الإثنين 24 / ربيع الآخر / 1446 - 28 / أكتوبر 2024
لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلْكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۦنَ وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَٰهَدُوا۟ ۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ ۗ أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا۟ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة:177].
اشتملت هذه الآية، على جمَل عظيمة."
في قوله: لَيْسَ الْبِرَّ البر خبر ليس، واسمها أن تولوا، فيكون فيه تقديم، وتأخير، وهذه القراءة التي نقرأ عليها قراءة حفص، ووافقه عليها حمزة، وهناك قراءة أخرى متواترة بالضم لكلمة البر لَيْسَ الْبِرُّ فيكون البر بهذا الاعتبار اسم ليس، وهي قراءة بقية السبعة من القراء.
وعلى قراءة النصب يكون تقدير الكلام، ليس البرَّ توليتُكم وجوهكم قبل المشرق، والمغرب، ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله.
ويمكن أن يكون التقدير: ولكن ذو البر من آمن بالله.
وبعض أهل العلم يقول: إن البر مصدر، ويصح أن يراد به الفاعل، والمعنى: ولكن البر أي البار: من آمن بالله.
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ بعض أهل العلم يقول: لما كانت القضية تتعلق بالتوجه إلى المشرق، والمغرب فهي إذاً لها تعلق بالصلاة، فحمله عليها، والمراد: ليس البر هو الصلاة وحدها، فهي، وإن كانت مهمة، وعظيمة، لكنْ هناك أمور أخرى عظام من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه إلى آخره..، فهذه أمور لا بد منها، وهي من أعظم أمور البر، والبر: اسم جامع لكل خصال الخير، فخص البر بمعنى الصلاة بقرينة قوله: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
وبعضهم يقول: هذا أصلاً رد على اليهود، والنصارى، حيث إن اليهود يستقبلون المغرب، فهم يستقبلون بيت المقدس، والنصارى يستقبلون جهة المشرق، وجاء ذكره للمشرق، والمغرب بناء على اعتبار الجهة التي تحدث عنهم فيها، أو رد عليهم، وهم فيها، وقد ورد في هذا رواية ضعيفة، وهذا المعنى مشى عليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وهو أنها رد على اليهود، والنصارى، والمعنى: ليس البر أن توجهوا وجوهكم قبل هذه الجهة، أو تلك، وإنما البر حقيقة هو: أن تؤمنوا إيماناً حقيقياً بجنس الكتب، والرسل جميعاً، ولا تنسبوا لله الولد، وإذا حصل لكم ذلك كنتم على الهدى، وحققتم في قلوبكم الإيمان الحقيقي، والإنسان يقال له أحياناً: ليس البر هو فعلك كذا، وكذا، يعني - من الأعمال التي يعملها - يريد أن يتقرب بها إلى الله ، ولكن البر هو أن تفعل كذا، وكذا، وكذا، مما تذكره له من أمور البر العظيمة التي غفل عنها، وتشاغل بغيرها من أمور البر، فالبر بر من آمن بالله، واليوم الآخر، - والله أعلم -.
"اشتملت هذه الآية، على جمَل عظيمة، وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة، وأما الكلام على تفسير هذه الآية، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولاً بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حوَّلهم إلى الكعبة، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب، وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله ، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وَجّه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر، والتقوى، والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق، أو المغرب بر، ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله، وشرعه؛، ولهذا قال: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ... الآية." كلام ابن كثير جيد، وهو يلمح إلى أن الآية لا تختص باليهود أي: بالرد على اليهود، والنصارى، وإنما هي عامة، يخاطب فيها أولئك الذين شغبوا على قضية القبلة من جهة، ومن جهة يخاطب فيها أيضاً المنافقين، ويخاطب فيها أهل الإشراك، ويخاطب فيها المسلمين المؤمنين، ويبين لهم أن قضية التوجه جهة المشرق، والمغرب ليست هي محل النجاة، ومناط الفوز، وتحقيق الاستقامة، فلا بد من طاعة الله، ورسوله، ولا بد من الإيمان الصحيح بهذه الأمور المذكورة، حتى يتمكن المرء من تحقيق المعنى الأسمى للبر. 
"كما قال في الأضاحي، والهدايا: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [سورة الحج:37].
وقال أبو العالية: كانت اليهود تُقْبل قبل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقته العمل."
قول أبي العالية: كانت اليهود تُقْبل قبل المغرب، هذا باعتبار أنهم عنه بناحية يكونون إلى الغرب، وإلا فهم يستقبلون بيت المقدس من تلك الناحية، وكانت النصارى تستقبل المشرق، يعني مطلع الشمس، هذه هي القبلة التي يستقبلونها، فقال الله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ، وهذه الرواية ثبت ضعفها، لكن الملفت في كلام أبي العالية قوله: هذا كلام الإيمان، وحقيقته العمل، فماذا يقصد بذلك؟
يقصد، - والله أعلم - أن الأمور المذكورة في الآية تنقسم إلى قسمين:
الإيمان بالله، واليوم الآخر، قولوا آمنا بالله، فهذا كلام الإيمان، أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فذكر هذه الأصول العظام التي يجب على الإنسان أن يؤمن بها.
وحقيقته العمل، حيث ذكر بعده في الآية وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة:] فهذه الأعمال لا يستقيم إيمان المرء إلا بجميعها.
والإيمان في حقيقته: قول، وعمل، قول القلب، واللسان، وعمل القلب، واللسان، والجوارح، قول اللسان: النطق بالشهادتين، وما يدخل الإسلام إلا بالشهادتين، وقول القلب: بالإقرار، والتصديق الانقيادي.
وعمل القلب، واللسان، والجوارح، عمل القلب: كالخوف، والتوكل، والرجاء، وهو غير تصديق القلب، غير قول القلب، وعمل اللسان: كالذكر، وقراءة القرآن، وعمل الجوارح: كألوان العبادات، وما يوضح عبارة أبي العالية أكثر ما ذكره الحافظ ابن كثير عن الحسن، والربيع بن أنس، وخاصة عبارة الربيع يقول فيها: "تكلموا كلام الإيمان، فكانت حقيقة العمل، صدقوا الله"، - والله أعلم بالصواب -.
"وقال الثوري: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الآية، قال: هذه أنواع البر كلها.
وصدق - رحمه الله -؛ فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله، وأنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله، ورسله وَالْكِتَابِ، وهو: اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا، والآخرة، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد - صلوات الله، وسلامه عليه، وعليهم أجمعين - .
وقوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ أي: أخرجه، وهو محب له، راغب فيه، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا: أفضل الصدقة أن تصدق، وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر[1] .
 وقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۝ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا [سورة الإنسان:8-9].
وقال تعالى: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92]، وقوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:9] نمط آخر أرفع من هذا، وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه، وهؤلاء أعطوا، وأطعموا ما هم محبون له."
قوله - تبارك، وتعالى -: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ورد في عود الضمير في عَلَى حُبِّهِ ثلاثة أقوال:
 الأول: أن الضمير الهاء يرجع إلى حب المال، وهو ظاهر سياق الآية، وأقرب ما تفسر به، وقد ساق ابن كثير في المقدمة جملة من الآيات الدالة على ذلك.
الثاني: أن الضمير يرجع إلى الله .
الثالث: أن الضمير يرجع إلى الإيتاء، والمعنى وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ حب الإيتاء، وهذا القول بعيد جداً.
ولعل الأقرب القول الأول، وهو أنه يرجع على حب المال؛ لأن هذا الذي تكمل به درجة العبد، وتعظم به نفقته، وذلك أنه إذا أعطى، وهو صحيح، وشحيح كما في الحديث فإن ذلك يكون أعظم ممن أعطى الدنيا، وهي وراء ظهره عند الموت.
وفي قوله - تبارك، وتعالى -: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ [سورة الحشر:9] كما يقول الحافظ: نمط آخر أرفع من هذا يعني أرفع من قوله: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ، فإن إعطاءهم مع وجود الخصاصة، وهي: الحاجة الشديدة التي ينفرد بها دون غيره، تكون أرفع في الميزان.
فهذا أعظم من الأول الذي يعطي المال، وهو يحبه، لكنه قد لا يكون بحاجة ماسة إليه، والخصاصة هذه الكلمة قد تكون مأخوذة من خصاص السقف، أو خصاص البيت، أو نحو هذا، وربما تكون مأخوذة من غير ذلك، لكنها تدل، أو تشعر بالانفراد بالحاجة يعني - الحاجة الشديدة،  والله أعلم -. 
"وقوله: ذَوِي الْقُرْبَى، وهم: قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة، كما ثبت في الحديث: الصدقة على المساكين صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان: صدقة، وصلة[2]. فهم أولى الناس بك، وببرك، وإعطائك، وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز.
وَالْيَتَامَى هم: الذين لا كاسب لهم، وقد مات آباؤهم، وهم ضعفاء صغار دون البلوغ، والقدرة على التكسب، وقد روى عبد الرزاق عن علي ، عن رسول الله ﷺ قال: لا يتم بعد حلم[3].
وَالْمَسَاكِينَ، وهم: الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم، وكسوتهم، وسكناهم." 
بعض أهل العلم يقول: سمي المسكين بذلك؛ لأنه ساكن إلى الناس، ساكن إلى ما في أيديهم، ليس عنده شيء، ولا اكتساب، وإنما يسكن إلى الناس من أجل أن يجد كفايته، وما يقيم أوده، ويكفي حاجته.
وبعضهم يقول: قيل له ذلك لمسكنته، بمعنى أن الفقر أسكنه ليس له صنعة، ولا حرفة، ولا تجارة، فعلى كل حال كلام أهل العلم في المسكين معروف، وإذ ذكر المسكين دخل معه الفقير.
"فيعطون ما تسد به حاجتهم، وخلتهم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة، والتمرتان، واللقمة، واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه[4]."يعني المتعفف، وهو المسكين حقيقة المستحق للعطاء أكثر من غيره ما دام بهذه المثابة، ولا ينفي ذلك أن غيره فقير، أو مسكين، ولكن المقصود التنبيه على من هو أحق بهذا الوصف.
 "وَابْنَ السَّبِيلِ، وهو: المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة، فيعطى ما يكفيه في ذهابه، وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس - ا - أنه قال: "ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين"."هذا القول قال به ابن عباس - ا -، وقال به غيره، والذي يظهر أن ابن السبيل لا يخرج عن القول الأول، وسمي بذلك نسبة إلى السبيل، وهي الطريق لملازمته لها، وكل من لازم شيئاً فإنه يصح أن ينسب إليه، كما يقولون للطائر المعروف: "ابن الماء" سمي بذلك لملازمته الماء.
وعلى هذا فابن السبيل هو: المسافر الذي انقطع في سفره، إما لذهاب نفقته، أو سرقته، أو ضياع أمواله، أو انتهاء مئونته، فيعطى، ولو كان في بلده مستغنياً، ولو كان من أغنى الناس فإنه يعطى من الغنيمة، ومن الفيء، ومن زكاة بيت مال المسلمين، ولا يكون ذلك على سبيل الإقراض حتى لو كان غنياً، بل يعطى هبة، وإحساناً، وتمليكاً.
وأما القول بأن "ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين" فقد قال به ابن عباس، وغيره، وهو يقصد به الإنسان الذي ينزل ببلد فهو ابن سبيل، فإن كان محتاجاً فإنه يجب أن يعطى كفايته، لكن لو كان من أهل البلد، وجاء إلى آخر، ونزل ضيفاً عنده هل هذا يصدق عليه أنه ابن السبيل؟ الجواب لا، - والله تعالى أعلم -.
 "وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو جعفر الباقر، والحسن، وقتادة، والضحاك، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان.
وَالسَّآئِلِينَ، وهم: الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات، والصدقات.
وَفِي الرِّقَابِ، وهم: المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم.
وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة، إن شاء الله تعالى." 
قوله تعالى: وَفِي الرِّقَابِ يدخل فيها ما ذكر، وهو المكاتب؛ وذلك أن الرقيق يكاتب سيده على أن يعتق إذا دفع قدراً من المال يتفق عليه مع صاحبه، وكثير من أهل العلم يقولون: إن ذلك يكون على أقساط معلومة، فهذا هو المكاتب يعطى من الزكاة، ومن بيت المال، كما قال الله وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [سورة النــور:33]، ويدخل فيه أيضاً إعتاق العبيد ابتداء من غير مكاتبة، ويدخل فيه أيضاً فك الأسارى فكل ذلك داخل تحت قوله سبحانه: وَفِي الرِّقَابِ
"وقوله: وَأَقَامَ الصَّلاةَ أي: وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها، وسجودها، وطمأنينتها، وخشوعها، على الوجه الشرعي المرضي.
وقوله: وَآتَى الزَّكَاةَ المراد به زكاة المال، كما قاله سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان."
ذكر الله قبل قوله: وَآتَى الزَّكَاةَ هذه الأصناف وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [سورة البقرة:177]، وهي من الأصناف التي تعطى من الزكاة كما قال الله في سورة براءة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة:60]، وهنا لفتة ذكرها بعض أهل العلم، وهي: أن تعداد هذه الأصناف بعد ذكر آية الزكاة دليل على جواز أنهم يعطون أيضاً من الصدقة لقوله: وَآتَى الْمَالَ يعني على سبيل التصدق، والتطوع، والتقرب إلى الله  من غير الفريضة، وما يعضد هذه اللفتة أن الله لما مدح أهل الأنصار مدحهم بقوله:  وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:9] مع أنهم في غاية الفقر، ومن ثم فإن الزكاة لا تجب عليهم لكن مع هذا يؤثرون غيرهم مع شدة حاجتهم إليها، وهذا الذي ذكره الله في صفة أهل الإيمان، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [سورة الإنسان:8] فهؤلاء هم الذين مدحهم الله - تبارك، وتعالى -، فيكون ذلك الإيتاء مطلقاً لا يختص بالزكاة؛ لأنه ذكر بعد ذلك إخراجهم للزكاة، فإخراجهم المال على سبيل التطوع، وإخراجهم أيضاً على سبيل الوجوب.
وبعضهم يقول: إن المراد بذلك الزكاة، ولكنه عطف العام على الخاص؛ لأنه ذكر بعض الأصناف التي تعطى لهم الزكاة، والآية تحتمل القولين، - والله أعلم بالصواب -.
 "وقوله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ كقوله: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ  [الرعد: 20]، وعكس هذه الصفة النفاق، كما صح في الحديث: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان[5]، وفي الحديث الآخر: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر[6]."قوله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ جاء بها مرفوعة، وما قبلها منصوبة: وَالسَّآئِلِينَ، وَفِي الرِّقَابِ فما وجه ذلك؟
بعض أهل العلم يقول: إنه معطوف على قوله: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ فجعله معطوفاً على ذلك المرفوع في أول الآية.
وبعضهم قال: هو خبر لمبتدأ محذوف على تقدير: وهم الموفون.
وبعضهم يقول: هو مبتدأ، وخبره، والخبر محذوف.
"وقوله: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض، والأسقام، وهو الضراء."  
قوله وَالصَّابِرِينَ جاءت منصوبة بعد مرفوع، ما قال: والصابرون في البأساء، والضراء، ولعل من أحسن ما يجاب به أن يقال: إن القاعدة عند العرب إذا تطاول الكلام فإنها تقطع أوصاف المدح، أو الذم بالرفع تارة، وبالنصب تارة، هذا من أوضح الأجوبة التي يجاب بها عن هذا، وإلا فإن الأجوبة عن مثل هذا كثيرة متعددة، حتى إن بعضهم ألف رسالة في أحد المواضع رسالة مستقلة، وهذا له نظائر في القرآن عديدة أن يأتي المرفوع بين منصوبات، أو المنصوب بين مرفوعات مثل قوله سبحانه: وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ... [سورة النساء:162] فجاء بمنصوب بين مرفوعات، ويقول أهل اللغة: هذا أبلغ، وذلك أنه يدفع الملل، والسآمة لطول الكلام، فيجدد لدى السامع، أو القارئ النشاط، فلا يستطيل الكلام بهذه الأوصاف لتنوع النمط الكلامي، -والله أعلم -.
قوله: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أي: الصابرين في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال الضراء، وهي المرض، والأسقام، وهذا أبلغ من قول من يقول: إن المقصود به التوكيد بذكر المترادفات، وجعل ذلك من قبيل التكرار، فهنا تحمل البأساء على أنها الفقر الشديد، والضراء على المرض، والسقم، - والله أعلم -.
"وَحِينَ الْبَأْسِ أي: في حال القتال، والتقاء الأعداء، قاله ابن مسعود، وابن عباس ، وأبو العالية، ومرة الهمداني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك، والضحاك، وغيرهم.
وإنما نصب وَالصَّابِرِينَ على المدح، والحث على الصبر في هذه الأحوال؛ لشدته، وصعوبته، - والله أعلم -، وهو المستعان، وعليه التكلان."
كلام ابن كثير يرجع إلى ما ذكرته من أن العرب تقطع إذا تطاولت صفة الواحد في المدح، أو الذم، ويكون ذلك أبلغ في مدحه، أو ذمه، وبعضهم يجيب بأجوبة غير هذا، كأن يقول مثلاً: وأخُصُّ الصابرين، أو أقدر، والأصل في الكلام عدم التقدير، ومهما أمكن حمل الكلام على الاستقلال فإنه أولى من دعوى الإضمار، فإذا أمكن حمل الآية على معنى صحيح من غير حاجة إلى تقدير فهذا هو المطلوب، وإن احتيج إلى التقدير فالقاعدة الأخرى أنه يقدر في الكلام ما هو أشبه ببلاغة القرآن، وفصاحته.
"وقوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال، والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ." خص الله الصابرين في الآية في هذه الحالات الثلاث: البأساء، والضراء، وحين البأس، ومع أن الصبر مطلوب في كل الأمور كالصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على أقداره المؤلمة، لكنه خص هذه الأمور الثلاثة؛ لأنها شديدة جداً، والصبر فيها لا شك أنه في غاية المشقة، وإلا فالأصل أنه مطلوب في كل الأحوال.
ثم أحسن، وصفهم فقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فجاء بالفصل بالضمير ضمير الغائب هم بين طرفي الكلام، وهذا يشعر بأن هؤلاء حققوا الوصف الكامل من هذه الأمور، فهم أحق من يوصف بالصدق، وأحق من يوصف بالتقوى، فكأنه يقول: أولئك هم أصحاب الوصف الكامل من الموصوفين بهذه الصفة، ومجيء الضمير بين طرفي الكلام يدل على تقويته، فهو يشبه الحصر؛ كأنه حصر هذه الأوصاف بهؤلاء الموصوفين، بمعنى أنهم حققوا الوجه الكامل منها.
"وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ؛ لأنهم اتقوا المحارم، وفعلوا الطاعات"
  1. رواه البخاري في كتاب الزكاة –باب أي الصدقة أفضل، والصدقة، وأنت صحيح شحيح (1353) (2/515)، ومسلم في كتاب الزكاة – باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (1032) (2/716).
  2. رواه الترمذي (658) (3/46)، ورواه النسائي (2582) (5/92)، ورواه ابن ماجه (1844) (1/591)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب برقم (892). 
  3. رواه الطبراني في المعجم الأوسط (7/5)، والصغير (2/158)، ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن جابر بن عبد الله (7/464).
  4. رواه البخاري في كتاب الزكاة - باب قول الله تعالى: لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [سورة البقرة:273] (1409) (2/538)، ورواه مسلم في كتاب الزكاة - باب المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يتفطن له فيتصدق عليه (1039) (2/719).
  5. رواه البخاري في كتاب الأدب – باب: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ، وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [سورة التوبة:119] (5744) (5/2262)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان – باب: بيان خصال المنافق (59) (1/78).
  6. رواه البخاري في كتاب الإيمان - باب علامة المنافق (34) (1/21)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان – باب بيان خصال المنافق (58) (1/78).

مرات الإستماع: 0

"لَيْسَ الْبِرَّ الآية خطاب لأهل الكتاب؛ لأن المغرب قبلة اليهود، والمشرق قبلة النصارى، أي: إنما البر التوجه إلى الكعبة، وقيل: خطاب للمؤمنين، أي: ليس البر الصلاة خاصة، بل البر جميع الأشياء المذكورة بعد هذا".

قوله: لَيْسَ الْبِرَّ هذا الموضع قُرئ بالنصب بقراءة حمزة، وحفص، وقرأه الباقون بالرفع[1] (ليس البرُ) فعلى قراءة النصب يكون البر خبر لـلَيْسَ مقدم، وأَنْ تُوَلُّوا مصدر مؤول، أي توليتكم، هو اسم (ليس) مؤخر، ليس توليتكم جهة المشرق، والمغرب البرَ، فيكون خبر (ليس)؛ لأن اسم ليس يكون مرفوعاً، ويكون خبرها منصوبًا، أما على قراءة رفع (البر) وهي قراءة الجمهور، فهو اسم (ليس) وهذا لا إشكال فيه، ويكون أن تولوا، وجوهكم توليتكم... إلخ، هو الخبر في محل نصب.

هنا يقول: "الآية خطاب لأهل الكتاب؛ لأن المغرب قبلة اليهود، والمشرق قبلة النصارى" فظاهر الخطاب أنه موجه للمؤمنين لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وخُص بأهل الكتاب - على هذا القول - باعتبار ذكر المشرق، والمغرب، فالمغرب قبلة اليهود، والمشرق قبلة النصارى، وبعضهم يقول: إن اليهود يستقبلون بيت المقدس، وهو آنذاك عنهم إلى جهة الغرب، والنصارى يستقبلون مطلع الشمس، فلما ذُكر المشرق، والمغرب حُمل على اليهود، والنصارى، مع إن الذين كانوا في المدينة حينما يتوجهون إلى بيت المقدس فهم لا يتوجهون غربًا، ولكن يتوجهون شمالًا، لكن جاء في بعض الروايات تسمية تلك الناحية بالغرب، في أحاديث آخر الزمان، والفئة المنصورة، ونحو ذلك، جاء في بعضها: هم بالغرب والمقصود: الشام، فالشام على اسمه في ناحية الشمال، لكن بيت المقدس منه إلى الغرب بالنسبة للجزيرة العربية، فهو في الشمال الغربي بالنسبة لجزيرة العرب، وهذا القول: بأن ذلك الخطاب لأهل الكتاب باعتبار ذكر المشرق، والمغرب، هذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[2] بناء على رواية جاءت عن أبي العالية[3] لكن هذه الرواية لا تصح، فهذا لا يختص باليهود، ولكن الآية عامة، ويمكن أن تكون من جملة الرد على هؤلاء الذين كانوا يشغبون على تحويل القبلة.

يعني على الأول، أي: إنما البر التوجه إلى الكعبة، وليس قبل المشرق، والمغرب، إذا قلنا: إنها في أهل الكتاب، وقيل: خطاب للمؤمنين، أي ليس البر الصلاة، يعني التوجه هنا باعتبار الصلاة، فليس البر الصلاة خاصة، بل البر جميع الأشياء المذكورة بعد هذا، يعني فُسر هنا التوجه بالصلاة؛ لأنها هي التي يُستقبل بها القبلة، وهذا لا يخلو من بُعد، لكن لو قيل: ليس البر بالتمسك بالتوجه إلى ناحية المشرق، أو المغرب، بر طاعة، أو بر معتبر، أو بر حقيقي، هذا ليس بطاعة لله إن لم يكن عن أمر الله - تبارك، وتعالى - ولكن البر الحقيقي هو الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والنبيين، وإيتاء المال... إلخ، مما ذكره الله - تبارك، وتعالى - من أعمال القلوب، والجوارح، والسلوك، والآداب، والأخلاق، فهذه المذكورات في هذه الآية تنتظم أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وجوامع البر، وأبواب البر، فهم كانوا يشغبون على مسألة التوجه، والقبلة، وما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، ونحو هذا، فيقال لهم: ليس البر الطاعة، والخير في أن تتوجهوا هنا، أو هناك، في وجهة لم يشرعها الله - تبارك، وتعالى - فتتمسكوا بها، ولكن البر الحقيقي هو بالإيمان الصحيح، والعمل الصالح، مما يتصل بأعمال الجوارح، والقلوب، وكذلك بذل الأموال في طاعة الله - تبارك، وتعالى - والله أعلم -.

"وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ لا يصح أن يكون خبرًا عن البر، فتأويله: لكن صاحب البر من آمن، أو لكن البرّ برّ من آمن، أو يكون البر مصدرًا وصف به".

 

يقول: (ولكنْ البرُ) على قراءة التخفيف، وهي قراءة نافع، وابن عامر[4] وهي قراءة متواترة فـ(لكن) إذا كانت مخففة لا تعمل، فيكون البر مبتدأ، ومَنْ آمَنَ خبر وَلَكِنَّ لا عمل لها على قراءة التخفيف.

وعلى قراءة التشديد وَلَكِنَّ فإذا كان البر بمعنى (البار) فهو اسم (لكن) وخبرها مَنْ آمَنَ أما إذا كان على معناه (البر) باعتبار أنه مصدر، وهو اسم جامع لما يحبه الله، ويرضاه، من أنواع الطاعات، والتقدير على هذا: ولكنّ البرُ بر من آمن، أو ولكن ذا البر من آمن، ثم حُذف المضاف، وأعرب المضاف إليه إعرابه.

فإذا قلنا: بأن البر مصدر، وهو ما يحبه الله، فهل البر هو من آمن؟ أو صاحب البر هو من آمن؟ فيكون هناك مقدر محذوف، فتأويله: لكن صاحب البر من آمن، أو لكن البر بر من آمن، أو يكون البر مصدرًا وصف به، يعني أنه على سبيل المبالغة، كأنه جعل البار هو نفس البر؛ لشدة تمكنه فيه وَلَكِنَّ الْبِرَّ يكون معناه لكن البار من آمن، فوصفه بالمصدر البر، فجعل البار عين البر.

فقوله هنا: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ يقول: لا يصح أن يكون مَنْ آمَنَ خبرًا عن البر، هذا على أحد الأوجه، وإلا إذا جُعل البر مصدرًا وصف به فإنه يكون الخبر مَنْ آمَنَ - والله أعلم -.

فهذه المذكورات كما يقول سفيان الثوري - رحمه الله -: أنها جمعت أنواع البر كلها[5].

وابن كثير يقول: من اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله[6].

"وَآتَى الْمالَ صدقة التطوع، وليست بالزكاة؛ لقوله بعد ذلك: وَآتَى الزَّكَاةَ". 

هذه قرينة ترجح هذا، مع أنه يوجد من قال: بأن وَآتَى الْمَالَ هنا الزكاة، لكن المشهور خلاف هذا، والقرينة تدل على أن المقصود غير الزكاة.

"عَلى حُبِّهِ الضمير عائد على (المال) لقوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية، وهو الراجح من طريق المعنى، وعود الضمير على الأقرب، وهو على هذا تتميم، وهو من أدوات البيان، وقيل: يعود على مصدر آتى، وقيل: على الله".

وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ الضمير يعود على المال، وقد سئل النبيﷺ: أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصدق، وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى[7] وكذلك في قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ [الإنسان: 8] وقال: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] فالضمير يعود على المال، وهو الراجح، فالضمير يعود إلى أقرب مذكور.

يقول: "وهو على هذا تتميم، وهو من أدوات البيان" يعني أن قوله: عَلَى حُبِّهِ أن ذلك من قبيل التتميم، وهو من أدوات البيان، وهو عند أهل الفن أن يؤتى بكلام لا يوهم غير المراد، يعني المعنى مفهوم، لكن يأتي بزيادة تفيد نكتة، أو أن يأتي بكلمة، أو كلام متمم للمقصود لرفع اللبس عنه إن وجد، ويقربه للفهم، أو لزيادة حُسن، بحيث أنه لو حذف، لو طُرح من الكلام أُلغي نقص المعنى في ذاته، أو في صفاته، هكذا يقول بعضهم في التتميم.

فشبه الجملة وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ أفادت الزيادة، وهو أن هذا الإيتاء لم يكون عن زهد فيه، وإعراض عنه، وإنما مع حبه، فكان ذلك أعظم؛ لأن الصدقة تعظم بحسب متعلقها، مما يقوم في القلب، أو ما يكون في الخارج من شدة الحاجة مثلًا، أو للنوع المُعطى: كالصدقة على ذي الرحم، ونحو هذا.

قال: "وقيل: يعود على مصدر آتى" عَلَى حُبِّهِ يعني الإيتاء، يعني على حب الإيتاء، يحب البذل، وقيل: على الله عَلَى حُبِّهِ أي على حب الله، لكن هذا فيه بُعد، والأقرب أنه يعود إلى المال.

"ذَوِي الْقُرْبى وما بعده ترتيب بتقديم الأهم، والأفضل؛ لأن الصدقة على القرابة صدقة، وصلة بخلاف من بعدهم".

وفي الحديث: الصدقة على المساكين صدقة، وعلى ذي القرابة اثنتان: صدقة، وصلة[8] فجاءت هذه الأشياء مرتبة كما ذكر المؤلف: القرابة أحق، ثم بعد ذلك الأهم بالحاجات.

"ثم اليتامى لصغرهم، وحاجتهم".

اليتيم من فقد أباه دون سن البلوغ، فهؤلاء لا عائل لهم، وهم ضعفاء، لا قدرة فيهم على الكسب، فهم عُرضة للضياع، فهم أحق من الكبير المحتاج؛ لأنه يستطيع أن يحمي نفسه، ويستطيع أن يتقلب، ويذهب هنا، وهناك، لكن هذا الصغير أين يذهب؟!

"ثم المساكين؛ للحاجة خاصة"

المسكين حاجته ملازمة له هو دائمًا في هذه الحال، وابن السبيل حاجته عارضة، فهو من ذهب ماله في سفر، ونحو هذا، فنُسب إلى السبيل لملازمته لها، وهي الطريق، وهذا من ناحية العدد هم أقل من المساكين، ومن ناحية نوع الحاجة فهي عارضة، أما المسكين فحاجته ملازمة.

"وَابْنَ السَّبِيلِ الغريب، وقيل: الضيف. وَالسَّائِلِينَ وإن كانوا غير محتاجين".

يعني أخر السائلين باعتبار أن بعضهم يصدق، وبعضهم لا يصدق، ثم هم يتعرضون الناس بالسؤال، فهذا يعطيهم، وهذا يردهم، ليسوا كالمسكين الذي قد بقي يقاسي الفقر، ولا يتفطن له أحد، كما قال النبي ﷺ: ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة، واللقمتان، والتمرة، والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به، فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس[9] يعني لا يجد كفايته، ولا يتفطن له الناس، فيتصدقون عليه.

"وَفِي الرِّقَابِ عتقها".

يعني العتق، ويدخل فيه فك الأسارى، ويدخل فيه أيضًا إعانة هؤلاء المكاتبين، كما قال الله : وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور: 33] فيعان في هذه النجوم، أو الأقساط التي عليه من أجل أن يفدي نفسه بذلك، ويُعتق.

"وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ أي: العهد مع الله، ومع الناس".

وَالْمُوفُونَ جاء مرفوعًا، فهذا يحتمل أن يكون عطفًا على الضمير في (آمن) يعني من آمنوا، هم، والموفون وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ البر من آمن، والموفون، فيكون عطفًا على الضمير بآمن، والموفون، أو على من في قوله: مَنْ آمَنَ ولكن البر المؤمنون، والموفون، ويحتمل أنه خبر لمبتدأ محذوف على إضمار (وهم) يعني، وهم الموفون بعهدهم، على المدح لهؤلاء، يعني، وهم الموفون.

"وَالصَّابِرِينَ نصب بإضمار فعل".

نصب بإضمار فعل، تقديره: أمدح، أو أخص، أو أعني، أخُص الصابرين، ونحو ذلك، وعلى كل حال المغايرة في الإعراب بين المتعاطفات يمكن أن يُنزل على القاعدة المعروفة، وهي: أن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد في مقام المدح، أو الذم أنها تفصل بالرفع تارة، وبالنصب تارة، فيكون ذلك أبلغ في المدخ، أو الذم، ويكون ذلك أيضًا أدفع للسآمة، وأبلغ في الكلام.

"فِي الْبَأْساءِ الفقر وَالضَّرَّاءِ المرض".

وهذا مذهب الجمهور، إن البأساء هي الفقر، والضراء المرض.

"وَحِينَ الْبَأْسِ القتال".

خص هذه الثلاثة لشدتها، وإلا فالصبر مطلوب في الأحوال كلها، حتى مع النعمة، وسعة العيش، والعافية، ونحو ذلك، يصبر على طاعة الله ويلزم حدوده، فلا يطغى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7] فيحتاج إلى صبر في حال الرخاء، أو العافية، وفي حال الشدة، لكن خص هذه الثلاثة لشدة الحاجة معها إلى الصبر - والله أعلم -.

"صَدَقُوا في القول، والفعل، والعزيمة".

أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا هؤلاء الذين صدقوا بدعوى الإيمان، وليس أولئك الذين يشغبون على تحويل القبلة، ويتوجهون إلى جهات لم يوجهم الله إليها - والله أعلم -.

  1.  حجة القراءات (ص: 123).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 76).
  3.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 486).
  4. حجة القراءات (ص: 123).
  5.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 486).
  6. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 486).
  7.  أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح الصحيح برقم: (1419) ومسلم في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح رقم: (1032).
  8. أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة (1/ 591 - 1844) وصححه الألباني.
  9.  أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: لا يسألون الناس إلحافا [البقرة: 273] وكم الغنى برقم: (1479) ومسلم في كتاب الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يفطن له فيتصدق عليه برقم: (1039) واللفظ للبخاري.

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة:177]

يقول الله -تبارك وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ ليس الخير عند الله -تبارك وتعالى- هو في التوجه قبل المشرق أو المغرب كما يشغب اليهود على أهل الإيمان في أمر القبلة، فهذا التوجه ما لم يكن عن أمر الله -تبارك وتعالى- فلا اعتبار به، وإنما البر والخير الحقيقي هو في هذه الأمور التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- من حقائق الإيمان مما يتصل بالقلب، أو ما يتصل بالجوارح، وما يتعلق بالسلوك، وذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ولكن البر الحقيقي، البر الكامل كما سيأتي أن المعنى يحتمل: ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر، يعني فيه مقدر، ولكن البر بر من آمن، أو أن ذلك على سبيل المبالغة، أنه قصد بالبر البار، فكأنه صار نفس البر يعني من عمل البر من باب المبالغة في المدح والتزكية صار كأنه البر نفسه.

وَلَكِنَّ الْبِرَّ يعني: البار مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ فهو الذي يجمع هذه الأمور، من إيمانه بربه -تبارك وتعالى- أن يقر ويذعن وينقاد، ويصدق التصديق الانقيادي بإلهية الله ووحدانيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته وكمالاته.

وهكذا يؤمن بيوم البعث والنشور، والجزاء، وأن الناس يرجعون إلى الله -تبارك وتعالى- بعد موتهم، فيجازيهم على أعمالهم كلها، وكذلك الإيمان بالملائكة هؤلاء الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يؤمن بهم إيمانا مجملاً، ويؤمن بمن بلغه منهم إيمانًا مفصلاً.

وكذلك الإيمان بالكتب المنزلة أن الله أنزل كتبًا على أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- فيؤمن إيمانًا مجملاً بالكتب، ويؤمن إيمانًا لازمًا مفصلاً بكل كتاب بلغه أن الله أنزله على رسول من رسله -عليهم الصلاة والسلام.

وهكذا الإيمان بجميع النبيين من غير تفريق، أن الله -تبارك وتعالى- أوحى إليهم، واختصهم بالنبوة، وأرسل بعضهم من غير تفريق بين هؤلاء الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- فلا يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض.

وهكذا أن يؤتي المال الذي هو شقيق الروح، أن يخرجه وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ أن يخرج هذا المال ما وجب منه، وهو الزكاة والنفقات الواجبة، وكذلك ما كان على سبيل التطوع، مع شدة حبه له فيعطي القرابات، يصل الرحم، فيكون ذلك أعظم، فيكون صلة وصدقة في الوقت نفسه.

وكذلك هؤلاء اليتامى الذين فقدوا آباءهم قبل سن البلوغ، فهم بحاجة إلى رعاية والتفاتة وحنو وإحسان، وهكذا المساكين الذين أرهقهم الفقر والحاجة والمسغبة.

وهكذا ذاك الذي انقطع في سفره، فذهبته نفقته، بسبب أو لآخر؛ فإن مثل هذا لا بد من اعتبار حاله والنظر فيما عرض له فيعطى ما يصلح لمثله مما يوصله إلى أهله، ولو كان في بلده غنيًّا لا يستطيع أن يصل إلى ماله؛ فإنه يعطى، ولا يكون ذلك على سبيل القرض.

قال: وَالسَّائِلِينَ هؤلاء الذين يتعرضون للناس بالمسألة سواء كان هؤلاء من الفقراء حقيقة، أو أنهم يدعون أمر لا حقيقة له، فإن هذا السؤال لم يفرق الله -تبارك وتعالى- هنا بين أحوال هؤلاء السائلين، ولم يقيد ذلك بالصادقين منهم، وقال: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [سورة الضحى:10].

وعلى كل حال، الغالب أن الإنسان لا يسأل إلا للحاجة، سواء كانت هذه الحاجة شديدة، أو كانت دون ذلك، فيعطى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، يؤجر الإنسان، ويصله ما أراد وقصد، ولا يضيع عند الله -تبارك وتعالى- شيء.

وهكذا إنفاق المال في الرقاب بإعتاق المماليك، وكذلك أيضًا فك الأسارى، وكذلك إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فذكر الزكاة هنا يرجح أن الإنفاق المذكور قبل ذلك وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ أنه غير الزكاة، فذكر الزكاة، وذكر الصلاة، وكذلك الوفاء بالعهود وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وهو العقد والوعد المؤكد، يقال له: عهد وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ويدخل فيه سائر العهود كما سيأتي.

وهكذا أهل الصبر في الأحوال كلها: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ حال الشدة والفقر، وقلة ذات اليد والحاجة، وكذلك وَالضَّرَّاءِ في حال الضر والمرض، فيصبر ويشكو ضره إلى الله -تبارك وتعالى- ولا يتسخط.

وكذلك وَحِينَ الْبَأْسِ الصبر في القتال عند ملاقاة الأعداء، لاحظ أصحاب هذه الأوصاف قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ... [سورة البقرة:177]، قال القرطبي -رحمه الله: بأن هذه الآية العظيمة من أمهات الأحكام؛ لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة، في العقيدة، والأحكام والأخلاق، إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى[1]

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ كما أشرت آنفًا في الكلام على المعنى العام للآية وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فعلى القول بالحذف والتقدير، يكون كأنه حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على هذا الاحتمال، وعلى الاحتمال الآخر يكون ذلك من باب المبالغة في مدح البار القائم بهذه الأعمال سماه برًا، أطلق على هذا البار اسم البر، كأنه صار عين البر وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ البار من فعل وحقق هذه المذكورات بعده.

كذلك تأمل هذا الترتيب في هذه الآية: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ فقدم الإيمان بالله -تبارك وتعالى؛ لأنه الأصل العظيم الكبير، أصل الأصول الذي يبنى عليه جميع ما يجب الإيمان به، ويبنى عليه القبول، ويبنى عليه النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، فهو أول الواجبات، أول واجب على المكلف الإيمان بالله -تبارك وتعالى- أن يوحد ربه وخالقه وتقدست أسماؤه، فبدأ به، وهكذا في دعوة الناس نجد ذلك مبثوثًا في كتاب الله -تبارك وتعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:59]، هذه دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- البدء بالدعوة إلى الإيمان الصحيح، التوحيد الخالص لله -تبارك وتعالى.

ثم ذكر بعده الإيمان باليوم الآخر، ثم ذكر ما بين ذلك من الإيمان بالملائكة، والكتب والرسل، هذه الثلاث صارت بعد ذلك، بعض أهل العلم يقولون: الإيمان له مبدأ ومنتهى وواسطة، فالمبدأ هو الإيمان بالله، هو الأصل، وهو المقدم على غيره، وهو أول واجب، والمنتهى الإيمان باليوم الآخر الذي يصير الناس إليه في القيامة، وما بين ذلك الملائكة، ملائكة الرحمن يرسلهم الله -تبارك وتعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحج:75]، فيأتون هؤلاء الملائكة بالوحي والرسالات إلى الرسول البشري، فذكر الملائكة، وذكر الكتب، وذكر الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فبدأ بالملائكة؛ لأنهم هم الذين يأتون بالوحي، ثم الكتب؛ لأنها هي المضامين التي تنزل على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الملائكة تنزل الكتب الرسالات، ثم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين يبلغون عن الله -تبارك وتعالى- فذكر هذه الأمور بهذا الترتيب، وأهل العلم يتكلمون على هذه القضايا بكلام متفرق يدور حول هذا أو يقاربه، وسيأتي المزيد من الفوائد التي تستخرج من هذا الترتيب.

فقوله -تبارك وتعالى: وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [سورة البقرة:177]، فالملك يأتي بالوحي، ثم يبلغ إلى الرسول البشري، فصار مبلغ من الملائكة رسول من الملائكة، معه رسالة إلى رسول من البشر قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [سورة النحل:102].

فهذا بهذا الترتيب، بهذا التدريج، كذلك أيضًا هذا الترتيب على هذه الطريقة روعي فيه الناحية الوجودية في الخارج: ملَك، ثم الرسالة التي يحملها، ثم الرسول البشري.

الإيمان قدم على أعمال الجوارح كإيتاء المال والصلاة والزكاة؛ وذلك أن أعمال القلوب مقدمة على أعمال الجوارح، وهي الأصل، فالإيمان بالله -تبارك وتعالى- هو من جملة أعمال القلوب، وهكذا الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه كل ذلك يتعلق بالقلوب.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [سورة البقرة:177]، لاحظ قوله -تبارك وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ يعني: مع محبة المال، فهذا أعظم، فالعمل الواحد العمل المعين كالصدقة مثلا تتفاوت في أجرها عند الله -تبارك وتعالى- وعائدتها باعتبارات مختلفة، فمن ذلك: ما يقوم بقلب العبد وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [سورة المؤمنون:60]، يعني: مشفق، مخبت، يخشى ألا يقبل منه بخلاف ذلك الذي يتصدق، أو يحسن، وكأنه مدل على ربه -تبارك وتعالى- بهذا العمل.

كذلك تعظم هذه الصدقة بحسب متعلقها الحاجة الشديدة، كما في قوله -تبارك وتعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ ۝ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۝ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ۝ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [سورة البلد:11- 16]، فهذه سماها عقبة، تجتاز بمثل هذه الأعمال، فالصدقة تعظم ويعظم أجرها إذا كانت الحاجة ماسة شديدة، مثل هذه الأيام في البرد شدة إلى قوم يتنازعهم الخوف والفقر والتشريد والضر بأنواعه والبؤس بصوره وأشكاله في مخيمات في بلاد الشام، وما جاورها، فهذا لا شك أنه من أعظم الحاجة، ومن أشدها، والصدقة فيه من أعظم الصدقة.

يتيما تطعم اليتيم القريب، أو المسكين الذي قد التصقت يداه بالتراب لشدة حاجته، إذا اشتدت الحاجة.

وكذلك تعظم إذا كان هذا المحتاج قريبًا يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ يعني: من ذوي القرابات، وكذلك تعظم هذه الصدقة حينما يكون الإنسان ينفق كما قال النبي ﷺ: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى [2].

بخلاف ذلك الإنسان الذي قد طرح الدنيا وراء ظهره، وهو في لحظة الاحتضار، ثم يقول: أتصدق أتصدق الآن هذا لا يضيع عند الله، ولكنه ليس كالذي ينفق وهو صحيح شحيح، الإنسان الذي ولت الدنيا عنه، وولى عنها حينما يتصدق لا يكون كذاك الذي في حال صحته وعافيته، فالناس يتفاوتون في هذا؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يتعجل أن ينفق، ولا يترك ذلك بعد موته في وصية إذا فارق الدنيا، قال: أخرجوا ثلث مالي، أو ربع مالي، أو غير ذلك، فهذا الذي يخرجه في هذه الحال على حبه يدل هذا على قوة إيمانه ويقينه بأن ذلك يخلفه الله -تبارك وتعالى- فهذا أفضل الأحوال.

وكذلك حينما ينفق الإنسان وهو مع قلة ذات اليد، يعني: أن ينفق وهو مقل، فهذه النفقة التي يخرجها هي بالنسبة إليه عزيزة جدا، فهذا ليس كالذي قد تكاثرت نعم الله بين يديه، إنسان ليس عنده إلا رغيف يأكله فأعطاه وتصدق به ليس كذاك الذي بيته ملئ بألوان المطعومات لا يدري ماذا يأكل وماذا يدع؟ فحينما يخرج مثل هذه الصدقة ليس كذاك الذي لا يجد إلا هذا الرغيف، ومن هنا الله -تبارك وتعالى- أرشد إلى الإنفاق مما نحب لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران:92]، ولا يتخير الإنسان في نفقته الأشياء التي لا يقبلها، لو أنها دفعت إليه وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [سورة البقرة:267]، يعني: لو أنه دفع إليك لا  تأخذ لك إلا على إغماض حياء من المعطي، ثم بعد ذلك لربما صرفته هنا أو هناك، سواء كان ذلك من طعام لا تقبله أن يدفعه إليك، أو كان ذلك من لباس، أو كان ذلك من أثاث، أو غير ذلك.

نعم الإنسان لا يهدر هذه النعم فتلقى في المزابل، فيعطيها من ينتفع بها، لكن أن يكون صدقته وعمله وبذله هو من هذه الأشياء فقط، فهذا هو المذموم، حينما ينظر الإنسان في الثياب، تنظر المرأة تقلب في اللباس، فإذا رأت شيئًا تستحسنه، قالت هذا خسارة حسافة، ثم ضمته إليها حسافة على الصدقة.

وإذا رأى طعامًا نظر إلى الطعام، نظر إلى ما ذبل وعافته نفسه فأخرجه، وإذا نظر إلى شيء استحسنه، وأنه جيد قال: لا هذا حسافة خلوه هنا وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [سورة محمد: 38].

ولهذا قال النبي ﷺ: كل امرئ في ظل صدقته، حتى يفصل بين الناس [3] ولما جاء إلى المسجد ووجد عذقًا فيه شيص، والشيص هو ثمر النخل الذي لم يؤبر يكون ضعيفا، دقيقا لا يصلح إلا لأكل الحيوانات فلما رآه، قال: إن صاحبه ليأكله شيصا يوم القيامة [4]

فهذه التي نقدمها نحن نقدمها لأنفسنا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ [سورة البقرة:272]، فحينما يوقن الإنسان بمثل هذا؛ فإنه يخرج الشيء والمال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين.

لا زال الحديث -أيها الأحبة- متصلاً بقوله -تبارك وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة:177].

فقد تحدثنا عن صدر هذه الآية، ونواصل الحديث عن قول الله -تبارك وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ يعني على حب المال ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ فقدَّم المال وَآتَى الْمَالَ وهو المفعول الثاني، ولم يقل: وآتى ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب المال، وإنما قال: وَآتَى الْمَالَ لأن هذا المال هو المخرج، وهو المقصود، وهو شقيق الروح، فقدَّمه، وإلا فهو المفعول الثاني، وأصل الكلام في سياقه: وآتى ذوي القربى المال، وآتى المساكين المال، لكنه قال: وآتى المال ذوي القربى.

وهكذا أيضًا هذا الترتيب في هؤلاء المعطين لهذا المال، وآتى المال ذوي القربى، فقدَّم الأهم، فبدأ بذوي القربى؛ لأنهم أحق بالإحسان، فهي صلة وصدقة في حقهم، فيبدأ بمن يعول، ثم الأقرب فالأقرب.

ثم ذكر بعد ذلك من تمس حاجتهم إلى المال، فذكر اليتامى بعد ذوي القربى، واليتيم ضعيف، مهيض الجناح، لا عائل له، وهو صغير، فيمكن أن يبتز ويُضيّع، وليس له قدرة على الكسب، والذهاب مذهب الرجال، والاكتساب كاكتسابهم، فهو دون ذلك، ليس عنده قوة ولا قدرة لا في عقله وتفكيره، ولا في جسمه وجسده، فهو ضعيف عن مزاولة الأعمال، فهو بحاجة إلى رعاية.

ثم ذكر المساكين، فهم وإن كانوا كبارًا يستطيع الواحد منهم أن يحمي نفسه، وليس كاليتيم، لكن حاجتهم ملازمة، فهو مسكين فقير، كأنه لشدة حاجته وفقره قد سكنت أعضاؤه وجوارحه لشدة فقره.

ثم ذكر بعد ذلك من هو أقل حاجة، ومن كانت حاجته عارضة، وهو ابن السبيل، فابن السبيل قد يكون غنيًا في بلده، لكنه في سفره قد انقطع، وذهبت نفقته، وهو غريب في البلد الذي يجتاز فيها، فهو بحاجة إلى التفاتة وإحسان، فيعطى ما يصلح لمثله، حتى يصل إلى بلده، ولا يترك مضيعًا في بلد هو غريب فيها، تكفيه غربته، فهو مستوحش، فجعله بهذه المثابة.

ثم ذكر بعد هؤلاء السائلين؛ لأن هؤلاء يسألون، فيحصلون من هذا وهذا، وليسوا كالمسكين المتعفف الذي لا يسأل، أو كاليتيم الذي لا رفد له، ولا أب له، ولا معين، ولا قدرة على الكسب، أما هذا الذي يسأل الناس، فإنه يجد من هؤلاء ما يسد بعض حاجته، ثم هؤلاء منهم الصادق، ومنهم غير الصادق، فالذين يسألون كثير، وقد يبالغ في وصف حاله، وقد يكون من ذوي الحاجات، ولكنه ليس كما وصف، فذكرهم بعد هؤلاء.

ثم ذكر الرقاب، فهؤلاء المماليك هم بالنسبة لذوي الحاجات أقل حاجة؛ لأن سيده يكفيه، فيطعمه ويكسوه، ويقوم بشؤونه وحاجاته، فله كافل ينفق عليه، لكنه إذا أعتق فإن ذلك يكون كمالاً في حقه، لكن أولئك قد يتضورون من الجوع والحاجة والشدة والمسغبة، فهم أولى من هذا الذي يتقلب في دار سيده، وقد كفي حاجاته.

ثم بعد هذه الأنواع التي ذكرها قال: وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فجاء هذا العطف وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وبهذه الصيغة (الموفون) بصيغة الفاعل، أقام الصلاة، وآتى الزكاة، هذه أفعال، فلم يقل: وأوفوا العهود، وإنما قال: وَالْمُوفُونَ والاسم أو الجملة الاسمية -كما هو معلوم- تدل على الثبوت، ومعنى ذلك: أن الوفاء بالعهد سمة لازمة ثابتة للمؤمن بكل أحواله، لا يبدل ولا يغير.

ثم أيضًا عطف عليه الصابرين، فقال: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ وهذا فيه حث على لزوم الصبر في الأحوال كلها، فهنا ذكر الأحوال التي يكون فيها الصبر: الشدائد في البأساء، وهي الفقر والشدة والحاجة، والضراء في حال المرض، وحين البأس في حال القتال، فهذا الصبر إما أن يكون لما يقع للإنسان من حاجة، فهو يتضور من الجوع والفقر، فيحتاج إلى صبر، ولا يحسد أحدًا لما أعطاه الله -تبارك وتعالى- ولا يتسخط على ربه، ولا يسوء ظنه بالله ويقول: أفقرني وأعطى غيري، فهذا من سوء الظن بالله، ومن التسخط.

وكذلك أيضًا حال الضراء وهو المرض، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي اختار لعبده هذا الضر، وساق ذلك له عن علم وحكمة، فما عليه إلا أن يصبر، وهذا الجزع والتسخط لن يرد مفقودًا، ولن يجلب أيضًا مطلوبًا، وإنما يفقد به أجره عند الله -تبارك وتعالى- فيحتاج العبد إلى أن يوطن نفسه على الصبر في الشدائد بأنواعها، وهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: كالحر والبرد، لا بد منه، في بعض أوقات السنة يكون الحر، وفي بعض الأوقات يكون البرد، وفي بعضها يكون الاعتدال[5]

وهكذا يقلب الله خلقه وعباده بهذه الأمور، فمن الناس من ينكشف وينكسر في حال الشدة، ومنهم من ينكشف في حال الرخاء، والله -تبارك وتعالى- يبلو عباده بالشر، كما يبلوهم بالخير، فمن الناس من يصبر على الضراء، ولكنه لا يصبر على السراء، ومنهم عكس هذا، فيُقلَّبون الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [سورة الملك:2] وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [سورة الأنبياء:35] نبلوكم: أي نختبركم، فإذا عرف المؤمن مثل هذا، فإنه يُوطِّن نفسه، ويتلقى ذلك عن الله -تبارك وتعالى- وهو الرحيم العليم الخبير الحكيم بنفس رضية، وهذه الحياة من أولها إلى آخرها قصيرة، تمر على الصحيح والعليل، وعلى المكروب وعلى أصحاب النعم والرخاء، كأنها أحلام، ولو تأمل المبتلى لعلم أن أيام العافية أطول وأكثر، وأن الله -تبارك وتعالى- قد ساق إليه من أنواع النعم واللذات ما لا يقدر قدره، ولكن الإنسان ضعيف، فإذا حصل له المكروه نسي هذه الأيام المتطاولة في النعم، وضاقت الدنيا بعينه، وهذا لقلة صبره، والله المستعان.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية بهذا التلوين العطفي والإعراب وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فلماذا جاء هذا منصوبًا، وقد قال قبله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا فلماذا لم يأتِ مرفوعًا فقال: والصابرون في البأساء والضراء؟ العلماء يجيبون عن هذا بأجوبة كثيرة، بعضهم يقول: نصب على الاختصاص، يعني: وأخص الصابرين، لشدة ذلك على النفوس، وعظم وقعه؛ ولمنزلة الصبر إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة الزمر:10] فهذه الأعمال -المذكورة قبل- جليلة، ولكن الصبر هو مُعوَّل المؤمن، ومن عادة العرب كما هي القاعدة المعروفة في التفسير: أنها تقطع إذا تطاولت صفة الواحد في المدح أو الذم، تقطع بالرفع تارة، وبالنصب تارة، وهذا عندهم أبلغ في المدح أو الذم، وهذا يجاب به عن نظائره بالقرآن.

وكذلك أيضًا فيه تنشيط، وهو أبلغ في الكلام، وأدفع للسآمة مما لو كان على نسق واحد، فهذا يُنبّه إلى خصيصة تتصل بالصابرين.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية من قوله تعالى: وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (أولئك) أشار إليهم بالبعيد لعلو مرتبتهم، وشهد لهم أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فهؤلاء هم أهل الصدق فعلاً في الإيمان، ولم تكن دعوى الإيمان مجرد دعوى يقولونها بألسنتهم، ولكنهم حققوا ذلك بقلوبهم وجوارحهم أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ فأعاد الإشارة إلى البعيد (وأولئك) وجاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام لتقوية النسبة وَأُوْلَئِكَ هُمُ ودخلت (أل) على الخبر الْمُتَّقُونَ يعني كأنهم الذين حققوا الوصف الكامل من التقوى، تقول: هذا هو الكرم، وهذه هي الشجاعة، وهذا هو الرجل، يعني الرجل كامل الرجولية، وهذا هو الإتقان، كأنه لا إتقان سوى هذا.

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فهذا الوصف من الله -تبارك وتعالى- في ختم هذه الآية يدل على منزلة عالية لهؤلاء، وأن من أراد أن يتحقق بالصفات الكاملة، وأن يترقى في سلّم العبودية في أعلى مراتبه فعليه أن ينظر في هذه الأوصاف، ويعرض نفسه عليها، وانظر إلى هذا الترقي الذي أشرت إليه في هذه الآية في قضايا الإيمان، وقضايا الإحسان، وقضايا الصبر الذي هو حبس النفس.

وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر، يعني الصبر على الفقر أسهل، ثم المرض، الفقير لو قيل له: تمرض، أو تبقى فقيرًا؟ لقال: أبقى فقيرًا صحيحًا، ثم ذكر الصبر في القتال، حيث تتطاير الرؤوس، ويرى الموت بعينيه، فينسى المال والولد، وينسى صحته وعافيته، ولا يكون بين يديه إلا الإبقاء على المهجة، فذكر الصبر في البأساء، الحاجة والفقر، والضراء في المرض، فهذا إلى الأعلى، ثم حين البأس.

والمقصود -أيها الأحبة- أنه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: لم يثبت المدح في هذه الآية، ولا في غيرها، إلا على إيمان معه العمل، لا على إيمان خال من عمل[6] فهنا قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ صدقوا في دعوى الإيمان، وهذا أيضًا كثير في القرآن يصف المؤمنين بالصدق كما يصف المنافقين بالكذب، الكل قال بلسانه، ولكن أهل الإيمان صدقوه بالأفعال، وأما أهل النفاق فظهر منهم ما يدل على كذب هذه الدعوى. 

  1.  تفسير القرطبي (2/ 241).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح الصحيح، رقم: (1419)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، رقم: (1032).
  3.  أخرجه أحمد، رقم: (17333)، وابن خزيمة، رقم: (2431).
  4.  لم أقف عليه بهذا، وأخرج نحوه أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، برقم (1608)، عن عوف بن مالك، قال: دخل علينا رسول الله ﷺ المسجد وبيده عصا، وقد علق رجل قِنًّا حشفًا، فطعن بالعصا في ذلك القِنو، وقال: لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها)، وقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة، والنسائي، كتاب الزكاة، باب - قوله Uوَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [سورة البقرة:267]، برقم (2493)، وابن ماجه، أبواب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله، برقم (1822)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1426).
  5.  المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 145).
  6.  منهاج السنة النبوية (8/ 218) و دقائق التفسير (2/ 112).