الإثنين 24 / ربيع الآخر / 1446 - 28 / أكتوبر 2024
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِى ٱلْقَتْلَى ۖ ٱلْحُرُّ بِٱلْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلْأُنثَىٰ بِٱلْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِىَ لَهُۥ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَٱتِّبَاعٌۢ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَٰنٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:178-179]. 
يقول تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ العدل في القصاص - أيها المؤمنون - حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا، وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم، وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة، والنضير."
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ كتب بمعنى: فرض، أي فرض عليكم القصاص، ومعلوم أن القصاص قد يستغنى عنه بالعفو مطلقاً من غير عوض، وقد يستغنى عنه أيضاً بالدية، وهذا هو معنى السلطان الذي ذكره الله في موضع آخر في سورة الإسراء فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [سورة الإسراء:33] فلعل من أحسن ما فسر به السلطان المذكور في الآية: أن الله جعل لولي الدم تسلطاً على القاتل شرعاً، وقدراً، وذلك بثلاثة أمور: القصاص، أو الدية، أو العفو، والخيار خياره، فهذا من أحسن ما تفسر به آية الإسراء، - والله تعالى أعلم -.
فالمقصود أنه قال: ولا تتجاوزا، وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم، وغيروا حكم الله فيهم، وسبب ذلك قريظة، وبني النضير إلى آخره، والمراد أن بني النضير كانوا يرون أنهم أشرف من قريظة، فكانوا يرون أن دماءهم لا تتكافأ، فإذا قُتل أحد من بني النضير - قتله قرظي - فإنه يقتل به، وإذا كان القاتل من بني النضير فإنه لا يقتل، لكن ما مناسبة إيراد خبر قريظة، وبني النضير في تفسير قوله - تبارك، وتعالى -: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ؟ لعله تلميح لأهل الإيمان أن لا تغيروا أحكام الله كأولئك الذين غيروها، ولذلك صدر الآية بخطاب الذين آمنوا فيكون (كُتب) يتصل بقوله (الحر)، وهذا الذي اختاره جمع من المفسرين منهم ابن جرير الطبري - رحمه الله - الْحُرُّ بِالْحُرِّ يعني كتب عليكم أن تعدلوا في القصاص فلا يقتل غير القاتل، ولهذا جاءت بعض الروايات عن بعض السلف: بأن أهل الجاهلية كان إذا قتل الرجل الرجل، قتلوا كل من وجدوا من عشيرته، وقبيلته كما قال الشاعر: 
كل قتيل من كليب غرة حتى يوافي القتل أهل مرة
فكل قتيل من هؤلاء غرة بمنزلة العبد حتى يوافي القتل أهل مرة، والقرآن حذر من هذا الصنيع يقول في الإسراء: فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِا [سورة الإسراء:33] فيدخل فيه قتل غير القاتل، ويدخل فيه التمثيل به، ويدخل فيه قتل الجماعة بالواحد إن لم يشتركوا في قتله.
أحيانا يقولون: هذا لا يكافئه إلا رئيس القبيلة، أو فارس القبيلة، أو يقولون: لا يكافئه إلا أن نقتل به عشرة من القبيلة فهذا من الإسراف في القتل، بعض أهل العلم يقول: إن هذه الآية نزلت تتحدث عن مثل هؤلاء إذا قُتل منهم الرجل - عبد مثلاً - لم يرضوا إلا بقتل حر مكانه، وإذا كانت امرأة قد قتلت امرأة فإنهم لا يكتفون بقتل هذه المرأة بل يقولون: لابد أن نقتل رجلاً من هذه القبيلة.
وبعضهم يقول: إن هذه الآية أصلاً نزلت في قوم وقع بينهم قتال، فالنبي ﷺ أصلح بينهم، وجعل هذه الدماء الموجودة بين الفريقين، جعل القتلى النساء من الفريقين هؤلاء يعدلن هؤلاء، والعبيد بالعبيد، والأحرار بالأحرار، وأصلح بينهم على هذا الأساس، فكِفاءُ دماء هؤلاء بهؤلاء، وما زاد فيمكن أن يعطوا من المال الديات ما يعوض هذا التفاوت، وعلى هذا تكون الآية لا مفهوم لها؛ لأن نزولها، وتقرير الحكم فيها لم يكن ابتدائياً، وإنما هو نازل في توصيف حالة واقعة فهي أحد المواضع السبعة، أو الثمانية التي لا يعمل فيها بمفهوم المخالفة، والتي جمعها الناظم الشنقيطي في قوله:
كذا دليلٌ للخطاب انضافا ودع إذا الساكت عنه خافا
أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جري على الذي غلب
أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع
وهذه الآية نزلت على وفاق واقع معين، وهي كقوله - تبارك، وتعالى -: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:28]، فمفهوم المخالفة أنه يجوز اتخاذ الكافرين أولياء بشرط أن يكون معهم مؤمنون، ولكن ليس هذا المراد؛ لأن الآية نزلت بسبب قوم من المؤمنين اتخذوا بعض الكافرين أولياء ضد بعض المؤمنين، فنزلت الآية تتحدث عن هذا الأمر، فيكون ذلك قد نزل في توصيف، واقع معين.
وكما قال الله : وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [سورة النــور:33] فهل إذا كانت هذه الأمة لا تريد التحصن، والعفاف، وترغب في الفجور، يجوز تركها استدلالاً بمفهوم المخالفة؟ لا، لأن الآية نزلت في واقعة معينة، وهو أن عبد الله بن أبي بن سلول كان له جارتان فأسلمتا، فكان يرغمهما على البغاء مقابل أجرة يتكسبها من وراء هؤلاء الجواري، ويضربهما على ذلك، فأنزل الله: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا.
فقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ لا يعني أنه إذا قتل الحر العبد، أو العكس أن معناه أنه لا يطالب بالقصاص، فليس هذا هو المراد، فالآية إنما نزلت على توصيف، أو تعالج واقعاً معيناً، وترد على بعض المفاهيم التي كانت منغرسة في بعض الأفهام، وليس نزولها لتقرير حكم ابتداء، وبالتالي فإن قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ليس المقصود منه أن المرأة إذا قتلت الرجل، أو الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، وإن كان الإمام أحمد ذهب إلى أن الرجل إذا قتل المرأة، وحكم بالقصاص فإنه تكمل له دية الرجل، فإذا كانت دية الرجل مائة ألف، ودية المرأة خمسين ألفا، فيدفع إليه أولياء المقتول خمسين ألفا نصف الدية الباقي، ويقتل، وهذه المسألة محل خلاف، - والله أعلم بالصواب -.
"يقول تعالى: كُتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون، حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا، وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم، وغيروا حكم الله فيهم." فقوله - تبارك، وتعالى - يَا أَيُهَاْ الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [سورة البقرة:178]. 
أي: فرض عليكم أن تعدلوا في القصاص، وعبارة الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تشير إليه يقول: كتب عليكم العدل، وجعل كُتب عليكم القصاص مرتبطاً بقوله: الحر بالحر، والمعنى كُتب عليكم العدل في القصاص بألا تتجاوزوا حد الله فتخرجوا عن العدل، بقتل غير القاتل، أو بقتل الحر بدلاً من الرقيق المقتول، وما إلى ذلك مما كانوا يفعلونه.
وقوله هنا: الْحُرُّ بِالْحُرّ ِوَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى مفهوم المخالفة فيها أنه إذا حصل التفاوت بين القاتل، والمقتول في المرتبة فإنه لا ينفذ حكم القصاص في الواقعة، وقد ذكر العلماء عدة أجوبة على تقرير أن مفهوم المخالفة لا عبرة له في هذا الموطن فمن ذلك:
أن هذه الآية يمكن أن تكون قد نزلت في معالجة حال معينة واقعة، ذكرها الحافظ ابن كثير، وذلك أن بني النضير كانوا يرون أنهم أشرف من قريظة، وكلهم من اليهود، فالرجل من النضير إذا قتله القرظي قُتل القرظي به، وإن كان القتل من النضير لأحد من قريظة فإنه لا يقتل به، ويقولون: لا يقتل به؛ لأنه لا يكافئه، فجاءت الآية تعالج هذه القضية.
أو أن ذلك فيما كان عليه الحال قبل النبي ﷺ فكان الناس لا يعدلون في القصاص، فإذا قتل الرجل رجلاً فإن أولياء الدم، أو عشيرة المقتول يقتلون من وجدوا من عشيرة القاتل، وقرابته، وربما رأوا أن القاتل لا يكافئ المقتول فعمدوا إلى غيره، فقتلوا بالواحد جمعاً من الناس لا علاقة لهم بقتله، وربما قتلوا فارس القبيلة، أو سيد القبيلة، أو الوجهاء من القبيلة، مع أنهم لا علاقة لهم بقتل هذا الإنسان، وإذا كان القاتل عبداً لم يقبلوا بالقصاص منه، بل قتلوا حراً مكانه، وإذا كان القاتل امرأة لم ٍٍيقبلوا بالقصاص منها بل قتلوا رجلاً من عشيرتها بدلا منها، فجاءت الآية تعالج هذا الواقع.
 أو أن ذلك كان في مقتلة وقعت، فوقع قتلى من الطرفين رجال، ونساء، وأرقاء، فأصلح بينهم النبي ﷺ، فنظر في القتلى من الطرفين، فجعل النساء في مقابل النساء، والرجال الأحرار في مقابل الأحرار، والعبيد في مقابل العبيد، وأصلح بينهم بهذا الاعتبار، فجاءت الآية، وفاقا لواقع معين.
فهذه الروايات الواردة، وإن ثبت في بعضها ضعف إلا أن جميعها تؤكد أنها نازلة في علاج واقع بعينه، ونزول الآية في علاج، واقعة معينة يعد من المواضع التي لا عبرة فيها بمفهوم المخالفة.
والمقصود بمفهوم المخالفة: المعنى المسكوت عنه بكلام منطوق، ومفهوم، فالمنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق مثاله: أكْرِم التقي، فالمنطوق إكرام التقي، ومفهوم المخالفة لا تكرم غير التقي.
ومفهوم الموافقة: يجاري المنطوق، لكنه مسكوت عنه، فمفهوم المخالفة حجة على قول الجماهير من أهل العلم، لكنه في بعض المواضع لا يكون حجة، ومنها هذا الموضع أن تكون الآية، أو النص نزل لمعالجة واقع معين.
وعليه فقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ معناه: أنه إذا قتل الرجل امرأة فإنه يقتل بها، وإذا قتلت المرأة أحداً من الرجال فإنها تقتل به، والنبي ﷺ أخبر أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، ومن أهل العلم من يشترط التكافؤ في القصاص، ويطالب بالتفاوت في الدية بين الرجل، والمرأة، وكثير من أهل العلم على خلافه، فعلى هذا تكون الآية على ظاهرها عندهم، ولا نسخ فيها.
وبعضهم قال: إنها منسوخة، نسخها قول الله - تبارك، وتعالى -: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [سورة المائدة:45]، وهذه الآية من سورة المائدة، وسورة المائدة هي آخر ما نزل في الأحكام، لم ينسخها شيء، ولكن هذه الآية التي ذكروا إنما نزلت في بني إسرائيل، فهي تخبر عما شرع لبني إسرائيل، ومعروف أن شرع من قبلنا لا يكون شرعاً لنا إن وجد في شرعنا ما يخالفه، فإذا قيل: إن هذه الآية ثابتة: الْحُرُّ بِالْحُرِّ... فتكون مخالفة لما شرع لبني إسرائيل في آية المائدة، فلو لم تنسخ فعندئذ يكون ذلك مخالفاً لما كتب على بني إسرائيل، وهذا توضيح لقوله سبحانه: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا، ولقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى، - والله تعالى أعلم -.
"وسبب ذلك قريظة، والنضير، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية، وقهروهم، فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به، بل يفادي بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل به، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية قريظة، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين المخالفين لأحكام الله فيهم، كفراً، وبغيا." معلوم أن بني إسرائيل كان لا يحل لهم أخذ الدية، وإنما حل ذلك لهذه الأمة تخفيفاً، ورحمةً بها، وإيراد ابن كثير - رحمه الله - لهذه القضية في بني إسرائيل، وما كان يحصل بينهم كأنه يريد أن يقول: إنها نزلت تصف حالاً معينةً منكرةً، فلا يكون للآية مفهوم مخالفة، ولا يفهم أن التفاوت، والتكافؤ إذا لم يحصل لا يحصل القصاص، ودليله ما ذكره أنس بن مالك قال: "عدا يهودي في عهد رسول الله ﷺ على جارية فأخذ أوضاحاً كانت عليها، ورضَخَ رأسها، فأتى بها أهلُها رسول الله ﷺ، وهي في آخر رمق، وقد أُصمتت، فقال لها رسول الله ﷺ: من قتلك؟ فلان؟، لغير الذي قتلها فأشارت برأسها أن لا، قال: فقال لرجل آخر غير الذي قتلها فأشارت أن لا، فقال: ففلان؟ لقاتلها، فأشارت أن نعم، فأمر به رسول الله ﷺ فرُضخ رأسه بين حجرين[1]
"وقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى منها منسوخة، نسختها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [سورة المائدة:45]، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: ولا يقتل مسلم بكافر[2]." القاعدة الثابتة: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فالأصل في الآية الإحكام، وليس النسخ، ودعوى النسخ تكثر في كلام المفسرين، والفقهاء - رحمهم الله -، ولا بد له من دليل، والحكم بالنسخ بمجرد تعارض يلوح للمفسر، أو الفقيه أمر غير سائغ؛ لأن النسخ فيه إهدار لأحد الدليلين، والأصل إعمال الدليلين ما أمكن، فإن تعذر ذلك لجأ إلى الترجيح، ويبقى النسخ في الأخير، فالنسخ على كل حال إن لم يثبت بدليل يقوي القول به، وإلا فإنه لا يلجأ إليه، وهذه الطريقة التي مشى عليها ابن كثير - رحمه الله - في أول كلامه يقول: كتب عليكم العدل في قصاص القتلى الحر بالحر...، ولا تفعلوا كما فعلت قريظة، أو كما كان يفعله بعض العرب في الجاهلية، فلا نسخ.
لكنه قال بعد ذلك: هذا القدر من الآية منسوخ، وهو غريب ...
جاء في الأصل قوله:
"رواية عن سعيد بن جبير في قوله تعلى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ... [سورة البقرة:178] يعني: إذا كان عمداً الحر بالحر، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل، وجراحات حتى قتلوا العبيد، والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة، والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى منها منسوخة نسختها النفس بالنفس."من الكلام السابق تفهم أنه لابن كثير - رحمه الله -، وظاهر كلام ابن كثير خلاف هذا فهو يرى أن الآية غير منسوخة، بل يرى أن قوله سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ مرتبطة بما بعده من قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ. ..، ثم ذكر القصة بعده، مما يدل على أنها نازلة تعالج واقعة معينة فلا مفهوم لها، فالقول بالنسخ عن ابن كثير لا يصح، إنما هذه رواية نقلها عن سعيد بن جبير، وفي آخرها أنه قال: إن هذا القدر من الآية منسوخ، والنسخ يطلق عند السلف على كل ما يعرض للنص العام فتقييد المطلق، وتخصيص العام، وبيان المجمل، كل ذلك يقولون له نسخ كما قال ابن عباس في قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [سورة آل عمران:97] قال: نسختها التي بعدها مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فهذا من باب تخصيص العام قطعاً، ولا يحتمل النسخ؛ لأن النسخ الاصطلاحي بمعنى الرفع، ولم يُردْه، هذا إذا صحت الرواية عن سعيد بن جبير؛ لأن الروايات الواردة في سبب النزول فيها ضعف هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن غاية ما يقال: إن هذا رأي لسعيد بن جبير، وخالفه غيره، - والله أعلم -.
"لما ثبت في البخاري عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: ولا يقتل مسلم بكافر[3]، ولا يصح حديث، ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة." وهي قوله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [سورة المائدة:45]، وتوجيهه للآية: أن الكافر نفس، والمسلم نفس فيقتل به لهذا الجامع، إلا أن الآية نزلت في بني إسرائيل، وعندنا أن النبي ﷺ قال: لا يقتل مسلم بكافر[4]، وقال: المسلمون تتكافأ دماؤهم[5]، ومفهوم المخالفة أن غير المسلمين لا تتكافأ دماؤهم.
"ومذهب الأئمة الأربعة، والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد، قال عمر بن الخطاب في غلام قتله سبعة فقتلهم...." أورد هذا القضية لأن الله قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، والمعنى كما تقدم العدل في القصاص الْحُرُّ بِالْحُرِّ....، ومن مقتضى العدل أنه إذا مجموعة قتلوا واحدا، فإنهم يقتلون به.
 "قال عمر بن الخطاب في غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع، وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة، وحكاه ابن المنذر عن معاذ، وابن الزبير ، وعبد الملك بن مروان، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت."ذكر عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف باعتبار أنه فقيه، معدود من أهل الفقه، ومحسوب عليهم. 
"وقوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ فالعفو: أن يقبل الدية في العمد، وكذا روي عن أبي العالية، وأبي الشعثاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان.
وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يعني فمن ترك له من أخيه شيء يعني: أخذ الدية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو."
القتل إذا كان بغير عمد فلا مجال للعفو عن القصاص؛ لأنه لا يحق له أصلاً أن يقتص منه، إذ الحكم بالقصاص إنما يكون في العمد، فمن عفا مقابل عوض، وهي الدية فعند ذلك يقال: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، والقرينة التي تبين أنه المراد قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يعني إلى الدية من القصاص فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ العفو إما أن يكون بالتنازل عن الدية، ففي هذه الحالة لا مجال للتوجيه بالاتباع بالمعروف، والأداء بإحسان، وإما أن يكون إلى الدية إلى عوض، فهذا هو الذي دلت عليه الآية، - والله أعلم -.
 "فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ يعني: من القاتل من غير ضرر، ولا معك، يعني: المدافعة."قوله: فَاتِّبَاعٌ ورد في إعرابها مرفوعة حالتان:
أولها: أن تكون مرفوعة بفعل محذوف، والتقدير: فليكن منه إتباع بالمعروف، يعني ولي الدم.
ثانيها: أنها خبر لمبتدأ محذوف، وتوجيه الآية بأن لولي الدم اتباع القاتل، والمطالبة بالمعروف من غير تعنت، ولا إضرار، بأن يدفع الدية على أقساط معلومة، خلال أزمنة محدودة تسقط الدية عنه، ولا ينبغي له أن يتصرف بما يلحق به الضرر بسبب مطالبته بهذه الدية فهذا أمر لا يسوغ. 
والوجه الذي تعين عليه تسليم الدية قوله - سبحانه -: وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، وهذا فيه الاحتمالان السابقان من الناحية الإعرابية: فليكن منه أداء إليه بإحسان، أو فالأمر أداء، فهذا الإنسان الذي تعينت في حقه الدية ينبغي عليه أن يؤدي هذا الحق الذي عليه، ولا يماطل أولياء الدم، ويؤخر التسليم بدون مبرر، ولا دافع.
"وقوله: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ يقول تعالى: إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفاً من الله عليكم، ورحمة بكم، مما كان محتوماً على الأمم قبلكم، من القتل، أو العفو، كما روى سعيد بن منصور عن ابن عباس - ا - قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال الله لهذه الأمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فالعفو أن يقبل الدية في العمد، وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
وقال قتادة: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ رحم الله هذه الأمة، وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص، وعفو ليس بينهم أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة القصاص، والعفو، والأرش.
وهكذا روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، نحو هذا.
وقوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية، أو قبولها، فله عذاب من الله أليم موجع شديد. وهكذا روي عن ابن عباس - ا -، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان: أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية."
وهذا هو المشهور، والظاهر من الآية، أن من اعتدى بالقتل على القاتل بعد أخذ الدية منه فإنه متوعد بالعذاب الأليم، والعذاب الأليم يشمل عذاب الآخرة، وما ينتظره من النكال فيها، وعذاب الدنيا بأن يقتص منه، ويطالب بإرجاع الدية إلى أولياء القاتل الأول، وهذا فيه نظر.
وذهب طائفة من السلف إلى أنه لا يقبل من هذا الذي اعتدى بعد ما قبل الدية، لا تقبل منه دية، ولا يقبل في حقه العفو؛ لأن الله قال: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فهو محمول على قتله، وأن لا يقر ولي الدم، ويقبل بالعفو، ولو طالب بالدية.
والحقيقة أن الله توعده بالعذاب الأليم إلا أنه لم يحدد، ولم يرد دليل في الكتاب، ولا في السنة يدل على أنه لا تقبل منه الدية، وإنما الذي ورد أنه يعامل كغيره من القتلة، والقول بأن الدية ترجع إلى أولياء قاتل الثاني، ويكون هذا بهذا بحاجة إلى نظر، والأقرب أنه يكون كغيره من القتلة، يخير أولياء الدم بين القتل، وبين الدية، وبين العفو.
وأما العذاب الأليم الذي توعده الله به فقد يعجل له في الدنيا، وقد يدخر له في الآخرة، ولكنه لا يفهم منه كما أسلفنا أنه لا تقبل منه دية، ولا يقبل في حقه عفو فلا يوجد دليل يقوم بذلك، وما نقل عن بعض السلف فإنه قد نقل ما يخالفه عن غيرهم.
  1. رواه البخاري في كتاب الطلاق - باب الإشارة في الطلاق، والأمور (4989) (5/2029)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات - باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر، وغيره من المحددات، والمثقلات، وقتل الرجل بالمرأة (1672) (3/1299).
  2. رواه الترمذي برقم (1413) (4/25)، ورواه ابن ماجه برقم (2659) (2/ 887)، وصححه الألباني في صحيح، وضعيف الجامع الصغير برقم (13710).
  3. سبق تخريجه.
  4. سبق تخريجه.
  5. رواه أبو داود برقم (2751) (2/89)، وابن ماجه برقم (2683) (2/895)، وحسنه الألباني في صحيح، وضعيف الجامع الصغير برقم (11658).

مرات الإستماع: 0

"كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ أي: شرع لكم، وليس بمعنى فرض؛ لأن، ولي المقتول مخير بين القصاص، والدية، والعفو، وقيل: بمعنى فرض، أي: فرض على القاتل الانقياد للقصاص، وعلى ولي المقتول أن لا يتعداه إلى غيره، كفعل الجاهلية، وعلى الحاكم التمكين من القصاص".

قوله - تبارك، وتعالى -: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ذَكَرَ معنيين:

الأول: أنه بمعنى شُرع، والذي حمله على ذلك هو: أن ذلك ليس بلازم، بل يمكن العفو، أو قبول الدية، إلا على المعنى الآخر، وهو ما يتعلق بالانقياد للقصاص، بالنظر إلى الجاني، وكذلك ترك التجاوز بالنسبة لولي الدم.

وبعض أهل العلم، كالحافظ ابن كثير - رحمه الله -[1] يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ أي: كتب عليكم العدل في القصاص.

وقال بنحو هذا أيضًا أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -[2] وأن (كُتب) عنده متصل بما بعده، من قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ يعني يكون سياق الكلام متصلًا هكذا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى وهذا معنى قول ابن كثير: "كُتب عليكم العدل بالقصاص" فيكون المعنى على قول هؤلاء: أن الذي كُتب ليس هو القصاص بعينه، وإنما: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ... إلى آخر ما ذكر الله - تبارك، وتعالى -.

ويقول ابن عطية: بأن الكَتْب مستعمل في الأمور المخلدات الدائمة كثيرًا[3] وبعضهم يقول: إن (كُتب) في مثل هذا: إخبار عما كُتب في اللوح المحفوظ، وسبق به القضاء.

وذكر ابن عطية نحوًا مما ذكره ابن جزي، ثم قال: "فالآية مُعْلِمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح"[4] يعني إذا سُدت الطرق، وقالوا: لا نريد دية، ولا عفو، فهنا الفرض اللازم، والحق الثابت هو القصاص، فعُبّر بـه كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ يعني حيث لا سبيل إلى عفو، أو قبول دية، فالفرض هو القصاص بهذا الاعتبار.

وأصل القصاص مضى في الغريب، أصله بمعنى المماثلة، ويأتي بمعنى الاتباع أيضًا؛ وذلك باعتبار أنه يتبع أثره، فيكون من قص الشيء، وقص الأثر، فيفعل به كما فعل، فقيل له قصاص بهذا الاعتبار.

وقال بعضهم: بأن أصله من (القص) وهو القطع؛ لأن في القصاص يجرحه مثل ما جرحه، أو يُقتل به، يعني القصاص في الأعضاء، والأبعاض، والجراح، وهذا يرجع إلى أصل المعنى الذي ذكرته سابقًا، وهو: أن ذلك يرجع إلى معنى المماثلة.

وذكر الحافظ ابن كثير أن هذه الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى نزلت في قريظة، والنضير[5] ومعلوم أن النضير من نسل هارون ويرون أنهم أشرف من قريظة، وكان بنو النضير في الجاهلية أولياء، وحلفاء للخزرج، وقريظة حلفاء للأوس، وكانت الحرب دائرة بين الأوس، والخزرج، كما هو معلوم عقودًا متتابعة، وهؤلاء يدخل معهم حلفاؤهم من هؤلاء اليهود، فيحصل قتال بين الطرفين، يشترك فيه اليهود من كل قبيل، فكانوا إذا قُتل قرظي من قِبَل أحد من بني النضير لا يُقتل به، باعتبار أنه أشرف.

وبعضهم يقول: نزلت في قوم كانوا إذا قتل عبد من غيرهم حُرًا منهم، لم يرضوا إلا بقتل حر من القوم الذين كان منهم الجاني، يعني لا يقتلون الجاني به، وإنما يقتلون حرًا مكانه.

وبعضهم يقول: إنها نزلت في فريقين وقع بينهم قتال، فأصلح النبي ﷺ بينهم، بأن جعل ديات النساء مقابل مثليها، وهكذا الأرقاء، وهكذا الرجال.

"الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ظاهره اعتبار التساوي بين القاتل، والمقتول، في الحرية، والذكورية، وأن لا يقتل حر بعبد، ولا ذكرٌ بأنثى، إلا أن العلماء أجمعوا على قتل الذكر بالأنثى".

هذا الإجماع نقله جماعة: كابن عطية[6] والقرطبي[7] فأجمعوا على قتل الذكر بالأنثى.

"وزاد قوم: أن يعطى أولياؤها حينئذٍ نصف الدية لأولياء الرجل المقتص منه، خلافًا لمالك، والشافعي، وأبي حنيفة".

وزاد قوم: أن يعطى أولياؤها حينئذٍ نصف الدية لأولياء الرجل المقتص منه، باعتبار أنها لا تكافؤه في الدية، يعني قصاص بالإضافة إلى نصف الدية، رجل قتل امرأة فيقتل بها، وأولياؤها يعطون أولياءه نصف الدية، وهذا خلاف قول الجمهور، لكنه روي عن بعض السلف، كعلي والحسن[8] وهذا مشهور في كتب التفسير، يُنسب إليهما، لكنه قد لا يثبت، وكذلك ورد في كتب الفقه وورد خلافه.

قوله: "خلافًا لمالك، والشافعي، وأبي حنيفة" ولم يذكر قول الإمام أحمد، على عادة كثير أهل تلك الناحية، فهم لا يعدون الإمام أحمد - رحمه الله - من الفقهاء، بل يقولون: هو محدث، وليس بفقيه، وهذا الكلام غير صحيح، وكان ابن جرير الطبري يقول هذا أيضًا، وهو مشرقي، ومعلوم ما حصل له بسبب هذا، حيث قام عليه الحنابلة، ورجموا بيته، وهموا بقتله - والله المستعان -.

فالحاصل أن هذه الآية: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى قد يُفهم من ظاهرها أن ذلك على ما ذُكر في اللفظ الْحُرُّ بِالْحُرِّ فلا يُقتل العبد إذا جنى على الحر، أو المرأة إذا جنت على الرجل، أو الرجل جنى على المرأة، ولكن هذا ليس بمراد؛ لأن هذا جاء في سياق بيان، ولزوم العدل في القصاص، على خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية، هي سيقت في هذا السياق.

وابن جرير - رحمه الله - يقول: إن قتلى القصاص للحر من العبد، وللأنثى من الذكر، مأخوذٌ من قوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء: 33][9] يعني أن هذه الآية تفسر الآية الأخرى، فقوله: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا بصرف النظر عن القاتل، فأبهمه، ببناء الفعل للمجهول فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا سواء قتله امرأة، أو المرأة قُتلت بجناية رجل، أو أن الذي جنى عليه مملوك، يقول: وكذلك أيضًا بالنقل المستفيض عن رسو الله ﷺ حيث اقتص للمرأة من الرجل، وقال - عليه الصلاة، والسلام - أيضًا: المسلمون تتكافأ دماؤهم[10].

والحافظ ابن كثير يرى: بأن جزء من هذه الآية منسوخة، وهو فرض القصاص، في قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى نسخها وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45][11]... إلى آخر ما ذكر الله، وهذا مروي عن ابن عباس - ا -[12] مع أنه جاء عنه أنها محكمة، وليس فيها نسخ، وأن فيها إجمالًا، فسرته آية المائدة وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وهذا بعيد؛ لأن النسخ أولًا لا يثبت بالاحتمال، ثم إن هذه الآية: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ هي في سياق الخبر عن بني إسرائيل، وإن كانت سورة المائدة متأخرة في النزول - والله تعالى أعلم -.

"وأما قتل الحر بالعبد فهو مذهب أبي حنيفة خلافًا لمالك، والشافعي".

أي خلافًا للجمهور، وهذا القول الذي نسبه إلى أبي حنيفة، وهو قتل الحر بالعبد، لم ينفرد به، فقد وافقه على ذلك النخعي، وقتادة، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والثوري، وكذلك محمد بن الحسن، وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة، وداود الظاهري، وهو مروي عن علي، وابن مسعود - ا -[13].

"فعلى هذا لم يأخذ أبو حنيفة بشيء من ظاهر الآية، لا في الذكورية، ولا في الحرية".

يعني يرى أنها منسوخة.

"لأنها عنده منسوخة، وأخذ مالك بظاهرها في الحرية، كما في الذكورية".

يقول مالك: "أحسن ما سمعت في هذه الآية: أنه يراد بها الجنس، الذكر، والأنثى فيه سواء، وأعيد ذكر الأنثى تأكيدًا، وتهممًا بإذهاب أمر الجاهلية"[14] فأخذ مالك بظاهرها في الحرية، لا في الذكورية أي الحر بالحر، والعبد بالعبد، أما الأنثى بالأنثى فعنده أن الأنثى تُقتل بالذكر، والذكر بالأنثى، لكنه ذكر هذه الصور لإذهاب أمر الجاهلية، والرواية عن الإمام مالك مختلفة في هذا، فبعضهم فهم من كلامه العموم في الحرية، والذكورية، إلا أنه نُسخ ما يتعلق بالذكورية، وإلا فالحر بالحر، والعبد بالعبد، فمالك لا يرى أنه يُقتل الحر بالعبد، وهذا قول الجمهور.

"وتأويلها عنده: أن قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ عموم يدخل فيه: الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى، والأنثى بالذكر، والذكر بالأنثى، ثم كرر قوله: وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى: تجريدًا للتأكيد؛ لأن بعض العرب كانوا إذا قتلت منهم أنثى قتلوا بها ذكراً تكبرًا، وعدوانًا، وقد يتوجه قول مالك على نسخ جميعها، ثم يكون عدم قتل الحرّ بالعبد من السنة، وهو قوله ﷺ: لا يقتل حرّ بعبد[15]".

التجريد عرفنا المراد به عنده، وأنه يطلق بإطلاقات، لكن المقصود هنا هو: ذكر بعض أفراد العام بعده، فهذا من باب التجريد، يعني للتأكيد عليه، أو لبيان أهميته، أو نحو ذلك، فهذا هو التجريد، باعتبار أنه بعد العموم قال: وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى قال: تجريدًا للتأكيد؛ لأن بعض العرب كانوا إذا قتلت منهم أنثى قتلوا بها ذكرا تكبرًا، وعدوانًا.

ويبقى الإشكال في قتل الحر بالعبد، فيقول: "قول مالك هنا سيرد عليه هذا الإشكال" باعتبار العموم في قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ فهذا يشمل الصور الأربع، فيرد عليه الإشكال، فيقول: "باعتبار نسخ جميع الآية، ثم يكون عدم قتل الحر بالعبد من السنة، وهو الحديث: لا يُقتل حر بعبد[16] وهذا الحديث لا يخلو من ضعف، ومن أهل العلم من يقولون: بأن السنة لا تنسخ القرآن، كما يقول الشافعي، ومضى الكلام على هذا، وعبر بقوله: "ألا ومعه قرآن عاضد"[17] ومن يجوزون يقولون: لا إشكال، لكن لا أعلم مثالًا يسلم من معارضة قوية في نسخ سنة لقرآن، من الناحية العملية الواقعية، كتطبيق - والله أعلم -.

"والناسخ لها على القول بالنسخ: عموم قوله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] على أن هذا ضعيف؛ لأنه إخبار عن حكم في بني إسرائيل".

هذا المعنى الذي ذكره من العموم في قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ داخلٌ في منطوق الآية الْحُرُّ بِالْحُرِّ فيشمل الصور الأربع بمنطوقه، وقوله: وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى منطوقه: أن الأنثى يُقتص لها من الأنثى، ومفهومه أنه لا يُقتص لها من الذكر، باعتبار عدم المكافأة، فأيهما يُقدم حال التعارض؟ وأيهما أقوى المنطوق، أو المفهوم؟ المنطوق مقدم على المفهوم، وهو أقوى منه، فيقدم منطوق الْحُرُّ بِالْحُرِّ على مفهوم وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فمفهومه المسكوت عنه أن الرجل إذا جنى على امرأة أنه لا يُقتص منه، هذا مفهوم لم يكن منطوقًا في الآية، فليس في الآية ذكر صريح بهذا، فنقدم المنطوق، إضافة إلى دلالة السنة على أن الأنثى يُقتص لها من الذكر إذا جنى عليها، هذا دلت عليه السنة، وذكرنا من قبل: اليهودي الذي قتل جارية، ورضخ رأسها بين حجرين، فاقتص لها النبي ﷺ منه[18] - والله أعلم -.

"فَمَنْ عُفِيَ لَهُ... الآية، فيها تأويلان:

أحدهما: أن المعنى من قتل فعفي عنه، فعليه أداء الدية بإحسان، وعلى أولياء المقتول اتباعه بها بمعروف، فعلى هذا: (مَنْ) كناية عن القاتل، وأخوه هو المقتول، أو وليه، و(عفي) من العفو عن القصاص، وأصله أن يتعدى بـ(عن) وإنما تعدى هنا باللام؛ لأنه كقولك: تجاوزت لفلان عن ذنبه".

يعني أن ذلك من باب التضمين، أن الفعل (عفي) مضمن معنى التجاوز، فالتجاوز يُعدى بـ(عن) يقال: عفوت، وعفي له من أخيه شيء، فالفعل يتعدى إلى الجاني، وإلى الذنب بـ(عن) يعني تقول: عفوت عن فلان، وعن ذنبه، إذا قصدت كل واحد منهما على حده: عفوت عن فلان، وعفوت عن ذنبه.

أما إذا تعدى إلى الجاني، والجناية (الذنب) معًا، فيقال: عفوت لفلان عما جنى، فيُعدى باللام، إذا قصد به مجموع الأمرين: عن الجاني، وعن جنايته، فكأنه قيل - والله أعلم -: فمن عفي له عن جنايته، فاستُغني عن ذكر الجناية، فإذا عدي بـ(عن) فهو عن الجاني، أو الجناية، فهنا قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يعني عفي له عن جنايته، وذِكْر الشيء نكرة في سياق الإثبات هذا بمعنى مطلق، أنه لو حصل عفو من قبل أحد من أولياء الدم، فإن القصاص يسقط.

"والثاني: أن المعنى: من أعطيته الدية فعليه اتباع بمعروف، وعلى القاتل أداء بإحسان، فعلى هذا (مَنْ) كناية عن أولياء المقتول، وأخيه هو القاتل، أو على عاقلته، و(عفي) بمعنى يُسّر، كقوله: (خذ العفو) أي: ما تيسر، ولا إشكال في تعدي عفى باللام على هذا المعنى".

فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يكون له معنيان:

المعنى الأول: من قُتل فعُفي عنه، فعليه أداء الدية بإحسان، يعني من غير تأخير، ومطل، أو نقص في الدية، ونحو ذلك، عليه أن يؤدي هذه الدية، وعلى أولياء المقتول الاتباع بالمعروف، يعني من غير أن يشقوا عليه، أو يُؤذى، أو نحو هذا، وعلى هذا (مَن) كناية عن القاتل (فَمَنْ) يعني من القتلة عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فعليه أن يقدم الدية من غير مطل، أو نقص، أو نحو ذلك مِنْ أَخِيهِ يعني من ولي الدم، فهذا أمره بحسن الأداء، وذاك بحسن الاتباع، هذا مروي عن ابن عباس أيضًا - ا - [19] وجماعة كذلك.

والمعنى الثاني: من أعطيته كذا الدية، فعليه اتباع بمعروف، وعلى القاتل أداء بإحسان، فعلى هذا (مَن) كناية عن أولياء المقتول فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ باعتبار أن كلمة (عفا) بمعنى تيسر خُذِ الْعَفْوَ يعني ما سهُل من أخلاق الناس، وما بذلوه عن طيب نفس، من غير كراهة، ودون أن تشق عليهم بذلك.

ولا يكون هنا بمعنى العفو - يعني المسامحة - وترك القصاص.

والمعنى: فمَن مِن أولياء المقتول سمح، أو تيسر له شيء من الدية، (من أخيه) من القاتل، أو من عاقلته باعتبار أن القتل الخطأ إنما يتحمله العاقلة، وليس في مال الجاني، لكن الكلام هنا في القتل العمد، وليس في الخطأ، وعلى الراجح أن القتل العمد يكون في مال الجاني، وليس على العاقلة، وإنما القتل الخطأ هو الذي يكون على العاقلة، فهذه الآية في العمد، لكن هنا يقول: "أو عاقلته"، وعفي بمعنى تيسر، أو يُسر، أو نحو ذلك، كقوله: خُذِ الْعَفْوَ أي ما تيسر، ولا إشكال في تعدي (عفي) باللام على هذا المعنى، وهذا مروي عن مالك - رحمه الله -[20].

لكن المعنى الأول هو الأرجح.

وذكر ابن عطية فيه قولين آخرين غير ما ذُكر هنا[21] الثالث: أن ذلك في المذكورين بسبب النزول، إذا حصلت بينهم المقاصة في الديات، فمن بقي له شيء، أو زاد من الطائفتين على الأخرى في هذه الديات، فيكون (عفى) بمعنى زاد، كما في قوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] فُسر بالزيادة عن قدر الحاجة، والقول الرابع الذي ذكره: أن ذلك فيما يفضل من دية المرأة، أو دية الرجل، على القول السابق الذي بيّنا أنه ضعيف.

"ذلِكَ تَخْفِيفٌ إشارة إلى جواز أخذ الدية؛ لأن بني إسرائيل لم يكن عندهم دية، وإنما هو القصاص".

هذا ظاهر كلام ابن عباس - ا -: إن التخفيف هنا في شرع الدية[22].

ويقول قتادة - رحمه الله -: كان عند أهل التوراة إنما هو القصاص، وعفو ليس بينهم أرش[23] يعني لا يوجد دية، يعني عفو مجانًا من غير دية، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أُمروا به فقط، من غير قصاص، ولا دية، وجعل الله لهذه الأمة القصاص، والعفو، والأرش، الذي هو الدية، جاء هذا عن جماعة من السلف: كسعيد بن جبير، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان[24] فيكون التخفيف في قوله: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ بشرع الدية، فلم يُحتّم القصاص، أو العفو. 

"فَمَنِ اعْتَدى أي: قتل قاتل وليه بعد أن أخذ منه الدية".

وهذا الاعتداء فَمَنِ اعْتَدَى إن قَبِل الدية، ثم اعتدى، فجنى عليه، ونحو ذلك، فيكون متوعدًا، وهذا المعنى قال به كثير من السلف: كابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والربيع، والسدي، ومقاتل بن حيان[25] قالوا: إن هذا هو المراد بالاعتداء في قوله: فَمَنِ اعْتَدَى أي بعد قبول الدية، فيرجع الوعيد لأولياء الدم، وبعضهم قال: إن هذا في الجاني القاتل، يعني لو كرر الجناية لكن المشهور هو الأول.

"عَذابٌ أَلِيمٌ القصاص منه، وقيل: عذاب الآخرة".

والآية تحتمل الأمرين، والقصاص هو عذاب في الدنيا، وهو أليم بلا شك.

يقول مالك: يُخير فيه الولي، وقال قتادة، وعكرمة، والسدي: القتل فقط[26] يعني عند مالك أن العذاب الأليم هنا التخيير، يكون للولي، ومن السلف من قال: العذاب الأليم هو القتل.

وتكلمنا في الأعمال القلبية، في التوبة، بكلام طويل مفصل، فيما يتعلق بالقاتل إذا تاب، واقتُص منه، ماذا يكون حاله في الآخرة إذا تاب فيما بينه، وبين الله في حق الله، واقتُص منه، فذكرنا هناك كلامًا لأهل العلم باعتبار أن المجني عليه لم يستوف، فهو لا ينتفع بقتل الجاني بعد أن أُزهقت نفسه، فهنا كيف يكون حاله في الآخرة؟ ولذلك فإن من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: مثل هذا يحتاج إلى الإكثار جدًا من الحسنات[27]؛ لأنه قد يُسلط المجني عليه على حسناته.

وبعض أهل العلم يقول: بأن الله - تبارك، وتعالى - يرضي المجني عليه في الآخرة إذا تاب، وصحت توبته، واقتُص منه، فيكون هذا هو الأثر المترتب في الدنيا على الجناية - والله أعلم -.

وهذا إنما ذكرته من أجل تفسير العذاب الأليم ما هو؟ هل هو القصاص، أو العذاب الأخروي؟ فمن تاب، واقتُص منه، هل عليه عذاب أليم في الآخرة؟ والله يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء: 93] فهذا اللعن طرد من رحمة الله، فضلًا عن الغضب، وما ذُكر من الخلود في النار.

  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 489).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 364).
  3.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 244).
  4.  المصدر السابق.
  5.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 489).
  6.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 245).
  7. تفسير القرطبي (2/ 248).
  8.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 245).
  9.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 94).
  10.  أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر برقم: (2751)، وقال الألباني: "حسن صحيح".
  11.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 489).
  12.  المصدر السابق).
  13.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 490).
  14.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 245).
  15.  أخرجه أبو داود في كتاب الديات، باب من قتل عبده، أو مثل به أيقاد منه برقم: (4517) من قول الحسن، وليس مرفوعاً، وقال الألباني: "صحيح مقطوع".
  16.  سبق تخريجه.
  17.  الرسالة للشافعي (1/ 108).
  18.  أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق، والأمور برقم: (5295)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر، وغيره من المحددات، والمثقلات، وقتل الرجل بالمرأة برقم: (1672).
  19.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 370).
  20.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 246).
  21.  المصدر السابق.
  22.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 373).
  23.  المصدر السابق (3/ 374).
  24.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 491).
  25.  تفسير ابن أبي حاتم (1/ 297).
  26.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 491).
  27. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 112).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة البقرة:178].

فهذا خطاب من الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي: انقادوا وأذعنوا بقلوبهم، وأقروا بما يجب الإقرار به من حقائق الإيمان، وصدقوا ذلك بجوارحهم.

يا أيها الذين آمنوا فرض الله عليكم، وشرع القصاص؛ وذلك في القتل العمد على وجه من العدالة والمساواة في هذا الموضع، فالحر بمثله، والعبد بمثله، والأنثى بمثلها؛ وذلك لا يعني أن الرجل إذا قتل المرأة أنه لا يقتص منه، وكذلك المرأة إذا قتلت الرجل أنه لا يقتص منها، ولكن هذه الآية جاءت مقررة لأصلٍ كان أهل الجاهلية على خلافه، فكانوا يرون أن المرأة لو قتلت رجلاً، أو الرجل لو قتل امرأة، فإن أولياء الدم بالنسبة للرجل المقتول يرون أن هذه المرأة لا تكافئه فيقتلون رجلاً.

وكذلك أيضًا كان هؤلاء في جاهليتهم ربما قتل الواحد منهم غير القاتل الذي يرونه لا يكافئه، فيرون أن فارس هذه القبيلة، وأن شيخ هذه العشيرة لا يكافئه هذا القاتل الصعلوك مثلاً، فيقتلون فارس القبيلة، ولا جناية له، أو يقتلون رأس القبيلة، ولا جناية له، وربما لم يكتفوا بقتل الواحد الذي قتل، فيرون أن هذا المقتول لا يكافئه واحد من هؤلاء القوم، فيقتلون بالواحد جماعة من الناس، فيرون أن هذا يقتل به مثلاً عشرة من هذه القبيلة، وأنه يساوي أكثر من ذلك في نظرهم، فيقتلون أبرياء لم يكن لهم جناية، ولم يشتركوا بقتله، فجاءت هذه الآية بتقرير هذا الأصل: أن القصاص مشروع على وجه من العدالة الكاملة، الحر بالحر، سواء كان رأس القوم، أو كان من صعاليكهم، فالقاتل يقتل في جنايته، ولا يقتل غيره، ولو كان المقتول شريفًا عظيمًا مقدمًا في قومه، وكذلك العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فليس فيه أن الأنثى لا تقتل بالرجل، أو الرجل لا يقتل بالأنثى، فالآية لم تتطرق لهذا، ولكن جاءت على هذا النسق، لتقرير هذا الأصل، هذا حاصل كلام أهل العلم فيها.

فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي: سامحه ولي الدم، فعفا عن القصاص، وقبل بالدية، وهي القدر المالي الذي حدده الشارع، يدفعه الجاني إلى أولياء المقتول، فينبغي هنا كما وجه الله -تبارك وتعالى: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ حيث وجه الطرفين، وجه أولياء الدم الذي قبلوا بالدية بالاتباع بالمعروف، دون أن يكلفوه، أو يحملوه، أو يطالبوه بما لا يطيق، فإن كان معسرًا أمهلوه، وهكذا، وكذلك أيضًا هذا الجاني ينبغي أن يكون أداؤه لهذه الدية بغير مماطلة، وبغير أذى، وبغير إعنات وإتعاب لأولياء الدم.

ثم قال: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فهذا العفو مع أخذ الدية تخفيف من الله -تبارك وتعالى- ورحمة لما فيه من التسهيل؛ لأن من كان قبلنا من أهل الكتاب فإنه لا يشرع عندهم أخذ الدية، وإنما القصاص إذا أراد حقه، فهذه الشريعة جاءت بمشروعية القصاص، وبمشروعية أخذ الدية، وبالعفو مجانًا.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ من اعتدى بعد ذلك يعني لو أن أولياء الدم عفوا مجانًا، أو قبلوا الدية، ثم بعد ذلك اعتدوا على هذا الجاني الذي عفوا عنه، فهم متوعدون بعقوبة الله -تبارك وتعالى: فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ فبعض أهل العلم يقول: هذا العذاب الأليم يكون في الدنيا، بالقصاص منه، وبعضهم يقول: في الآخرة بالعذاب بالنار، وبعضهم يقول: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ هذا فيما يتعلق بالجاني، والله تعالى أعلم، والقول الأول أقرب، والعلم عند الله.

فيُؤخذ من هذه الآية من الفوائد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا حيث خاطب المؤمنين، فهذا فيه فوائد متعددة: من ذلك أن أهل الإيمان هم المتأهلون بكونهم يقبلون عن الله -تبارك وتعالى- شرعه وأحكامه، فخاطبهم بذلك.

ثم أيضًا هذا الخطاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فيه تقوية لداعية إنفاذ حكم القصاص، فربطه بالإيمان، كأنه يقول: إن ما معكم من الإيمان يمنعكم من التهاون والتساهل في أحكام الله وشرائعه، ومن ذلك هذا القصاص، فإن المؤمن الصادق يحرص على دفع أسباب الشر، والقيام بحقوق الله -تبارك وتعالى- وحقوق الخلق، والوقوف في وجه كل فتنة من شأنها أن تعصف بالأفراد، أو المجتمعات، وتنقطع أواصر الألفة بين أفراد المجتمع، فيختل نظامهم وأمنهم، ويصير هؤلاء الناس في حالات من الثأرات، وتوجد عندهم وتقوى نوازع الانتقام، كما يقول الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله[1] فلو لم يقم هذا الحكم، فإن ذلك مؤذن بفساد عريض.

ولذلك تجد في بعض البلاد التي لا يقام فيها القصاص بعض الجثث طافحة في نهر، أو نحو ذلك، تلقى فيه لا يدرى من أي كَفْرٍ أو قرية، أو ناحية ألقيت، وحينما تسأل: ما هذا؟ يقال: هذا ثأر بسبب جناية وقعت على هؤلاء، فهكذا تكون النتيجة إذا غاب القصاص، فيتربص بكل هؤلاء من ذوي القاتل، فإذا ثقف أحد منهم فهؤلاء من أولياء الدم يرون أنهم قد حصلوا ثأرًا، مع أن هذا الذي نالوا منه وقتلوه قد لا يعلم بما جرى لهم، وما وقع من قومه، أو من ذاك الذي جنى من قومه، وهكذا يبقى هؤلاء في ترقب دائم، وخوف وتهديد، ويبقى أولئك في تربص دائم وملاحقة لهؤلاء ليقتصوا منهم، لكن هذا التشريع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ يدل على أن تنفيذ هذه الأحكام التي منها القصاص من مقتضيات الإيمان، والخطاب موجه للمؤمنين.

وتأمَّل لفظة القصاص كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فإن القص يدل على تتبع الأثر في أصل معناه في كلام العرب؛ يقال: قصَّ أثره، فهذا أصل هذه المادة: قَصَصَ، ومن ثم فإن القصاص يكون بأن يفعل بهذا الجاني كما فعل من غير زيادة ولا نقصان، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [سورة الإسراء:33] فلا يسرف في القتل قيل معناه: لا يمثل بالقاتل تشفيًّا، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، هذا قتله بضربة بالسيف، أو نحو ذلك، فلا يصح أن يقتص منه بطريقة يتشفى فيها هذا المقتص، فيقطع أعضاءه، أو أن يحرقه بالنار، أو أن يعذبه، أو نحو ذلك، وإنما يفعل به كما فعل من غير زيادة ولا نقصان، ما لم يكن هذه الوسيلة محرمة في أصلها، كالتحريق بالنار، وكما لو أنه فعل الفاحشة بصبي فقتله، أو بصبية فقتلها بذلك، فإنه لا يفعل به ذلك، فإن هذا لا يجوز، وإنما يضرب بالسيف، فهذا القصاص.

فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33] ويدخل في الإسراف في القتل أن يقتل غير القاتل، كما قلنا ممن يرى أنه يكافئ هذا المقتول، وكأن يقتل جماعة لا جناية لهم؛ لكونه يرى أن هذا المقتول لا يكافئه إلا جمع من هؤلاء فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [سورة الإسراء:33] فالضمير يرجع على القول الراجح إلى ولي الدم، فهو سينصر، وبعضهم يقول: على القاتل، إذا فعل به من الظلم أثناء القصاص سينتصر بعد ذلك.

فهنا يقول الله -تبارك وتعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ القتل من أكبر الكبائر، وهنا سماه أخًا، فدل على أن الكبائر لا تُخرج من الإيمان، لا يكون فاعل الكبيرة كافرًا، فسماه أخًا، هذا في القتل، وفرق بين القتل والقتال، القتل بالجناية بإزهاق الروح، وأما القتال فهو مفاعلة بين طرفين وأكثر، وقد يحصل معها قتل، وقد لا يحصل وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۝ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سورة الحجرات:9، 10] فأثبت هذه الأخوة بين هؤلاء المقتتلين، فصار أهل الإيمان إخوة مع وجود القتال بينهم، وكذلك أثبت لهم الأخوة مع وجود الجناية وهي مباشرة القتل، فهذا لا يكفر به مع أنه من أعظم الجرائم، وأشد الكبائر، والله يقول فيمن يقتل المؤمن متعمدًا: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [سورة النساء:93] فذكر له هذه الأمور جميعًا.

وتأمَّل أيضًا قوله -تبارك وتعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ عفي له، فالفعل (عفا) يعدى بـ(عن) عفي عنه، ويعدى باللام: عفي له، فهنا: عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فالعفو هنا يمكن أن يكون عن الجاني، يقال: عفا عن فلان، ويمكن أن يكون عن الجناية، فيقال: عفا عن جناية فلان، فإذا أريد الجاني والجناية معًا عدي باللام فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يعني عفي عن الجاني وجنايته.

كذلك أيضًا تأمل قوله: (شيء) فقد جاء منكرًا فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ نكرة في سياق الشرط فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ وهي للعموم، فدل على أنه عفا بعض أولياء الدم سقط القصاص، إذا قبل بعضهم بالدية سقط القصاص فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ وهذا يدل على تشوف الشارع لحقن الدماء.

ويُؤخذ أيضًا من قوله: عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ إثبات الإخوة الإيمانية في مثل هذه الحال يدل على أن الأخوة أثبت وآكد في حال السلامة من هذه الجنايات، فالله جاء بصيغة هي من أقوى صيغ الحصر: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات:10] وهذا في القتال فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سورة الحجرات:10] فذكر ما بعده بالفاء فَأَصْلِحُوا وهذه تدل على التعليل، وهذا الذي يسمونه بدلالة الإيماء والتنبيه، فهنا لكونهم إخوة طلب الإصلاح بينهم فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سورة الحجرات:10] لأنهم إخوة، والإخوة ينبغي أن يكونوا على حال من المصافاة؛ ولذلك كان إصلاح ذات البين من أفضل الأعمال، كما صح ذلك عن النبي ﷺ.

وقد ذكرتُ جملة من الأحاديث الصحيحة في هذا الباب في الكلام على موضوع الاختلاف، في الإصلاح بين الناس، وبقاء الأخوة الإيمانية، ودفع كل ما من شأنه أن يؤثر عليها، أو أن يفسدها، أو أن يوقع الوحشة في نفوس أهل الإيمان، وإذا كان هذا بين المؤمنين فإنه بين الإخوة الأشقاء من باب أولى، فلا يصح للإنسان أن يقاطع أخاه أو أخته لمشاحنات وحظوظ نفسانية، أو لأمور دنيوية من حطام هذه الدنيا.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ أن مبنى هذه الشريعة على التخفيف، حتى في القصاص؛ وذلك بتشريع الدية تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ فقد يكون هذا التعدي على ولي الدم، فهذا قد يحصل أحيانًا، فقد يكون قرابة القاتل يتربصون ويتهددون ويتوعدون أولياء الدم إن هم أصروا على القصاص، وقد يقومون بقتل ولي الدم انتقامًا لصاحبهم الذي جنى فاقتُص منه، فهذا داخل في العموم في قوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ فالله شرّع القصاص، فلا يجوز لأحد أن يهدد حياة الآخرين، بسبب أنهم طالبوا بالقصاص، فهذا حق ثابت شرعًا، وكذلك هذا المقتص لا يجوز له أن يتزيد في القصاص، كما ذكرنا، أو أن يتشفى، أو نحو هذا من المعاني التي تدخل تحته.

فهذا الذي يقول: بأن القصاص وحشية نقول له: أولاً: هذا تشريع من؟ فإن أقر أنه تشريع الله -تبارك وتعالى- فإنه يكفر بهذا القول؛ لأنه ينسب ذلك إلى الله، يعني أن هذا الحكم من الله ظلم وعدوان ووحشية، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال، فالله حكم عدل، عليم حكيم، وإذا كان لا يؤمن بالقرآن أصلاً، فهذا يحتاج معه إلى بيان ما يثبت أن القرآن هو كلام الله، وإثبات النبوة والرسالة، وصحة دين الإسلام، ويحتاج أن يبين له هذا الأصل، ثم نبين له أن هذا التشريع صادر عن الله، هذا جانب.

الجانب الثاني: هذا الإنسان الذي قتل عمدًا عدوانًا، فطعِن غيره، أو ضرِب بالسيف على رقبته، أو رأسه أو طعِن برمح، فدخل من صدره، وخرج من ظهره، أو نحو ذلك، نأتي للجاني المجرم ونقول: نريد أن نقتص منه بطريقة لا يشعر معها بالألم؛ بمخدر، بإبرة، بكذا، لكي لا يشعر معها بالألم! فالمقتول يرى نفسه يتشحط في دمه، وأهله وذووه يرونه متشحطًا في دمه، وهذا يوضع على سرير في مستشفى، ويقال يقتل: بإبرة، من أجل ما يشعر بالألم، وعلى أساس لا يحس، ولا يكون في دماء، ولا أشلاء، ولا شيء؛ ولئلا نروعه، ولا نروع أهله، فهل هذا عدل؟!

ليس من العدل بشيء، وإنما يفعل به كما فعل بغيره، فهو اسمه قصاص، قص الأثر، فيفعل به كما فعل، هذا هو العدل، وليس من العدل أنه يقتل بأي طريقة كان، بسلاح ناري، أو بسلاح أبيض، أو غير ذلك، أو يدهسه في السيارة عمدًا عدوانًا، ثم بعد ذلك يقال: يقتل بطريقة لائقة، بحيث لا يشعر بالألم، ولا داعي لإيذاء مشاعره، ومشاعر أهله، فيقتل بإبرة، ثم بعد ذلك يموت دون أن يحس، فهذا الكلام ليس بصحيح، ولا يحصل به التشفي من ذوي المقتول (أولياء الدم) فالقصاص فيه تشفي، لكن بطريقة عادلة؛ لأن غلواء النفوس لا زالت تعتلج في قلوبهم حرارة من هذه الجناية، فهي لا تسكن إلا بالقصاص؛ ولذلك شرع لهم شهود هذا القصاص، ويرون هذا يقتل، وتضرب عنقه، كما فعل بمن قتل منهم، فهذا غاية العدل.

ثم أيضًا أين هؤلاء أدعياء الرحمة وحقوق الإنسان، وما أشبه ذلك من هذه الشريعة التي مبناها على الرحمة حتى في هذا الأمر، يقول الله : ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ وكيف يضيع هذا الحكم عند النظم والقوانين الوضعية؟ فالقاتل يقولون: لا يقتل، كما سيأتي في الآية التي بعدها؛ لئلا نزهق نفسين، سيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان ذلك. 

  1.  موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (1/ 323).