"يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد ﷺ في كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد له بالرسالة، والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم، وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا، والتحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس، ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاءً على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نزرٌ يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى، واتباع الحق، وتصديق الرسول، والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير، فخابوا، وخسروا في الدنيا، والآخرة؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صِدْقَ رسوله ﷺ بما نصبه، وجعله معه من الآيات الظاهرات، والدلائل القاطعات، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه، وصاروا عوناً له على قتالهم، وباءوا بغضب على غضب، وذمهم الله في كتابه في غير موضع، فمن ذلك هذه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا، وهو عرض الحياة الدنيا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ أي: إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10]، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن الذي يأكل، أويشرب في آنية الذهب، والفضة، إنما يُجَرْجِرُ في بطنه نار جهنم[1]." فقوله - تبارك، وتعالى -: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ تجد هذه الآية، وإن كانت نازلة في اليهود إلا أنها لا تختص بهم، فكل من وقع في شيء من ذلك، وشابههم في هذه الصفة فإنه يشمله هذا الخطاب. قوله: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا مرَّ بنا قبل أن الاشتراء في مثل هذه المواضع يأتي بمعنى الاستعاضة كما في قوله - سبحانه، وتعالى - في أول هذه السورة: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16]، فاستعاضوا هذا بهذا، وهؤلاء اشتروا بما عرفوا من أحكام الله ، ووحيه، والحق المنزل، واستعاضوا عنه بثمن قليل مقابل الإبقاء على رئاساتهم، وما كانوا يحصلون عليه من المنافع من تعظيم الناس لهم، وتقديمهم إياهم، وما كانوا يتقاضونه منهم من الأموال، والجبايات، فاستعاضوا هذا بذاك، وهذا شأن بعض الناس يحرف، ويبدل، ويكتم الحق؛ لأنه يرى أن له في الباطل شهرة، ومعيشة، ومغنم؛ وهذا ما نلمسه جلياً في شيوخ الضلال، ورؤوس أهل البدع فمهما بلغهم من النصوص المحكمة، والدلائل القاطعة على بطلان ادعائهم، فإن الواحد منهم لا يرجع عما هو فيه؛ لأن ذلك يقتضي ضياع رئاساته، وخسارته للأموال التي تحصل عليها من المخدوعين به، وضعف الأتباع، وتساقطهم، ونسبته إلى الباطل، والزيف، ونسبة آبائه، وأجداده، وما إلى ذلك.
وكذا الجهود، والأعمال التي بنى عليها منزلته، ومكانته هي خوض في الباطل، لكنه يأبى أن يقر، أو يرجع، أويعترف بالحق، كل ذلك لئلا يضيع، ويفوت على نفسه شيئاً من تلك المصالح التي تحصل عليها من دجله على الناس، وغشهم، ولا حول، ولا قوة إلا بالله، وبالرغم من كل ما يأخذونه إلا أنه يعتبر ثَمَنًا قَلِيلا كما أخبر الله - سبحانه -؛ لأنه مهما كان كثيراً، ومثيراً فهو قليل، وكل ما في الدنيا قليل بالنسبة للآخرة.
قوله: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ بعض أهل العلم يقول: المراد بذلك أنهم يأكلون ما يوجب لهم النار، بأخذهم الرشا، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وقد يصل بهم الحال إلى أنهم يفتون أهل الأهواء من الأغنياء بما يهوونه مما يوسع عليهم في أمر المكاسب، من أجل ثمن بخس، ودراهم معدودة، وربما أفتوا العامة، والفقراء بأمور تناسبهم من أجل أن يحظوا بتأييدهم، واتباعهم، أوالحصول على منافع، ولو كان ذلك عن طريق السخرة، فيتفرغون له يوماً في الأسبوع يسمونه بالسخرة يشتغلون عنده فيه مجاناً، في حقله، في إقطاعاته، في مزارعه، في أراضيه، وهكذا..، فالمقصود أن من أهل العلم من يفسر قوله - تبارك، وتعالى -: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ يعني ما يوجب لهم النار، فالرشا التي يأكلونها، والأموال التي يأخذونها بالباطل توجب لهم العذاب، والعياذ بالله، فسمي كذلك لاعتبار نتيجته، وما يئول إليه، وعاقبته، وهذا أسلوب عربي معروف، ولكن الأولى من ذلك، والأحسن هو ما مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أنهم يأكلون ناراً؛ لأن هذه الأشياء التي يأخذونها هي نار يتجرعونها، ويجرجرونها في بطونهم، ويؤيده ما روته زينب بنت أم سلمة عن أمها قالت: قال رسول الله ﷺ: إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحوٍ مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار [2] يعني هذه التي حُكم له بها، سواء كانت أرضاً، أوغير ذلك، إنما هي قطعة من نار، وأوضح من هذا أيضاً هذه النصوص التي أوردها ابن كثير - رحمه الله - كقوله - تعالى -: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [سورة النساء:10]، ماذا قال الله عنهم؟ قال: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا، وكذلك من يشرب بآنية الذهب، والفضة إلى غير ذلك من النصوص الدالة على كون هذه الرشا، والأموال تكون ناراً يتجرعها من يتعامل بها، وهذا ما دل عليه ظاهر الآيات، - والله أعلم بالصواب -.
"وقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وذلك لأنه تعالى غضبانُ عليهم؛ لأنهم كتموا، وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، أي: لا يثني عليهم، ولا يمدحهم، بل يعذبهم عذابا أليماً."وَلا يُزَكِّيهِمْ، لا يزكيهم لا بالثناء، ولا يزكيهم بأن يطهرهم من أرجاسهم، وآثامهم، وانحرافاتهم مطلقاً، فهم منغمسون منغمرون في أوحال الذنوب، والآثام، والأرجاس، ولذلك سلبهم الله التزكية مطلقاً، بخلاف أهل الإيمان الذين امتن عليهم ببعث رسوله ﷺ، وذكر أن من المعاني الحاصلة لهم أن الله يزكيهم.
فهؤلاء لا يزكيهم الله ، ولا يكلمهم ومفهوم مهالفته أنه إذا لم يكلم هؤلاء تكليم رضى؛ فإنه يكلم أهل الإيمان هذا مفهوم المخالفة يكلم أهل الرضى كلام الرضى، يكلمهم، هؤلاء لا يكلمهم الله يعني كلام رضى كلام كلام تكريم، لكنه جاء في غيره من النصوص ما يدل على أنه يكلمهم كقوله - تبارك، وتعالى -: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108] فهذا تكليم، وفي هذه الآية ينفي الله تكليمه لهم، وهنا للعلماء جوابان في الجمع بينهما:
الأول: أن ذلك يختلف باختلاف المقامات، لا يكلمهم في مقام، ويكلمهم في مقام آخر.
والأحسن منه أن المقصود لا يكلمهم تكليم رضا، تكليم ثناء، ولكنه يكلمهم تبكيتاً، وإهانةً، وتحقيراً لهم، قال:اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108]
- أخرجه البخاري في كتاب الأشربة - باب آنية الفضة (5311) (5/2133)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة - باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال (2065) (3/1634) إلا أن قوله ((أو يشرب في آنية الذهب)) أخرجها ابن أبي شيبة (5/103) (24135) وصححه الألباني في الجامع الصغير برقم (1692).
- رواه البخاري في كتاب الشهادات- باب من أقام البينة بعد اليمين (2534) (2/952)، ومسلم في كتاب الأقضية- باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713) (3/1337).