الإثنين 24 / ربيع الآخر / 1446 - 28 / أكتوبر 2024
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ۝ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:180-182].
"اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين، والأقربين، وقد كان ذلك واجباً على أصح القولين قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه."
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ جاءت هذه الآية مقررةً في كتاب الله ، تتحدث عن الوصية على سبيل الفرض، وقد عرفنا بأن كُتِبَ من ألفاظ الوجوب، والإلزام، كما سبق في تفسير قوله - تبارك، وتعالى - : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [سورة البقرة:178] أن كتب بمعنى فرض.
وفي الآية أن أصل الوصية للأقارب الذين لا ميراث لهم مستحبة استئناساً بآية الوصية، وشمولها، ولما ثبت عن ابن عمر- ا - قال: قال رسول الله ﷺ : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده[1]، قال ابن عمر - ا - "ما مرت على ليلة منذ سمعت رسول الله ﷺ إلا وعندي وصيتي"، ولا خلاف بينهم في هذه المسألة.
وإنما الاختلاف الناشئ بينهم في الوصية للوالدين، والأقربين من لهم حق في الميراث، فالذي يفهم من ظاهر الآية أن الوصية واجبة لهم، وإليه ذهب جماعة من السلف، والخلف، قالوا: إن كان عنده ما يوصي به فإنه يجب عليه ذلك، ولم ينسخ الأمرَ بالوصية شيءٌ، وهذا قول متجه.
والذي ذهب إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن قوله سبحانه: إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ منسوخ بآية المواريث، وقوله ﷺ لا وصية لوارث[2]، فلا يجب على كل من ترك مالاً أن يوصي إلا إن كان للأقارب الذين لا ميراث لهم كما جاء الأمر بها في حديث ابن عمر، وهو محمول على مثل هذا، فهذا توجيه قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بأن الآية منسوخة من هذه الحيثية، ومن جهة أخرى أن الوصية للوالدين، والأقربين من المواضع التي اشتهرت فيها دعوى النسخ في القرآن، وهناك مواضع تقرب من واحد، وعشرين موضعاً في كتاب الله هي أقوى دعاوى النسخ، وهي التي اقتصر عليها السيوطي - رحمه الله - في كتاب "الإتقان"، وأيضاً الزرقاني في "مناهل العرفان"، ونظمها السيوطي، وعلق عليها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - صاحب "الأضواء"، وألحقها بآخر "الأضواء"، والقول بالنسخ قال به كثيرون منهم: أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه: "الناسخ، والمنسوخ"، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، والنحاس في كتابه: "الناسخ، والمنسوخ"، ومكي بن أبي طالب في كتابه: "الإيضاح"، ورجح نسخ هذه الآية أيضاً الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -.
وخالفهم ابن جرير بناءً على الأصل، والقاعدة المعروفة، وهي: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فلا يصح في كل حالة يلوح فيها التعارض أن يدعى فيها النسخ؛ لأن النسخ يقتضي إهدار أحد الدليلين، والجمع بين الدليلين أولى من إهمال أحدهما، ولا منافاة، ولا تعارض في الآية إذ المراد في الوصية للوالدين، والأقربين غير الوارثين، فالآية محكمة لم ينسخها شيء، لكن هل يكون الأب غير وارث؟ الجواب: نعم، يكون غير وارث في الحالات الثلاث المشهورة التي تمنع الإرث، وهي: الرق، والقتل، واختلاف الدين، فإذا كان الوالد رقيقاً مملوكاً فإنه لا يرث، ومثله إذا كان قاتلاً، وكذا إذا كان مخالفاً في الدين بأن يكون كتابياً، أو مجوسياً...، فله أن يوصي، والحالة هذه لأبيه؛ لأن والده لن يرث منه في هذه الحالات الثلاث، كما لو أن الأب كاتب سيده فهو بحاجة إلى إعانة، والولد حر فكتب في وصيته لوالده أن يعطى قدر كذا، وكذا بما لا يجاوز الثلث، فعندئذ يعطى لهذا الوالد، والخلاصة أنه إذا قام بالوالد مانع من موانع الإرث فإنه يوصى له، وتحمل القرابة في الآية على غير الوارثين، وهذا وجه حسن لا إشكال فيه.
وأما القائلون بنسخها، فقد اختلفوا في ناسخها هل هي آيات المواريث، أو الحديث، باعتبار الأصل عند كثير من أهل العلم كالشافعي نص في رسالته على أن القرآن لا ينسخه إلا القرآن، وأما السنة فما جيء بها إلا لتبين القرآن، وتشرح مشكله، والنسخ رفع، ولا تقوى على رفعه هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا الحديث من أحاديث الآحاد، والآحاد عند بعضهم لا يقوى على نسخ المتواتر - القرآن -، ولذلك أجابوا بأن الذي نَسخ هو آيات المواريث، أو مجموع الأمرين.
والصحيح أن الآحاد ينسخ المتواتر، وأن السنة لا مانع من نسخها القرآن.
فائدة:
من أجود كتب النسخ أربعة: كتاب" "الناسخ، والمنسوخ" لأبي عبيد القاسم بن سلام، وهو من أئمة القراءة، والحديث، والتفسير، واللغة، توفي سنة مائتين، وأربع، وعشرين للهجرة، وكتاب: "الناسخ، والمنسوخ" للنحاس، وهو مطبوع في طبعة أنيقة حسنة محققة تحقيقاً بديعاً، تصلح أن تكون نموذجاً في تحقيق الرسائل الجامعية، وكتاب: "الإيضاح" لمكي بن أبي طالب، وهو مطبوع في مجلد، وكتاب: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي، مطبوع في مجلد طبعة الجامعة الإسلامية.
قوله سبحانه: إِن تَرَكَ خَيْراً معناه: إن ترك مالاً، فالخير يراد به المال في هذا الموضع، كما في قوله - تبارك، وتعالى - في الموضع الآخر: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] أي: لحب المال، وقال سبحانه في موضع ثالث: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20]، وليس المراد حب العمل الصالح، والبر، والتقوى، والإحسان إلى الناس، والإحسان مع الله كما يفهم البعض، ومن هنا يعلم خطأ من قال: إن الأصل في الناس حب الخير، - والله أعلم -.
"وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتماً، من غير وصية، ولا تحمل منة الموصِي، ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن، وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله ﷺ يخطب، وهو يقول: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث[3].
وروى الإمام أحمد عن محمد بن سيرين قال: "جلس ابن عباس - ا - فقرأ سورة البقرة حتى أتى على هذه الآية: إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ، فقال: نسخت هذه الآية".
وكذا رواه سعيد بن منصور، والحاكم في مستدركه، و........"
قول ابن عباس لا يلزم منه الحمل على النسخ الاصطلاحي الذي بمعنى الرفع؛ لأن السلف يطلقون النسخ على كل ما يعتور النص العام من تخصيص لعموم، أو تقييد لإطلاق، أو بيان لإجمال، أو رفع، وهو النسخ الاصطلاحي، فلا يلزم من هذا أنه يقصد النسخ بمعنى الرفع، ولكنه يحتمل ذلك احتمالاً كبيراً؛ لأن أكثر أهل العلم يقولون بالنسخ، وهو قول له وجه قوي.
"رواه سعيد بن منصور، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرطهما.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - في قوله: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ، نسختها هذا الآية: لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا [سورة النساء:7].
ثم قال ابن أبي حاتم:، وروي عن ابن عمر، وأبي موسى......"
يقصد بقوله: نسختها للرجال نصيب يعني آيات المواريث، وهذا لا يعارض قول من قال: إن آيات المواريث تبدأ من قوله: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [سورة النساء:11]؛ لأن المراد أنها آية تطرقت إلى الكلام عن المواريث، وكل المواضع التي تحدثت في القرآن عن المواريث تأخذ حكمها، واسمها، وقد يكون الناسخ أمر آخر، لأن آية لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ، وَالأَقْرَبُونَ ليست ضمن السياق الذي ذكرت فيه آيات المواريث، إلا أنها تعد من جملة ما يتحدث عنها، فتدخل في الناسخ، - والله أعلم -.
"ثم قال ابن أبي حاتم:، وروي عن ابن عمر، وأبي موسى ، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، وعكرمة، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وطاووس، وإبراهيم النخعي، وشريح، والضحاك، والزهري أن هذه الآية منسوخة نسختها آية الميراث.
بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم يستحب له أن يوصي لهم من الثلث استئناساً بآية الوصية، وشمولها."
يذكر الحافظ ابن كثير أن الأقارب الذين لا ميراث لهم، يستحب استئناساً بآية الوصية هذه أن يوصى لهم، وهنا يرد إشكال على كلام ابن كثير، وهو إذا كانت الآية منسوخة فكيف يؤخذ منها الاستحباب؟، والجواب أن يقال: إن حقيقة النسخ تارة تكون من الفرض، والإلزام إلى الاستحباب، وهذا ما قصده الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فهو غير متناقض، لأنه قصد نسخ، وجوب الوصية فقط، باعتبار أن الله أعطى كل ذي حق حقه، وبقي الاستحباب بالوصية لغير الورثة من القرابات، وهذا يجري أيضاً على قول من فسر قوله - تبارك، وتعالى -: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [سورة البقرة:106]، بأنه لا بد من البديل في النسخ، فالبديل في الآية عن الوصية هو الميراث، وهذا يدفعنا للتعريج على مسألة، وكلام أهل العلم في النسخ إلى غير بدل، والذي عليه اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه لا نسخ إلى غير بدل، وأوضح مثال له قوله - تبارك، وتعالى - في آية المناجاة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المجادلة:12]، فبقى الأمر بتقديم الصدقة بين يدي المناجاة على سبيل الاستحباب، ولم ترفع الصدقة كما ذكر ابن تيمية، وأما القائلون بالنسخ إلى غير بدل فيرون أن الأمر رفع نهائياً في آية المناجاة، - والله أعلم بالصواب -.
"ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده[4]."الأظهر أن الخطاب يفهم منه الوجوب إن كان عنده ما يوصي به، كالحقوق، والديون، وما أشبه ذلك من الأمور التي يحتاج أن يوصي بها؛ لئلا تضيع الحقوق فيجب أن يثبت ذلك في وصيته، أما من ليس عنده شيء فلا يشمله النص؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهو خالي الوفاض من المال، فلا ينبغي الفهم أن الوصية واجبة على كل أحد أخذاً من هذا الآية، بل الصحيح حصرها فيمن يملك، وذمته مرهونة بحقوق للآخرين.
"قال ابن عمر - ا -: "ما مرت علىّ ليلة منذ سمعت رسول الله ﷺ يقول ذلك إلا وعندي وصيتي"، والآيات، والأحاديث بالأمر ببر الأقارب، والإحسان إليهم كثيرة جداً، والمراد بالمعروف أن يوصي لأَقْرَبِيه وصية لا تجحف بورثته من غير إسراف، ولا تقتير، كما ثبت في الصحيحين أن سعداً قال: "يا رسول الله – ﷺ - إن لي مالاً، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي، قال: لا. قال: فبشطر. قال: لا. قال: فالثلث، قال: الثلث، والثلث كثير."قول النبي ﷺ : الثلث، والثلث كثير فهم كثير من السلف، ومن بعدهم أن الثلث ليس بمستحب في الوصية، لقوله: كثير، وإنما يوصي دون الثلث كالربع، وبعضهم قال: دونه كالخمس، ونحو هذا؛ لئلا يضر بالورثة، والناس يتفاوتون في هذا، من كان له مال كثير، ومن كان ماله قليل، ومن كان له، ورثة كثر ...، فهذا يختلف من حال إلى حال، واستنبطوا منها أحكاماً فقهية تجدونها في مواضعها، في مسائل تتعلق بالغبن في البيع، إذا كان يبلغ الثلث لقول النبي ﷺ: الثلث، والثلث كثير، إلى غير ذلك.
"الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس[5].
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس - ا - قال: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله ﷺ قال: الثلث، والثلث كثير"
  1. رواه البخاري في كتاب الوصايا – باب الوصايا، وقول النبي –صلى الله عليه، وسلم -  وصية الرجل مكتوبة عنده (2587) (3/1005)، ومسلم في كتاب الوصية (1627) (3/1249).
  2. رواه أبو داود برقم (2870) (2/127)، ورواه النسائي في سننه برقم (3641) (6/247)، وأحمد في مسنده برقم (17699) (4/186)، وصحيح الألباني الجامع الصغير، وزيادته برقم (2670).
  3. رواه أبو داود برقم (2870) (2/127)، ورواه النسائي في سننه برقم (3641) (6/247)، وأحمد في مسنده برقم (17699) (4/186)، وصحيح الألباني الجامع الصغير، وزيادته برقم (2670).
  4. سبق تخريجه.
  5. رواه البخاري في كتاب الوصايا - باب أن يترك، ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس (2591) (3/1006)، ورواه مسلم في كتاب الوصية –باب الوصية بالثلث (1628) (3/1250).

مرات الإستماع: 0

"الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كانت فرضًا قبل الميراث، ثم نسختها آية الميراث، مع قوله ﷺ: لا وصية لوارث[1] وبقيت الوصية مندوبة لمن لا يرث من الأقربين، وقيل: معناها الوصية بتوريث الوالدين، والأقربين على حسب الفرائض، فلا تعارض بينها، وبين المواريث، ولا نسخ، والأول أشهر".

الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ موضع الإشكال هنا أن الوصية جُعلت للوالدين، والأقربين، فالوالدان من جملة الورثة، والأقارب منهم الوارث، ومنهم غير الوارث، والآية جاءت هنا على سبيل العموم لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ولم يقل: غير الوارثين.

ومعلوم أن الوالدين من جملة الورثة، فلا يوصى لهم؛ لقول النبي ﷺ: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث[2]؛  ولهذا فإن من أهل العلم من خرج من هذا الإشكال بالقول بالنسخ، فقالوا: هذه الآية منسوخة، كان ذلك في أول الأمر، قبل شرع المواريث يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11]... إلى آخر ما ذكر الله - تبارك، وتعالى -.

واختلف هؤلاء في الناسخ ما هو؟ فمن أجاز نسخ السنة للقرآن قالوا: الذي نسخ هو قول النبي ﷺ: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا، وصية لوارث[3] فالآية منسوخة.

ومنهم منع من ذلك: باعتبار أن السنة شارحة للقرآن، ولا تكون رافعة، قالوا: والنسخ رفع، والسنة تبينه فكيف ترفع؟! وهؤلاء كما قال الإمام الشافعي - رحمه الله - في كتابه الرسالة ما حاصله: بأنه لا يكون سنة ناسخة إلا ومعها قرآن عاضد[4] فهي لا تستقل عنده بالنسخ، وهذا قال به جماعة من أهل العلم، ولا مانع من نسخ السنة للقرآن، لكن يبقى في الأمثلة على هذا النوع إيرادات، وإشكالات قوية، وهذا من أوضح الأمثلة، التي يذكرها القائلون بأن السنة تنسخ القرآن، ومع ذلك يرد عليه واردات: منها: أن الآية أصلًا لم تُنسخ، فهذا اعتراض على أصل دعوى النسخ، ثم إذا قيل بالنسخ فمن أهل العلم يقول: إن الذي نسخها هي آيات المواريث، وليس الحديث، أو يكون الحديث مع الآيات.

والذين قالوا: بأن الآية ليست منسوخة، حملوا قوله: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ على من لم يكن وارثًا يُوصى له، ومتى يكون الأب غير،وارث؟ في اختلاف الدين، فلا يرث فيوصى له، أو كان جانيًا على الولد بالقتل فقبل أن تخرج نفسه علم أنه ميت، وأن الجاني عليه هو الأب، وأنه لن يرث، فأوصى له مثلًا، وبالنسبة للأقربين ممن قام به مانع من موانع الإرث كهذا، أو لكونه غير وارث أصلًا لوجود من هو أقرب إلى الميت، فيحجبه عن الميراث، فيُوصَى لهؤلاء.

والقصد أن القول بأن هذه الآية منسوخة ليس محل اتفاق، ولكنه قول جماهير أهل العلم من السلف فمن بعدهم، حيث يقولون: إن هذه الآية منسوخة، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة: كعمر، وأبي موسى الأشعري، وجماعة من التابعين: كابن المسيب، وهو رواية عن الحسن، وبه قال مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وإبراهيم النخعي، والضحاك، والزهري[5].

وهذا الذي رجحه من المفسرين: الحافظ ابن كثير[6] وقبله الواحدي[7] وبعده، وقبله خلق: كأبي عبيد القاسم بن سلام[8] وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[9] وقال به ممن كتبوا، وألفوا في النسخ منهم: مكي بن أبي طالب في كتابه (الإيضاح في ناسخ القرآن، ومنسوخه)[10] ومن المعاصرين: الطاهر بن عاشور[11] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[12] كل هؤلاء قالوا: بأنها منسوخة.

وابن جرير لا يرى أنها منسوخة[13] وممن لم ير هذا من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - يقول: إن هذه الآية محكمة[14].

وهذا أيضًا مروي عن جماعة من السلف، وهو رواية عن الحسن، وبه قال طاوس، ويروى عن قتادة، والعلاء بن زيد، ومسلم بن يسار[15] وممن ألفوا في الناسخ، والمنسوخ: النحاس[16] فهو لا يرى أنها منسوخة، هؤلاء يوجهونه بما ذُكر، بأن الأصل: أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فإذا لم يدل عليه دليل، وأمكن أن توجه الآية توجيهًا صحيحًا فإنه لا يُصار إلى النسخ لمجرد وجود تعارض، أو إشكال.

يقول: "وقيل معناها: الوصية بتوريث الوالدين، والأقربين على حسب الفرائض، فلا تعارض بينها، وبين المواريث، ولا نسخ، والأول أشهر" الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ يعني بماذا؟ يعني الوصية بتوريثهم، ومثل هذا بعيد، لكن مثل هؤلاء حينما يذكرون هذا، يقول بعضهم: بأنهم كانوا في الجاهلية يعنون بتوريث الأولاد، فأكد عليهم حق الوالدين، وأن لا يضيعوا ميراث الوالدين، والأقربين، باعتبار أن العناية متوجهة إلى الأولاد - والله أعلم -.

وكتاب (الناسخ، والمنسوخ) للنحاس، كتاب عظيم، لما ذكر هذه الآية قال: فيها خمسة أقوال:

فمن قال: إن القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة، قال: نسخها: لا وصية لوارث[17].

ومن الفقهاء من قال: لا يجوز أن ينسخ القرآن إلا قرآن، قال: نسختها الفرائض[18] يعني آية المواريث.

وروى عن ابن عباس - ا -: كان أولاد الرجل يرثونه، وللوالدين، والأقربين الوصية، فنسختها: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء: 7] وقال مجاهد: نسختها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11].

والقول الثالث للحسن: أنه نسخت الوصية للوالدين، وثبتت للأقربين، الذين لا يرثون، وهكذا جاء عن ابن عباس عن طريق ابن أبي طلحة.

يعني نُسخت الوصية للوالدين نسخاً جزئياً، وبقيت بالنسبة للأقربين الذين لا يرثون، وبالنسبة للأقربين الذين يرثون فإما أنها لا تتناول هؤلاء أصلًا، أو باعتبار أن ذلك أيضًا مما نُسخ، لكن ظاهره العموم؛ لأنه قال: وَالْأَقْرَبِينَ ولم يخص غير الوارثين.

يقول: "وقال الشعبي، والنخعي: الوصية للوالدين، والأقربين على الندب لا على الحتم.

القول الخامس: إن الوصية للوالدين، والأقربين واجبة بنص القرآن إذا كانوا لا يرثون[19].

وهذا التوجيه الذي يعتمد عليه من يقول: إن الآية غير منسوخة، قال أبو جعفر: وهذا قول الضحاك، وطاوس، قال طاوس: من أوصى لأجنبيين، وله أقرباء انتزعت الوصية، فردت إلى الأقرباء، وقال الضحاك: من مات، وله شيء، ولم يوص لأقربائه، فقد مات عن معصية لله [20].

وهذا باعتبار أن (كُتب) يعني فرض، فقالوا: إن ذلك من قبيل الواجب، فيجب أن يوصي للوالدين، والأقربين.

والذين يقولون: إنها غير منسوخة، يقولون: هذا للندب، لكن التعبير بلفظة (كُتِبَ) الأصل أنها من الألفاظ التي يُعبر بها عن الوجوب، كما هو معلوم.

والحافظ ابن القيم - رحمه الله - ذكر في كتابه (بدائع الفوائد) ألفاظًا كثيرة مما يدل على الوجوب، ومنها: لفظة (كُتب)[21].

يقول: "قال الحسن: إذا أوصى رجل لقوم غرباء بثلثه، وله أقرباء أعطي الغرباء ثلث الثلث، ورد الباقي على الأقرباء"[22].

هنا تعليق:

يقول: وجمهور العلماء على أن الوصية غير واجبة، بل إنه حُكي عليه الإجماع، وإنما هي مستحبة إلا إذا كان على المرء حقوق للآخرين، يجب عليه بيانها: كالديون، ونحوها.

قال ابن عبد البر: "وقد أجمع العلماء على أن الوصية غير واجبة على أحد إلا أن يكون عليه دين، أو تكون عنده وديعة، أو أمانة - يعني لئلا يضيع حق الناس - فيوصي بذلك، وفي إجماعهم على هذا بيان لمعنى الكتاب، والسنة في الوصية، وقد شذت طائفة فأوجبت الوصية"[23].

وهؤلاء يقصدون بالإجماع قول عامة أهل العلم.

وقال القرطبي: "وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك"[24]. يعني ودائع، أو حقوق.

ويقول ابن كثير: "الأقارب الذين لا ميراث لهم يُستحب له أن يوصي لهم من الثلث، استئناسًا بآية الوصية، وشمولها؛  ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر - ا -"[25].

لكن قول الحسن، وطاوس الذي سبق، مخالف لقول السواد الأعظم من أهل العلم.

ويقول أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله -: وعلى هذا القول اجتمع العلماء من أهل الحجاز، وتهامة، والعراق، والشام، ومصر، وغيرهم منهم مالك، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث، وجميع أهل الآثار، والرأي، وهو القول المعمول به عندنا: أن الوصية جائزة للناس كلهم، ما خلا الورثة خاصة[26].

وقال القرطبي: "وقال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهم، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل: من أوصى لغير قرابته، وترك قرابته محتاجين، فبئسما صنع!، وفعله مع ذلك جائز ماضٍ، لكل من أوصى له من غني، وفقير، قريب، وبعيد، مسلم، وكافر"[27].

وقال أبو جعفر النحاس: فتنازع العلماء معنى هذه الآية، وهي متلوة - يعني لم ينسخ لفظها - فالواجب أن لا يقال: إنها منسوخة؛ لأن حكمها ليس بنافٍ حكم ما فرضه الله  من الفرائض، فوجب أن يكون كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ [البقرة: 180] الآية، كقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183][28].

والمقصود: أن أكثر أهل العلم يقولون: إنها منسوخة.

والمانعون يقولون: النسخ لا يثبت بالاحتمال، ويمكن أن توجه باعتبار أن الوصية تكون لغير الوارثين، وهو من قام به مانع من موانع الإرث.

وهذا من أوضح الأمثلة التي يحتج بها من قال: إن السنة تنسخ القرآن، وإن كنا نقول: إن هذا لا يوجد ما يمنع منه، لكن بالنسبة للوقوع لا نعلم مثالًا سالماً من معارضة قوية بالنسبة للحصول، والوقوع - والله أعلم -. 

  1.  أخرجه ابن ماجه في كتاب الوصايا، باب لا، وصية لوارث برقم: (2714)، وصححه الألباني.
  2.  سبق تخريجه.
  3.  سبق تخريجه.
  4. الرسالة للشافعي (1/ 112).
  5.  تفسير ابن أبي حاتم (1/ 299)، وتفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 493).
  6.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 493).
  7.  الوجيز للواحدي (ص: 148).
  8.  الناسخ، والمنسوخ للقاسم بن سلام (ص: 231).
  9.  منهاج السنة النبوية (4/ 203).
  10.  الإيضاح لمكي بن أبي طالب (ص 144).
  11.  التحرير، والتنوير (1/ 660).
  12.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 452).
  13.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (6/ 439).
  14.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 85).
  15.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 493).
  16.  الناسخ، والمنسوخ للنحاس (ص: 90).
  17.  سبق تخريجه.
  18.  الناسخ، والمنسوخ للنحاس (ص: 88).
  19.  المصدر السابق (ص: 89).
  20.  المصدر السابق (ص: 90).
  21.  بدائع الفوائد (1307).
  22. الناسخ، والمنسوخ للنحاس (ص: 90).
  23.  التمهيد لما في الموطأ من المعاني، والأسانيد (14/ 292).
  24.  تفسير القرطبي (2/ 259).
  25.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 494).
  26.  الناسخ، والمنسوخ للقاسم بن سلام (1/ 234).
  27.  تفسير القرطبي (2/ 264).
  28.  الناسخ، والمنسوخ للنحاس (ص: 90).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ۝  فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:180-182].

هذا خطاب موجه لأهل الإيمان كُتِبَ عَلَيْكُمْ والكتْب: بمعنى الفرض، أي: فُرض عليكم، إذا حضر أحدكم علامات الموت ومُقدماته إِنْ تَرَكَ خَيْرًا إن ترك مالاً، فالمال هنا هو المراد بالخير، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] يعني: لحب المال، فإن كان قد ترك شيئًا من المال، فإنه يوصي بجزء من هذا المال للوالدين والأقربين بالمعروف، بما لا يحصل معه إجحاف بالوارثين.

وكذلك أيضًا لا يوصي للغني ويدع الفقير من هؤلاء، أو يوصي بالكثير للغني، وبالقليل للفقير، ولا يتجاوز الثلث، فإن ذلك لا يصح في الوصية، فهذا حق ثابت يعمل به أهل التقوى، وهذه الآية التي فيها الوصية للوالدين والأقربين.

من أهل العلم من يقول: إنها منسوخة بآيات المواريث، وبعضهم يقول: نُسخت بقول النبي ﷺ: إن الله أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث[1]، وهذا عند من يقولون: بأن السنة تنسخ القرآن، وهذه مسألة معروفة، والعلماء مختلفون فيها من جهتين: من جهة الجواز، هل يمكن أن تنسخ السنة القرآن؟ ولهم في ذلك قولان معروفان، وهو خلاف مُعتبر عند أهل العلم، ولكلٍ أدلة يستدلون بها.

وبعضهم يقول: يجوز ذلك ولكنه لم يقع، ولا يوجد ما يمنع من ذلك صراحةـ، والواقع أن الوقائع التي يذكرها القائلون بالجواز لا تخلو من اعتراضات قوية، فمن أقوى الأمثلة التي يحتج بها من يقول بالوقوع هذا المثال، وعليه اعتراضات من جهات عدة، منها: هل هذا منسوخ أصلاً أو ليس بمنسوخ؟ وهل في الآية نسخ؟ فالذين يقولون فيها نسخ، يقولون: نسختها آية المواريث، والشافعي -رحمه الله- يقول: لا تكون السنة ناسخة إلا ومعها قرآن عاضد[2]، يعني: لا تستقل السنة بالنسخ؛ لأنها مُبينة للقرآن، وليست رافعة له، هكذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله- ووافقه على هذا جمع من أهل العلم.

وبصرف النظر عن هذه المسألة الأصولية، فإن من أهل العلم من يقول: إن الآية أصلاً ليست منسوخة، وأنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين، وهل يكون الوالد غير وارث؟ قالوا: نعم، إذا اختلف الدين، فإذا كان الأب على غير دين الولد فإنه لا يرث، فيوصي له وفاء بحقه، وصلة له، وكذلك فيما لو كان الأب قاتلاً للولد، يعني أنه جنى عليه جناية تقتل عادة، وقبل أن يموت الولد أوصى لأبيه؛ لأنه لن يرث، ففي هذه الحال يوصي له؛ لأنه محروم من الميراث، إلى غير ذلك مما يقوله المانعون.

وبعضهم يقول: إن الآية غير منسوخة، ويوجهها ويحملها على غير ما ذكرت، لكن لا يخلو من بُعد، والأصل أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فلا بد من دليل يدل عليه، والجمع مطلوب ما أمكن، فإذا أمكن حمل الآية على معنىً صحيح من غير دعوى الجمع، فإنه لا يُلجأ إلى القول بالنسخ في هذه الحال.

وقال الله -تبارك وتعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [سورة البقرة:181] فمن غير وصية الميت بعد ما سمعها، فإنما الذنب على هذا المُغير المُبدل، والله -تبارك وتعالى- سميع للأقوال، عليم بالأحوال، وما تُخفي الصدور من الميل عن الحق، والعدل، أو الجور والحيف والتبديل والتغيير، وما إلى ذلك، وسيُجازي كلاً على عمله.

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا [سورة البقرة:182] فمن علم من موصٍ ميلاً عن الحق، يريد أن يفضل بعض الورثة على بعض، أو أن يحرم بعض الورثة، أو نحو ذلك فينصح له، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:182] ينصح له، ويُذكره بالله -تبارك وتعالى-، وبوجوب العدل، فإن لم ينفع معه ذلك، فيمكن أن يتفق مع الورثة على تغيير الوصية بما يوافق الشرع والعدل، وهذا لا يكون عليه فيه إثم، ولا مؤاخذة فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [سورة البقرة:182] إذا وجد الجنف والظلم في هذه الوصية، فلو أوصى الإنسان بكل ماله في أعمال البر، وترك الورثة بلا شيء، ففي هذه الحال يُنفذ الثلث، وما زاد عن الثلث فإنه لا يُنفذ.

وقوله -تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:180] يُؤخذ من هذه الآية كما يدل عليه ظاهر اللفظ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ سياق الكلام على أحد الوجوه في تفسيره: كُتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين حال كون الإنسان قد ترك خيرًا (مالاً) يوصي به، فأُخرت الوصية هنا، وبعضهم يقول: لأجل التطلع والتشوف إليها، وهذه المحامل البلاغية قد لا تخلو من نظر أو إشكال أو تكلف، ويحتمل أن يكون المعنى على غير ما ذُكر، والإعراب على غير هذا المحمل، فيكون الوصية مُبتدأ، فلا تقديم ولا تأخير.

وقوله -تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ هذا يدل على وجوب الوصية إذا كان عنده ما يوصي به، فهذا حق على المُتقين، فالحق هو الثابت، فبناء على أن هذه الآية لم تُنسخ، فهذا مما يُستدل به على وجوب الوصية إذا كان الإنسان عنده شيء من مال، ونحو ذلك، والواقع أن الوصية واجبة إن كان عليه حقوق، وهذا تدل عليه السنة، وأما إن لم يكن له مال، وليس له شيء، فإن قيل: إن هذه الآية غير منسوخة، وله والد غير وارث، قام به مانع من موانع الإرث، أو بعض القرابة المحتاجين، ونحو ذلك، فإنه إن كان عنده مال يكفي للوصية وللميراث، فإنه يوصي لهؤلاء، ويُحسن إليهم، ويصلهم.

وأيضًا نلاحظ أنه قدم الوالدين هنا؛ لأن الوالدين أحق وأولى بالصلة والإحسان، وهذا أمر معلوم.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ قد يكون عنده غير الوالدين والأقربين ممن يريد أن يوصي لهم، من معارف أو جيران، أو نحو ذلك، وإنما خص الوالدين والأقربين؛ لأنهم الأولى والأحق، أو باعتبار أنهم كانوا يوصون لأولادهم في الجاهلية، وربما نسوا غيرهم من الوالدين والأقربين، فذكر بهم، وهذا قد يتأتى -على القول بأن الآية منسوخة- أن ذلك كان قبل نزول المواريث، فكانوا يورثون أولادهم، ويتركون من عداهم، فذكّر بهؤلاء وأحقيتهم بالوصية.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: أهمية البر بالوالدين، وعِظم الحق لهما، والإحسان إليهما في الحياة وبعد الممات؛ لأن الوصية تكون بعد الموت، حتى الدعاء، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [سورة الإسراء:24] فبعد ما أوصى بالبر والإحسان بجميع وجوهه وضروبه وصوره وأشكاله، جاء بعد ذلك بالدعاء؛ ليكون البر مُحققًا؛ وليستوفي ما وقع من نقص بالعمل الذي برهما به، فهو لا يستطيع أن يوفي مهما فعل، إلا ما جاء مُستثنىً في الحديث.

ويُؤخذ أيضًا من هذا: أهمية الوصية، وتأكد ذلك من قوله: كُتِبَ ومن قوله: حَقًا عَلَى المَتَقِينَ فهذا يُحرك النفوس للامتثال، والعناية بهذا الجانب، وخصّ المتقين؛ لأنهم هم الذين يقومون بحقوق الله -تبارك وتعالى-، ويُراعون حدوده.

إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ هنا تتأكد الوصية، لكن الأفضل أن الإنسان يُبادر فيها، فلا يبيت إلا ووصيته مكتوبة عنده إذا كان عند ما يوصي به؛ لأن الإنسان لا يدري ما يفجأه وينوبه، فقد يموت في لحظة في سكتة، وقد يموت في حادث، أو غير ذلك، ولا يستطيع حينها أن يوصي، وقد لا يكون بحضرته من يوصيه، وقد يكون في حال فيها لا يتمكن أصلاً من الوصية.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [سورة البقرة:181] أن هذا التبديل قد يكون بالتحريف والتغيير، وقد يكون بالكتمان، ويكون بعد ذلك آثمًا، وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره: أنه يكون قد وقع أجر الميت على الله، وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك[3]

يعني: لو أنه مثلاً أوصى لبعض قرابته من غير الوارثين، فجاء من بدل هذه الوصية وألغاها، أو قلل من المقدار الذي أوصي به، فالأجر حاصل للموصي، وما قصده من الصلة والإثم على المُبدل، لو أنه أوصى ببناء مسجد، فجاء من ألغى ذلك، أو كتمه، فإن أجر الموصي على الله، والإثم يتحمله هذا المُبدل والمغير.

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [سورة البقرة:181]، فهذه الصيغة: فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ تدل على الحصر، فَإِنَّمَا إِثْمُهُ فيكون الإثم على هؤلاء فقط الذين بدلوا، ولا يكون على غيرهم شيء، وقد يكون بقية الورثة أولياء الميت لا علم لهم، وقد تكون هذه الوصية بيد الابن الأكبر، وقد يعلمون بذلك وأرادوا أن يُقيموه كما أوصى مورثهم، ولكن هذا الذي قد أخذ بالوصية، وكانت له الولاية أبى وامتنع، فمثل هذا لا يُلام ولا يُؤاخذ فيه بقية الورثة.

وأحيانًا يتحرجون؛ لأن والدهم مثلاً أوصى لبعض القرابة، أو أوصى ببناء مسجد، أو أعمال بر، ومثل هذا قد حجز عنهم هذه الوصية، ولم يُطلعهم عليها، وأبقى الأمر ربما حتى الميراث لم يوزع، وقد يمضي على ذلك أربعون سنة، بل سبعون سنة وأكثر، ويموت أولاد المورث وقد يكونون في غاية الحاجة والفقر وهذه ملايين لم تُقسم ولا تُوزع، بل قد تضييع، ثم يكثر الورثة بعد ذلك، ويكون الذي ينال هؤلاء ويطالهم أشياء قليلة فلا ينشطون بعد ذلك بالبحث عنها لكثرتهم، وتضييع، تبقى عشرات السنين ولا تُقسم، فيأتي الأحفاد يسألون عنها، وصية فيها أوقاف قد لا تُستخرج إلا بعد مائة سنة وأكثر، فيُضيعها من يُضيعها إما إهمالاً، أو أنه بخل بذلك على أعمال البر، أو على الورثة أن يُعطيهم حقوقهم، أو أن من طبيعته التسويف، وعدم الإنجاز لشيء من مهامه، أو من مهام غيره، فهذا هو الذي يتحمل الإثم، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ أي: إثم هذا التبديل عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ [سورة البقرة:181] ونلاحظ أنه لم يقل: فإنما إثمه عليه، فأظهر في موضع الإضمار للإشهار، كأنه يُنادي عليهم بهذا الجُرم والذنب الذي هو التبديل.

مع أن المشروع أن يُعجل الناس بتقسيم الميراث؛ لأن الميراث هو انتقال للمال من المورث (الميت) إلى الوارثين انتقالاً جبريًا، يعني: الهبة والهدية تتوقف على قبول الموهوب، أو المُهدى، فلو أعطاك إنسان هبة أو هدية لا تكون داخلة في مُلكك إلا إذا قبلتها، والإنسان قد لا يقبلها، إذا رأى أن في هذا مِنة، أو تفضل أو إحسان، أو شيء من هذا القبيل، فلا تدخل في ملكه إلا إذا قبلها، وأما الميراث فإنه تمليك جبري، يدخل في مُلك الإنسان، ثم بعد ذلك إن أراد أن يتصدق به فهي صدقة له، أو يتبرع به، أو يجعله لبعض الوارثين، كأن يتنازل به لأمه، أو لأخته أو لأحد من الورثة، أو غير ذلك، فهذا شأنه.

ولهذا تجب على الوارثين الزكاة في هذا المال بعد موت المورث إن لم يكن قد تعلق به حق لله من زكاة لم تُخرج، لكن يبدأ حساب حول جديد بعد موته ما لم يقم مانع، مثل أن تكون هذه التركة محجوزة عند المحكمة، لأمر ومُلابسات، أو بالورثة مشاكل بينهم، فحُجزت عنهم، فهنا لا يخرجون الزكاة، وقد تُحجز عنهم عشر سنين وأكثر، ففي هذه الحال لا يخرجون الزكاة؛ لأنها ممنوعة منهم، لكن إذا كانت تحت تصرفهم لكنهم توسعوا وتساهلوا وتباطأوا في قسم الميراث، فإنهم يُخرجون الزكاة منها كل سنة، فهذا مُلك يحصل بغير موافقة الإنسان، أو إجازته، أو نحو ذلك، فينبغي أنه يصل إلى هؤلاء الناس حقوقهم، ويجب أن تصل إليهم أموالهم، فلا يجوز لأحد أن يؤخر أو يُماطل أو أن يتباطأ، أو يقول: أنا مشغول، فإن كان مشغولاً فيكل هذا إلى غيره، أما أن يبقى الناس في حال من شدة وحاجة، وعليهم حقوق، أو ديون أو نحو هذا، وأموال كثيرة هي من حقهم في هذا الميراث، وتذهب أعمارهم وهم يُكابدون العيش ربما في وظائف مردود مالي قليل، وهذه الأموال محجوزة عنهم بسبب هذا الوارث الذي يكسل أو يتباطأ أو يتهاون أو يسوف أو غير ذلك، هذا لا يصح، وهو من الظلم.

وهكذا ما يحصل من التصرف بهذه التركة من قِبل بعض الوارثين، يعني: قد يكون هذا الولد يسكن في فِلة تابعة للميراث والسيارة تابعة للميراث، وهي تابعة للمؤسسة أو الشركة التي تركها أبوهم، فهذا مشكلة، والمُفترض أن هذا يُحسب عليه بأُجرة المِثل، فالسيارة تُحسب عليه للورثة بأُجرة المِثل، والبيت الذي يسكنه من جملة الميراث فيُحسب عليه بأجرة المثل، كما تساوي هذه الفلة مؤثثة، فيُحسب عليها بأجرة المثل، وهكذا، فمثل هذه الأشياء يتورع فيها، والله المستعان.

وفي قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:181] تهديد مُبطن، فهو سامع للأقوال، وعليم بالأحوال، وما تُكنه الصدور، فهذا الإنسان الذي يُبدل هذه الوصية التي سمعها الله -تبارك وتعالى-، والله سمع وعلم بحال هذا المُبدل المُغير الذي أبدى لهم غير الحقيقة، فالله يسمع كلامه وتبديله، وهو عليم بحقيقة الحال، فهذا وعيد مُغلف، فمعنى ذلك أنه يُجازيهم، وجاء بالتأكيد إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وجاء بالجملة الاسمية التي تدل على الثبوت، فهو يسمع كل المسموعات، وعليم بكل الأحوال، ولا يخفى عليه خافية.

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [سورة البقرة:182] في هذا فضيلة الإصلاح، وأهميته فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:182] كثير الغفر على كثرة العباد، وكثرة الجنايات والذنوب، رحيم عظيم الرحمة، فهذه كلها صيغ مُبالغة، فنفى عنه الإثم، وأثبت المغفرة والرحمة، وقد يكون هنا اجتهاد يُراد به الإصلاح، وقد تبقى بعض الأمور لا يتمكنون من تداركها وتلافيها، فالله -تبارك وتعالى- يغفر لهم ما يعجزون عنه، وهو رحيم بعباده، لكن ذاك الذي تولى كِبره، وبدل وغير، أو ضيع الوصية، وضيع الحقوق، أو لبس عليهم بأوراق أخرى، فهذا هو الذي يتحمل هذه الجناية، والله أعلم. 

  1. أخرجه الترمذي في أبواب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث برقم: (2120) وأبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث برقم: (2870) وابن ماجه في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث برقم: (2713) وصححه الألباني.
  2. الرسالة للشافعي (1/ 138).
  3. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 397).