ويأتي بمعنى: اتباع الأثر كما في قوله - سبحانه -: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [سورة القصص:11] يعني: اتبعي أثره، وهذا لا يعارض المعنى الأول؛ لأن متبع الأثر يفعل به كما فعل بغيره، حذو القذة بالقذة، هذا معنى اتباع الأثر، إلا إن كان بطريقة محرمة كالقتل بالمسكر، أو بالفاحشة، أو بالإحراق بالنار فلا، ولكن يقتل بمثل ما قتل على قول جماعة من أهل العلم، ويستدلون على هذا بأدلة: حديث أنس بن مالك "أن يهوديا رَضَخ رأس جارية بين حجرين قيل من فعل هذا بك أفلان أفلان؟ حتى سمى اليهودي: فأومت برأسها فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر به النبي ﷺ فرُضخ رأسه بين حجرين" [1]، وحديث النفر الذين قتلوا الراعي من العرنيين، فسمل النبي ﷺ أعينهم[2].
ومن أهل العلم من يقول: إنه يقتل بالسلاح فقط، فإذا قتله بالسيف فإنه يقتل بالسيف، وإن قتله بطعن يطعن دون غيره، وبعضهم يقول: يقتل بالسيف مطلقاً؛ لأن النبي ﷺ قال: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة[3]، وتفصيل مثل هذا الكلام في أحاديث الأحكام.
"وفي شرع القصاص لكم - وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المهج، وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس، وفي الكتب المتقدمة..."في هذا الكلام إشارة إلى الحكمة العظيمة من القصاص، وهي ظاهرة في قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، فجاء بها مُنَكَّرة، وهذا التنكير يفهم منه التعظيم من وجهين:
الوجه الأول: أن القاتل، أو القاصد للقتل عندما يغلي الدم في عروقه، ويبلغ به الغضب غايته، يتذكر أنه سيعرض على السيف، وأنه سيقتل بالمقتول فيردعه، ويخذله ذلك عن الإقدام على القتل، فيكون بذلك حياة لنفسه أولاً، ثم حياة للآخرين فيقلّ القتل، ولهذا قالوا: القتل أنفى للقتل، ولا مقارنة بين قول الله - تعالى -: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وبين قول العرب: القتل أنفى للقتل، وقد ذكر بعض أهل العلم سبعة أوجه، أو ثمانية أوجه من الفروق البلاغية بين التعبيرين، فأين الثرى من الثريا!.
الوجه الثاني: أن العرب في جاهليتهم كانوا إذا قُتل لهم أحد، لا يكتفون بواحد بل يقتلون من وجدوا من عشيرة القاتل، وقد يصل بهم الحد إلى قتل رئيس العشيرة، أو القبيلة؛ لأنهم يرون أن القاتل لا يعادل، ولا يساوي المقتول في شيء، فلما شرع القصاص على ما أمر الله به أن يقتل القاتل في مقابل المقتول، بقيت النفوس الأخرى مصونة محفوظة لا يصل إليها عدوان، ولا قتل، فصار عندنا حياة القاتل، ومن أراد القتل، وحياة الطرف الآخر الذي كان سيوجه إليه القتل، وحياة - أيضا - الآخرين الذين ربما كانوا يقتلون انتقاماً من القاتل، هذا هو المقصود من الحياة في القصاص، - والله أعلم -.
"وفي الكتب المتقدمة القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة."هناك فرق بين القتل، وبين القصاص فالقتل: قد يكون بحق، وقد يكون بغير حق، وقد يكون بمثلة، وقد يكون بعدوان، ولذا جاء الأمر في آية الإسراء لمثل هذا قال سبحانه: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33]، وعليه فليس كل قتل يحصل به الحياة، إذ قد يتسبب القتل أحياناً في بلايا، ورزايا، فالقتل ليس على إطلاقه أنه أنفى للقتل، والواقع شاهد، ولك أن تتأمل أين هذا - أنفى للقتل - من قوله حياة؟، فالفرق شاسع، والبون كبير، ولهذا خاطب به ذوي العقول فقال: يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ أي: يا أصحاب العقول الراجحة؛ لأنهم هم الذين يعقلون هذه المعاني.
"قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل، فتمنعه مخافة أن يقتل.
وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:179] يقول: يا أولي العقول، والأفهام، والنهى، لعلكم تنزجرون، وتتركون محارم الله، ومآثمه، والتقوى: اسم جامع لفعل الطاعات، وترك المنكرات."فائدة:
الآية قد تفسر السياق، والسياق قد يفسره سياق آخر في موضع ثانٍ، وهذا في حالة ما إذا كان السياق متشابهاً، فيفسر أحدهما بالآخر إذ قد يكون أوضح منه، وهذا مثل قوله - تبارك، وتعالى -: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:178] فإنه يشبه قوله - تبارك، وتعالى - في التركيب: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم [سورة المائدة:95] فالآية نزلت في الصيد، وخاطب الله المؤمنين بحرمة قتل الصيد، وهم حرم، وقال: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء فجزاء أي: فالحكم جزاء، أو فالواجب جزاء، أو فعليه جزاء، أو فليكن جزاء.
وكذلك قوله في المطلقات: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:229] فبعد الطلاق مرتان إن أراد أن يراجع فهو بالخيار بين واجبين: إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، إذ لا مجال لبقائها عنده بعد الثالثة، - والله أعلم -.
- رواه البخاري في كتاب الخصومات - باب ما يذكر في ا لأشخاص، والملازمة، والخصومة بين المسلم، واليهودي(2282) (2/850)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات - باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر، وغيره من المحددات، والمثقلات، وقتل الرجل بالمرأة (1672) (1299/3).
- رواه أحمد في مسند المكثرين من الصحابة - باب مسند أنس بن مالك (12690) (3/163)، وعلق عليه الأرنؤوط بأن إسناده صحيح على شرط الشيخين.
- رواه مسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان - باب الأمر بإحسان الذبح، والقتل، وتحديد الشفرة (1955) (3/1548).