الإثنين 24 / ربيع الآخر / 1446 - 28 / أكتوبر 2024
وَلَكُمْ فِى ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يَٰٓأُو۟لِى ٱلْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة:179] يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم - وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة لكم، وهي: بقاء المهج، وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل..."قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يأتي القصاص بمعنى المماثلة.
ويأتي بمعنى: اتباع الأثر كما في قوله - سبحانه -: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [سورة القصص:11] يعني: اتبعي أثره، وهذا لا يعارض المعنى الأول؛ لأن متبع الأثر يفعل به كما فعل بغيره، حذو القذة بالقذة، هذا معنى اتباع الأثر، إلا إن كان بطريقة محرمة كالقتل بالمسكر، أو بالفاحشة، أو بالإحراق بالنار فلا، ولكن يقتل بمثل ما قتل على قول جماعة من أهل العلم، ويستدلون على هذا بأدلة: حديث أنس بن مالك "أن يهوديا رَضَخ رأس جارية بين حجرين قيل من فعل هذا بك أفلان أفلان؟ حتى سمى اليهودي: فأومت برأسها فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر به النبي ﷺ فرُضخ رأسه بين حجرين" [1]، وحديث النفر الذين قتلوا الراعي من العرنيين، فسمل النبي ﷺ أعينهم[2]
ومن أهل العلم من يقول: إنه يقتل بالسلاح فقط،  فإذا قتله بالسيف فإنه يقتل بالسيف، وإن قتله بطعن يطعن دون غيره، وبعضهم يقول: يقتل بالسيف مطلقاً؛ لأن النبي ﷺ قال: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة[3]، وتفصيل مثل هذا الكلام في أحاديث الأحكام.
 "وفي شرع القصاص لكم - وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة لكم، وهي بقاء المهج، وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس، وفي الكتب المتقدمة..."في هذا الكلام إشارة إلى الحكمة العظيمة من القصاص، وهي ظاهرة في قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، فجاء بها مُنَكَّرة، وهذا التنكير يفهم منه التعظيم من وجهين:
الوجه الأول: أن القاتل، أو القاصد للقتل عندما يغلي الدم في عروقه، ويبلغ به الغضب غايته، يتذكر أنه سيعرض على السيف، وأنه سيقتل بالمقتول فيردعه، ويخذله ذلك عن الإقدام على القتل، فيكون بذلك حياة لنفسه أولاً، ثم حياة للآخرين فيقلّ القتل، ولهذا قالوا: القتل أنفى للقتل، ولا مقارنة بين قول الله - تعالى -: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وبين قول العرب: القتل أنفى للقتل، وقد ذكر بعض أهل العلم سبعة أوجه، أو ثمانية أوجه من الفروق البلاغية بين التعبيرين، فأين الثرى من الثريا!.
الوجه الثاني: أن العرب في جاهليتهم كانوا إذا قُتل لهم أحد، لا يكتفون بواحد بل يقتلون من وجدوا من عشيرة القاتل، وقد يصل بهم الحد إلى قتل رئيس العشيرة، أو القبيلة؛ لأنهم يرون أن القاتل لا يعادل، ولا يساوي المقتول في شيء، فلما شرع القصاص على ما أمر الله به أن يقتل القاتل في مقابل المقتول، بقيت النفوس الأخرى مصونة محفوظة لا يصل إليها عدوان، ولا قتل، فصار عندنا حياة القاتل، ومن أراد القتل، وحياة الطرف الآخر الذي كان سيوجه إليه القتل، وحياة - أيضا - الآخرين الذين ربما كانوا يقتلون انتقاماً من القاتل، هذا هو المقصود من الحياة في القصاص، - والله أعلم -.
"وفي الكتب المتقدمة القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة."
هناك فرق بين القتل، وبين القصاص فالقتل: قد يكون بحق، وقد يكون بغير حق، وقد يكون بمثلة، وقد يكون بعدوان، ولذا جاء الأمر في آية الإسراء لمثل هذا قال سبحانه: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ [سورة الإسراء:33]، وعليه فليس كل قتل يحصل به الحياة، إذ قد يتسبب القتل أحياناً في بلايا، ورزايا، فالقتل ليس على إطلاقه أنه أنفى للقتل، والواقع شاهد، ولك أن تتأمل أين هذا - أنفى للقتل - من قوله حياة؟، فالفرق شاسع، والبون كبير، ولهذا خاطب به ذوي العقول فقال: يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ أي: يا أصحاب العقول الراجحة؛ لأنهم هم الذين يعقلون هذه المعاني.
"قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل، فتمنعه مخافة أن يقتل.
وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي مالك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:179] يقول: يا أولي العقول، والأفهام، والنهى، لعلكم تنزجرون، وتتركون محارم الله، ومآثمه، والتقوى: اسم جامع لفعل الطاعات، وترك المنكرات."
فائدة:
الآية قد تفسر السياق، والسياق قد يفسره سياق آخر في موضع ثانٍ، وهذا في حالة ما إذا كان السياق متشابهاً،  فيفسر أحدهما بالآخر إذ قد يكون أوضح منه، وهذا مثل قوله - تبارك، وتعالى -: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:178] فإنه يشبه قوله - تبارك، وتعالى - في التركيب: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم [سورة المائدة:95] فالآية نزلت في الصيد، وخاطب الله المؤمنين بحرمة قتل الصيد، وهم حرم، وقال: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء فجزاء أي: فالحكم جزاء، أو فالواجب جزاء، أو فعليه جزاء، أو فليكن جزاء.
وكذلك قوله في المطلقات: الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:229] فبعد الطلاق مرتان إن أراد أن يراجع فهو بالخيار بين واجبين: إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، إذ لا مجال لبقائها عنده بعد الثالثة، - والله أعلم -.
  1. رواه البخاري في كتاب الخصومات - باب ما يذكر في ا لأشخاص، والملازمة، والخصومة بين  المسلم، واليهودي(2282) (2/850)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات - باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر، وغيره من المحددات، والمثقلات، وقتل الرجل بالمرأة (1672) (1299/3).
  2. رواه أحمد في مسند المكثرين من الصحابة - باب مسند أنس بن مالك (12690) (3/163)، وعلق عليه الأرنؤوط بأن إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  3. رواه مسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان - باب الأمر بإحسان الذبح، والقتل، وتحديد الشفرة (1955) (3/1548).

مرات الإستماع: 0

"وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ بمعنى قولهم: القتل أنفى للقتل، أي: أن القصاص يردع الناس عن القتل، وقيل: المعنى أن القصاص أقل قتلاً؛ لأنه قتل واحد بواحد، بخلاف ما كان في الجاهلية من اقتتال قبيلتي القاتل، والمقتول، حتى يقتل بسبب ذلك جماعة".

يقول: إن قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ بمعنى قولهم: "القتل أنفى للقتل"، وهذا من أمثال العرب، وهو أيضًا يروى من بعض الكتب المتقدمة، لكن فرق كبير بين هذه الآية: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ وقولهم: القتل أنفى للقتل، فالله - تبارك، وتعالى - ذكر هنا القصاص، والقصاص كما سبق يقتضي المماثلة، فلا يكون فيه تعدي، وهذا كأنه يتبع الجناية فيفعل به كما فعل، فهذا بمعنى العدل، وقال في النتيجة المترتبة عليه وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ فنكرها هنا، والتنكير يدل على حياة كاملة، أما قول العرب: "القتل" عبروا بالقتل، والقتل قد لا يكون بالعدل، كما كانوا عليه في الجاهلية، فهو قد لا يكون قصاصًا بالمعنى المذكور للقصاص، وكذلك أيضًا حينما ينتفي القتل، لا يعني وجود الحياة الكاملة، واللائقة، وإنما قد يكون أنفى للقتل، لكن مع حياة بائسة، قد يكون الموت أمنية لهؤلاء المترقبين للموت في كل لحظة.

وكذلك: فالقصاص أقل قتلًا؛ لأنه قتل واحد بواحد، بخلاف أهل الجاهلية، والواقع أن كل هذه المعاني داخلة في قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ فيرتدع الجناة، وكل من تسول له نفسه الجناية على الآخرين، إذا تذكر أنه سيوضع أمام هذا الجزاء، وهو: أن يُقتص منه، فيتوقف، فتسلم حياة الناس، فيكون لهم بذلك حياة، فتسلم نفوسهم.

وقد كانوا في الجاهلية تقوم حرب يُقتل فيها فئام من الناس، بسبب جناية على واحد، فالقصاص جاء بقتل القاتل؛ وبذلك تسلم تلك النفوس الكثيرة التي كانت تزهق في الجاهلية، بسبب مقتل رجل، فتبقى حياة أولئك مهددة، يُقتل منهم الواحد بعد الآخر، ولربما لا يستطيعون أن يجاوزوا ناحيتهم خوفًا من الثأر، فتبقى حياتهم مضطربة لعقود، كل فئة تتربص بالأخرى.

يقول أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يُقتل[1] وهذا مما يدخل في الآية.

ونجد في كتب إعجاز القرآن أنهم يمثلون بهذا الموضع من كتاب الله تعالى على إعجاز القرآن، وبلاغته، التي فاقت كلام العرب في نثرها، ومنظومها، وأمثالها، فحينما يقارنون بين هذه الجملة وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ وبين "القتل أنفى للقتل" يذكرون فروقات كثيرة تدل على براعة هذه الأساليب، والبلاغة القرآنية، وتفوقها على كل كلام.

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 492).

مرات الإستماع: 0

بعد ما قرّر الله -تبارك وتعالى- تشريع القصاص في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [سورة البقرة:178] قال في الآية التي بعدها: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:179] فقدم هنا ما يتصل بهم، فلم يقل: وفي القصاص لكم؛ لأن ذلك هو الأهم بالنسبة إليهم، وما يرجع إليهم من هذا التشريع، وما يحصل لهم به من المصالح وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:179] فتقديمه هنا يُشعر بأهميته للمخاطبين، وكذلك أيضًا يُشعر بالحصر.

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:179] وقد ذكرنا من قبل بأن القصاص يكون كما كانت الجناية، من غير زيادة، ولا نقصان، بأن يُفعل بهذا الجاني كما فعل بالمجني عليه، فهذا من قصّ الأثر إذا تبعه، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ فلم يقل: ولكم في القتل حياة يا أولي الألباب؛ لأن القتل بحد ذاته ليس فيه هذه المصالح المُشار إليها في هذه الآية، ومن أمثال العرب المشهورة: القتل أنفى للقتل، وهذا معروف ويُذكر في كتب الأدب وغيرها، وهذا المثل في غاية النقص إذا ما قُرن بهذه الآية الكريمة، بل الحال كما قيل:

ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا[1]

فلا وجه للمقارنة، والذين تكلموا في إعجاز القرآن ذكروا فروقًا بين هذا المثل والتعبير القرآني مما يظهر بيان الإعجاز القرآني وتفوق القرآن على كلام العرب البليغ في منظومه ومنثوره، وفي آدابهم، وفي أمثالهم التي يتداولونها بينهم، فقولهم: القتل أنفى للقتل، يعني: أنه إذا قُتل الجاني كان ذلك دفعًا لقتل في المستقبل، فلا يجترئ أحد على النفوس بإزهاقها؛ لأنه يعلم أنه سيصير إلى القتل، لكن كلمة القتل لا تعني عدالة بحال من الأحوال، كذلك قولهم: أنفى للقتل، لا يعني الحياة الكاملة الكريمة، فإن قول الله -تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة:179] الحياة هنا نكرة، وهذا التنكير في هذا المقام يفيد التعظيم، فهي حياة كاملة وعظيمة، أما القتل أنفى للقتل إذا انتفى القتل لكن بقيت حياة الناس كالعدم، بل قد يكون الموت أفضل منها، فهذا الإنسان الذي يعيش في قلق دائم، يتقلب بين أنواع المخاوف ربما يتمنى القتل ليستريح، ويُفارق هذه الحال التي هو فيها، وكما ذكرنا في بعض المناسبات قول بعضهم:

ألا موتٌ يُباعُ فأشتريهِ فهذا عيشُ من لا خيرَ فيهِ
ألا رحمَ المهيمنُ نفس حرٍّ تصدَّقَ بالوفاةِ على أخيهِ[2]

وقول الآخر:

سئمت تَكاليفَ الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم[3]

فهذا سأم الحياة؛ ولذلك فإن قولهم: أنفى للقتل لا يقتضي وجود حياة كاملة، تستحق أن يحرص الناس عليها، أنفى للقتل فقط، لكن في كلام الله : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة:179] حياة كريمة، كاملة، من كل وجه، فإن هذا القصاص إذا أُقيم كان ذلك يقتضي وجود العدالة في المجتمع والأمة، وإذا وجد هذا العدل قامت حياة الناس على استقامة.

ثم أيضًا إذا وجد هذا القصاص أن يُفعل به مثل ما فعل، فهذا يعني أن كل من حدثته نفسه بالقتل والجناية على النفوس المعصومة، فإنه يحسب ألف حساب، ويتذكر نفسه حينما يُقدم للقتل قصاصًا، فيُفعل به كما فعل فيرعوي، فتسلم حياة الناس، فلا يندفع الإنسان مع دواعي الغضب، أو تحمله بواعث العداوة والكراهية، ونحو ذلك على التشفي بالانتقام بقتل النفوس، فتبقى نفوس الناس سالمة من العدوان.

ثم أيضًا لا تكون الحياة فوضى يحكمها شرع الغاب كما يُقال، كل من عنّ في رأسه شيء قام بتنفيذه، فلا شرع يحكمهم، ولا سلطان يمنعهم، فمثل هذا لا شك أنه مؤذن بخراب كبير، وفساد عريض، يودي في النهاية إلى حال لا يدري معها القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتل، ويُصبح القتل أمرًا شائعًا ذائعًا في الناس، فتهون الدماء، وإذا هانت الدماء وهي من الضروريات الخمس، فإذا هانت النفوس هان ما دونها من الأبعاض والأعراض والعقول والأموال، فتضيع الضرورات الخمس، وما يتبعها من الحاجيات والتحسينيات، فتبقى حياة الناس فوضى، يتخوفون القتل والعدوان.

وإذا كان الناس في حال كهذا لا يمكن أن يقوم العمران، ولا تُبنى الحضارة، ولا يحصل مع ذلك قيام الاقتصاد، ونهوض الأعمال والتجارات، ومزاولة المِهن والصنائع، فتتحول الأسواق إلى خراب، والاقتصاد إلى كساد، ويصيرون في حال من الخمول والتراجع، وتصير حياتهم حياة بائسة همجية، غاية ما يطلبه الواحد منهم أن يسلم في نفسه، وأن ينجو بمُهجته، فهذه ليست حياة، بينما يقول الله -تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة:179] فإذا طُبق هذا التشريع فعند ذلك لا يمكن لأحد أن يجترئ على النفوس، وإلا كان الاستهتار.

ولذلك تجد في بعض الدول التي يُقال عنها دول عظمى وكبرى، فحينما تقرأ في بعض الجنايات، وفي بعض المحاكمات لهؤلاء الجناة الذين قد يعتدون على النفس بالقتل والعرض والمال في وقت واحد، بل ربما جمعوا معه العقل، فهؤلاء قد قرأتُ في بعض الأحوال الجارية هناك: أن هؤلاء الجُناة يدخلون المحكمة، وهم يصفرون ويُصفقون، وهم مجموعة من الشباب المُراهقين يجنون على فتاة في عرضها، ويقتلونها بطريقة لا تدل على الحد الأدنى من الإنسانية، يلقون عليها ثوبًا أو بساطًا أو نحو ذلك، وكل واحد يُساهم في طعنها بدون سبب، ثم بعد ذلك يدفنونها بالأشجار، ونحو ذلك، ويحصل هذا الفعل بعد الامتحانات، خرجوا من المدرسة، فذهبت معهم تمرح، لوثوقها بصديقها، ومن غير أي سبب ولا يوجد عداوة يقتلونها، بدافع نوازع الشر في النفوس.

فهؤلاء الجناة حينما جيء بهم دخلوا المحكمة وهم يصفقون ويُصفرون، فلو يعلم الواحد من هؤلاء أنه سيُقتص منه، وتُضرب عُنقه لم يرقأ له دمع، ولم يطب له طعام ولا شراب ولا نوم، بل تأتيه الكوابيس في ليله، وأنواع الهموم في نهاره؛ لأنه يعلم أنه سيُجازى بالقتل، لكن هذا الذي دخل يُصفق ويُصفر هو يعلم أن غاية ما هُنالك مُحاكمات طويلة لا تنتهي، ثم بعد ذلك ربما حبس وأشغال، ونحو هذا، وليس هناك قتل، وبعض هؤلاء من المجرمين قد يكون من المفاليس ممن لا يجد مكانًا يأويه، فيفرح بالسجن؛ لأنه يجد المأوى، ويجد الطعام والشراب، ولا يريد الخروج منه، وإذا خرج عاد إليه بجناية جديدة.

فهنا: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة:179] فهذا التشريع إذا وجد في المجتمع اطمئن الناس على أرواحهم، وصاروا يذهبون ويجيئون ويتقلبون من غير توجس ولا خوف؛ ولذلك تجدون في الإحصاءات العالمية أن هذه البلاد لأنها تحكم بشرع الله هي أقل النِسب العالمية في الجريمة، لماذا؟ لأن شرع الله -تبارك وتعالى- يُطبق، فهؤلاء المجرمون يرعوون ويمتنعون عن الاندفاع مع نوازعهم الإجرامية؛ ولذلك أقول -أيها الأحبة: انظروا إلى هذه الحال التي نُشاهدها جميعًا في ساعات من الليل العاشرة الحادية عشرة، ونحو ذلك ترى المرأة تمشي على قدميها وادعة ربما مع طفلها، أو أطفالها تتمشى لا تخاف إلا الله -تبارك وتعالى، وتجد الرجل يُسافر، ويذهب بأهله وأسرته شرقًا وغربًا، وليس يخاف إلا الله -تبارك وتعالى- بعد أن كانت هذه البلاد مسرحًا للغارات، فيُغير الناس بعضهم على بعض، والناس كانوا في جاهليتهم أيضًا في حال كلنا يعرفها ويعلمها.

وقد ورد أن وفد عبد القيس قالوا للنبي ﷺ: "بيننا وبينك هذا الحي من كُفار مُضر لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام"[4]، وقد كان أهل الساحل لا يستطيعون المجيء إلى المدينة إلا في شهر حرام، يأتي الناس للحج، ويُقيمون في المناسك والمشاعر، ثم بعد ذلك يرجعون إلى بلادهم في الأشهر الحرم، فيكون ذلك حماية لهم من عدوان المعتدين، واليوم تجد الناس يذهبون في أي وقت شاءوا، وإلى عهد ليس بالبعيد لو تقرؤون في كتب الرحالين الذين يصفون القوافل التي كانت تأتي إلى الحج، يستأجر هؤلاء كتيبة لحمايتهم، فتصحبهم إلى الحج، حتى يرجعون إلى بلادهم، كتيبة معها سلاح، وبعضهم يصف الغارات التي كانوا يواجهونها في الطريق، ولو نظرتم أيضًا في التاريخ تجد أنه في سنة كذا وكذا يقول: لم يحج من بلاد كذا أحد، لماذا؟ لأنها قُطعت الطريق، قطعها الأعراب، أو قُطاع طُرق، إلى آخره.

فهذا القصاص تشريع رباني، لا شك أنه حياة يأمن الناس فيها، فيطيب عيشهم، وتقوم شعائرهم، وانظروا إلى البلاد التي يكثر فيها الهرج والقتل، لا يستطيعون إقامة الجُمع أحيانًا، بل ولا صلاة الجماعة، فتُغلق المساجد، وكثير من هؤلاء يتساءل عن رُخصةٍ؛ لأنه لا يستطيع أن يذهب إلى المسجد؛ لأنه يمكن أن يُقتل في الطريق، أو في المسجد، الناس يذهبون إلى مدارسهم فتُختطف الفتاة أو الولد، ولا يُدرى أين ذهب؟ فربما تعطلت المدارس والجامعات، فشرع الله -تبارك وتعالى- هو الذي به تكون الحياة الحقيقية، وأين هذا من قول العرب: القتل أنفى للقتل؟!

ثم قال: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة البقرة:179] يا أصحاب العقول الكاملة، واللُب هو العقل، فهذا خطاب للعُقلاء، وليس لضعفاء العقول والسُفهاء؛ فأصحاب العقول الكاملة إذا فكروا في هذا ونظروا واعتبروا عرفوا قدر هذا التشريع، وانظر إلى كثرة الجرائم في تلك البلاد التي تدعي الإنسانية، وحقوق الإنسان، وما أشبه ذلك، تنطفأ الكهرباء لمدة نصف ساعة، ثم تظهر أرقام وإحصاءات في الجريمة من قتل واغتصاب وسلب وسرقة ونهب، تحول أولئك الذين هم أمام العالم ربما أهل حضارة، وتقدم وإنسانية إلى قطعان من المجرمين في نصف ساعة لما غاب الرقيب، بينما أهل الإيمان قبل الكهرباء وبعد الكهرباء وإذا انطفأت الكهرباء، وإذا تعطلت هذه الوسائل فالعبد يُراقب ربه -تبارك وتعالى.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:179] تتقون ماذا؟ تتقون بتطبيق شرع الله، فإن تطبيقه تقوى، وتتقون أيضًا القتل، وإزهاق النفوس والعدوان على الناس، فيحصل إحجام عن ذلك، فيسلم الناس وتسلم نفوسهم وضروراتهم، ويأمنون في مجتمعاتهم، فهذه الأمور لا يعرف قدرها إلا من فقدها، وفي بعض البلاد يكون الأمان في أحيائها بحسب ما يُدفع من الضرائب، وهي بلاد يسمونها متقدمة، يعني الذين يدفعون نسبة أكبر من الضرائب مقابل توفير الأمن تكون أحياؤهم أكثر أمنًا، والأحياء الفقيرة الذين لا يدفعون تكون مسرحًا للجريمة.

وفي بعض البلدان -وهذا شاهدته ورأيته- الرجال والشُبان من أبناء كل حي وليست بلادًا تخوض حروبًا، أو ربما تغشاها الفوضى، لا، بل بلاد لا يوجد فيها حروب، ومع ذلك تنتشر فيها الجريمة بأنواعها، فتجد أهل الحي يتناوبون في كل ليلة على مجموعة، يجوبون الحي إلى الفجر، ما هؤلاء؟ وما شأنهم؟ قالوا: هؤلاء يُمثلون دوريات لتوفير الأمن لسُكان الحي، فما الذي يجعل الناس بهذه المثابة؟ قلة التقوى في النفوس، فالتقوى تتحقق بتطبيق شرع الله، وتتحقق بمراقبة الله ، والخوف منه، فيحصل بسبب التقوى والقصاص أن ينكف ضعفاء النفوس عن مواقعة الجريمة، فتحصل للناس الحياة الآمنة المُطمئنة، فيبيت الرجل وهو قرير العين مُستريح. 

  1. البيت في الدر الفريد وبيت القصيد (4/ 157) منسوب للكميت بن زيد.
  2. البيتان للوزير المهلبي في المنتحل (ص:150) ومحاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (2/ 517).
  3. البيت لزهير بن أبي سلمى من معلقته المشهورة، في ديوانه (ص:70) ت: حمدو طماس، دار المعروفة بيروت لبنان.
  4. دلائل النبوة للبيهقي (5/ 324) والسيرة النبوية لابن كثير (4/ 88).