الإثنين 24 / ربيع الآخر / 1446 - 28 / أكتوبر 2024
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَيَشْتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُو۟لَٰٓئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ۝ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [سورة البقرة:17–176]. 
"يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد ﷺ في كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد له بالرسالة، والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم، وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا، والتحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس، ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاءً على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نزرٌ يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى، واتباع الحق، وتصديق الرسول، والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير، فخابوا، وخسروا في الدنيا، والآخرة؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صِدْقَ رسوله ﷺ بما نصبه، وجعله معه من الآيات الظاهرات، والدلائل القاطعات، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه، وصاروا عوناً له على قتالهم، وباءوا بغضب على غضب، وذمهم الله في كتابه في غير موضع، فمن ذلك هذه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا، وهو عرض الحياة الدنيا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ أي: إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10]، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن الذي يأكل، أويشرب في آنية الذهب، والفضة، إنما يُجَرْجِرُ في بطنه نار جهنم[1]." 
فقوله - تبارك، وتعالى -: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ تجد هذه الآية، وإن كانت نازلة في اليهود إلا أنها لا تختص بهم، فكل من وقع في شيء من ذلك، وشابههم في هذه الصفة فإنه يشمله هذا الخطاب. قوله: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا مرَّ بنا قبل أن الاشتراء في مثل هذه المواضع يأتي بمعنى الاستعاضة كما في قوله - سبحانه، وتعالى - في أول هذه السورة: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16]، فاستعاضوا هذا بهذا، وهؤلاء اشتروا بما عرفوا من أحكام الله ، ووحيه، والحق المنزل، واستعاضوا عنه بثمن قليل مقابل الإبقاء على رئاساتهم، وما كانوا يحصلون عليه من المنافع من تعظيم الناس لهم، وتقديمهم إياهم، وما كانوا يتقاضونه منهم من الأموال، والجبايات، فاستعاضوا هذا بذاك، وهذا شأن بعض الناس يحرف، ويبدل، ويكتم الحق؛ لأنه يرى أن له في الباطل شهرة، ومعيشة، ومغنم؛ وهذا ما نلمسه جلياً في شيوخ الضلال، ورؤوس أهل البدع فمهما بلغهم من النصوص المحكمة، والدلائل القاطعة على بطلان ادعائهم، فإن الواحد منهم لا يرجع عما هو فيه؛ لأن ذلك يقتضي ضياع رئاساته، وخسارته للأموال التي تحصل عليها من المخدوعين به، وضعف الأتباع، وتساقطهم، ونسبته إلى الباطل، والزيف، ونسبة آبائه، وأجداده، وما إلى ذلك.
وكذا الجهود، والأعمال التي بنى عليها منزلته، ومكانته هي خوض في الباطل، لكنه يأبى أن يقر، أو يرجع، أويعترف بالحق، كل ذلك لئلا يضيع، ويفوت على نفسه شيئاً من تلك المصالح التي تحصل عليها من دجله على الناس، وغشهم، ولا حول، ولا قوة إلا بالله، وبالرغم من كل ما يأخذونه إلا أنه يعتبر ثَمَنًا قَلِيلا كما أخبر الله - سبحانه -؛ لأنه مهما كان كثيراً، ومثيراً فهو قليل، وكل ما في الدنيا قليل بالنسبة للآخرة.
قوله: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ بعض أهل العلم يقول: المراد بذلك أنهم يأكلون ما يوجب لهم النار، بأخذهم الرشا، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وقد يصل بهم الحال إلى أنهم يفتون أهل الأهواء من الأغنياء بما يهوونه مما يوسع عليهم في أمر المكاسب، من أجل ثمن بخس، ودراهم معدودة، وربما أفتوا العامة، والفقراء بأمور تناسبهم من أجل أن يحظوا بتأييدهم، واتباعهم، أوالحصول على منافع، ولو كان ذلك عن طريق السخرة، فيتفرغون له يوماً في الأسبوع يسمونه بالسخرة يشتغلون عنده فيه مجاناً، في حقله، في إقطاعاته، في مزارعه، في أراضيه، وهكذا..، فالمقصود أن من أهل العلم من يفسر قوله - تبارك، وتعالى -: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ يعني ما يوجب لهم النار، فالرشا التي يأكلونها، والأموال التي يأخذونها بالباطل توجب لهم العذاب، والعياذ بالله، فسمي كذلك لاعتبار نتيجته، وما يئول إليه، وعاقبته، وهذا أسلوب عربي معروف، ولكن الأولى من ذلك، والأحسن هو ما مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أنهم يأكلون ناراً؛ لأن هذه الأشياء التي يأخذونها هي نار يتجرعونها، ويجرجرونها في بطونهم، ويؤيده ما روته زينب بنت أم سلمة عن أمها قالت: قال رسول الله ﷺ: إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحوٍ مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار [2] يعني هذه التي حُكم له بها، سواء كانت أرضاً، أوغير ذلك، إنما هي قطعة من نار، وأوضح من هذا أيضاً هذه النصوص التي أوردها ابن كثير - رحمه الله - كقوله - تعالى -: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [سورة النساء:10]، ماذا قال الله عنهم؟ قال: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا، وكذلك من يشرب بآنية الذهب، والفضة إلى غير ذلك من النصوص الدالة على كون هذه الرشا، والأموال تكون ناراً يتجرعها من يتعامل بها، وهذا ما دل عليه ظاهر الآيات، - والله أعلم بالصواب -.
"وقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وذلك لأنه تعالى غضبانُ عليهم؛ لأنهم كتموا، وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، أي: لا يثني عليهم، ولا يمدحهم، بل يعذبهم عذابا أليماً."وَلا يُزَكِّيهِمْ، لا يزكيهم لا بالثناء، ولا يزكيهم بأن يطهرهم من أرجاسهم، وآثامهم، وانحرافاتهم مطلقاً، فهم منغمسون منغمرون في أوحال الذنوب، والآثام، والأرجاس، ولذلك سلبهم الله التزكية مطلقاً، بخلاف أهل الإيمان الذين امتن عليهم ببعث رسوله ﷺ، وذكر أن من المعاني الحاصلة لهم أن الله يزكيهم.
فهؤلاء لا يزكيهم الله ، ولا يكلمهم ومفهوم مهالفته أنه إذا لم يكلم هؤلاء تكليم رضى؛ فإنه يكلم أهل الإيمان هذا مفهوم المخالفة يكلم أهل الرضى كلام الرضى، يكلمهم، هؤلاء لا يكلمهم الله يعني كلام رضى كلام كلام تكريم، لكنه جاء في غيره من النصوص ما يدل على أنه يكلمهم كقوله - تبارك، وتعالى -: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108] فهذا تكليم، وفي هذه الآية ينفي الله تكليمه لهم، وهنا للعلماء جوابان في الجمع بينهما: 
الأول: أن ذلك يختلف باختلاف المقامات، لا يكلمهم في مقام، ويكلمهم في مقام آخر.
والأحسن منه أن المقصود لا يكلمهم تكليم رضا، تكليم ثناء، ولكنه يكلمهم تبكيتاً، وإهانةً، وتحقيراً لهم، قال:اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108]
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأشربة - باب آنية الفضة (5311) (5/2133)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة - باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال (2065) (3/1634) إلا أن قوله ((أو يشرب في آنية الذهب)) أخرجها ابن أبي شيبة (5/103) (24135) وصححه الألباني في الجامع الصغير برقم (1692).
  2. رواه البخاري في كتاب الشهادات- باب من أقام البينة بعد اليمين (2534) (2/952)، ومسلم في كتاب الأقضية- باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713) (3/1337).

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ اليهود".

باعتبار أنهم كتموا صفة النبي ﷺ والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر أنهم فعلوا ذلك لئلا تذهب رئاستهم[1] وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا، والتحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا إن أظهروا هذا يعني صفة النبي ﷺ وأنه النبي الموصوف في كتبهم أن الناس يتبعونه، ويتركونهم، فتذهب تلك المكانة، والمنزلة، وتذهب تلك العطايا، والهبات التي كانوا يعطونهم إياها.

فيدخل هذا في ذلك، ويدخل غير هذا من الرشا.

والكتمان هنا يدخل فيه كتمان صفة النبي ﷺ ويدخل فيه غير ذلك من الكتمان، يعني كتموا مثلًا حد الزنا، وكما في القصة المشهورة المعروفة في الحبر لما سألهم النبي ﷺ عن حد الزنا، حينما أخذوا رجلًا، وامرأة، وطافوا بهما مع تسويد الوجه منكسين على حمار، فقالوا: هذا الذي يجدونه في كتابهم، فدعا بالتوراة، فقرأ الحبر، ووضع أصبعه على الآية التي فيها حد الزنا، فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله، مُره فليرفع أصبعه، فإذا آية الزنا تلوح حد الزنا[2].

والله - تبارك، وتعالى - يقول: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام: 91] فهذا الإخفاء هو من الكتمان، تفاصيل الشريعة للممالأة، مواطأة، لهوى في نفوسهم، للأموال التي كانوا يأخذونها من الرشا، كل ذلك مما يتقاضونه على هذا الكتمان داخل فيه وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فكل عرض الدنيا قليل، وبعض أهل العلم يقول: أصلًا الذي كانوا يأخذونه هو شيء قليل، أيًا كان الواقع أن عرض الدنيا قليل.

فإذا كانت هذه الآية في اليهود فمن وقع في هذا من هذه الأمة بكتمان الحق، وكتمان ما أنزل الله - تبارك، وتعالى - فإنه أشد من هؤلاء اليهود؛ لأنه على قدر المقام يكون الملام، فإذا كان هذا الذم متوجهًا بالوعيد إلى هؤلاء اليهود، فهذه الأمة أكمل، وكتابها أعظم، ونبيها ﷺ أشرف، فالذم المتوجه إليهم إذا حصل الكتمان يكون أشد، فلا يختص هذا باليهود، ويقال: هذه الأمة بمنأى عنه.

"ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ أي: أكلهم للدنيا يقودهم إلى النار، فوضع السبب موضع المسبب".

هذا احتمال، أن هذا الأكل للرشا، والأموال التي يحصّلونها من هذا الطريق تقودهم إلى النار.

"وقيل: يأكلون النار في جهنم حقيقة".

وهذا هو الظاهر، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: أنهم يأكلون النار حقيقة[3] وهذا يكون في النار، في الآخرة، يعني الذي يأكلونه الآن هو طعام، وشراب، لكن في القيامة يكون نارًا تلظى في أجوافهم، كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] وفي الحديث: الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم[4] فهذا صريح.

"وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عبارة عن غضبه عليهم، وقيل: لا يكلمهم بما يحبون".

بالنسبة للتأويل الأول: "عبارة عن غضبه عليهم" هذا تأويل للآية بصفة الغضب، وهؤلاء من قِبَل أهل الكلام الذين لا يثبتون صفة الغضب لله فيقولون: الغضب هو غليان دم القلب، فيفسرونه بلازمه، يقولون: الغضب هو إرادة الانتقام، لكن قال في قوله: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ: عبارة عن غضبه عليهم، لكن نقول: إنه على ظاهره، أي: لا يكلمهم تكليم رضا، كما قال الله : اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] وهذا بمفهوم المخالفة يدل على أنه يكلم أهل الإيمان بما يحبون، كما قال: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58].

والأشاعرة يثبتون صفة الكلام إجمالًا، ولكن حقيقة قول الأشاعرة هي نفي الكلام، يعني هم يقولون: يتكلم لكن لا بحرف، وصوت، وكلامه لا تعاقب فيه، ولا انقضاء، فالكلام عندهم هو المعنى النفسي، وأما القرآن فهو عندهم عبارة عن كلام الله، إما أنه من كلام جبريل عبّر عن المعنى، أو هو من كلام النبي ﷺ وألقى إليه المعنى جبريل فعبّر عنه النبي ﷺ فحقيقة قول الأشاعرة، هي أن القرآن مخلوق، فهم يتفقون مع المعتزلة في حقيقة قولهم، لكنهم يثبتون الكلام النفسي، والواقع أن الكلام النفسي لا قيمة له، ولا يوجد - كما يقولون - معنى نفسي من غير لفظ، فإن الكلام هو مجموع اللفظ، والمعنى، كالإنسان فهو مجموع الروح، والجسد، فالروح من غير جسد، لا يقال له: إنسان، وكذا الجسد من غير روح، لا يقال له: إنسان، كذلك الكلام، والقول، ونحو ذلك، لا يقال: إنه المعنى، بل مجموع اللفظ، والمعنى، هذا في لغة العرب؛ ولذلك شنع عليهم المخالفون من المعتزلة، وغيرهم، قالوا: لا يعقل كلام نفسي، ولا تعاقب فيه، ولا انقضاء؛ ولذلك كان قول المتكلمين من الأشاعرة في الكلام النفسي، وفي مسألة الكسب في أفعال العباد، من الأمور التي لا يمكن أن تتصور بصورة صحيحة؛ لأنه كما قال شيخ الإسلام: الباطل لا يمكن تصويره؛ لأنه لو كان حقًا لأمكن تصويره، أما الباطل فلا يمكن فيه ذلك.

فهنا وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ الأشاعرة يثبتون الكلام، لكن يقولون: من غير حرف، ولا صوت، ولا يكون متعلقًا بالمشيئة، والإرادة، ومن، ثم إذا عُبّر عنه بالعربية فهو قرآن، وإذا عُبّر عنه بالعبرانية فهو توراة، وإذا عبّر بالسريانية فهو إنجيل، والأمر عين النهي، وعين الخبر، وعين الاستخبار، وهذا من أعجب الأشياء.

يعني كأن معنى قوله: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عبارة عن غضبه، يعني الأشاعرة لا يفسرون الكلام بالغضب، لكن هنا في هذا السياق يقول: "عبارة عن غضبه عليهم" يعني هل يقصد هو نفي صفة الكلام؟ ليس بالضرورة ذلك، فالأشاعرة لا ينفون هذه الصفة، لكن كان اللائق أن يقال: هذا يدل على إثبات صفة الكلام لله بمفهومه وَلَا يُكَلِّمُهُمُ لأن كلامه لو كان ممتنعًا لما كان تخصيص هؤلاء له معنى وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ فدل على أنه يكلم أهل الرضا، فهذه الآية وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عبارة عن غضبه عليهم، يعني هو فسره بلازمه، فلو أثبت الصفة، وفسر باللازم فلا إشكال.

"وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يثني عليهم".

فسره هنا بأحد المعنيين:

الأول: هذا الذي ذكره: الثناء، تقول: فلان يزكي فلان فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم: 32] تثني عليه، وتقول: أنا تقي، وأنا أخاف من الله، وأنا صالح، وكذلك لا يزكي بعضكم بعضًا فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ نزل النفوس منزلة النفس، مثل قوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ [البقرة: 188] وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] فيكون هنا النهي عن التزكية، والنبي ﷺ نهى عن هذا، ورخص في حال الاضطرار، أو الحاجة، أن يقول: أحسبه، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا[5] وهكذا قول فلان شهيد، يقول عمر : "وأخرى تقولونها في مغازيكم: قتل فلان شهيداً، مات فلان شهيداً، ولعله أن يكون قد أوقر عجز دابته، أو دف راحلته ذهباً، وفضة، يبتغي التجارة، فلا تقولوا ذاكم، ولكن قولوا كما قال محمد ﷺ: من قتل في سبيل الله فهو في الجنة[6].

فالتزكية تكون بمعنى الثناء، ونحو ذلك، ومن ذلك أن يقول شخص أحيانًا لشخص من أهل الخير، والصلاح، وطلاب العلم، ونحو ذلك: أكتب لي تزكية، يعني أن تثني عليه.

الثاني: هو بمعنى التطهير، وهذا يكون بتزكية الله للعبد فيزكيه من الشرك، وأدرانه، ومن أدناس الموبقات، وسائر المدنسات، فتكون نفسه زكية، كما قال الله : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9، 10] فالتزكية تكون بمعنى التطهير للنفس، وتكون بمعنى الثناء فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ فهذا بمعنى الثناء، ونحو ذلك، وليس ذلك بمعارض لقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا التزكية هناك بمعنى تهذيب النفوس، وتطهيرها من الشرك، والمعاصي، والموبقات، وسائر المدنسات وَلَا يُزَكِّيهِمْ يحتمل أن يكون المعنى: لا يطهرهم، ويحتمل أن يكون: لا يثني عليهم. 

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 483).
  2. ( أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب قول الله تعالى: يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [البقرة: 146] برقم: (3635) ومسلم في الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا رقم: (1699).
  3. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 483).
  4.  أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب آنية الفضة برقم: (5634) ومسلم في اللباس، والزينة، باب تحريم استعمال أواني الذهب، والفضة في الشرب رقم: (2065).
  5.  أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب إذا زكى رجل رجلا كفاه برقم: (2662) ومسلم في الزهد، والرقائق، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط رقم: (3000).
  6.  أخرجه مسند أحمد ط الرسالة (1/ 419 - 340) وقال محققو المسند: " إسناده قوي، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي العجفاء".

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة البقرة:174] فهذا وعيد من الله -تبارك وتعالى- لكل من يكتم ويخفي ما أنزل الله -تبارك وتعالى- في كتبه، سواء كان ذلك صفة النبي ﷺ كما يجده أهل الكتاب، وكذلك أيضًا كتمان ما أنزل الله -تبارك وتعالى- على رسله -عليهم الصلاة والسلام- من الحق الذي بيّنه في المسائل العلمية والعملية، فيدخل في ذلك مجرد الكتمان.

ويدخل في ذلك أيضًا التبديل والتحريف، فإن كل من بدل وحرف، فلا بد أن يكون كاتمًا لما أنزله الله -تبارك وتعالى؛ لأنه حينما يبدل المنزل يكون قد كتم الحق وبدله بغيره، فلبس على الناس بذلك، فيدخل في هذا هؤلاء اليهود الذين يأخذون الرشا، ويشترون به ثمنًا قليلاً، مما يستعيضون بهذا التبديل، وكذلك ما يحصل لهم من ألوان المكاسب الدنيوية المادية كالأموال، والمعنوية كالولايات والرئاسات، أو القرب من ذوي الجاه، ونحو ذلك، فهذا كله من الثمن القليل وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فكل ما في هذه الحياة من أعراضها الزائلة، فالواقع أنه قليل، سواء كان هذا الذي أخذوه كثيرًا، أو كان قليلاً حقيرًا، فكله قليل في حقيقته لو أنهم أمعنوا النظر.

والواقع أن هؤلاء لو كانوا يعقلون لأدركوا أنهم ما يأكلون في بطونهم إلا النار، سواء قيل بأنهم يأكلون نارًا في نار جهنم، كما يقوله بعض المفسرين، أو أن ذلك الذي يأكلونه من الرشا والأموال المحرمة إنما هو في حقيقته نار؛ لأن ذلك يتحول إلى عذاب؛ لأنه سحت، وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به[1] ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10].

فهذا الذي يأكله الواقع أنه نار؛ ولذلك قال النبي ﷺ في التحاكم والتقاضي إليه: فإنما هي قطعة من النار[2] يعني إذا أخذ مال أخيه بغير حق، قد يكون ألحن بحجته من الآخر، فيكون الحكم له، وقد يكون مبطلاً، فيكون كما قال النبي ﷺ: فإنما هي قطعة من النار[3] وهكذا كل ما يُؤخذ بغير حق فالواقع أنه نار، فإذا أخذ الإنسان مال أخيه بغير حق فهي نار، والذي يأكل أموال اليتامى الواقع أنه نار.

وهكذا الذي يأكل الرشوة، ونحو ذلك من الأموال المحرمة، فالواقع أنه يأكل نارًا، وليس ذلك فقط، قال: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يكلمهم كلام رضا وتكريم، وإلا فإن الله يقول لأهل النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108] فهذا لا ينافي نفي التكليم، فالمقصود به أنه لا يكلمهم تكليم تكريم، وهكذا أيضًا: وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يزكيهم بمعنى أنه لا يطهرهم من دنس الذنوب والكفر؛ لأن جرائرهم من الكفر بالله -تبارك وتعالى- لا تطهرها مياه البحار، فلا يحصل لهم التزكية وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ موجع، فذكر لهم هذه الأمور الأربعة: أنهم ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فكل واحدة تكفي للحذر من مواقعة مثل هذا الفعل المشين.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد: وجوب نشر العلم، وبث العلم في الناس إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ويتأكد نشره إذا دعت الحاجة إليه، إما بالسؤال عنه بلسان المقال أو بلسان الحال، فإنه لا يجوز أن يؤخر ذلك، إلا إذا كان يترتب على بث هذا العلم مفسدة أكبر، كأن يكون الجواب فتنة للسائل؛ لأن عقله لا يطيق ذلك، أو لأن قدرته من الناحية العلمية لا تطيق ذلك، فهنا كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: من المسائل ما جوابها السكوت[4] وكما قال عبد الله بن مسعود : (ما أنت بمحدث قومًا حديثًا، لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة)[5] وقال علي : (حدثوا الناس، بما يعرفون أتحبون أن يكذب، الله ورسوله)[6] فما كل ما يعلم يقال، وإنما ينبغي أن يكون العالم حكيمًا يتكلم مع كل قوم بما يصلح لمثلهم، وينتفعون به، وإذا تحدث مع أهل العلم الذين يعقلون عن الله، وينزلون هذا العلم التنزيل الصحيح، فهؤلاء لا يتكلم معهم كما يتكلم مع غيرهم، وأما أن يتكلم الإنسان في كل شيء، فإن ذلك مُؤذنٌ بفسادٍ عريض، وكفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع[7]

أصبحت هذه القضايا اليوم للأسف بيد كل أحد، فيصل الإنسان من هذه الرسائل بهذه الوسائل فيرسلها، دون نظر ولا روية في صحتها أولاً، ثم فيما يترتب على ذلك من المصالح والمفاسد لو كانت صحيحة، فما كل شيء يصلح أن ينشر، وإنما العاقل يتبصر، ولو أن الناس كفوا عن هذا النشر، ولم يرسلوا شيئًا حتى يتثبتوا من أنه صحيح، وأن المصلحة تقتضي ذلك، ويكون للإنسان فيه نية صالحة، وكثير من الناس لا يتمكن من تقدير مثل هذه المصالح، ولا التمييز بين الصحيح والسقيم من هذه الأخبار والمعلومات التي ينشرها، فمثل هذا ينبغي له أن يكف، ولا يرسل شيئًا، ويسعه أن يبكي على خطيئته.

وأيضًا يلاحظ هنا أنه قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ فإذا كان الكتمان لغير الشريعة، ولغير الوحي الذي به الهدى، يعني كتم شيئًا من الأمور والعلوم الدنيوية، فهل هذا يكون بهذه المثابة؟ الجواب: لا؛ لأن ذلك مقيد بهذا القيد: مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ثم أيضًا هذا القيد الآخر: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فلو أنه كتمه للمصلحة؛ لأنه قد يترتب على بعض الكلام من العلم فتن، وقد يحدث به أقوامًا لا ينزلونه التنزيل الصحيح، فيحملهم ذلك على أمور لا يمكن ضبطهم معها، فمثل هؤلاء لا يقال لهم ذلك، ومن ثم فهنا يشترون به ثمنًا قليلاً، لكن الذي يكتم ليس لأجل أن يشتري به ثمنًا قليلاً، أو يصانع به أحدًا، أو يأخذ عليه الرشا أو نحو هذا، وإنما فعل ذلك لمصلحة راجحة، أو لدفع مفسدة غالبة، فمثل هذا هو المطلوب -كما هو معلوم- كما ذكرت في تلك الآثار.

وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فكل ما في الدنيا فهو قليل، الدنيا هذه عابرة، وتمضي على الجميع، فهو قليل لانقطاع مدته، وسوء عاقبته، والواقع أن هذا الذي يأخذونه من الرشا قد يكون قليلاً في نفسه حقيرًا، وتأمل ما في هذه الحياة مما مضى على الأجيال الماضية من المكاسب والأموال التي حصلوها، أين هي؟ ذهبت، فالذي كان يقتات بدينه أين مكاسبه التي حصلها؟ ذهبت، قد يكون أُعطي جملاً، أو فرسًا، أو حمارًا، أو شاة، أو دراهم، أين هو؟ وأين دراهمه؟ في القرون الماضية وقبل مئات السنين عبر الأجيال، فهؤلاء الذين ذكرهم الله -تبارك وتعالى- كما قلنا يدخل فيهم أهل الكتاب دخولاً أوليًّا، أين ما أخذوا؟ وأين ما استعاضوا؟ كل ذلك اضمحل وتلاشى، فهذه حقيقة الحياة الدنيا مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [سورة النساء:77] وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا [سورة الشورى:36] هذا لمن عقل عن الله -تبارك وتعالى- وفتح بصيرته.

وهذا لا يختص باليهود؛ لأن ظاهر الآية العموم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ فـ"الذين" هي من صيغ العموم، كما هو معروف، فكل من كتم الحق الذي جاء به الرسول ﷺ سواء كتمه أو بدله وحرفه، فزاد على الكتمان التبديل، فهو متوعد بذلك، وكما قيل: على قدر المقام يكون الملام، فإذا كان هذا في أهل الكتاب فهذه الأمة أشرف، ونبيها ﷺ أعظم، وكتابها أجل الكتب، فاللوم الذي يلحق أهل الكتمان من هذه الأمة أعظم من اللوم الذي يلحق أهل الكتاب.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ جاء تأكيد الأكل وتقريره ببيان مقر المأكول، ومعلوم أن الذي يأكل إنما يكون ذلك إلى البطن أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فلم يقل: ما يأكلون إلا النار، وإنما قال: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ فذكر المستقر مع أنه معلوم أن الأكل يستقر في البطن، ولا يبقى في فم الإنسان، أو في حلقه، أو نحو ذلك، إنما يصير إلى البطن، قال: أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ فهذا فيه مزيد من التقرير والتأكيد أن الذي يستقر في هذه البطون إنما هو النار، فهم يأكلون النار.

وأيضًا ذِكْر البطون يدل على شره هؤلاء وجشعهم، وأنهم عبيد لهذه البطون، فحينما يبيع الإنسان آخرته من أجل دنيا غيره، يعني حينما يحرف الإنسان الكتاب المنزل، ويبدل حقائق الدين من أجل أن يوسع على هؤلاء في أمر يزعمون أنهم ضاقوا به ذرعًا، أو حينما يفعل ذلك ليتزين ويتجمل لأهل الدنيا، فالواقع أنه يبيع دينه لدنيا غيره، والناس في هذا (الأكل والكسب) مراتب، فمن الناس من يعمل بهذه الدنيا، ويكتسب بالطرق المعروفة بالتجارة، ونحو ذلك من المكاسب والصناعات والمهن والحرف، وما أشبه ذلك ليحصل الدنيا، وهذا الذي قال فيه النبي ﷺ بأن أفضل الكسب هو ما كان بعمل يده، كما كان داود -عليه الصلاة والسلام- يأكل من عمل يده، هذا الأول.

الثاني: هو الذي يبذل الدنيا من أجل إعزاز الدين، كالنفقة في سبيل الله، ونحو ذلك، فهذا أكمل من الأول الذي يبذل جهده وطاقته ليحصل من هذه الأموال والمتاع الدنيوي، لكن أعظم من هذا من يبذل المال لإعزاز دينه، يبقى بين هؤلاء ودونهم مراتب، فمن أسوأ هذه المراتب أن يبذل الإنسان دينه ليحصل دنيا، يعني تكون الآلة لكسب الدنيا هي الدين، سواء كان ذلك المال، أو كان ذلك بالجاه، أو الرئاسة، أو نحو ذلك، فهو يريد أن يترفع بهذا، فيظهر الدين والزهد والعبادة، وما أشبه ذلك؛ ليحصل مكاسب دنيوية أيًّا كانت.

وأسوأ من هذا من يبذل دينه لدنيا غيره، يعني الذي قبله يبذل دينه لدنياه هو، من أجل أن يحصل مثل هؤلاء الذين يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، لكن أن يبذل الإنسان دينه لدنيا غيره فهذا أسوأ المراتب، فلا يصح بحال من الأحوال، ولا يليق بالعاقل أن يضر بآخرته من أجل دنيا غيره، فبعض الناس يفعل هذا على سبيل الحمية لقريبه، وقد يفعل ذلك من باب -كما يقال: المساعدة أو الشفاعة المحرمة وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً [سورة النساء:85] فهذا كأن يكون ذلك لا يستحق هذا المقام، أو هذا العمل، أو نحو ذلك، فيشفع له، ويُقدم على غيره، ويوضع في مكان ليس بأهل له، فتتعطل المصالح، ويضر بالناس، وما أشبه ذلك.

فالمقصود أن الإنسان لا يضر آخرته من أجل دنياه هو، فضلاً عن دنيا غيره، هذا إذا كان يعقل، فالأصل أن يحفظ الإنسان دينه، وأن يحرز ذلك، وأن يحفظ آخرته، ويعين الناس ويساعدهم، ويقف معهم بجاهه، وبكل مستطاع مع ضعيفهم، والمحتاج منهم، ونحو ذلك، لكن بحيث لا يكون ذلك على حساب آخرته ودينه، فلا يلحقه حرج عند الله -تبارك وتعالى- وإلا فكما قال الله : إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [سورة النساء:135] الله أولى بعباده، قد يقال: هذا ضعيف هذا مسكين، فيأتي ويشهد له شهادة زور، وهذا الإنسان ليس كما قال، فالله أولى بعباده، والإنسان يشهد بالحق.

ويدل قوله: أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ على حقارة هؤلاء، فهم باعوا الآخرة بحظ من المطعم الذي لا شأن له، فهذا المال الذي يجمعه لو سألته: لماذا تجمعه؟ لقال: من أجل أن نأكل عيش؟ هذا الأكل الذي يأكله هو في الواقع لا يجد لذته إلا لحظة المضغ، ولا يجد لذة قبل، ولا بعد ذلك، ثم يصير إلى ما قد علمتم، فهذا لا يستحق، والجوع يمكن أن يطرد بكسرة من الخبز يابسة، فلا يحتاج الإنسان إلى أن يبذل دينه، وأن يضيع آخرته في سبيل مكاسب قليلة يحصلها، وعما قريب يفارقها، فيموت، أو تذهب هنا أو هناك، ويبقى عمله السيء يلقى جزاؤه عند الله -تبارك وتعالى.

ويؤخذ أيضًا من هذه الآية: أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ إطلاق المسبب على السبب، فهذا الأكل الحرام من الرشا وغيرها هو سبب للنار، فهذه المكاسب المحرمة هي سبب لماذا؟ للعذاب بالنار، فسمى هذا الأكل نارًا مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ لأنه يتسبب عن عذاب الله فسماه نارًا، فأطلق المسبب على السبب.

وَلا يُزَكِّيهِمْ فالله -تبارك وتعالى- يزكي من شاء من عباده، وهؤلاء لا يحصل لهم هذه التزكية؛ لأنهم كتموا عن العباد سبب زكاة النفوس، وهو الوحي والهدى الذي يحصل به التزكية هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة:2] فهذا الوحي الذي بعث الله به رسله -عليهم الصلاة والسلام- تحصل به تزكية النفوس، فهؤلاء إذا كتموه يكون الواحد منهم قد وقع في جريمة، وهي أنه حبس عن الناس ما يكون به زكاء النفوس، فالجزاء من جنس العمل، فكان عاقبتهم أن الله لا يزكيهم، وهذا يدل على شدة هذا الجرم، وهو كتمان العلم.

وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ لما أوقعوا فيه الناس من العناء بكتمان ذلك، وضيعوا حدود الله -تبارك وتعالى- وشرعه وأحكامه وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مؤلم، يعني فعيل بمعنى فاعل، أنه موجع شديد الإيلام للأبدان، وشديد الإيلام للنفوس، نسأل الله العافية.

فهذه الآية وحدها تكفي في وعيد من بدل أو كتم أو ضيع حدود الله -تبارك وتعالى- بكتمانه للعلم، وهي أعظم حضًّا على بث العلم ونشره، والله -تبارك وتعالى- يسأل كل إنسان بما أعطاه ويحاسبه، فالذي أعطاه المال سيحاسبه على هذا المال، والذي أعطاه العلم سيحاسبه على هذا العلم، والذي أعطاه الجاه سيحاسبه على هذا الجاه، والذي أعطاه عافية في بدنه، أو قوة في رأيه، وعقلاً راجحًا، سيحاسبه على ذلك، ولا يكون حسابه كحساب ضعيف العقل، وهكذا، والله تعالى أعلم. 

  1.  أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم: (5375) وصححه الألباني في صحيح الجامع (4519).
  2.  أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب إثم من خاصم في باطل، وهو يعلمه برقم: (2458) ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة برقم: (1713).
  3.  سبق تخريجه.
  4.  مجموع الفتاوى (20/ 59).
  5.  صحيح مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (1/ 11).
  6.  أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم، كراهية أن لا يفهموا برقم: (127).
  7. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في التشديد في الكذب برقم: (4992) وصححه الألباني.