"اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين، والأقربين، وقد كان ذلك واجباً على أصح القولين قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه."كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ جاءت هذه الآية مقررةً في كتاب الله ، تتحدث عن الوصية على سبيل الفرض، وقد عرفنا بأن كُتِبَ من ألفاظ الوجوب، والإلزام، كما سبق في تفسير قوله - تبارك، وتعالى - : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [سورة البقرة:178] أن كتب بمعنى فرض.
وفي الآية أن أصل الوصية للأقارب الذين لا ميراث لهم مستحبة استئناساً بآية الوصية، وشمولها، ولما ثبت عن ابن عمر- ا - قال: قال رسول الله ﷺ : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده[1]، قال ابن عمر - ا - "ما مرت على ليلة منذ سمعت رسول الله ﷺ إلا وعندي وصيتي"، ولا خلاف بينهم في هذه المسألة.
وإنما الاختلاف الناشئ بينهم في الوصية للوالدين، والأقربين من لهم حق في الميراث، فالذي يفهم من ظاهر الآية أن الوصية واجبة لهم، وإليه ذهب جماعة من السلف، والخلف، قالوا: إن كان عنده ما يوصي به فإنه يجب عليه ذلك، ولم ينسخ الأمرَ بالوصية شيءٌ، وهذا قول متجه.
والذي ذهب إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن قوله سبحانه: إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ منسوخ بآية المواريث، وقوله ﷺ لا وصية لوارث[2]، فلا يجب على كل من ترك مالاً أن يوصي إلا إن كان للأقارب الذين لا ميراث لهم كما جاء الأمر بها في حديث ابن عمر، وهو محمول على مثل هذا، فهذا توجيه قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بأن الآية منسوخة من هذه الحيثية، ومن جهة أخرى أن الوصية للوالدين، والأقربين من المواضع التي اشتهرت فيها دعوى النسخ في القرآن، وهناك مواضع تقرب من واحد، وعشرين موضعاً في كتاب الله هي أقوى دعاوى النسخ، وهي التي اقتصر عليها السيوطي - رحمه الله - في كتاب "الإتقان"، وأيضاً الزرقاني في "مناهل العرفان"، ونظمها السيوطي، وعلق عليها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - صاحب "الأضواء"، وألحقها بآخر "الأضواء"، والقول بالنسخ قال به كثيرون منهم: أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه: "الناسخ، والمنسوخ"، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، والنحاس في كتابه: "الناسخ، والمنسوخ"، ومكي بن أبي طالب في كتابه: "الإيضاح"، ورجح نسخ هذه الآية أيضاً الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -.
وخالفهم ابن جرير بناءً على الأصل، والقاعدة المعروفة، وهي: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فلا يصح في كل حالة يلوح فيها التعارض أن يدعى فيها النسخ؛ لأن النسخ يقتضي إهدار أحد الدليلين، والجمع بين الدليلين أولى من إهمال أحدهما، ولا منافاة، ولا تعارض في الآية إذ المراد في الوصية للوالدين، والأقربين غير الوارثين، فالآية محكمة لم ينسخها شيء، لكن هل يكون الأب غير وارث؟ الجواب: نعم، يكون غير وارث في الحالات الثلاث المشهورة التي تمنع الإرث، وهي: الرق، والقتل، واختلاف الدين، فإذا كان الوالد رقيقاً مملوكاً فإنه لا يرث، ومثله إذا كان قاتلاً، وكذا إذا كان مخالفاً في الدين بأن يكون كتابياً، أو مجوسياً...، فله أن يوصي، والحالة هذه لأبيه؛ لأن والده لن يرث منه في هذه الحالات الثلاث، كما لو أن الأب كاتب سيده فهو بحاجة إلى إعانة، والولد حر فكتب في وصيته لوالده أن يعطى قدر كذا، وكذا بما لا يجاوز الثلث، فعندئذ يعطى لهذا الوالد، والخلاصة أنه إذا قام بالوالد مانع من موانع الإرث فإنه يوصى له، وتحمل القرابة في الآية على غير الوارثين، وهذا وجه حسن لا إشكال فيه.
وأما القائلون بنسخها، فقد اختلفوا في ناسخها هل هي آيات المواريث، أو الحديث، باعتبار الأصل عند كثير من أهل العلم كالشافعي نص في رسالته على أن القرآن لا ينسخه إلا القرآن، وأما السنة فما جيء بها إلا لتبين القرآن، وتشرح مشكله، والنسخ رفع، ولا تقوى على رفعه هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا الحديث من أحاديث الآحاد، والآحاد عند بعضهم لا يقوى على نسخ المتواتر - القرآن -، ولذلك أجابوا بأن الذي نَسخ هو آيات المواريث، أو مجموع الأمرين.
والصحيح أن الآحاد ينسخ المتواتر، وأن السنة لا مانع من نسخها القرآن.
فائدة:
من أجود كتب النسخ أربعة: كتاب" "الناسخ، والمنسوخ" لأبي عبيد القاسم بن سلام، وهو من أئمة القراءة، والحديث، والتفسير، واللغة، توفي سنة مائتين، وأربع، وعشرين للهجرة، وكتاب: "الناسخ، والمنسوخ" للنحاس، وهو مطبوع في طبعة أنيقة حسنة محققة تحقيقاً بديعاً، تصلح أن تكون نموذجاً في تحقيق الرسائل الجامعية، وكتاب: "الإيضاح" لمكي بن أبي طالب، وهو مطبوع في مجلد، وكتاب: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي، مطبوع في مجلد طبعة الجامعة الإسلامية.
قوله سبحانه: إِن تَرَكَ خَيْراً معناه: إن ترك مالاً، فالخير يراد به المال في هذا الموضع، كما في قوله - تبارك، وتعالى - في الموضع الآخر: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] أي: لحب المال، وقال سبحانه في موضع ثالث: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20]، وليس المراد حب العمل الصالح، والبر، والتقوى، والإحسان إلى الناس، والإحسان مع الله كما يفهم البعض، ومن هنا يعلم خطأ من قال: إن الأصل في الناس حب الخير، - والله أعلم -.
"وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتماً، من غير وصية، ولا تحمل منة الموصِي، ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن، وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله ﷺ يخطب، وهو يقول: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث[3].
وروى الإمام أحمد عن محمد بن سيرين قال: "جلس ابن عباس - ا - فقرأ سورة البقرة حتى أتى على هذه الآية: إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ، فقال: نسخت هذه الآية".
وكذا رواه سعيد بن منصور، والحاكم في مستدركه، و........"قول ابن عباس لا يلزم منه الحمل على النسخ الاصطلاحي الذي بمعنى الرفع؛ لأن السلف يطلقون النسخ على كل ما يعتور النص العام من تخصيص لعموم، أو تقييد لإطلاق، أو بيان لإجمال، أو رفع، وهو النسخ الاصطلاحي، فلا يلزم من هذا أنه يقصد النسخ بمعنى الرفع، ولكنه يحتمل ذلك احتمالاً كبيراً؛ لأن أكثر أهل العلم يقولون بالنسخ، وهو قول له وجه قوي.
"رواه سعيد بن منصور، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرطهما.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - في قوله: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ، نسختها هذا الآية: لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا [سورة النساء:7].
ثم قال ابن أبي حاتم:، وروي عن ابن عمر، وأبي موسى......"يقصد بقوله: نسختها للرجال نصيب يعني آيات المواريث، وهذا لا يعارض قول من قال: إن آيات المواريث تبدأ من قوله: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [سورة النساء:11]؛ لأن المراد أنها آية تطرقت إلى الكلام عن المواريث، وكل المواضع التي تحدثت في القرآن عن المواريث تأخذ حكمها، واسمها، وقد يكون الناسخ أمر آخر، لأن آية لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ، وَالأَقْرَبُونَ ليست ضمن السياق الذي ذكرت فيه آيات المواريث، إلا أنها تعد من جملة ما يتحدث عنها، فتدخل في الناسخ، - والله أعلم -.
"ثم قال ابن أبي حاتم:، وروي عن ابن عمر، وأبي موسى ، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، وعكرمة، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وطاووس، وإبراهيم النخعي، وشريح، والضحاك، والزهري أن هذه الآية منسوخة نسختها آية الميراث.
بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم يستحب له أن يوصي لهم من الثلث استئناساً بآية الوصية، وشمولها."يذكر الحافظ ابن كثير أن الأقارب الذين لا ميراث لهم، يستحب استئناساً بآية الوصية هذه أن يوصى لهم، وهنا يرد إشكال على كلام ابن كثير، وهو إذا كانت الآية منسوخة فكيف يؤخذ منها الاستحباب؟، والجواب أن يقال: إن حقيقة النسخ تارة تكون من الفرض، والإلزام إلى الاستحباب، وهذا ما قصده الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فهو غير متناقض، لأنه قصد نسخ، وجوب الوصية فقط، باعتبار أن الله أعطى كل ذي حق حقه، وبقي الاستحباب بالوصية لغير الورثة من القرابات، وهذا يجري أيضاً على قول من فسر قوله - تبارك، وتعالى -: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106]، بأنه لا بد من البديل في النسخ، فالبديل في الآية عن الوصية هو الميراث، وهذا يدفعنا للتعريج على مسألة، وكلام أهل العلم في النسخ إلى غير بدل، والذي عليه اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه لا نسخ إلى غير بدل، وأوضح مثال له قوله - تبارك، وتعالى - في آية المناجاة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المجادلة:12]، فبقى الأمر بتقديم الصدقة بين يدي المناجاة على سبيل الاستحباب، ولم ترفع الصدقة كما ذكر ابن تيمية، وأما القائلون بالنسخ إلى غير بدل فيرون أن الأمر رفع نهائياً في آية المناجاة، - والله أعلم بالصواب -.
"ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده[4]."الأظهر أن الخطاب يفهم منه الوجوب إن كان عنده ما يوصي به، كالحقوق، والديون، وما أشبه ذلك من الأمور التي يحتاج أن يوصي بها؛ لئلا تضيع الحقوق فيجب أن يثبت ذلك في وصيته، أما من ليس عنده شيء فلا يشمله النص؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهو خالي الوفاض من المال، فلا ينبغي الفهم أن الوصية واجبة على كل أحد أخذاً من هذا الآية، بل الصحيح حصرها فيمن يملك، وذمته مرهونة بحقوق للآخرين.
"قال ابن عمر - ا -: "ما مرت علىّ ليلة منذ سمعت رسول الله ﷺ يقول ذلك إلا وعندي وصيتي"، والآيات، والأحاديث بالأمر ببر الأقارب، والإحسان إليهم كثيرة جداً، والمراد بالمعروف أن يوصي لأَقْرَبِيه وصية لا تجحف بورثته من غير إسراف، ولا تقتير، كما ثبت في الصحيحين أن سعداً قال: "يا رسول الله – ﷺ - إن لي مالاً، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي، قال: لا. قال: فبشطر. قال: لا. قال: فالثلث، قال: الثلث، والثلث كثير."قول النبي ﷺ : الثلث، والثلث كثير فهم كثير من السلف، ومن بعدهم أن الثلث ليس بمستحب في الوصية، لقوله: كثير، وإنما يوصي دون الثلث كالربع، وبعضهم قال: دونه كالخمس، ونحو هذا؛ لئلا يضر بالورثة، والناس يتفاوتون في هذا، من كان له مال كثير، ومن كان ماله قليل، ومن كان له، ورثة كثر ...، فهذا يختلف من حال إلى حال، واستنبطوا منها أحكاماً فقهية تجدونها في مواضعها، في مسائل تتعلق بالغبن في البيع، إذا كان يبلغ الثلث لقول النبي ﷺ: الثلث، والثلث كثير، إلى غير ذلك.
"الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس[5].
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس - ا - قال: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله ﷺ قال: الثلث، والثلث كثير"
- رواه البخاري في كتاب الوصايا – باب الوصايا، وقول النبي –صلى الله عليه، وسلم - وصية الرجل مكتوبة عنده (2587) (3/1005)، ومسلم في كتاب الوصية (1627) (3/1249).
- رواه أبو داود برقم (2870) (2/127)، ورواه النسائي في سننه برقم (3641) (6/247)، وأحمد في مسنده برقم (17699) (4/186)، وصحيح الألباني الجامع الصغير، وزيادته برقم (2670).
- رواه أبو داود برقم (2870) (2/127)، ورواه النسائي في سننه برقم (3641) (6/247)، وأحمد في مسنده برقم (17699) (4/186)، وصحيح الألباني الجامع الصغير، وزيادته برقم (2670).
- سبق تخريجه.
- رواه البخاري في كتاب الوصايا - باب أن يترك، ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس (2591) (3/1006)، ورواه مسلم في كتاب الوصية –باب الوصية بالثلث (1628) (3/1250).