قوله سبحانه: شَهْرُ رَمَضَانَ سمي الشهر شهراً لاشتهاره، وإذا لم يشتهر فلا عبرة بذلك، وهذا الذي اعتمد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقرر بناء عليه أصلاً كبيراً، وهو أن الإنسان إذا رأى الهلال، ولم تعتبر رؤيته لسبب، أو لآخر، هل يجب عليه، أو من وثق به، وسمعه أن يصوم سراً؟ شيخ الإسلام يقول: لا يجوز له أن يصوم سراً؛ لأن النبي ﷺ قال: صوموا لرؤيته[1]، وهو يعني الشهر، والشهر لا يعد شهراً إلا إذا اشتهر؛ ولذا جاء عن نبينا ﷺ قوله: الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون[2]، باعتبار أن هذه الأمور لا يلزم أن يقع المكلفون فيها على ما في معلوم الله حقيقة، وإنما إذا اشتهر عند الناس، وحكموا بإكمال العدة ثلاثين، أوأن الشهر قد دخل، حتى لو أخطئوا فيه، فهذا شهر معتبر، صحيح، ولا غضاضة عليهم في ذلك، ومثله لو وقفوا يوم ثمانية بدلاً من تسعة في عرفة، فهل يعتبر الوقوف باطلا؟ الصحيح أن حجّهم صحيح؛ لأن الأضحى يوم تضحون، وهذا من لطف الله ، ولذا كان من الأوجُه المتعددة التي فسر بها قول النبي ﷺ: شهرا عيد لا ينقصان[3] يعني رمضان، وذا الحجة أنه لو كان شهر رمضان حقيقة في علم الله ثلاثين يوماً، والناس أكملوا العدة؛ لأنهم ما رأوا الهلال لغيم، أونحوه، فصاموا تسعاً، وعشرين، لهم أجر ثلاثين لا ينقص من أجورهم شيئ، كأنهم صاموا ثلاثين يوماً، وهو أشهر الأوجه.
رَمَضَانَ الجاهليون سموا الشهور في الجاهلية بأسماء مختلفة، فرمضان كان يسمى في الجاهلية: ناتق، سمي بذلك لشدة الحر فيه.
وسمي رمضان بذلك قيل: من رمض الصائم إذا احترق جوفه من شدة العطش، أو لشدة الحر الواقع فيه، يقال: رمضت الفصال إذا اشتد الحر، وقيل: لأنه يرمض الذنوب، والحقيقة أن هذه التعليلات ليس عليها دليل، والتفسير بأن رمضان سمي بذلك لشدة الحر يرد عليه اعتراض بأن رمضان يقع في بعض أحيانه في الشتاء. والجواب أن يقال: إن التسمية باعتبار ما وقع فيه الشهر وقت حلول الفصول، فشهر رمضان صادف وقت حر فسمي بذلك، ولذلك شهر ربيع معلوم أنه يأتي في وسط الشتاء، وفي أوله، وفي وسط الصيف، ومع هذا لم تزل التسمية ملاصقة له، فكان ذلك باعتبار ما وقع فيه آنذاك وقت التسمية، - والله أعلم -.
@
"وكما اختصه بذلك فقد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء، روى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - عن واثلة يعني ابن الأسقع أن رسول الله ﷺ قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍّ مضيْن من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع، وعشرين خلت من رمضان[4]".
هذا الحديث فيه ضعف، ولكنه ضعف قد ينجبر، ولهذا حسنه الشيخ الألباني - رحمه الله -، وضعفه آخرون، والذين حققوا المسند في الطبعة الجديدة حكموا بضعف هذا الحديث.
أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ يُحتمل في المراد بنزوله أمران:
الأول: أن إنزال القرآن كان جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل مفرقاً حسب الوقائع، والأحداث.
الثاني: أن يكون المراد ابتدأ نزوله على النبي ﷺ، ومعلوم أن ابتداء الوحي كان بالرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح كما في حديث عائشة، وكان ذلك ستة أشهر قبل نزول الملك، وكان يتحنث في غار حراء، ويتعبد، وقد جاء في التواريخ، والسير أن تحنثه كان يقع في شهر رمضان، فنزل عليه الملك أول ما نزل بإقرأ في شهر رمضان، وهذا يمكن أن يفسر به أول الآية: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ يعني ابتدأ إنزاله على النبي ﷺ في شهر رمضان.
ويمكن الجمع، والقول بأنه لا منافاة بين القولين: وذلك بأن يكون القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان كما قال سبحانه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [سورة الدخان:3]، ثم بدأ نزول أوله في ليلة القدر من رمضان، ثم نزل منجماً حسب الوقائع، والأحداث، وهذا أحسن الأقوال في الجمع بين الآراء، وتوجيهها، وتفسير هذه الآية، والعلم عند الله ، خلافاً لمن قال من السلف كالشعبي - رحمه الله -: إنه كان ينزل عليه في كل ليلة قدرٍ من رمضان، ما سينزل عليه في السنة، ثم يفرق على النبي ﷺ، وهذا فيه نظر، لأن جبريل أصلاً كان يأخذ القرآن من الله مباشرة، لا يأخذه من اللوح المحفوظ، ولا من أيدي الملائكة، ولا من بيت العزة في سماء الدنيا كما قال الزهري: أحدث آية بالعرش آية الدين، فلو كان في سماء الدنيا لما قال: أحدث آية، فالمستقر عند السلف هو أحاديث تكلُّم الله بالوحي، وإذا تكلم الله بالوحي، فهذه كلها تدل على أن جبريل يأخذ من الله مباشرة، وأما كونه في سماء الدنيا، أو في اللوح المحفوظ، أو في صحف مكرمة، فهذا كله لمزيد عناية الله بهذا القرآن، وتشريفه له.
@
"وقوله - جل، وعلا -: هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [سورة البقرة:185]، هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به، وصدقه، واتبعه، وبينات أي: دلائل، وحججاً بينة، واضحة، جلية لمن فهمها، وتدبرها، دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقاً بين الحق، والباطل، والحلال، والحرام.
وقوله تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة:185]، هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر أي: كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة، ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحاً مقيماً أن يفطر، ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم كما تقدم بيانه، ولما حتم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض، وللمسافر في الإفطار بشرط القضاء فقال: وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:185] معناه: ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه، أو يؤذيه، أو كان على سفر أي: في حالة السفر فله أن يفطر، فإذا أفطر؛ فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام، ولهذا قال: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة:185] أي: إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض، وفي السفر مع تحتمه في حق المقيم الصحيح تيسيراً عليكم، ورحمة بكم".
قوله - تبارك، وتعالى -: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ ليس معناه أنه إن أدرك أول الشهر، وعرض له عارض من مرض، أو سفر فلا يحل له الفطر كما ذكر عن بعض السلف، فليس هذا هو المراد، وعامة أهل العلم سلفاً، وخلفاً على خلافه، والنبي ﷺ ثبت أنه سافر في رمضان، وأفطر، كما حصل في غزوة الفتح، وكانت في رمضان، ومع هذا أفطر - عليه الصلاة، والسلام -، والحاصل أن الإنسان إذا عرض له ما يبيح له الفطر أفطر بشرط القضاء، وهذا - كما أسلفنا - عليه عامة أهل العلم.
"وقد ثبتت السنة عن رسول الله ﷺ أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وأمر الناس بالفطر[5]. أخرجه صاحبا الصحيح، والأمر في ذلك على التخيير، وليس بحتم؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله ﷺ في شهر رمضان، قال: فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".
أمْر النبي ﷺ للصحابة بالفطر في غزوة الفتح كان من أجل تقويهم به على القتال، فإنهم لما قربوا من مكة أخبرهم أنهم سيلقون عدوهم في الغد، وأن الفطر أقوى لهم، ولمّا بلغه أن رجالاً لم يفطروا، قال: أولئك العصاة، أولئك العصاة[6]، وهذه حالة تعتبر معينة، يقاس عليها مثلها.
وأما السفر، فإن المسافر لا يخلو من إحدى الحالات: إما أن لا يؤثر فيه الصوم، ولا يشق عليه، فمثل هذا الأولى في حقه الصوم، أو يشق عليه الصيام مشقة لكنها يسيرة فالأفضل أيضاً في حقه الصيام، فإن كانت المشقة كبيرة فلا بأس بالفطر، وإذا أفضي الصيام به إلى الضرر ففي هذه الحالة يجب عليه الفطر لقوله ﷺ: ليس من البر الصيام في السفر[7]، والسفر - بإطلاق - الإنسان مخير فيه بين الفطر، والصيام إلا أن النبي ﷺ أخبر: أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه[8]، فيندب له الترخص من أجل التيسير، والتخفيف، والرفق به.
@
"فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول الله ﷺ أنه كان في مثل هذه الحالة صائماً، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: "خرجنا مع رسول الله ﷺ في شهر رمضان في حر شديد، حتى إنْ كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله ﷺ، وعبد الله بن رواحة"، والإفطار في السفر أفضل أخذاً بالرخصة، ولما ثبت عن رسول الله ﷺ أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: من أفطر فحسن، ومن صام فلا جناح عليه[9]".
نص أهل العلم على جواز الفطر، أو فرضية الصيام في رمضان لاعتبارات معينة منها: هذا الحديث الوارد في حق الصائم في السفر: من أفطر فحسن، ومن صام فلا جناح عليه، فترك الأمر له بالخيار بين الصيام، والإفطار، وهناك اعتبار آخر للمريض فأحيانا يمتنع عن الأكل، والشرب، وهو غير صائم، فالأفضل له أن ينوي الصيام، ولا ينبغي إكراهه على الأكل، وإرغامه على الشرب، ونفسه تعافه؛ لأن النبي ﷺ قال: لا تكرهوا مرضاكم على الطعام، والشراب فإنما يطعمهم الله، ويسقيهم[10]، إذ قد يكون الصوم أروح لقلبه، ويجد انشراحاً، وإقبالاً بسببه، ويعينه على التخلص من مرضه، فلا يكره عليه، ويترك الأمر له فهو أعرف بحاله.
وأحياناً المسافر لا يجد شيئاً يأكله، فالأفضل أن ينوي الإمساك عن المفطرات، وهو مأجور على نيته إن أصلح نيته، وأعملها، فمثل هذه الاعتبارات لا بد أن تلاحظ في هذا الجانب، - والله أعلم -.
@
"وقال في حديث آخر: عليكم برخصة الله التي رخص لكم، وقالت طائفة: هما سواء لحديث عائشة أن حمزة ابن عمرو الأسلمي قال: يا رسول الله ﷺ إني كثير الصيام أفأصوم في السفر. فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر[11]، وهو في الصحيحين".
الجمع بين النصوص أولى من إهمال أحدها، وأحاديث الصيام في السفر جاءت بعضها مثبتة أن النبي ﷺ كان يصوم في السفر، وبعضها نفت الأمر بالصيام في السفر كحديث: ليس من البر الصيام في السفر فلا يحكم بأفضلية أحد الأمرين على الآخر، بل المطلوب الجمع بين هذه الأحاديث، وعند الجمع يعرف أن الحكم يتفاوت.
@
"وقيل: إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر أن رسول الله ﷺ رأى رجلاً قد ظُلل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البر الصيام في السفر. أخرجاه.
فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه إليه فهذا يتعين عليه الإفطار، ويحرم عليه الصيام، ولا يجب التتابع في القضاء، بل إن شاء فرق، وإن شاء تابع، وعليه ثبتت الدلائل؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر، ولهذا قال تعالى: فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:185] ".
قوله: فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لم يقيد التتابع في القضاء فلا يجب، وتبقى الآية كما أطلقها الله ، لكن هل يجب القضاء قبل رمضان القادم؟ لم يرد فيه شيء لا في الكتاب، ولا في السنة، وغاية ما ورد في ذلك حديث عائشة: "كان يكون عليّ الصومُ من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان؛ لمكان رسول الله ﷺ مني" فكانت تتحرى أن لا يدخل عليها رمضان الآخر إلا وقد صامت ما عليها من القضاء، ففهم منه بعض أهل العلم أنه لا يأتي عليه رمضان الآخر إلا وقد قضى ما عليه، وإن فاته رمضان ذلك العام، ودخل عليه رمضان الآخر، قالوا: إن كان ذلك لغير عذر، فإنه يجب عليه الصوم، والإطعام، كفارة عن التأخير، وهذا قال به جماعة من السلف ، وليست المسألة محل اتفاق، - والله أعلم بالصواب -.
@
"ثم قال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة:185]، وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: يسروا، ولا تعسروا، وسكنوا، ولا تنفروا[12]، أخرجاه في الصحيحين.
وفي الصحيحين أيضاً أن رسول الله ﷺ قال لمعاذ، وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: بشرا، ولا تنفرا، ويسرا، ولا تعسرا، وتطاوعا، ولا تختلفا[13].
ومعنى قوله: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ ، أي: إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار للمرض، والسفر، ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم".
فقوله - تبارك، وتعالى -: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ أي: إنما أرخَصَ لكم في الإفطار للمرض، والسفر، ونحوه لإرادة اليسر، وإنما أمركم بالقضاء تخفيفاً لكم من أجل إكمال عدة الصوم، وجبراناً لذلك النقص الحاصل بسبب هذا العذر.
@
"وقوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم كما قال: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [سورة البقرة:200]، وقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الجمعة:10]، وقال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [سورة ق:39-40]، ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح، والتحميد، والتكبير بعد الصلوات المكتوبات، وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله ﷺ إلا بالتكبير".
من أهل العلم من يرى سنية الجهر بالذكر دبر الصلاة المفروضة استدلالاً بأثر ابن عباس، حتى إن بعضهم ألف في هذه المسألة رسالة مستقلة، ومن أهل العلم من يرى خلافه مستدلاً على ذلك بقوله - سبحانه -: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [سورة الأعراف:205]، وقوله : ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55]، وبأمر النبي ﷺ بخفض الصوت بالذكر لما كان الصحابة يرفعون أصواتهم في أسفارهم بالتكبير كلما علوا مرتفعاً من الأرض، أو بالتسبيح إذا هبطوا وادياً، وقال: إنكم لا تدعون أصمَّ، ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً...[14]، لكن الملاحظ أن الآية الأولى جاءت في الذكر العام، والثانية وردت في الدعاء، وأثر ابن عباس نص على أدبار الصلوات، وهذا مما يمكن الجمع، ويدفع توهم التعارض، وذلك بأن يقال: إن الأصل في الذكر خفض الصوت، ودون الجهر من القول، إلا ما وردت النصوص في استحباب رفع الصوت بالذكر فيه كتكبيرات العيد، وأيام التشريق، والتلبية، والذكر بعد الصلاة، وهذا خلافاً لمن قال: إن الأصل في الذكر ترك الجهر، وأطلق ذلك، وعممه على جميع النصوص، وواضح خطأ القول به؛ لأنه إهدار لمثل هذه الأحاديث.
وعند الشافعي جواز رفع الصوت بالذكر إذا كان في مقام التعليم، ويحمل عليه أحاديث رفع النبي ﷺ صوته بالذكر، إلا أنه لا دليل يؤكد ذلك، وعلى فرضية صحته فإن الناس في زماننا بحاجة إلى التعليم أكثر من زمان الصحابة، فيصعب اطراده لعدم انضباط المسألة، إذ قد يؤدي إلى التوسعة فيه، والخروج عن المقبول، والمعقول، وسد الذرائع أمر مقنن في الدين، والخلاصة أن غاية ما قيل في أمر رفع الصوت بالذكر أدبار الصلوات أنها من السنة، - والله تعالى أعلم -.
"ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [سورة البقرة:185] ".
من رأوا مشروعية التكبير مستدلين بهذه الآية، اختلفوا في بداية التكبير فذهب بعضهم إلى اعتبار رؤية هلال شوال، وهو قول كثير من أهل العلم، ويرون أن برؤية هلال شوال يكونون قد أكملوا عدة الشهر، ويشرع لهم عندئذ التكبير.
وذهب آخرون إلى أن بداية التكبير بعد صلاة فجر يوم العيد، وتستمر حتى يخرج الإمام إلى الصلاة، وقيل غير هذا.
والتكبير في عيد الفطر تكبير مطلق لا يتقيد بأدبار الصلوات، - والله أعلم -.
"وقوله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك".
- رواه البخاري في كتاب الصوم - باب قول النبي ﷺ ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)) برقم (1810) (2/674)، ورواه مسلم في كتاب الصيام - باب، وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، وأنه إذا غم في أوله، أوآخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً برقم (1080) (2/762)
- رواه الترمذي برقم (697) (3/80)، وصححه الألباني في صحيح، وضعيف الجامع الصغير برقم (7316).
- رواه البخاري في كتاب الصوم - باب شهرا عيد لا ينقصان برقم (1813) (2/675)، ومسلم في كتاب الصيام - باب بيان معنى قوله ﷺ شهرا عيد لا ينقصان برقم (1089) (2/766).
- رواه أحمد في مسنده برقم (17025) (4/107)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1575)، وعلق عليه شعيب الأرنؤوط بأنه حديث ضعيف تفرد به عمران القطان، وهو ممن لا يحتمل تفرده.
- رواه البخاري في كتاب الصوم - باب إذا صام أيام من رمضان ثم سافر برقم (1842) (2/686)، ورواه مسلم في كتاب الصيام - باب جواز الصوم، والفطر في شهر رمضان في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم، ولمن يشق عليه أن يفطر برقم (1113) (2/784)
- رواه مسلم في كتاب الصيام - باب جواز الصوم، والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم، ولمن يشق عليه أن يفطر برقم (1114) (785)
- سبق تخريجه.
- سبق تخريجه.
- رواه مسلم في كتاب الصيام - باب التخيير في الصوم، والفطر في السفر برقم (1121) (2/789).
- رواه الترمذي في سننه برقم (2040) (4/384)، وابن ماجه برقم (3444) (2/1140)، وحسنه الألباني.
- رواه البخاري في كتاب الصوم - باب الصوم في السفر، والإفطار برقم (1841) (2/686)، ورواه مسلم في كتاب الصيام - باب التخيير في الصوم، والفطر في السفر برقم (1121) (2/789).
- رواه البخاري في كتاب الأدب - باب قول النبي ﷺ ((يسروا، ولا تعسروا)) برقم (5774) (5/2269)، ومسلم في كتاب الجهاد، والسير - باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير برقم (1734) (3/1359)
- رواه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب ما يكره من التنازع، والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه برقم (2873) (3/1104)، ورواه مسلم في كتاب الجهاد، والسير برقم (1733) (3/1359).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير (2830) (ج 3 / ص 1091)، ومسلم في كتاب الذكر، والدعاء، والاستغفار - باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) (ج 4 / ص 2076).