الإثنين 24 / ربيع الآخر / 1446 - 28 / أكتوبر 2024
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيْرِ ٱللَّهِ ۖ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ۝ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:172 - 173] يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء، والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء، والعبادة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [سورة المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [سورة البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك[1]، ورواه مسلم، والترمذي."ولهذا حمل هذه الآية جمع من السلف كعمر بن عبد العزيز - رحمه الله -، والضحاك، وجماعة على أن المراد بها الكسب الحلال، يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة البقرة:168] المقصود بها الكسب الحلال، وكثير من أهل العلم يحملون هذه الآية على أن المقصود بها الامتنان على خلقه، فهذا الأمر أمر إباحة، وتعرفون أن الأمر كما يذكره الأصوليون يأتي لمعان كثيرة منها الأصل أنه يأتي للوجوب، وقد يكون لمعنىً آخر لقرينة كالاستحباب، والإباحة، ونحو ذلك.
فهنا كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً، على هذا يكون هذا الأمر للإباحة، والامتنان، ولهذا الأصوليون يوردون هذه الآية - وكذلك الفقهاء - في مقام الكلام على أن الأصل في الأشياء الحل، والإباحة، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، والعبادات الأصل فيها المنع، والفروج الأصل فيها المنع، وبعضهم يذكر الذبائح أيضاً يقول: الأصل فيها المنع إلا ما ذبح، أو ذكي بالطريقة الشرعية.
"ولما امتنّ تعالى عليهم برزقه، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، وسواء كانت منخنقة، أو موقوذة، أو متردية، أو نطيحة، أو قد عدا عليها السبع.
وقد خصص من ذلك ميتة البحر؛ لقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ [سورة المائدة:96] على ما سيأتي - إن شاء الله -، ولحديث العنبر في الصحيح[2]، وفي المسند، والموطأ، والسنن قوله في البحر: هو الطهور ماؤه، والحل ميتته[3]، وروى الشافعي، وأحمد، وابن ماجه، والدارقطني حديث ابن عمر - ا - مرفوعاً: أحل لنا ميتتان، ودمان، السمك، والجراد، والكبد، والطحال[4]، وسيأتي تقرير ذلك - إن شاء الله - في سورة المائدة."
فقوله - رحمه الله - هنا: "إلا الميتة"، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية، سواء كانت منخنقة، أو موقوذة، أو متردية، يعني بأي سبب ماتت سوى التذكية، حتى ولو كان بفعل الإنسان، فإن ذلك لا يحلها إلا بالتذكية، اللهم إلا ما جاء في الصيد، سواء كان عن طريق الجوارح، والكلاب المعلمة، أو الطيور التي يُصطاد بها، أو كان ذلك عن طريق ما تُصاد به مما يحل أكل ما صيدت به كالسهام، والرماح، ونحو ذلك، وأما ما عدا هذا فإنه لا يحل.
فلو ضرب الصيد بحجر فإنه لا يحل، وكذلك الصبيان مثلاً حينما يضعون الحجر في المقلاع، ويرمون به الطائر فإنه لا يحل؛ لأن هذا من قبيل الموقوذة التي رميت بحجر، وكذلك لو صدمه بالسيارة، أو نحو هذا، وسيأتي في آية المائدة - إن شاء الله -، ووجه الاستثناء في آية: إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3] يعني هل هو يعود إلى المذكورات حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ [سورة المائدة:3]. ..؟ وهل الموقوذة، والمتردية، والنطيحة إذا أدركت، وهي في حال النزع فذكيت هل تحل؟ أو أن ذلك الاستثناء منقطع؟ يأتي - إن شاء الله - تفصيل هذا.
"مسألة: ولبن الميتة، وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي، وغيره."هذه المسألة جاءت استطراداً، ولو حذفها المختصِر، وأبقى على ما يتعلق بتفسير الآيات فقط لكان أولى، أو ذكرها على الأقل عند الكلام على آية المائدة مثلاً، أو عند: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [سورة الأنعام:145].
يقول: "لبن الميتة، وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي، وغيره"؛ لأنه جزء متولد منها، أما بالنسبة للبن فواضح، ويكفي أنه في وعاء نجس؛ لأن الميتة من الأعيان تصير عيناً نجسة، فهذا الوعاء نجس، واللبن شيء قليل من شأنه أن يتغير بهذا الوعاء النجس.
وأما بالنسبة للبيض فقال: "عند الشافعي، وغيره" مع أن هذا عند الشافعي، ولكن في مذهب الشافعية يُفرق بالنسبة للبيض بين ما كان قشرته صلبة فإنه لا ينجس؛ لأن النجاسة لا تصل إليه، فصار في حكم المنفصل فيجوز أكله، لذا قال: "لأنه جزء منها".
والمالكية، يقولون: البيض سواء كان قشره بلغ حال الشدة، والصلابة، أو لم يبلغ فإنه لا يؤكل؛ لأنه جزء منها.
وتعرفون الذي سأل عمر بن الخطاب فقال: "ما تقول في رجل وطأ دجاجة ميتة فخرج منها بيضة، ففقست فرخاً، فهل هذا الفرخ الذي صار دجاجة نجس أم طاهر؟ يحل أكله، أو ما يحل أكله؟ فقال: من أين أنت؟ قال: من العراق، قال: فعل الله بأهل العراق كذا كذا، يعني أنه سؤال متكلف.
"وقال مالك في رواية: هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة."يعني هو طاهر بنفسه لكنه تنجس بسبب أن هذا الوعاء النجس صار ظرفاً له، وفرق بين قول الإمام مالك، وبين المذهب، وقول الشافعي، والمذهب، وقول الإمام أحمد، والمذهب، وإلا فالأحناف يرون حتى اللبن - لبن الميتة - طاهرا فضلاً عن البيض.
"وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف."بكسر الهمزة (إنفحة)، ويقال أيضاً بتشديد الحاء (إنفحّة)، وإنفحة الميتة معروفة، فالعجل الصغير قبل أن يأكل العشب، وما في معناه، وما زال يرضع من أمه فقط، فإن هذا الوعاء الذي هو بمنزلة المعدة، أو الكرش قبل أن يصير كذلك يؤخذ فيجبن به، يوضع في اللبن فيساعد على تحويله إلى مادة أخرى، وهي الجبن، فإذا أكل العشب هذا الجدي، أو العجل الصغير فإن ذلك الوعاء يتحول إلى كرش يصير شيئا آخر، فإذا كان العجل ميتاً مثلاً، وأخذ منه تلك المادة فهي نجسة بطبيعة الحال، لكن إذا وضعت في الحليب، وتحولت إلى جبن هل يحل أكله، أو لا يحل؟ وتعرفون أن هذه المسألة مسألة مطروقة، والصحابة   لما ذهبوا إلى فتوح العراق، وفارس نُقل عنهم أنهم أكلوا من تلك الأجبان في تلك البلاد المفتوحة، مع أنهم يصنعون الجبن بهذه الطريقة، فعلل ذلك بعض أهل العلم بأن هذا شيء يسير يوضع في الحليب فلا يحصل به تغير بسبب النجاسة، والكلام في هذه المسألة ليس هذا موضعه، لكن ابن كثير - رحمه الله - تطرق لها هنا.
"وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف، والمشهور عندهم أنها نجسة، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس، فقال القرطبي في التفسير هاهنا: يخالط اللبن منها يسير، ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع، وقد روى ابن ماجه عن سلمان : سئل رسول الله ﷺعن السمن، والجبن، والفراء..."ما الفرق بين الجُبُن، والجُبْن؟
الجُبُن: المأكول، والجُبْن: الخوف، بضم الباء هو المأكول، وبالسكون هو الضعف عن المواجهة، أي: الجبان.
"فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه[5]، وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير، سواء ذكِّي، أو مات حتف أنفه، ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليباً..." يعني أن الخنزير لا تطهره الذكاة، وكذلك كل السباع، وما يحرم أكله فإن الذكاة لا تؤثر فيه شيئاً، فسواء ذكي، أو مات حتف أنفه فالأمر في ذلك سيان.
الفرق بين الموت حتف أنفه - بهذا القيد -، وبين الذكاة، الذكاة تكون بالطريقة الشرعية، ويلحق بها ما في حكمها كالصيد، وكذلك أيضاً ما ندَّ من البهائم التي ليست هي وحشية في أصلها، وكذلك مثلا لو أن الدابة - البعير مثلاً - سقط في بئر، ولم يتبين منه إلا دبره - الجزء الأخير منه -، والباقي في البئر، كيف يوصل إلي هذا، وهو ما مات؟
طالب:.......
لا، ما هو بالشوزن، الآن هو في البئر، وأنت تستطيع الوصول إليه، لكن لا تستطيع نحره؛ لأن رقبته، ومقدمه داخل في البئر، وقد ملأ البئر، ولا تستطيع أن تصل إليه، فماذا يُصنع به؟ يمكن أن يتوصل إلى إزهاق نفسه من آخره فيكون ذلك مستثنى.
ولو ندّ البعير - هرب -، ولم يمكن الوصول إليه إلا عن طريق الرمي يُؤكل، أو ندت شاة فرميت في قلبها، أو في كبدها فماتت تُؤكل.
"ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليباً، أو أن اللحم يشمل ذلك، أو بطريق القياس على رأي."هذه صور ثلاث في المسألة.
الله يقول: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145] فالمحرم هو لحم الخنزير، طيب، والشحم؟ بعض أهل العلم يقول: يلحق به قياساً لعدم الفارق، ولكن هل هذا يحتاج إلى قياس؟ أو أن اللحم في كلام العرب إذا أطلق فإنه يصدق على الأبيض، والأحمر، يعني الشحم، واللحم، فكل ذلك يقال له: لحم، إذا أطلق دخل فيه هذا، وهذا، وهذا هو الأقرب، فهو ليس من باب القياس.
يقول: "إما تغليباً" تغليباً بمعنى أنه ذكر اللحم لأنه هو الغالب، أي أكثر في البهيمة، وهو المقصود أصلاً فذكره تغليباً، لكن الأقرب - والله أعلم - أن اللحم في كلام العرب يطلق على هذا، وهذا، وهذه المسألة تجدون فيها كلاماً، ومناقشات بين بعض الفقهاء، وبين الظاهرية، ولعله يأتي - إن شاء الله - عند الكلام على قوله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145].
"وكذلك حَرَّم عليهم ما أهِلَّ به لغير الله، وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب، والأنداد، والأزلام، ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له."الإهلال أصله: رفع الصوت، ومنه الإهلال بالتلبية، فصار ذلك يقال عند الذبح، أو النحر؛ لأنهم يذكرون أسماء آلهتهم عند ذبح هذه البهائم، والدواب، يذبحونها لهذه للأصنام، فقيل له: إهلال، فصار ذلك يطلق، ولو كان من غير رفع الصوت، يقال: أهل به لغير الله، حتى لو لم يتكلم بشيء لا في سره، ولا في نطقه، ولكنه نوى أن تكون هذه لغير الله فإنه يحرم أيضاً أكلها، وإذا ذكر غير اسم الله فإنه يحرم أكلها من باب أولى، فصار عندنا - فيما أهل به لغير الله - ثلاث صور، وكلها داخلة في التحريم من حيث الحقيقة.
"وأورد القرطبي عن عائشة - ا - أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين، فقالت: ما ذُبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم." معناه أن هذه الذبائح لا يحل أكلها لكن غير الذبائح لو صنعوا طعاماً آخر كالحلوى، أو الكيك، أو نحو هذا بمناسبة العيد فهل يؤكل هذا، أو لا يؤكل؟ أو أقاموا سوقاً بهذه المناسبة هل يجوز الشراء منه، أو لا يجوز؟ هي مسألة معروفة، وأظن مر بنا طرف منها في اقتضاء الصراط المستقيم، فبعض أهل العلم يفرق بين الذبائح، وبين المطعومات الأخرى، وذكرنا - في ذلك الحين - أنه إذا فهم أن ذلك من مشاركتهم، أو أن فيه نوعا من المشاركة لهم، أو الإقرار على أعيادهم فإن الإنسان قد يمتنع من الأكل، والقبول لهديتهم بتلك المناسبة، وما أشبه ذلك.
طالب:......
كيف؟
طالب:......
ليس هذا محل اتفاق، ولاحظ كلام عائشة - ا -: "وكلوا من أشجارهم" يعني المقصود لو جاءوا بشيء صُنع من البر، أو الذرة، أو نحو هذا، وليس المقصود: امسكوا شجرهم، وكلوا من الثمر، والمسألة على كل حال ليس هذا موضعها، الأصل في التفسير هنا أن نتكلم فقط على ما يتعلق بالآيات.
"ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة، والاحتياج إليها، عند فقد غيرها من الأطعمة، فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ [سورة البقرة:173] أي: في غير بغي، ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:173] أي: في أكل ذلك، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:173]، وقال مجاهد: فمن اضطر غير باغٍ، ولا عادٍ قاطعاً للسبيل، أو مفارقاً للأئمة، أو خارجاً في معصية الله فله الرخصة." قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ [سورة البقرة:173] الاضطرار معروف، ومعناه: أن يشرف على الهلكة، وليس مجرد الجوع الذي يستطيع معه الصبر من غير لحوق التلف، أو الضرر الشديد الذي يشرف به على الهلكة.
غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ [سورة البقرة:173] في غير بغي، ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد فلا إثم عليه، مجاوزة الحد في ماذا؟ بعض أهل العلم يفسر: غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ أي: غير متجاوز الحد في أكله هذا، كأن يأكل أكثر من الحاجة، أو أن يأكل تشهياً، أو أن يأكل من غير ضرورة، أو أن يلجأ إلى الأكل مع وجود بديل أخف منه، كالذي ما وجد شيئا مذكى لكنه وجد - على خلاف بين أهل العلم - طعاماً لإنسان لم يأذن له به، أو وجد صيداً في الحرم، ووجد ميتة أيهما يقدم؟ هذه مسائل فيها خلاف، مسألة الصيد بعض أهل العلم يقول: لا يُقْدم على الصيد؛ لأن الله أباح الميتة مطلقاً للمضطر، والصيد حُرم على الإنسان إذا كان محرماً، أو كان في الحرم - وإن لم يكن محرماً -، فقالوا: هذا ألصق به، وأعلق، وأخص، فلا يقرب الصيد، هذا قول لبعض أهل العلم، وبعضهم قال: يُقْدم على الصيد.
لكن لو وجد طعاماً لإنسان لم يأذن به هل يُقْدم عليه، أو يُقدِّم الميتة؟ يُقدِّم طعام هذا الإنسان إلا إذا كان ذلك سيؤدي إلى تهمة له بالسرقة، وقطع يده.
المقصود أن الإنسان لا يُقْدم على الميتة إلا في حال الاضطرار، ثم إن الضرورة تقدر بقدرها غَيْرَ بَاغٍ [سورة البقرة:173].
وإذا أبيح له الميتة فهل له أن يأكل حتى الشبع؟ وهل له أن يأكل ذلك تشهياً يقول: فرصة آكل حتى أشبع؟ الضرورة تقدر بقدرها.
وقد يظهر بغيه، وتجاوزه، وتعديه ببعض تصرفاته، كما لو أنه جلس يصنع هذه اللحوم بطرق يتفنن فيها، هذا حال إنسان مضطر؟! يقول: ما دام أنه أبيحت الميتة أنا سأصنع كبابا عراقيا، وكبابا إيرانيا، وأفعل من ألوان هذه الأشياء التي أراها في لوحات الشوارع، هذا متجاوز للحد.
كما لو أبيح له التصوير مثلاً لضرورة، ويوم جاء يتصور، وهو ليس من عادته أن يلبس الزر، أو العقال، فذهب، ولبس عقالا، وضبط نفسه، ومشط لحيته، وركب أزاريره، وربما لبس معها ثوب زينة، وجاء في أبهى صورة، فهل هذا يعتبر مضطراً؟! ما هو مضطر، هذا صار عنده بغي.
"ولا عادٍ" أي: ما لم يكن عاصياً في سفره كقاطع الطريق، ومن خرج على الإمام، وما شابه ذلك؛ لأن هذه الرخصة صار من شأنها أن تعينه على باطله، وظلمه، ومعصيته، بناءً على أن العاصي لا يترخص بالرخص، مثل مسألة القصر هل للعاصي في سفره أن يصلي الصلاة قصراً، ويجمع بين الصلاتين أم لا؟ هذه مسألة خلافية.
"ومن خرج باغياً، أو عادياً، أو في معصية الله فلا رخصة له، وإن اضطر إليه، وكذا روي عن سعيد بن جبير، وقال سعيد - في رواية عنه -:  وعن مقاتل بن حيان: غَيْرَ بَاغٍ [سورة البقرة:173] يعني: غير مستحله، وعن ابن عباس - ا - غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ قال: غَيْرَ بَاغٍ في الميتة "وَلا عَادٍ" في أكله، وقال قتادة: فمن اضطر غير باغ، ولا عاد قال: غَيْرَ بَاغٍ في الميتة أي في أكله، أن يتعدى حلالاً إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة."هذا - كما مثلت - كمن يجد شيئا يسد به الرمق لكنه يقول: لا، أنا أريد أكل لحم، طيب عندك هذه الأشياء من النباتات، وتستطيع أن تستغني بها الآن! قال: لا، أنا أريد لحما، فمثل هذا يعتبر باغيا، كذلك إذا أكله تشهياً، فالباغي قد يكون من صوره: الأكل فوق الحاجة، أو أن يأكله تشهياً، أو نحو ذلك، والعادي على قول بعضهم: هو الذي يأكل، ويجد مندوحة عنه، يجد شيئاً آخر.
على كل حال ابن جرير الطبري - رحمه الله - يحمله على جميع هذه المعاني، "غير باغ، ولا عاد" سوى الخارج في المعصية فإنه لا يقول به، يقول: رخصة من الرخص، لا يستثنى منها أحد، لكن "غير باغ، ولا عادٍ" أن يأكل، وهو يجد مندوحة، أو أن يأكل فوق الحاجة، أو أن يأكل في غير حال الاضطرار، أو أن يأكل تشهياً، وتلذذاً بهذا الأكل، أو نحو ذلك من الصور التي تدل على أن هذا الإنسان باغٍ، أو عادٍ.
"مسألة: إذا، وجد المضطر ميتة، وطعام الغير بحيث لا قطع فيه، ولا أذى فإنه لا يحل له أكل الميتة." على كل حال وجد مضطر ميتة، وطعام الغير، هذا يأكل منه؛ لأنه في حال الاضطرار، وهو أولى من الميتة إلا فيما يلحقه فيه هذه التهمة، وأطال بنا الكلام على هذا، وأنا وهمت حينما قلت: ليس هذا موضعه، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ [سورة البقرة:173]، وهو يتكلم على هذه الآية، فهذا من المواضع الذي يذكر فيها الكلام على هذه الأشياء، لكن يؤخذ من منهج ابن كثير - رحمه الله - أنه يتطرق إلى الأحكام الفقهية، ولو أن المختصر ترك هذا، واقتصر على تفسير الآيات ربما يكون أنسب - والله أعلم -.
"بل يأكل طعام الغير بلا خلاف، روى ابن ماجه عن عباد بن شرحبيل الغبري قال: "أصابتنا عاماً مخمصة فأتيت المدينة، فأتيت حائطاً، فأخذت سنبلاً ففركته، وأكلته، وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني، وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله ﷺ فأخبرته، فقال للرجل: ما أطعمته إذ كان جائعاً، أو ساغباً، ولا علمته إذ كان جاهلاً[6]، فأمره فرد إليه ثوبه، فأمر له بوسق من طعام، أو نصف، وسق" إسناده صحيح قوي جيد، وله شواهد كثيرة."على كل حال هذا الرجل أكل في حال الاضطرار فهذا لا إشكال فيه، لكنه أخذ أيضاً في كمه، وتعرفون الحديث: غير متخذٍ خُبْنةً[7]، فإذا كان مضطرا يأكل ما يسد به الرمق لكن ليس له أن يحمل معه من هذا الطعام، ويتزود.
ولذلك مسألة الميتة تكلم العلماء فيها، هل يحمل معه شيئا منها، أو لا؟ وهل يتخير؟ يقول: ما دام أن الميتة مباحة الآن أنا أحب لحمة الكتف، أو الظهر؟!
"من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : سئل رسول الله ﷺ عن الثمر المعلق، فقال: من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خُبْنةً فلا شيء عليه [8]... الحديث." الثمر المعلق: كان يؤتى بالعذق، ويوضع في مكان في سقيفة، أو نحو ذلك فيأكل منه أهل الحائط، أو أهل البيت، أو نحو هذا، فإذا جاء إنسان، وأخذ منه غير ما بذل للناس صدقة كالذي كان يؤتى مثلاً به لفقراء المسلمين لأهل الصفة، فيأكلون منه، حتى جاء النبي ﷺ مرةً فرأى عذق شيص، فقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة[9]، فهذا يوضع صدقة يؤكل منه بلا إشكال، لكن الكلام فيما ليس ذلك، في الذي ما بُذل من أجل الناس.
"وقال مقاتل بن حيان في قوله: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:173] فيما أكل من اضطرار."يعني فيما أكل من اضطرار ما فيه إشكال.
"وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام، رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار، وعن مسروق قال: من اضطُرَّ فلم يأكل، ولم يشرب، ثم مات دخل النار، وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة."هذا هو الراجح، وهذه المسألة تذكر في التروك، هذا الإنسان ما قتل نفسه بيده، ولكنه ترك شيئاً من شأنه أن يفضي به إلى الهلكة، فإنه يكون بذلك متسبباً، وهل يدخل فيه بعض الصور مثل لو ترك العلاج حتى مات؟ الجواب: لا، هذا يختلف عن هذا؛ لأن حصول الشفاء بتعاطي هذا العلاج مظنون أصلاً، بينما الأكل الأمر فيه يختلف، فيجب عليه أن يأكل، وسبق الكلام في مراقي السعود في مسائل الترك هل يُعد من الأفعال؟
فكفنا بالنهي مطلوب النبي له فروع ذكرت في المنهجِ
له فروع ذكرت في المنهجِ وسردها من بعد ذا البيت يجي
من شربٍ أو خيط ذكاةٍ فضل ما وعمد رسم شهادة وما
عطل ناظر وذو الرهن كذا مفرط في العلف فادر المأخذا
وكالتي ردت بعيب وعدم وليها وشبهها مما علم
يعني لو أن شخصاً في شدة العطش، وشخصاً آخر عنده ماء، ورفض أن يعطيه من فضل ماءٍ عنده، فهل يعتبر هذا قتلا له؟ تسبباً بالقتل؟ يضمن، أو لا؟ ولو جُرح، واحتاج إلى خيط يخيط به الجراح فأبى أن يعطيه فمات؟ ولو أن البهيمة تعافس الموت فقال: أعطني هذه السكين التي معك لأذكيها قبل أن تموت حتف أنفها حتى نستفيد منها فأبى فماتت فهل يضمن؟ وهكذا لو قال له: أعطني الخشبة التي عندك الزائدة أريد أن أرفد بها البيت الذي سيطيح، فأبى، فسقط السقف هل يضمن، أو لا؟ فهنا لو تخلى عن الأكل في حال الاضطرار، ومات، فما الحكم؟
طالب:......
بنك البلاد أنا لم أطّلع على برامجهم مفصلة، وعدد من الإخوة، وعدني أن يأتي بها، وما رأيتها، والذي وصلني كلام مجمل أنهم يلتزمون بالمعاملات الإسلامية، وأن عندهم لجنة، وسموها، وهذه اللجنة لا يمرر شيء إلا عن طريقها، وهي لجنة لا تعرف بالتساهل، فبهذا الشكل المجمل لم أرَ شيئاً محظوراً، ولا أستطيع أن أحكم، مع أني أتخوف من كثير من المعاملات التي يسمونها إسلامية، وهي لفة، وحيلة على الربا، ولا أدري هل هؤلاء سيفعلون هذا، أو لا؟ وبالتالي لا نستطيع أن نقول للناس: لا تساهموا، أو هذا حرام، ونحن ما رأينا شيئا، والأصل في المعاملات الحل.
فلو أن إنساناً اشترى فإذا بدا تبادل الأسهم، ووجدت للبنك أشياء من مبانٍ، أو أي أمور أخرى غير السيولة، فعند ذلك يجوز بيع الأسهم.
والعجيب من تهافت الناس عليه، أنا أول الأمر كنت أظنه أنه يشتري له بخمسة ملايين، بعشرة ملايين، فتبين أنه أربعة أسهم، وخمسة أسهم ما تساوى تشغيلة السيارة للبنك، ويشغلون الناس، حتى إنني أصبحت لا أرد على الجوال، والناس في هذه الأيام ما لهم سؤال إلا عن هذا البنك، في البداية كنت أحسبه شيئا يستحق، وهو فتات الفتات، أربعة أسهم، أو خمسة لا تساوي الذهاب إلى البنك، أو رفعة السماعة، وماذا يجنون من ورائه؟ لو افترضنا أن السهم يربح فيه ألفا بدل خمسين ريال، ماذا يفيدك هذا المبلغ الذي ما يسدد الفواتير، سبحان الله! شيء عجيب حرص الناس على هذه الدنيا.
شيء غيره؟
طالب:......
يأكل المحتاج، ولا يأكل غير المحتاج.
طالب:......
كيف؟
طالب:......
استعمل في غير الأكل قصدك الخنزير؟
طالب:......
تكلم الفقهاء على بعض المسائل في الخنزير مثل شعر الخنزير هل يخرز به، أو لا؟ أجاز بعض أهل العلم أن يُخرز به.
على كل حال النجاسة تنتقل بالرطوبة، فإذا قلنا: الخنزير كله نجس، فالنجاسة لا تنتقل بالجفاف، تنتقل بالرطوبة، فإذا قلنا مثلاً: يخرز به فعرقت الرجلُ، أو ابتلّ النعلُ، أو الرجلُ، تصل النجاسة بهذا الاعتبار على القول بهذا؛ لأن كله نجس.
لكن هذه المسألة هل شعر الخنزير نجس، أو لا؟ هي على كل حال باعتبار أن الشعر له حكم المنفصل.
طالب:......
هذه مسألة ثانية، وهي استخدام شحم الخنزير، أو أجزاء منه في أمور لا تؤكل كالعلاج، مما يسمى الاستعمال الخارجي، فهل يجوز استعمال هذه الأعيان النجسة في الأمور الخارجية، أو لا؟ هذه المسألة محل بحث، ونظر.
ابن عمر  لما ذكرت له الخمر، وأنه يعالج بها، قال: "لا أضعه على قرحة في دبر حماري" فمثل هذه الأشياء التي حرمها الله إذا وضعت في مركبات أدوية كالمراهم، ونحوها، أو أدوات التجميل، أو غيرها هل يحل استعمالها، أو لا؟.
فإذا قال الله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [سورة المائدة:3] فهنا لا بد من مقدر؛ لأن الأعيان لا يتعلق بها الحكم، فما هو المقدر؟ حرم عليكم أكل الميتة، أو الانتفاع بالميتة؟ وتعرفون حديث ميمونة، والحديث الآخر أيضاً - الذي فيه كلام -، وهو قوله: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب[10] مع قوله ﷺ: هلا انتفعتم بجلدها[11] إنما حرم أكلها أيضاً، وأشباه ذلك.
فالمقصود أن من أهل العلم من يقول: طالما أنها حرمت فيحرم جميع أنواع الانتفاع بها إلا ما دل الدليل على استثنائه كالجلود مثلاً، والفقهاء تكلموا على مسألة طلاء السفن بشحوم الميتة.
طالب:......
في الأشياء الخارجية ذكرت لكم كلام ابن عمر، وليس ذلك محل اتفاق في الأشياء الخارجية، وبالتالي فإن هذه الخمرة لو استعملت في أشياء مثل الطيب، أو في تركيبات كثير من الأمور هي مسكرة، منها ما هو من نوع السموم تقتل، ومنها ما يسكر دون أن يقتل، وهذه الأشياء التي تسمى الكحول هي أنواع عند أهل الاختصاص، وليست نوعاً واحداً، بل منها ما إذا تعاطاه الإنسان مات، ومنها ما ليس كذلك، الأطباء يعرفون هذا، ويفرقون بين هذه الأمور.
فالمقصود لو قلنا: إنه يحرم استعمال الخمر حتى في غير الشرب؛ لأن الله قال: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] هل اجتنبوا شربه، وتعاطيه على وجه الإسكار؟ يعني الشرب، وما يقوم مقامه كالشم، وغيره، هل هذا هو المقصود، أو المقصود اجتنبوه مطلقاً؟ فإذا قلنا: اجتنبوه مطلقاً فمعناها أن الأطياب التي فيها الكحول لا يجوز استعمالها.
غير مسألة النجاسة فالأقرب أنه ليس بنجس عيناً، لكن الأطياب التي فيها هذا الكحول ما يجوز استعمالها على هذا الاعتبار، وأيضاً كل ما ركب منه، البنزين مسكر فهل نقول للناس: تعبئة البنزين حرام، ونستبدله بالطاقة الشمسية، أو بطريقة أخرى؟! أنا ما أقول: إن البنزين حرام، أنا بهذا أصور المسألة، وما يلحق الناس فيها من حرج لو قاله قائل، فالأصباغ، والغراء، وكثير من الأشياء يدخل في تركيبتها الكحول.
طالب:.......
ليس ذلك بالضرورة في الأشياء الخارجية، هل يدل عليها الحديث ضرورة؟ "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم"[12]، هذا المنحى ممكن أن يحمل عليه مثل ما جاء عن ابن عمر، لكن هذا هل هو محل اتفاق؟ الجواب: لا، والناس يسألون كثيراً عن الحشيشة، يقولون: زيت الحشيش يباع أظنه بأكثر من مائتي ريال عند العطارين، يقولون: إنه ينمي الشعر، ويكثفه، وينبت الشعر، هذا دائماً الناس يسألون عنه، مع أنه صدر بيان من وزارة التجارة يقولون فيه: إنه أجريت تحاليل على هذا المنتج فوجدوا أنه ليس بزيت حشيشة أصلاً، ثم لو فرض أن إنساناً جاء بزيت الحشيش فإنه لا علاقة إطلاقاً بينه، وبين تنمية الشعر، وتغذيته، وتطويله، وتنعيمه، وتكثيفه، ما في أي علاقة بين الأمرين، والعجيب أنك تقول للناس هذا ليس زيت حشيش، وحتى زيت الحشيش ما له علاقة بالموضوع، فيقال: ما يخالف، هل يجوز، أو ما يجوز؟ خلاص المرأة متبرمجة أنها تضع زيت حشيش لأجل أن يصير شعرها مضبوطا.
طالب:......
من أهل العلم من قال: يتزود من الميتة لا ليأكل منها في غير حال الاضطرار، وإنما لو اضطر، وهو يعلم أنه ليس مقبلاً على بلد، أو قرية، أو ناحية يجد فيها الطعام، فهو من باب الاحتياط، فهذا في الميتة له وجه، أما في مسألة الخُبْنة - طعام الغير - فالأمر في ذلك محتمل لكنه أشد؛ لأن الميتة هذه إنما يحرم عليه أكلها لا حملها، أما طعام الغير فهو قد استولى عليه، وأخذه، وأضاع حق صاحبه، فهل يأكل بقدر ما يسد الرمق أم يحمل معه ليأكله إذا احتاج إليه؟ طيب، وإذا ما اضطررت له تكبه، أو تتصدق به بنية؟! نقول: يأخذ بقدر ما يحتاج، - والله أعلم -.
  1. في المسند (ج2/ص328 - 8330)، وهو في مسلم في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، وتربيتها (ج3/ص 85 - 2393)، والترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب، ومن سورة البقرة (ج5/ص220 - 2989).
  2. يريد بحديث العنبر ما أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب عزوة سيف البحر [ج4 - ص1586 - 4104] عن جابر قال: "غزونا جيش الخبط، وأمر أبو عبيدة فجعنا جوعاً شديداً، فألقى لنا البحر حوتاً ميتاً لم نر مثله، يقال له: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظماً من عظامه فمر الراكب تحته، فأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: قال أبو عبيدة: "كلوا" فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي ﷺ فقال: ((كلوا رزقاً أخرجه الله، أطعمونا إن كان معكم))، فأتاه بعضهم بعضو فأكله"، وهو أيضاً في كتاب الذبائح، والصيد، باب قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [سورة المائدة:96] [ج5 - ص2093 - 5174]، وفي مسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة ميتات البحر [ج3 - ص1535 - 17].
  3. أخرجه أبو داود في  الطهارة، باب الوضوء بماء البحر (ج 1/ص31 - 83)، والترمذي في أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور  (ج1/ص100 - 69)، والنسائي في السنن الكبرى (ج1/ص75 - 58)، وابن ماجه في كتاب الطهارة، وسننها، باب الوضوء بماء البحر  (ج 1/ص136 - 386)، وأحمد في المسند (ج2/ص361 - 8720)، وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (7048).
  4. أخرجه ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب الكبد، والطحال  (ج 2/ص1102 - 3314)، وأحمد في المسند (ج2/ص97 - 5723)  والبيهقي في السنن الكبرى (ج1/ص254)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (ج3/ص111).
  5. أخرجه الترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء (ج4/ص220 - 1726)، وابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب أكل الجبن، والسمن (ج2/ص1117 - 3367)، والبيهقي في السنن الكبرى (ج10/ص 12)، والطبراني في المعجم الكبير (ج6/ص 250 - 6124)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: (3195).
  6. أخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات، باب من مر على ماشية قوم، أو حائط هل يصيب منه؟[ج2 - ص770 - 2298]، والطبراني في المعجم الأوسط [ج8 - ص241 - 8519]، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه [ج2 - ص31 - 1861].
  7. أخرجه أبو داود في كتاب اللقطة، التعريف باللقطة [ج1 - ص534 - 1710]، وفي كتاب الحدود، باب ما لا قطع فيه [ج2 - ص542 - 4390]، والترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها [ج3 - ص584 - 1289]، والنسائي في كتاب قطع السارق الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين [ج8 - ص85 - 4958]، وأحمد في المسند [ج2 - ص224 - 7094]، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود [ج1 - ص321 - 1504].
  8. أخرجه الترمذي في كتاب البيوع، باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها [ج3 - ص584 - 1289]، والنسائي في السنن الكبرى في كتاب قطع السارق الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين [ج4 - ص344 - 7446]، وحسنه مشكاة المصابيح [ج2 - ص188 - 3036].
  9. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة [ج1 - ص505 - 1608]، وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله [ج1 - ص583 - 1821]، وأحمد في المسند [ج6 - ص23 - 24022]، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده حسن"، وابن خزيمة في كتاب الزكاة، باب كراهية الصدقة بالحشف من الثمار، وإن كانت الصدقة تطوعاً إذ الصدقة بخير الثمار، وأوساطها أفضل من الصدقة بشرارها [ج4 - ص109 - 2467]، وقال الأعظمي: "إسناده حسن لغيره صالح بن أبي عريب ضعيف لكن للحديث شواهد"، وابن حبان في كتاب التاريخ، باب إخباره ﷺ عما يكون في أمته من الفتن، والحوادث [ج15 - ص177 - 6774[، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده حسن"، الحاكم في المستدرك [ج2 - ص313 - 3126] (تعليق الذهبي قي التلخيص: صحيح)، والطبراني في المعجم الكبير [ج18 - ص55 - 99]، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الزكاة، باب ما يحرم على صاحب المال من أن يعطي الصدقة من شر ماله [ج4 - ص 136 - 7318]، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود [ج1 - ص302 - 1419].
  10. أخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة [ج2 - ص465 - 4128]، والترمذي في كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت [ج4 - ص222 - 1729]، والنسائي في كتاب الفرع، والعتيرة، ما يدبغ به جلود الميتة [ج7 - ص175 - 4249]، وابن ماجه في كتاب اللباس، باب من قال: لا ينتفع من الميتة بإهاب، ولا عصب [ج2 - ص1194 - 3613]، وأحمد في المسند [ج4 - ص310 - 18802]، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده ضعيف فيه علتان أولاهما: الانقطاع، وثانيتهما: الاضطراب"، وابن حبان في كتاب الطهارة، باب جلود الميتة [ج4 - ص94 - 1278]، والطبراني في المعجم الأوسط [ج1 - ص251 - 822]، والصغير [ج2 - ص214 - 1050]، وابن أبي شيبة في كتاب العقيقة، من كان لا ينتفع من الميتة بإهاب، ولا عصب [ج5 - ص206 - 25276]، والبيهقي في السنن الكبرى [ج1 - ص 14 - 42]، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه [ج2 - ص285 - 2910].  
  11. أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب الصدقة على موالي أزواج النبي ﷺ [ج2 - ص543 - 1421]، وفي كتاب الذبائح، والصيد، باب جلود الميتة [ج5 - ص2103 - 5211]، ومسلم في كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ [ج1 - ص276 - 100 ].
  12. أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب شراب الحلوى، والعسل من كلام ابن مسعود، [ج5 - ص2129].
 

مرات الإستماع: 0

"الْمَيْتَةَ ما مات حتف أنفه، وهو عموم خص منه الحوت، والجراد، وأجاز مالك أكل الطافي من الحوت، ومنعه أبو حنيفة، ومنع مالك أكل الجراد، حتى يسبب في موتها بقطع عضو منها، أو وضعها في الماء، أو غير ذلك، وأجازه ابن عبد الحكم دون ذلك".

قول النبي ﷺ: أحلت لنا ميتتان، ودمان[1] فهذا ظاهره الإطلاق، دون التسبب في إزهاق نفسها بوضعها في الماء، أو قطع عضو منها، فهذا مستثنى من عموم الميتة.

"وَالدَّمَ يريد المسفوح لتقييده بذلك في سورة الأنعام، ولا خلاف في إباحة ما خالط اللحم من الدم".

وهذا من أجلى الصور في حمل المطلق على المقيد من الأحوال الأربع التي له، وهو ما اتحد فيه السبب، والحكم أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا فيُقيد الدم بالمسفوحية، أما الدم الذي يكون في اللحم، ونحو ذلك، فهو معفو عنه، ولا يكون محرمًا، ولا يكون نجسًا، والدم المسفوح هو الذي يخرج من أوداج الذبيحة إذا ذُبحت.

وشيخ الإسلام - رحمه الله - له كلام في تعليل تحريم الدم، ذكرته في المجالس التي بعد العشاء في الهدايات، والتدبر، فهو يرى أن الدم يقوي الناحية الشهوية، والغضبية في الإنسان، يقول: ولهذا حُرم[2].

فقد يكون هذا، وقد يكون غيره، فهو مضر بالإنسان إذا أكله، أو شربه، وقد كانوا في الجاهلية إذا أمحلوا، سواء كان في أيام القحط، أو كان في الأسفار، إذا نفدت أزوادهم، ربما قطعوا عرقًا من الناقة، أو الجمل، ويأخذون ذلك الدم، وربما خلطوه بشيء من الوبر، وطبخوه، ويسمونه العلهز، فهذا نجس، ومستقذر، ومحرم.

"وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ هو حرام، سواء ذكّي، أو لم يذكّ، وكذلك شحمه بإجماع". 

سواء كان الخنزير أهليًا، أو وحشيًا، أو بريًا، كل هذا حرام، كذلك شحمه بإجماع.

"وإنما خص اللحم بالذكر؛ لأنه الغالب في الأكل؛ ولأن الشحم تابع له؛ ولذلك من حلف أن لا يأكل لحمًا، فأكل شحماً حنث بخلاف العكس".

يعني هذا توجيه في ذكر اللحم باعتبار أن اللحم يطلق على الأحمر دون الأبيض، فخص اللحم؛ لأنه هو المقصود الأساس الأول، ولا يعني ذلك أن غيره مباح، ومن أهل العلم - وهو الأقرب - والله أعلم - من يقول: إن قوله: أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ [الأنعام: 145] إن اللحم يشمل عند العرب إذا أطلق عند المخاطبين بالقرآن، في معهودهم يشمل الأحمر، والأبيض، فيكون ذلك شاملًا للنوعين، لكن خُص في عُرف الاستعمال بعد ذلك بالأحمر، وعلى هذا فلا يحتاج إلى مثل هذا التوجيه، فيكون لحم الخنزير يشمل الشحم، وغير الشحم.

لكن يمكن أن يقال في غيره كالعظام، والإنفحة، وكذلك أيضًا العصب، والأوردة، والعروق، ونحو ذلك إنها محرمة، لكن خُص اللحم؛ لأنه هو المقصود الأول، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء: 10] خص الأكل؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، وإلا فلو أنه أتلفها بأي لون من الإتلاف، فإن ذلك يحرم بأكل، أو غيره، لو اشترى بها سيارة، أو لو اتخذها للسياحة، واللهو، والسفر، والنزهة، أو أحرقها، فكل ذلك محرم، فهنا ذكر اللحم يشمل الأحمر، والأبيض، وسائر الأجزاء تبع لذلك؛ ولهذا دهون الخنزير، والزيوت المستخلصة منه، كلها حرام، وكذلك الشرايين، والأوردة، ونحو هذا، ويقول بعض الأطباء: بأن من أفضل ما توصلوا إليه في عمليات القلب يضعون أوردة من الخنزير، وأنها تبقى مدة أطول من غيرها، والنبي ﷺ ذكر: إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها[3] فيُمنع هذا، وهذا مما يُبتلى به الناس، فيقال لهم: هذا مفيد في كذا، وهذا ينفع في كذا، فيغترون بمثل هذا، ويعتقدون أنها حالة ضرورة، والواقع أنها ليست ضرورة. 

"وَما أُهِلَّ بِهِ أي: صيح؛ لأنهم كانوا يصيحون باسم من ذبح له، ثم استعمل في النية في الذبح". 

أصل الإهلال: رفع الصوت، حتى قيل: إن الهلال قيل له ذلك باعتبار أنهم كانوا إذا رأوه رفعوا الصوت بذلك، فصار الإهلال للذبيحة لغير الله - تبارك، وتعالى - بهذا الاعتبار أنه يُذكر عليها اسم غير الله - تبارك، وتعالى -.

يقول: "ثم استعمل في النية في الذبح" يعني، ولو لم يحصل رفع الصوت، أو لم يتكلم به، لكنه قصد بهذه الذبيحة غير الله فيحرم أكلها؛ لأن الأعمال بالنيات، وتكون نجسة، فلا تطهر بهذه الذكاة، وهذا يدل على قوة نجاسة الشرك، وأنها تسري في الذوات، فغيرت هذه الذبيحة، مع أنها ذُبحت، فحولتها إلى نجسة لمجرد النية، فنجاسة الشرك تسري، وتؤثر تأثيرًا حسيًا في الذوات، فيقال: هذه نجسة، وليست بمذكاة، بينما إذا ذُكر اسم الله عليها صارت طاهرة، ويحل أكلها، وتكون من الطيبات.

"لِغَيْرِ اللَّهِ الأصنام، وشبهها. اضْطُرَّ بالجوع، أو بالإكراه، وهو مشتق من الضرورة، ووزنه افتعل، وأبدل من التاء طاء".

بالجوع، أو الإكراه، يعني إذا لحقته مشقة غير معتبرة، فخاف على نفسه الهلاك، فإنه يأكل من الميتة، ويكون ذلك مباحًا للضرورة، والإكراه فيما لو أنه أُلجأ إلى هذا، وهُدد بالقتل مثلًا ممن يغلب على ظنه أنه يفعل، فإنه يجوز له ذلك.

"غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قيل: باغٍ على المسلمين، وعادٍ عليهم".

 

مجاهد يقول في تفسيرها: يعني غير قاطع للسبيل، أو مفارقًا للأئمة، أو خارجًا في معصية الله[4].

فهؤلاء لا يرخص لهم، إذا كان سفره، أو خروجه في معصية: كقطاع الطرق، والبغاة، وكل من كان سفره لمعصية، ونحو هذا جاء عن سعيد بن جبير[5].

وقال مقاتل بن حيان، وفي رواية عن سعيد ابن جبير: "غير مستحله"[6] فيراد بقوله: غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ بالاستحلال.

وجاء عن قتادة غَيْرَ بَاغٍ يعني في أكله، بأن يتعدى الحلال إلى الحرام، وهو يجد مندوحة[7] أي يجد البدائل، لكنه آثر الميتة مثلًا.

وبعضهم يقول: الباغي الذي يأكل الحاجة، والعادي من يأكل الميتة، وهو يجد مندوحة، فبغى بتجاوز القدر الذي يُضطر إليه، يعني يأكل ما يبقي له المهجة، ويسد الجوع الشديد، أما الخمر فلا يُرخص لمن حصل له شدة العطش، قالوا: لأنه يزيد في العطش، لكن ممكن يرخص لمن غص أن يدفع ذلك، ولم يجد إلا الخمر، فإنه يشرب ما يدفع به الغصة، لكن لا يسترسل، فيكون بذلك متعديًا، فإن الضرورات تقدر بقدرها، ولا يتجاوز في ذلك، فيحصل العدوان تارة بالبغي، وتارة بأكل أكثر من الحاجة، كالذي يأكل إلى الشبع، أو يتزود منها، ولم يقف عند حد الضرورة، أو يصنع بها ما يدل على أنه غير كاره لذلك، كأن يتفنن في صنع الطعام فيها، فهذا ليست حاله كحال المضطر.

وقل مثل هذا في التصوير، فهو حرام، وهذا الذي يضطر للصورة لشيء مما لا بد له منه في الأوراق، التي لا بد لها من صور، ونحو ذلك من المعاملات الرسمية، فإذا أراد أن يذهب إلى التصوير يتخير أحسن المصورين، ويتصنع، ويلبس على غير المعهود؛ ليخرج بأجمل، وأبهى صورة، فهذا من التجاوز، ولا يدل على كراهية هذا الإنسان، واضطراره لهذا المحرم.

وبعضهم يفسر البغي بأن يأكل عن شهوة، ويشبع، وابن جرير - رحمه الله - حملها على الجميع[8] غير الأول، فهو لا يرى أن من خرج لمعصية، وكان عاصيًا في سفره، أو نحو ذلك أنه يُمنع من الرخصة، لكن الباقي كالذي يتزود، أو يأكل أكثر من حاجته، أو يأكل عن شهوة، ويستمتع بهذا الأكل، ونحو هذا، أن ذلك جميعًا يدخل في معنى غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ.

"ولذلك لم يرخص مالك في رواية عنه للعاصي بسفره أن يأكل لحم الميتة، والمشهور عنه الترخيص له".

وهكذا في الرخص الأخرى مثل الجمع، والقصر، فبعض العلماء يقولون: إذا خرج في معصية لا يجوز له الجمع، والقصر، كل ذلك مبناه على أن هذا الإنسان العاصي في سفره لا يُعان، ولا يرخص؛ لأن الرخصة توسعة، فلا يوسع له في هذا السفر الذي يعصي الله فيه، وبعض أهل العلم يقول: هذا لا يترخص؛ لأن الجهة منفكة، فهذه الرخص تكون في السفر، وما يتعلق بالميتة تكون لحال الضرورة، وهو عاص في سفره، يأثم على هذا السفر المحرم.

"وقيل: غير باغ باستعمالها من اضطرار".

يعني ما وصل إلى حال الضرورة، بمجرد جوع محتمل أقدم على أكل الميتة. 

"وقيل: (باغ) أي: متزيد على إمساك رمقه؛ ولهذا لم يجز الشافعي للمضطر أن يشبع من الميتة، وقال مالك: بل يشبع، ويتزوّد". 

وهذا غريب، فبالنسبة للشبع فهو فوق حاجته الأصلية، يعني بما يبقي المهجة، وأما التزود فهذا بعيد؛ لأن الضرورة تندفع بالأكل الذي يبقي على نفسه، لكن لو أنه كان في سفر طويل، أو نحو ذلك، وهو لا يجد شيئًا، فأخذ من هذه الميتة من أجل أنه إن لم تندفع ضرورته أكل منها ثانية، فهذا لا إشكال فيه، وإلا فلا يجوز له بحال من الأحوال إذا اندفعت الضرورة أن يأكل من هذا الذي تزود منه، أو يعلم أنه يصل إلى بلده فيأكل من هذا، هذا لا يقول به مالك - رحمه الله - ولا غير مالك من أهل العلم.

"فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ رفع للحرج، ويجب على المضطر أكل الميتة؛ لئلا يقتل نفسه بالجوع، وإنما تدل الآية على الإباحة، ويؤخذ الوجوب من غيرها، وقد اختلف: هل يباح له أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، أو أكل ما عدا الخنزير؟ وقد اختلف هل يباح له أكل ميتة بني آدم أم لا؟ فمنعه مالك، وأجازه الشافعي لعموم الآية".

يعني الآية لما ذكر تحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير ذكر الضرورة بعدها فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فهذا يرجع إلى هذه المذكورات، من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، إذا اضطر، لكن هنا تأتي المفاضلة فيما لو وجد ميتة، وخنزير، وكذلك فيما لو وجد ميتة، ومال معصوم، فهل يأخذ من مال المعصوم، ولا يأكل من الميتة؟ أو يأكل من الميتة، ويترك المال المعصوم؟ هذا في الترجيح، والمفاضلة بين هذه الأمور، وما هو المتعين منها في حال الضرورة، للعلماء لهم كلام في هذه المسائل، وهو خارج عن حد التفسير. 

  1.  أخرجه أحمد ط الرسالة (10/ 15 - 5723) وقال محققو المسند: "حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم".، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الصيد، باب صيد الحيتان، والجراد برقم: (3218) وصححه الألباني، لكن بلفظ: "أحلت لنا ميتتان: الحوت، والجراد".
  2.  مجموع الفتاوى (17/ 338 - 645).
  3.  أخرجه البخاري (7/ 110) موقوفاً عن ابن مسعود بلفظ: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم"، وأخرجه الطبراني مرفوعاً في المعجم الكبير (23/ 326 - 749) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (ص: 237 - 1637).
  4.  تفسير مجاهد (ص: 219).
  5.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (5/ 1408).
  6.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (5/ 1408).
  7.  تفسير الثعلبي = الكشف، والبيان عن تفسير القرآن (2/ 46).
  8.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 325).

مرات الإستماع: 0

لما أمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بالأكل من الطيبات، مع شكره -تبارك وتعالى؛ وذلك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [سورة البقرة:172] قلنا: بأن الله -تبارك وتعالى- أطلق ذلك؛ لكثرة هذه الطيبات التي أباحها الله لعباده، فهي غير محصورة، لكن لما جاء الكلام على التحريم، قال بعدها: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:173] إنما حرم عليكم ما يضر من الميتة، وهي البهيمة التي ذهبت نفسها، وماتت حتف أنفها، وكذلك ما في حكمها، مما لم يذكَ الذكاة الشرعية، مما أزهقت نفسه بتغريق أو صعق، أو نحو ذلك، كما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [سورة المائدة:3] فهذه تفاصيل بالمحرمات من هذه البهائم والذبائح، وما في معناها.

وكذلك أيضًا الدم المسفوح، والمقصود به الذي يخرج من أوداج الذبيحة حال ذبحها، فهذا نجس، إن أصاب الثوب أو المكان (البقعة) فإنه يغسل لنجاسته، بخلاف الدم الذي يكون في عروق الذبيحة وفي لحمها، إذا وضع في القدر ونحو ذلك فهذا طاهر، ويُستثنى من الدم المسفوح ما صح عن النبي ﷺ: أحلت لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال[1] فالسمك والجراد لا تحتاج إلى تذكية، وأما الدمان: فالكبد والطحال، فيستثنى من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الجراد والحوت، ويباح من الدم غير المسفوح، وهو ما كان في لحمها، أو ما كان كالكبد والطحال.

وقوله -تبارك وتعالى: وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ اللحم هنا في لغة العرب يشمل اللحم الأبيض والأحمر، يعني ما نسميه اللحم والشحم، فهو داخل فيه، وبعض أهل العلم يقولون: إنه خصّ اللحم باعتبار أنه المقصود الأول في الانتفاع، والشحم تبع له، والمقصود أن كل أجزاء الخنزير محرمة من لحم وغيره، كالعصب والعظام والدهون، وما أشبه ذلك، فكل أجزاء الخنزير نجسة محرمة، سواء كان هذا الخنزير بريًّا، أو كان الخنزير أهليًّا، يعني مما يربيه الناس في المزارع، ونحو ذلك، وقد يكون متوحشًا بريًا، فكل ذلك حرام.

وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ الإهلال أصله: رفع الصوت وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ يعني عند الذبح يذكر غير اسم الله -تبارك وتعالى- كأن يذكر اسم صنم، أو المسيح أو معبود يعبد من دون الله -تبارك وتعالى- كأن يذبح ويقول: باسم اللات، أو باسم العزى، أو نحو ذلك كما كان يفعله أهل الإشراك، فهذا لا يجوز، فيحرم ولو ذُبح، فإن هذا الذبح لا يكون تذكية له، ولا يطهره.

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لما ذكر هذه المحرمات وحصرها بأربع، وقد جاء في السنة أيضًا: "نهى رسول الله ﷺ عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير"[2] والمقصود بذوات الأنياب التي تعدو وتفترس بنابها، واستثني من ذلك الضبع، فقد دلت السنة على أنه صيد، وكذلك من ذوات المخالب من الطيور، وهو ما يصيد بمخلبه، ويعدو أو يقع على الفريسة بهذا المخلب، فيخرج من هذا مثل الديك، فله مخلب، كما هو معروف، ولكنه لا يتخذه للوقوع على فريسته، فلا يصيد به، فهو خارج عن المراد.

فقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ففي حال الاضطرار يباح المحظور، وهذا معنى يسر الشريعة، وليس معنى كون هذه الشريعة يسيرة أن الإنسان يفعل ما حرم الله، وينتهك حدوده، ويجترئ على ربه -تبارك وتعالى- ويفعل ما يحلو له، ويضيع الواجبات، ويقول: الدين يسر! ليس هذا معنى يسر الشريعة، وإنما المعنى: إذا اضطر الإنسان أبيح له أن يأكل الميتة، ويأكل لحم الخنزير، ويشرب الخمر، كما لو غص؛ لأن الفقهاء يقولون: إنه إذا أشرف على الهلكة من العطش، لا يشرب الخمر؛ لأنه يزيده عطشًا، ولا يحصل به الري، وهو لا ينفعه في هذا، بل يزداد عطشًا، فلا يشرب، لكن قالوا: إذا غص مثلاً، ولم يجد شيئًا، وخاف على نفسه الهلاك، فإنه يشرب ولو خمرًا إن لم يجد شيئًا ليدفع ذلك عنه.

فقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ باغٍ: البغي بمعنى تجاوز الحد، كأن يكون هذا الإنسان بغير ضرورة، أو يأخذ فوق حاجته، فهذا لا يجوز، وبعض أهل العلم أدخل فيه من كان في سفر محرم أصلاً، كقطاع الطرق، ونحو ذلك من المجرمين، فإذا حصل له ضرورة فهل يباح له أن يأكل الميتة ونحو ذلك؟ بعض أهل العلم يقولون: لا يرخص له في هذا؛ لأنه باغٍ وعادٍ، فضرورته غير معتبرة، ولا يعان على بغيه بترخيص أكل الميتة، ونحو ذلك، هكذا قال بعض الفقهاء.

ويُؤخذ من هذه الآية من الفوائد: أن التحليل والتحريم مما يختص بالله -تبارك وتعالى- إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ من هو الذي يحرم؟ هو الله أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ  [سورة الشورى:21] قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145] لا أجد فيما أوحي إليّ، فهذا موقوف على الوحي من الله، وليس لأحد أن يحلل ويحرم، كما كان أهل الجاهلية وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ [سورة الأنعام:138] فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.

ويُؤخذ من هذه الآية: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ الشرك نجاسته معنوية، والميتة نجاستها حسية، فهذا الذي أهل به لغير الله ذكّي، ولكن لما ذُكر عليه غير اسم الله - تعالى - سرت هذه النجاسة المعنوية إلى هذا المذبوح، فتحول إلى نجاسة حسية، فالنجاسة المعنوية قد تسري وتصير في حال تُؤثر في الذوات، فصارت هذه الذبيحة نجسة بعينها، لماذا؟ هي ليست بميتة ماتت حتف أنفها، وإنما ذكيت، لكن لما ذُكر عليها غير اسم الله صارت نجسة بعينها، فالنجاسة المعنوية أثرت نجاسة العين، نسأل الله العافية، فهكذا قوة تأثير الشرك والنجاسات المعنوية، والله -تبارك وتعالى- قال عن المشركين: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [سورة التوبة:28] ما الذي جعلهم بهذه المثابة؟ هو الشرك، وإن لم يكن المقصود بهذه الآية الأخيرة أن نجاستهم حسية بالنسبة لهم في الحياة.

فالراجح أن المشرك ليس بنجس العين، وإنما نجاسته معنوية، لكن ميتة المشرك نجسة، أما المؤمن فكما قال النبي ﷺ: المؤمن لا ينجس[3] فالمؤمن طاهر، والله قال: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة:79] وقال ﷺ: لا يمس القرآن إلا طاهر[4] فالآية الراجح أنها في الصحف التي في أيدي الملائكة، أو اللوح المحفوظ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [سورة الواقعة:78] وهو اللوح المحفوظ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة:79] لكن في قول النبي ﷺ: لا يمس القرآن إلا طاهر[5] على ما فيه من كلام في الإسناد، برواياته المختلفة، فإن المقصود بذلك عند بعض أهل العلم أن الذي يُمنع منه هو الكافر؛ لأنه نجس، وبعضهم يقول غير ذلك في معنى الحديث لو صح.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: من استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة المائدة: 3][6] ويقول شيخ الإسلام: فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم، ولم يكن سببه معصية، وهي ترك واجب، أو فعل محرم، لم يحرم عليهم؛ لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد[7] ما احتاجوا إليه في معايشهم، ولم يكن سبب هذا الاحتياج هو التقصير بفعل واجب، أو ارتكاب محرم، كما قلنا: الذي يقطع الطريق مثلاً، فهذا الاضطرار لا يبيح له أكل الميتة مثلاً، أو تعاطي المحرم. 

وشيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر في المحرمات أن الشرك بالله -تبارك وتعالى- لا يباح في حال الضرورة، بل هو محرم مطلقًا، وليس المقصود التلفظ بكلمة الكفر، وإنما أن يكفر الإنسان حقيقة بدعوى أنه مضطر، يعتقد الكفر، ويبوء بالكفر بحجة أنه عليه ضغوط، أو نحو ذلك، فهذا لا يجوز، ولا تبيحه الضرورة، ولو مات، ولو قتل، فهذا فيما يتعلق بالكفر، لكن فيما يتعلق بالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والأكل من الذبائح التي ذبحت على غير اسم الله -تبارك وتعالى- فهذه تبيحها الضرورة.

فقول شيخ الإسلام -رحمه الله: بأن ما احتاج إليه الناس في معاشهم، ولم يكن سببه معصية[8] وهي ترك واجب، أو فعل محرم، فإذا كان ذل بسبب تقصيره بترك الواجب، أو فعل المحرم، فإنه لا يبيح له ذلك، على هذا القيد الذي ذكره.

ويُؤخذ من هذه الآية رفع الحرج عن الأمة، فمن القواعد الخمس الكبرى: قاعدة: المشقة تجلب التيسير، وأنه يدخل تحت ذلك من القواعد: الضرر يزال، ورفع الحرج، وإذا ضاق الأمر اتسع، ونحو ذلك، ومبنى هذه القواعد على مجموعة من الأدلة، منها هذه: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ وقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج:78].

وشيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر علة في تحريم الدم المسفوح، يقول: لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، وزيادته توجب طغيان هذه القوى: الغضبية الشهوية، وهو مجرى الشيطان من البدن[9] كما قال النبي ﷺ: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم[10] لكن هذه العلة هي علة اجتهادية مستنبطة، يعني ليست بمنصوصة، يحتمل أن تكون هي العلة، ويحتمل أن يكون السبب غير ذلك، لكن لا شك أن شرب الدم أو أكله أنه يضر.

وأهل الجاهلية كانوا في أوقات الشدة والفقر والقحط، ونحو ذلك ربما طبخوا الدم، وربما وضعوا عليه شيئًا من الوبر وأكلوه، يسمونه (العلهز) كما جاء في خبرهم؛ لما أمحلوا وصاروا في حال من الشدة وذلك لما دعا عليهم النبي ﷺ قال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف[11] يعني الجدب والقحط، فأكلوا الجيف والجلود، وأكلوا (العلهز) وكانوا في أسفارهم، ونحو ذلك إذا أصابهم شدة، ونفدت أطعمتهم فصدوا عرق الجمل أو الناقة، وتلقوا الدم بإناء، ثم يطبخونه، ويأكلونه، فهذا ضار يورث أدواء وعلل مختلفة، لكن في حال الضرورة يأخذ بقدر ما يدفع عنه الضرورة دون توسع.

يعني بعض الناس قد يجدها فرصة أنه يقول: أنا في حال ضرورة، فيأكل أكلاً كثيرًا فوق حاجته مما يدفع ضرورته، فهذا لا يصح، وحال الإنسان في الضرورة ينبغي أن تقدر بقدرها، كما هو معروف في القاعدة الفقهية: أن الضرورات تبيح المحظورات، والقاعدة الأخرى: أن الضرورة تقدر بقدرها، فإذا كان مثلاً يجوز كشف العورة للعلاج التطبيب، ونحو ذلك، فإن ذلك ليس معناه أن يكشف كل شيء، وإنما يُكشف موضع الحاجة فقط.

فالمرأة إذا احتاجت أن تتطبب عند الطبيب لشيء مثلاً في بعض وجهها، أو بعينها فإنها تكشف هذا الموضع فقط، والأصل طبيبة، فإن لم يوجد فطبيب، تكشف هذا الموضع، لا تكشف الوجه كله، هي تحتاج أنها تتطبب في شيء في نحرها، أو نحو هذا ليس معنى ذلك أنها تتجرد أمام الطبيب، هذا لا يجوز، فالضرورات تقدر بقدرها، سواء كان ذلك في المطعوم، أو في المنظور، أو في الملبوس، أو غير ذلك، ولا يتوسع الإنسان فيه، والله تعالى أعلم.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية ما جاء في ختمها: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني لمن وقع في الضرورة، فهذا من سعة رحمته -تبارك وتعالى- بعباده، فهذه الشريعة مبينة على الرحمة، وليست على التعسير والشدة والتضييق على الناس وما إلى ذلك، وإنما حرم عليهم الأشياء التي تضرهم، وهو رحيم بهم، فإذا اضطروا فتح لهم هذا المحرم، فيأخذون بقدر ضرورتهم، هكذا ينظر إلى هذه الشريعة فتُحب، ونعلم أنها رحمة للعباد، وليست حجرًا ومشقة، وأن من تمسك بدينه أنه وقع في شقاء وعناء وضيق وشدة، هذا الكلام غير صحيح، ومن يقول هذا لم يفهم شرع الله -تبارك وتعالى.

وقدم الغفور على الرحيم؛ لأن المغفرة سلامة من باب التخلية، والرحمة تحلية، فالرحمة غنيمة، والمغفرة سلامة، بمعنى أنه لا يناله ولا يطاله شيء من العقوبة من أثر هذه الأفعال والمقارفات، فيستر ولا يفتضح، وهذا معنى الغفر، فالمغفرة وقاية وستر، فهي تشمل الأمرين، فهنا قال: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تقول: رب اغفر لي، وارحمني، اغفر لي، فهذا طلب السلامة والتجاوز والستر، فهذه تخلية وسلامة من المؤاخذة، يبقى الرحمة التي بها يدخل الجنة، ويصل العبد بها إلى أعلى الدرجات، وتنزل عليه الألطاف الربانية، فهذه تحلية وغنيمة وزيادة، فالأول السلامة، ثم بعد ذلك الغنيمة، فالتخلية قبل التحلية.

  1.  أخرجه أحمد (5723) وقال محققو المسند: "حديث حسن".
  2.  أخرجه مسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير برقم: (1934).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره وقال عطاء: «يحتجم الجنب، ويقلم أظفاره، ويحلق رأسه، وإن لم يتوضأ» برقم: (285) ومسلم في كتاب الحيض، باب الدليل على أن المسلم لا ينجس برقم: (371).
  4.  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم: (13217) وصححه الألباني في صحيح الجامع (7780).
  5.  سبق تخريجه.
  6.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 40).
  7.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 40).
  8.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 40).
  9.  مجموع الفتاوى (17/ 179).
  10.  أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب الشهادة تكون عند الحاكم، في ولايته القضاء أو قبل ذلك، للخصم برقم: (7171) ومسلم في كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به برقم: (2174).
  11.   أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب تسمية الوليد برقم: (6200) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة برقم: (675).