ثم قال الله -تبارك وتعالى- عن حال هؤلاء وصفتهم وعلة ما نالهم وطالهم من سوء الحال والعاقبة: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [سورة البقرة:175، 176].
ذلك العذاب الذي استحقوه بسبب أن الله -تبارك وتعالى- نزل كتبه على رسله - عليهم الصلاة والسلام - مشتملة على الحق البين الواضح، فكفروا بذلك وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ من اليهود والنصارى، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه لَفِي شِقَاقٍ لفي منازعة ومفارقة بعيدة عن الرشد والصواب لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ هذه الإشارة "ذلك" لربط أجزاء الكلام، لاحظ هناك ذكر الذين يكتمون ما أنزل من البينات والهدى، ثم ذكر حال هؤلاء كيف استعاضوا بالضلالة عن الهدى والعذاب بالمغفرة، ثم قال: ذَلِكَ فيرجع إلى هؤلاء من الموصوفين الذين استحقوا العاقبة السيئة، فلربط أجزاء الكلام، وكذلك للتعليل، وهذا كثير في القرآن؛ إثبات العلل والأسباب، وذلك يرجع إلى أن ربنا -تبارك وتعالى- متصف بالحكمة، فأفعاله -تبارك وتعالى- معللة، فأهل السنة والجماعة يثبتون الحكمة والتعليل في أفعال الله -تبارك وتعالى- أما أهل البدع والضلال من الجهمية فإنهم يقولون:
ما ثم غير مشيئة قد رجحت |
مثلاً على مثلٍ بلا رجحان |
من غير تعليل، يقولون: حرم الكذب، وحرم الزنا، وحرم الخمر، ونحو ذلك فصارت قبيحة، ولو أنه أمر بها لكانت حسنة، لو أنه نهى عن الصدق والعفاف لكان ذلك قبيحًا، أهل السنة يقولون: لا يمكن أن ينهى عن الصدق، والعفاف والفضائل، والإيمان والتقوى؛ لأن هذه الأمور لها حسن في نفسها، فمن الأشياء ما يدرك حسنه بالعقل كالصدق، والعفاف، والفضائل.
وهرقل لما سأل أبا سفيان عن الأمور التي يأمرهم بها النبي ﷺ فذكر أنه يأمرهم بالصلة والعفاف، والبر ونحو ذلك.
عرف من هذا ومن غيره مما أجابه عنه ولم يسأل عن معجزة واحدة، عرف أنه رسول، أن هذه الأمور إنما يأمر بها الرسل الكرام - عليهم الصلاة والسلام - ولذلك مما يفرق به بين الرسل والسحرة والمشعوذين والضُّلال: أن الرسل يأمرون بالفضائل، وسيرتهم مبناها على الفضائل، وعرفهم الناس بالصدق والأمانة والخير والبر والإحسان، أما السحرة والمشعوذون، ونحو هؤلاء، فعرفوا بالرذائل، ويأمرون بأسوأ الأفعال ابتداء من الشرك بالله -تبارك وتعالى- وما استتبعه، وتفرع عنه.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فالله أفعاله مبنية على الحكمة، إذا أمر بشيء فهو لحكمة، قد ندرك هذه الحكمة، قد يصرح بها، وقد لا يصرح بها وتكون ظاهرة فيستنبطها العلماء، وقد تكون خفية تعبدية نؤمن ونسلم؛ لأننا نعلم أن المشرع عليم حكيم، فنثق به كل الثقة، لا يتطرق الخلل والخطأ من جهة نقص العلم، كما لا يتطرق الخطأ والخلل بسبب وضع الأمور في غير مواضعها، وإيقاعها في غير مواقعها، أي أن التوقيت مثلاً غير مناسب، حاشا وكلا، هذا يكون بالنسبة للبشر، قد تكون الأمور، أو الأفعال صحيحة من جهة النظر، ولكن التوقيت غير مناسب، قد تكون الكلمة صحيحة ولكن في غير وقتها، أو لغير من يتأهل لفهمها وسماعها فيحصل بسبب ذلك مفسدة، فهذا خلاف الحكمة.
وأما اختلال العلم فتكون بمبناها على الخطأ أصلا بتصور المسألة، أما الله -تبارك وتعالى- فهو عليم حكيم، فيبقى التسليم الكامل لأحكامه الشرعية، ولأحكامه الكونية القدرية، ما يجريه من الأقدار والتدبير في هذا الكون، فما يختار لعباده كل ذلك مبناه على علم وحكمة.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن في القرآن أكثر من مائة موضع فيها الإشارة إلى التعليل، إثبات التعليل بصيغ متعددة كثيرة.
ثم أيضا: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [سورة البقرة:176]، هذا يدل على سوء عاقبة الاختلاف، وأن الاختلاف ليس برحمة، وإنما هو شر، كما قال ابن مسعود : الخلاف شر.
وما جاء عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله: "ما سرني لو أن أصحاب محمد ﷺ لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة".
وجاء عن التابعي القاسم بن محمد قال: "اختلاف الصحابة رحمة".
ومقصودهم بهذا كما ذكر الشاطبي -رحمه الله- وغيره أنهم لو لم يجتهدوا فيختلفوا لضاق الأمر على من بعدهم من العلماء المجتهدين، إذا وقع منهم الاجتهاد والخطأ والاختلاف، فإن ذلك مما يقع به الحرج على هؤلاء حيث اختلفوا وأخطأوا في اجتهادهم؛ لكن لما اجتهد أصحاب النبي ﷺ فاختلفوا وأخطأ بعضهم، وأصاب بعضهم، كان ذلك توسعة للمجتهدين بعدهم يجتهدون ويصيبون ويخطئون، ويختلفون، ولكن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى التدابر والتقاطع، وإنما ذلك هو الاختلاف الذي ذمه الله -تبارك وتعالى- وليس باختلاف العلماء المجتهدين فيما يسوغ به الاجتهاد، ليس ذلك باختلاف أهل الأهواء، أهل الأهواء إذا اختلفوا كفر بعضهم بعضا، واستحل بعضهم دم بعض كما هو شأن الخوارج وغيرهم من طوائف الضلال.
ويؤخذ من هذه الآية: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ما قال وإن الذين اختلفوا فيه؛ لأنه مذكور، فالعرب تستعمل الضمائر اختصارا للكلام، فالإظهار في موضع الإضمار يكون لنكتة، يكون لمعنى، فلماذا أظهر هنا؟
هذا لا شك أنه أعظم في بيان قبح هذا الإجرام اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ الكتاب الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- اختلفوا فيه فتفرقوا، وصاروا طوائف وملل، والكتاب المنزل واحد، كيف يختلفون فيه؟ وأن هذا الاختلاف الذي وقع كان بسبب التبديل والتحريف والكتمان بنوعيه، تبديل الألفاظ الذي يتبعه تبديل المعاني، وتبديل المعاني دون تبديل الألفاظ، وقد وقع لهم كل ذلك، أهل الكتاب حرفوا الألفاظ وحرفوا المعاني.
وهذه الأمة وقع فيها النوع الثاني وهو تبديل المعاني، وطوائف أهل البدع والضلال وقع منهم تحريف كلام الله من جهة المعنى فحملوه على معاني لا يريدها الله -تبارك وتعالى- كما وقع ذلك لطوائف من المتكلمين في نفي صفات الله الكاملة وتبديلها وتحريفها، وكذلك أيضا طوائف من الباطنية وأهل البدع والأهواء من الصوفية وغيرهم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67]، قالوا: عائشة، هذا قاله الرافضة -قبحهم الله- وأما الصوفية فقال بعضهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً هي النفس تذبح بسكين الطاعة، وما إلى ذلك من أنواع الضلالات، فهذا لا يسوغ بحال من الأحوال، والله أعلم.