كان الحديث في الليلة الماضية عن قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة البقرة:174]، فهذا كله لهؤلاء من أهل هذا النوع من الإجرام، وهو الكتمان لما أنزل الله -تبارك وتعالى- من الهدى، الذين يستعيضون بذلك من حطام الدنيا القليل، هذه الآية ذكرنا جملة من الفوائد المستخرجة منها.
ومن ذلك أيضًا إثبات صفة الكلام لله وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وإذا كان لا يكلم هؤلاء كلام رضا، فإن ذلك يعني أنه يكلم أهل الإيمان، وقد دل على ذلك النصوص من الكتاب والسنة سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [سورة يس:58]، فهو يسلم على أهل الجنة، قد كلم الله -تبارك وتعالى- موسى تكليمًا، وكلم محمدًا ﷺ ليلة المعراج، فهذا من أوصافه الثابتة على ما يليق بجلاله وعظمته، ويكون ذلك مما يتعلق بمشيئته وإرادته.
وكذلك الآية التي بعدها، فقد قال الله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء الكاتمين: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [سورة البقرة:175].
أولئك المتصفون بتلك الصفات هم الذين استعاضوا عن الهدى بالضلالة، اختاروا الضلالة على الهدى، استبدلوا الضلالة بالهدى، وعذاب الله -تبارك وتعالى- بمغفرته، وهل كان هؤلاء على هدى حتى يستعيضوا بذلك؟ إن كانوا على هدى فيكون الواحد منهم قد باعه وبذله من أجل الضلالة، وهي أخذ هذا الحطام في مقابل التبديل أو الكتمان، وإن لم يكن هؤلاء على هدى أصلاً؛ فإن ذلك يكون بمعنى الاختيار، اختاروا وآثروا الضلالة على الهدى، كما ذكرنا في قول الله -تبارك وتعالى- في المثل المضروب للمنافقين في أول هذه السورة: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16] وهم لم يكونوا على هدى منذ البداية، ولكن المعنى اختاروا وآثروا الضلالة على الهدى، فهذا لا إشكال فيه.
وهكذا أيضًا اختاروا العذاب بالمغفرة مع أنهم لم يكونوا محصلين لمغفرة الله وإنما المقصود: آثروا العذاب على المغفرة، فما أشد جراءة هؤلاء على النار! فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ فما أشد صبر هؤلاء على النار! "فما" هذه وما ركب معها يدل على التعجب، ما أشد صبرهم على النار! لأنهم عملوا بعمل أهل النار، عملوا بالعمل الموصل إلى عذاب الله -تبارك وتعالى- وناره، فهذا تعجب من الله على جراءة هؤلاء وعلى ما يوصلهم إلى سخطه وعذابه، وذلك ينبئ عن استهانة واستخفاف بأمرهم، وبيان لقبح حالهم وسوء نظرهم، أن هؤلاء ليس لهم عقل ولا نظر، ليسوا من أولي الألباب الذين يؤثرون ما يضر على ما ينفع، يؤثرون النار على المغفرة.
يؤخذ من هذه الآية: الإشارة هنا إلى البعيد أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أولئك الموصوفون بتلك الصفات، وبعض أهل العلم يقولون: جاء بالإشارة بهذه الصيغة الدالة على البعد؛ لبعد هؤلاء من الرحمة، ومن كل فضيلة، فهم بعداء عن الخير وعن ألطاف الله وعن رحمته وجنته، أولئك المبعدون المخذولون هم من اشترى الضلالة بالهدى، وهذا يدل على فساد نظرهم وأن هؤلاء لا يميزون بين النافع والضار، وإلا فمن الذي يَقبل ويُقبل على الضلالة في سبيل ترك الهدى والإعراض عنه؟ هذا لا يفعله إلا الجاهل؛ حيث إنه يؤذي نفسه بذلك ويضرها ويودي بها إلى سوء العاقبة.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ كذلك أيضًا من الذي يقبل العذاب، ويترك مغفرة الله إلا من فسد عقله، وقصر نظره، ولكن هؤلاء لما كانت عقولهم معيشية يبحثون عن هذا المعاش، وعن هذه المكاسب المتقضية العاجلة أصبحت أنظارهم لا تجاوز آنافهم، فهم لا ينظرون بنظر بعيد وإنما ينظرون بالنظر القريب، الطمع والكسب والتحصيل المادي أيًّا كانت عواقب ذلك فهم لا يلتفتون إليها؛ لأنهم يتعجلون ذلك، ولا ينظرون إلى ما وراءه، كذلك الذي يغلبه الطمع على تحصيل أمر من الأمور فيندفع إليه، وتكون عاقبته بعده الهلاك والعطب.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ولاحظ هنا التعبير بالاشتراء: اشتروا، بمعنى استعاضوا، اختاروا، آثروا، والله -تبارك وتعالى- سمى المعاملة معه بيعًا وشراء وتجارة، وسمى أيضًا الخسارة، وسمى كذلك أيضًا الغبن، سمى يوم القيامة بيوم التغابن، فكل ذلك معاملة مع الله -تبارك وتعالى- والواقع أن هذه الأمور وإن كانت في التجارة المادية بين الناس في البيع والشراء، ولكن الربح الحقيقي، والكسب الحقيقي، والتجارة الحقيقية، والغبن الحقيقي، إنما هو في ذلك اليوم قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الزمر:15].
يؤخذ من هذه الآية: إثبات صفة التعجب لله -تبارك وتعالى- فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ وهذا التعجب يليق بجلاله وعظمته، وتدل عليه القراءة الأخرى المتواترة: (بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ)، والقراءة إذا كان لها معنى يخصها فهي بمنزلة الآية، يعني الآية المستقلة، فالقراءتان إن كان لكل قراءة معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين بَلْ عَجِبْتَ [سورة الصافات:12] يعني: يا محمد ﷺ على هذه القراءة، والقراءة الثانية المتواترة: (بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ)، فهذا يرجع إلى الله فالله يتصف بهذا الوصف على ما يليق بجلاله وعظمته.
وكذلك في سنة رسول الله ﷺ: عجب ربك من قنوط عباده فهذا دليل صحيح ثابت من سنة رسول الله ﷺ ولكنه ليس كتعجب المخلوقين الذي يكون من قبيل الانفعال ممن لا يعلم العواقب، ولا يعلم حقائق الأمور، ولا يعلم الغيوب، فيتعجب مما حصل؛ لأنه لا علم له، ولا إحاطة بذلك قبله، ولا بعده، ولا في أثنائه، فيعجب من حصوله لقصور علمه، أما الله -تبارك وتعالى- فليس كذلك، ليس كالمخلوقين، بل علمه محيط بكل شيء، ولا يخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، ولكن نثبت لله ما أثبت لنفسه، أو أثبته له رسوله ﷺ من غير تحريف، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا تعطيل.
وكذا يؤخذ من هذه الآية: تنزيل غير الواقع منزلة الواقع؛ لشدة استحضار السامع إياه بما وصف به من الصفات الماضية، وذلك أن شأن التعجب أن يكون ناشئًا عن مشاهدة صبرهم على العذاب، وهذا الصبر لم يحصل وقت نزول هذه الآية، وإنما يكون ذلك فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ هذا يكون في المستقبل، ولكنه نزله منزلة الواقع، وصوره بهذه الصورة فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ مع أنه أمر سيقع في المستقبل، فيكون ذلك لكمال تصوره وتصويره لدى المخاطبين، والله تعالى أعلم.
ومعنى ذلك -أعني صبرهم على النار- أنهم ماضون صابرون، ثابتون، مقيمون على مساخط الله -تبارك وتعالى- ومحادته ومشاقة رسله، فهم يكتمون ما أنزل الله من الهدى الذي بينه للناس غاية البيان.
فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ومن الذي يصبر على النار، ولذلك يقال لمن يعصي الله -تبارك وتعالى- وكلنا ذلك الرجل: إذا هم الإنسان بالمعصية فينبغي أن ينظر في حاله وصبره على النار، لو طلب من الإنسان أن يقف على جمرة، أو أن يقبض جمرة بكفه؛ فإنه لا يستطيع ذلك، لو طلب منه أنه يبقى لمدة دقيقة واحدة يقف على جمرة؛ فإنه لا يستطيع، ولا يطيق، فإذا أراد أن يعصي الله فعليه أن يرى في نفسه هذا العجز والضعف، فيكون ذلك زاجرًا له عن مساخط الله؛ لأن هذه المساخط وهذه الآثام، وهذا النظر الحرام، وهذه الموبقات هي نار يحترق بها، هذه المعاصي نار، وهي جيوش -كما قال الحافظ ابن القيم- يجيشها الإنسان كتائب يرسلها على نفسه، فتكون عونًا على الشيطان، تغزوه فيتقهقر، ويضعف، وينهار أمام عدوه، ويصيبه ما يصيبه من اللأواء، والشدة، والهم والغم والحزن والكآبة، وما إلى ذلك، بسبب هذه المعاصي والذنوب، هذا مما يعجل في الدنيا فضلاً عما يدخر في الآخرة، ولا طاقة بنا على عذاب الله -تبارك وتعالى- لا المعجل، ولا المؤجل.
فالطريق -أيها الأحبة- هو أن يتقي الإنسان ربه في أحواله كلها، في علانيته وسره، وأن يخاف، وإذا هم بالمعصية تذكر نظر الله إليه، وسرعة أخذه، فيكون ذلك زاجرًا له من هذه المعصية.
كان الأحنف بن قيس -رحمه الله- يضع أصبعه على النار، ويقول: حس -يعني أنه يذكر نفسه بنار جهنم- ما حملك على أن فعلت في يوم كذا، كذا وكذا؟.
من الذي يستطيع -أيها الأحبة- أن يضع يده في ماء حار؟ ماء على النار؟ من يستطيع؟ هذا الماء لو أصاب جلد الواحد منا لم ينم تلك الليلة، فنحن أضعف وأعجر من أن نقدر على شيء من ذلك.