل منه؛ لأنه في حال الاضطرار، وهو أولى من الميتة إلا فيما يلحقه فيه هذه التهمة، وأطال بنا الكلام على هذا، وأنا وهمت حينما قلت: ليس هذا موضعه، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ [سورة البقرة:173]، وهو يتكلم على هذه الآية، فهذا من المواضع الذي يذكر فيها الكلام على هذه الأشياء، لكن يؤخذ من منهج ابن كثير - رحمه الله - أنه يتطرق إلى الأحكام الفقهية، ولو أن المختصر ترك هذا، واقتصر على تفسير الآيات ربما يكون أنسب - والله أعلم -.
"بل يأكل طعام الغير بلا خلاف، روى ابن ماجه عن عباد بن شرحبيل الغبري قال: "أصابتنا عاماً مخمصة فأتيت المدينة، فأتيت حائطاً، فأخذت سنبلاً ففركته، وأكلته، وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني، وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله ﷺ فأخبرته، فقال للرجل: ما أطعمته إذ كان جائعاً، أو ساغباً، ولا علمته إذ كان جاهلاً[6]، فأمره فرد إليه ثوبه، فأمر له بوسق من طعام، أو نصف، وسق" إسناده صحيح قوي جيد، وله شواهد كثيرة."على كل حال هذا الرجل أكل في حال الاضطرار فهذا لا إشكال فيه، لكنه أخذ أيضاً في كمه، وتعرفون الحديث: غير متخذٍ خُبْنةً[7]، فإذا كان مضطرا يأكل ما يسد به الرمق لكن ليس له أن يحمل معه من هذا الطعام، ويتزود.
ولذلك مسألة الميتة تكلم العلماء فيها، هل يحمل معه شيئا منها، أو لا؟ وهل يتخير؟ يقول: ما دام أن الميتة مباحة الآن أنا أحب لحمة الكتف، أو الظهر؟!
"من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : سئل رسول الله ﷺ عن الثمر المعلق، فقال: من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خُبْنةً فلا شيء عليه [8]... الحديث." الثمر المعلق: كان يؤتى بالعذق، ويوضع في مكان في سقيفة، أو نحو ذلك فيأكل منه أهل الحائط، أو أهل البيت، أو نحو هذا، فإذا جاء إنسان، وأخذ منه غير ما بذل للناس صدقة كالذي كان يؤتى مثلاً به لفقراء المسلمين لأهل الصفة، فيأكلون منه، حتى جاء النبي ﷺ مرةً فرأى عذق شيص، فقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة[9]، فهذا يوضع صدقة يؤكل منه بلا إشكال، لكن الكلام فيما ليس ذلك، في الذي ما بُذل من أجل الناس.
"وقال مقاتل بن حيان في قوله: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:173] فيما أكل من اضطرار."يعني فيما أكل من اضطرار ما فيه إشكال.
"وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام، رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار، وعن مسروق قال: من اضطُرَّ فلم يأكل، ولم يشرب، ثم مات دخل النار، وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة."هذا هو الراجح، وهذه المسألة تذكر في التروك، هذا الإنسان ما قتل نفسه بيده، ولكنه ترك شيئاً من شأنه أن يفضي به إلى الهلكة، فإنه يكون بذلك متسبباً، وهل يدخل فيه بعض الصور مثل لو ترك العلاج حتى مات؟ الجواب: لا، هذا يختلف عن هذا؛ لأن حصول الشفاء بتعاطي هذا العلاج مظنون أصلاً، بينما الأكل الأمر فيه يختلف، فيجب عليه أن يأكل، وسبق الكلام في مراقي السعود في مسائل الترك هل يُعد من الأفعال؟
فكفنا بالنهي مطلوب النبي له فروع ذكرت في المنهجِ
له فروع ذكرت في المنهجِ وسردها من بعد ذا البيت يجي
من شربٍ أو خيط ذكاةٍ فضل ما وعمد رسم شهادة وما
عطل ناظر وذو الرهن كذا مفرط في العلف فادر المأخذا
وكالتي ردت بعيب وعدم وليها وشبهها مما علم
يعني لو أن شخصاً في شدة العطش، وشخصاً آخر عنده ماء، ورفض أن يعطيه من فضل ماءٍ عنده، فهل يعتبر هذا قتلا له؟ تسبباً بالقتل؟ يضمن، أو لا؟ ولو جُرح، واحتاج إلى خيط يخيط به الجراح فأبى أن يعطيه فمات؟ ولو أن البهيمة تعافس الموت فقال: أعطني هذه السكين التي معك لأذكيها قبل أن تموت حتف أنفها حتى نستفيد منها فأبى فماتت فهل يضمن؟ وهكذا لو قال له: أعطني الخشبة التي عندك الزائدة أريد أن أرفد بها البيت الذي سيطيح، فأبى، فسقط السقف هل يضمن، أو لا؟ فهنا لو تخلى عن الأكل في حال الاضطرار، ومات، فما الحكم؟
طالب:......
بنك البلاد أنا لم أطّلع على برامجهم مفصلة، وعدد من الإخوة، وعدني أن يأتي بها، وما رأيتها، والذي وصلني كلام مجمل أنهم يلتزمون بالمعاملات الإسلامية، وأن عندهم لجنة، وسموها، وهذه اللجنة لا يمرر شيء إلا عن طريقها، وهي لجنة لا تعرف بالتساهل، فبهذا الشكل المجمل لم أرَ شيئاً محظوراً، ولا أستطيع أن أحكم، مع أني أتخوف من كثير من المعاملات التي يسمونها إسلامية، وهي لفة، وحيلة على الربا، ولا أدري هل هؤلاء سيفعلون هذا، أو لا؟ وبالتالي لا نستطيع أن نقول للناس: لا تساهموا، أو هذا حرام، ونحن ما رأينا شيئا، والأصل في المعاملات الحل.
فلو أن إنساناً اشترى فإذا بدا تبادل الأسهم، ووجدت للبنك أشياء من مبانٍ، أو أي أمور أخرى غير السيولة، فعند ذلك يجوز بيع الأسهم.
والعجيب من تهافت الناس عليه، أنا أول الأمر كنت أظنه أنه يشتري له بخمسة ملايين، بعشرة ملايين، فتبين أنه أربعة أسهم، وخمسة أسهم ما تساوى تشغيلة السيارة للبنك، ويشغلون الناس، حتى إنني أصبحت لا أرد على الجوال، والناس في هذه الأيام ما لهم سؤال إلا عن هذا البنك، في البداية كنت أحسبه شيئا يستحق، وهو فتات الفتات، أربعة أسهم، أو خمسة لا تساوي الذهاب إلى البنك، أو رفعة السماعة، وماذا يجنون من ورائه؟ لو افترضنا أن السهم يربح فيه ألفا بدل خمسين ريال، ماذا يفيدك هذا المبلغ الذي ما يسدد الفواتير، سبحان الله! شيء عجيب حرص الناس على هذه الدنيا.
شيء غيره؟
طالب:......
يأكل المحتاج، ولا يأكل غير المحتاج.
طالب:......
كيف؟
طالب:......
استعمل في غير الأكل قصدك الخنزير؟
طالب:......
تكلم الفقهاء على بعض المسائل في الخنزير مثل شعر الخنزير هل يخرز به، أو لا؟ أجاز بعض أهل العلم أن يُخرز به.
على كل حال النجاسة تنتقل بالرطوبة، فإذا قلنا: الخنزير كله نجس، فالنجاسة لا تنتقل بالجفاف، تنتقل بالرطوبة، فإذا قلنا مثلاً: يخرز به فعرقت الرجلُ، أو ابتلّ النعلُ، أو الرجلُ، تصل النجاسة بهذا الاعتبار على القول بهذا؛ لأن كله نجس.
لكن هذه المسألة هل شعر الخنزير نجس، أو لا؟ هي على كل حال باعتبار أن الشعر له حكم المنفصل.
طالب:......
هذه مسألة ثانية، وهي استخدام شحم الخنزير، أو أجزاء منه في أمور لا تؤكل كالعلاج، مما يسمى الاستعمال الخارجي، فهل يجوز استعمال هذه الأعيان النجسة في الأمور الخارجية، أو لا؟ هذه المسألة محل بحث، ونظر.
ابن عمر  لما ذكرت له الخمر، وأنه يعالج بها، قال: "لا أضعه على قرحة في دبر حماري" فمثل هذه الأشياء التي حرمها الله إذا وضعت في مركبات أدوية كالمراهم، ونحوها، أو أدوات التجميل، أو غيرها هل يحل استعمالها، أو لا؟.
فإذا قال الله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [سورة المائدة:3] فهنا لا بد من مقدر؛ لأن الأعيان لا يتعلق بها الحكم، فما هو المقدر؟ حرم عليكم أكل الميتة، أو الانتفاع بالميتة؟ وتعرفون حديث ميمونة، والحديث الآخر أيضاً - الذي فيه كلام -، وهو قوله: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب[10] مع قوله ﷺ: هلا انتفعتم بجلدها[11] إنما حرم أكلها أيضاً، وأشباه ذلك.
فالمقصود أن من أهل العلم من يقول: طالما أنها حرمت فيحرم جميع أنواع الانتفاع بها إلا ما دل الدليل على استثنائه كالجلود مثلاً، والفقهاء تكلموا على مسألة طلاء السفن بشحوم الميتة.
طالب:......
في الأشياء الخارجية ذكرت لكم كلام ابن عمر، وليس ذلك محل اتفاق في الأشياء الخارجية، وبالتالي فإن هذه الخمرة لو استعملت في أشياء مثل الطيب، أو في تركيبات كثير من الأمور هي مسكرة، منها ما هو من نوع السموم تقتل، ومنها ما يسكر دون أن يقتل، وهذه الأشياء التي تسمى الكحول هي أنواع عند أهل الاختصاص، وليست نوعاً واحداً، بل منها ما إذا تعاطاه الإنسان مات، ومنها ما ليس كذلك، الأطباء يعرفون هذا، ويفرقون بين هذه الأمور.
فالمقصود لو قلنا: إنه يحرم استعمال الخمر حتى في غير الشرب؛ لأن الله قال: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] هل اجتنبوا شربه، وتعاطيه على وجه الإسكار؟ يعني الشرب، وما يقوم مقامه كالشم، وغيره، هل هذا هو المقصود، أو المقصود اجتنبوه مطلقاً؟ فإذا قلنا: اجتنبوه مطلقاً فمعناها أن الأطياب التي فيها الكحول لا يجوز استعمالها.
غير مسألة النجاسة فالأقرب أنه ليس بنجس عيناً، لكن الأطياب التي فيها هذا الكحول ما يجوز استعمالها على هذا الاعتبار، وأيضاً كل ما ركب منه، البنزين مسكر فهل نقول للناس: تعبئة البنزين حرام، ونستبدله بالطاقة الشمسية، أو بطريقة أخرى؟! أنا ما أقول: إن البنزين حرام، أنا بهذا أصور المسألة، وما يلحق الناس فيها من حرج لو قاله قائل، فالأصباغ، والغراء، وكثير من الأشياء يدخل في تركيبتها الكحول.
طالب:.......
ليس ذلك بالضرورة في الأشياء الخارجية، هل يدل عليها الحديث ضرورة؟ "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم"[12]، هذا المنحى ممكن أن يحمل عليه مثل ما جاء عن ابن عمر، لكن هذا هل هو محل اتفاق؟ الجواب: لا، والناس يسألون كثيراً عن الحشيشة، يقولون: زيت الحشيش يباع أظنه بأكثر من مائتي ريال عند العطارين، يقولون: إنه ينمي الشعر، ويكثفه، وينبت الشعر، هذا دائماً الناس يسألون عنه، مع أنه صدر بيان من وزارة التجارة يقولون فيه: إنه أجريت تحاليل على هذا المنتج فوجدوا أنه ليس بزيت حشيشة أصلاً، ثم لو فرض أن إنساناً جاء بزيت الحشيش فإنه لا علاقة إطلاقاً بينه، وبين تنمية الشعر، وتغذيته، وتطويله، وتنعيمه، وتكثيفه، ما في أي علاقة بين الأمرين، والعجيب أنك تقول للناس هذا ليس زيت حشيش، وحتى زيت الحشيش ما له علاقة بالموضوع، فيقال: ما يخالف، هل يجوز، أو ما يجوز؟ خلاص المرأة متبرمجة أنها تضع زيت حشيش لأجل أن يصير شعرها مضبوطا.
طالب:......
من أهل العلم من قال: يتزود من الميتة لا ليأكل منها في غير حال الاضطرار، وإنما لو اضطر، وهو يعلم أنه ليس مقبلاً على بلد، أو قرية، أو ناحية يجد فيها الطعام، فهو من باب الاحتياط، فهذا في الميتة له وجه، أما في مسألة الخُبْنة - طعام الغير - فالأمر في ذلك محتمل لكنه أشد؛ لأن الميتة هذه إنما يحرم عليه أكلها لا حملها، أما طعام الغير فهو قد استولى عليه، وأخذه، وأضاع حق صاحبه، فهل يأكل بقدر ما يسد الرمق أم يحمل معه ليأكله إذا احتاج إليه؟ طيب، وإذا ما اضطررت له تكبه، أو تتصدق به بنية؟! نقول: يأخذ بقدر ما يحتاج، - والله أعلم -.
  1. في المسند (ج2/ص328 - 8330)، وهو في مسلم في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، وتربيتها (ج3/ص 85 - 2393)، والترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب، ومن سورة البقرة (ج5/ص220 - 2989).
  2. يريد بحديث العنبر ما أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب عزوة سيف البحر [ج4 - ص1586 - 4104] عن جابر قال: "غزونا جيش الخبط، وأمر أبو عبيدة فجعنا جوعاً شديداً، فألقى لنا البحر حوتاً ميتاً لم نر مثله، يقال له: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه فمر الراكب تحته، فأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: قال أبو عبيدة: "كلوا" فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي ﷺ فقال: ((كلوا رزقاً أخرجه الله، أطعمونا إن كان معكم))، فأتاه بعضهم بعضو فأكله"، وهو أيضاً في كتاب الذبائح، والصيد، باب قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [سورة المائدة:96] [ج5 - ص2093 - 5174]، وفي مسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة ميتات البحر [ج3 - ص1535 - 17].
  3. أخرجه أبو داود في  الطهارة، باب الوضوء بماء البحر (ج 1/ص31 - 83)، والترمذي في أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور  (ج1/ص100 - 69)، والنسائي في السنن الكبرى (ج1/ص75 - 58)، وابن ماجه في كتاب الطهارة، وسننها، باب الوضوء بماء البحر  (ج 1/ص136 - 386)، وأحمد في المسند (ج2/ص361 - 8720)، وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (7048).
  4. أخرجه ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب الكبد، والطحال  (ج 2/ص1102 - 3314)، وأحمد في المسند (ج2/ص97 - 5723)  والبيهقي في السنن الكبرى (ج1/ص254)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (ج3/ص111).
  5. أخرجه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء (ج4/ص220 - 1726)، وابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب أكل الجبن، والسمن (ج2/ص1117 - 3367)، والبيهقي في السنن الكبرى (ج10/ص 12)، والطبراني في المعجم الكبير (ج6/ص 250 - 6124)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (3195).
  6. أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب من مر على ماشية قوم، أو حائط هل يصيب منه؟[ج2 - ص770 - 2298]، والطبراني في المعجم الأوسط [ج8 - ص241 - 8519]، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه [ج2 - ص31 - 1861].
  7. أخرجه أبو داود في كتاب اللقطة، التعريف باللقطة [ج1 - ص534 - 1710]، وفي كتاب الحدود، باب ما لا قطع فيه [ج2 - ص542 - 4390]، والترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها [ج3 - ص584 - 1289]، والنسائي في كتاب قطع السارق الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين [ج8 - ص85 - 4958]، وأحمد في المسند [ج2 - ص224 - 7094]، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود [ج1 - ص321 - 1504].
  8. أخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها [ج3 - ص584 - 1289]، والنسائي في السنن الكبرى في كتاب قطع السارق الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين [ج4 - ص344 - 7446]، وحسنه مشكاة المصابيح [ج2 - ص188 - 3036].
  9. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة [ج1 - ص505 - 1608]، وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله [ج1 - ص583 - 1821]، وأحمد في المسند [ج6 - ص23 - 24022]، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده حسن"، وابن خزيمة في كتاب الزكاة، باب كراهية الصدقة بالحشف من الثمار، وإن كانت الصدقة تطوعاً إذ الصدقة بخير الثمار، وأوساطها أفضل من الصدقة بشرارها [ج4 - ص109 - 2467]، وقال الأعظمي: "إسناده حسن لغيره صالح بن أبي عريب ضعيف لكن للحديث شواهد"، وابن حبان في كتاب التاريخ، باب إخباره ﷺ عما يكون في أمته من الفتن، والحوادث [ج15 - ص177 - 6774[، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده حسن"، الحاكم في المستدرك [ج2 - ص313 - 3126] (تعليق الذهبي قي التلخيص: صحيح)، والطبراني في المعجم الكبير [ج18 - ص55 - 99]، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الزكاة، باب ما يحرم على صاحب المال من أن يعطي الصدقة من شر ماله [ج4 - ص 136 - 7318]، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود [ج1 - ص302 - 1419].
  10. أخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة [ج2 - ص465 - 4128]، والترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت [ج4 - ص222 - 1729]، والنسائي في كتاب الفرع، والعتيرة، ما يدبغ به جلود الميتة [ج7 - ص175 - 4249]، وابن ماجه في كتاب اللباس، باب من قال: لا ينتفع من الميتة بإهاب، ولا عصب [ج2 - ص1194 - 3613]، وأحمد في المسند [ج4 - ص310 - 18802]، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده ضعيف فيه علتان أولاهما: الانقطاع، وثانيتهما: الاضطراب"، وابن حبان في كتاب الطهارة، باب جلود الميتة [ج4 - ص94 - 1278]، والطبراني في المعجم الأوسط [ج1 - ص251 - 822]، والصغير [ج2 - ص214 - 1050]، وابن أبي شيبة في كتاب العقيقة، من كان لا ينتفع من الميتة بإهاب، ولا عصب [ج5 - ص206 - 25276]، والبيهقي في السنن الكبرى [ج1 - ص 14 - 42]، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه [ج2 - ص285 - 2910].  
  11. أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الصدقة على موالي أزواج النبي ﷺ [ج2 - ص543 - 1421]، وفي كتاب الذبائح، والصيد، باب جلود الميتة [ج5 - ص2103 - 5211]، ومسلم في كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ [ج1 - ص276 - 100 ].
  12. أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب شراب الحلوى، والعسل من كلام ابن مسعود، [ج5 - ص2129].
 

مرات الإستماع: 0

"وَاشْكُرُوا الآية دليل على، وجوب الشكر؛ لقوله: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ".

الأصل أن الشكر واجب؛ لأن هذا أمر، والأمر للوجوب، ثم أيضًا حينما علقه على العبادة، وهي واجبة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.

مرات الإستماع: 0

ثم وجّه الخطاب إلى المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [سورة البقرة:172] أي: يا أهل الإيمان كلوا من الأطعمة المستلذة الحلال، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً [سورة البقرة:168] فذكر الحلال، أما أهل الإيمان: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الأعراف:32] فمباشرة قال لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ فهذه الطيبات لأهل الإيمان، وهذه الطيبات تشمل نوعين:

النوع الأول: وهي أنها طيبة من جهة المكاسب، فليس فيها محرم لكسبه كالربا، أو محرم لذاته، أو وصفه، كالخمر والخنزير.

وكذلك هي طيبة بمعنى أنها مستلذة، وهذان القولان في قوله -تبارك وتعالى- في آية الكهف: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ [سورة الكهف:19] ففيها القولان، فأزكى طعامًا قيل: الأطيب والأنفس والأحسن والأكثر جودة، قالوا: باعتبار أن هؤلاء كانوا من أبناء الملوك، فيبحثون عن الطيب والأفضل والأجود.

والقول الآخر: الأبعد عن الشبهة، وما كان حلالاٌ ليس فيه محظور، وهذا هو الأقرب في آية الكهف، لكن هنا في قوله: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ يشمل ما كان طيبًا لكسبه، وما كان طيبًا لوصفه، فيدخل فيه النوعان.

وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فلا تكونوا كهؤلاء الكفار الذين حرموا الطيبات، واستحلوا الخبائث، وعليكم أن تشكروا الله -تبارك وتعالى- على نعمه، حيث تفضل عليكم بهذا الرزق من الطيبات، من أجل أن تكونوا منقادين لأمره: إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ سامعين مطيعين له، تعبدونه وحده دون ما سواه.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ هذا فيه أيضًا من بلاغة القرآن أنه أجمل المباحات كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ بينما بعد ذلك عدد المحرمات: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [سورة البقرة:173] فالمحرمات معدودة، ولكن الطيبات والمباحات هي الأصل، وهي الأكثر، ومن هنا يخطئ من يظن أن هذه الشريعة تضيق على الناس، وأن الإنسان إذا صار متمسكًا بأحكامها أنه صار محجرًا على نفسه، ويضيق على نفسه، وأنه يعيش في كبت وفي ضيق وشدة، فهذا الكلام غير صحيح، وإنما جعله الله -تبارك وتعالى- في سعة، فالطيبات كثيرة وواسعة، جعلها الله لأهل الإيمان.

وكذلك أيضًا حذف جواب (إن) الشرطية، حيث قال: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي: إن كنتم إياه تعبدون فاشكروا له، وهذا كثير في كلام العرب؛ لأن السياق يدل عليه، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

ويُؤخذ من هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [سورة البقرة:172] توجيه الإنسان إلى الاعتمال، وطلب الرزق من الله -تبارك وتعالى- مَا رَزَقْنَاكُمْ فإذا كان هذا الرزق من الله -تبارك وتعالى- فلنطلبه منه مع فعل الأسباب التي يتوصل بها إلى ذلك، يعني لا يقعد الإنسان لا يعمل ولا يكتسب، وينتظر أن يأتيه الرزق، فهنا أمر فقال: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وكيف تحصل هذه الطيبات؟ تحصل بالأسباب العادية، وهي أن يعمل الإنسان ليتوصل إلى ذلك، ولا يكون عالة على غيره.

وهذا أيضًا يدل على سعة رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده، من جهة أنه أمرهم بالأكل من الطيبات، ووسع عليهم، ومن ناحية أخرى لكونه هو الذي رزقهم مَا رَزَقْنَاكُمْ فالرزق من الله -تبارك وتعالى- وهو رحمة من الله بعباده، ينزل من هذا الرزق بقدر بحسب حكمته وعلمه وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [سورة الشورى:27] فهذه الأرزاق تكفل الله بإيصالها إلى العباد وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [سورة هود:6] على الله، أي أنه ضمنه، وتكفل فيه.

وإذا أردت أن تعرف هذا جيدًا فانظر إلى هذه العجماوات والبهائم في قعر البحر، وعلى ظهر اليابسة، من الذي يوصل إليها أرزاقها وأقواتها؟ والطير في السماء، والحيتان في البحر، والجنين في بطن أمه، الله -تبارك وتعالى- قد قيض لهذه من الأسباب ما يحصل به إقامة معايشها، فإذا كان في بطن أمه، فيأتيه رزقه بالطريق التي قدرها الله له، عن طريق حبل السرة، فإذا خرج فقد شق الله فاه، ومعنى ذلك أن سيأكل به، وأدر له هذا اللبن من حين يخرج من بطن أمه، فيبدأ هذا اللبن يتحادر من غير عمل من أمه، ثم بعد ذلك لا يزال به النمو، فإذا قوي على الطعام ظهرت الأسنان، في كل شيء بأوانه، من الذي يفعل هذا؟ ويدبر هذا التدبير؟ ولماذا لا يكون له أسنان، وهو في بطن أمه؟ لأنه لا يحتاج إليها؛ ولماذا لا يولد بأسنان؟ لأنه لا يحتاج إليها؛ ولا يطيق الطعام، الذي تكفل بهذا كله هل سيضيع الكبار؟ أبدًا، ولكن قلة وضعف اليقين عند الناس، فيسرع الواحد إلى الحرام، ويحتال على حدود الله -تبارك وتعالى- وشرعه.

وَاشْكُرُوا لِلَّهِ ابتدأ الآية بضمير المتكلم كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا   فلم يقل: لنا، وإنما قال: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ فهذا الذي يسمى الالتفات، خرج من التكلم إلى الغائب، باعتبار أن إبراز هذا الاسم لفظ الجلالة (الله) وَاشْكُرُوا لِلَّهِ هذا هو الموصوف بجميع صفات الكمال، فإن هذا المألوه المعبود ينبغي أن يكون هو الرازق، وهو الغني، وهو المدبر، وهو العليم بأحوال خلقه، فهو المستحق للشكر؛ لأنه المنعم المتفضل الموصوف بجميع صفات الكمال، فقال: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ وهذا لا يتأتى حينما يقول: واشكروا لنا وَاشْكُرُوا لِلَّهِ وهذا يسمونه أيضًا: الإظهار في مقام الإضمار، يعني في موضع يصح فيه الضمير، واشكروا لنا، ولكن قال: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ فأتى بالاسم الظاهر؛ لأن هذا الاسم الكريم هو الذي يجمع جميع صفات الكمال، وتعود إليه جميع الصفات لفظًا، وتعطف عليه: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ [سورة الحشر:24]... إلى آخره، وهي ترجع إليه في المعنى، فالذي يكون رازقًا وخالقًا وربًا ومدبرًا هو المألوه هو الله فالإلهية المضمنة في هذا الاسم تجمع جميع صفات الكمال.

ثم تأمّل أيضًا الشكر بعد ذكر النعم كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [سورة البقرة:172] فالشكر هو قيد النعم الموجودة، تحفظ به، وبه تجلب النعم المفقودة، فالنعمة تقيد بالشكر، وتضيع وتذهب، فإذا كفرت النعم نفرت، فهذا الشكر في كل نعمة بحسبها، فالمال بالبذل، والجاه بالشفاعة، والعلم بتعليم الناس، وهكذا في سائر النعم التي أعطى الله العبد.

إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ قدم المفعول به (إياه) وترتيب الكلام في الأصل هكذا: إن كنتم تعبدونه، لكن لما قال: إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ فتقديم ما حقه التأخير يفيد الاختصاص والحصر؛ لأنه -تبارك وتعالى- هو المستحق أن يعبد وحده إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ فهذا إشارة للإخلاص، أنه يعبد وحده دون من سواه.

ويُؤخذ من: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أن الشكر من تحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى- وأيضًا يُؤخذ الإخلاص من قوله: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ لأن اللام تدل على الاختصاص، فكل هذا يدل على وجوب الإخلاص لله رب العالمين.

ومما ينافي الشكر الإسراف والتبذير إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [سورة الإسراء:27] والكفر هو الذي يقابل الشكر وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [سورة الإسراء:27] فهؤلاء الذين يسرفون بالنعم، ويتلاعبون بها، ويتخوضون في مال الله -تبارك وتعالى- لم يشكروا نعمة الله كما يجب، بل ذلك من الكفران، فالنعم إما أن تبذل في معصية الله، وإما أن يحصل الإسراف والتوسع الذي لا يحل، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [سورة الإسراء:29].

ويقول عن عباد الرحمن: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:67] يعني وسطًا، فهذا هو الواجب، فمن صور كفر النعمة الإسراف والتبذير، سواء وضعت في معصية ولو قلت، أو وضع الشيء في غير موضعه، كالتلاعب بنعمة الله بصور وممارسات قد يحصل للعبد بسببها رحيل هذه النعم، والله على كل شيء قدير.

ونشرت مقابلة لأحد كبار الأثرياء في العالم في دولة عربية مجاورة، في مجلة في القرن الماضي، فقيل له: هل تخشى الفقر؟ فقال: لو طاردني الفقر بصاروخ ما أدركني، هذا البطر نسأل الله العافية، فذهبت كل ثروته، ووجد ميتًا في غرفة في فندق في أوروبا، وملاحق ومطالب عليه ديون، ولا يدرى كيف مات؟ يعني هل كان ذلك بتسبب أحد أو لا؟ وتعرفون بعض حكام الطوائف في الأندلس؛ لما رأت امرأته بائعات اللبن، وهي تطل من شرفة في القصر يطأن في الطين، فاشتاقت إلى أن تلعب بالطين، فجاء لها بصحفة من ذهب، وأمر بأن يعجن لها الطين بالمسك، ثم صار كالطين ووضعه بين يديها، فصارت تطأ عليه، فأصبح هذا في حالة بائسة، وذهب ملكه، ثم آل أمره إلى الحبس، وضجرت منه زوجته، وقالت له: ما رأيت منك خيرًا قط، قال: ولا يوم الطين؟ فالله المستعان، والله أعلم.