الإثنين 17 / ربيع الآخر / 1446 - 21 / أكتوبر 2024
شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا۟ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:185]، يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه".
قوله سبحانه: شَهْرُ رَمَضَانَ سمي الشهر شهراً لاشتهاره، وإذا لم يشتهر فلا عبرة بذلك، وهذا الذي اعتمد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقرر بناء عليه أصلاً كبيراً، وهو أن الإنسان إذا رأى الهلال، ولم تعتبر رؤيته لسبب، أو لآخر، هل يجب عليه، أو من وثق به، وسمعه أن يصوم سراً؟ شيخ الإسلام يقول: لا يجوز له أن يصوم سراً؛ لأن النبي ﷺ قال: صوموا لرؤيته[1]، وهو يعني الشهر، والشهر لا يعد شهراً إلا إذا اشتهر؛ ولذا جاء عن نبينا ﷺ قوله: الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون[2]، باعتبار أن هذه الأمور لا يلزم أن يقع المكلفون فيها على ما في معلوم الله حقيقة، وإنما إذا اشتهر عند الناس، وحكموا بإكمال العدة ثلاثين، أوأن الشهر قد دخل، حتى لو أخطئوا فيه، فهذا شهر معتبر، صحيح، ولا غضاضة عليهم في ذلك، ومثله لو وقفوا يوم ثمانية بدلاً من تسعة في عرفة، فهل يعتبر الوقوف باطلا؟ الصحيح أن حجّهم صحيح؛ لأن الأضحى يوم تضحون، وهذا من لطف الله ، ولذا  كان من الأوجُه المتعددة التي فسر بها قول النبي ﷺ: شهرا عيد لا ينقصان[3] يعني رمضان، وذا الحجة أنه لو كان شهر رمضان حقيقة في علم الله ثلاثين يوماً، والناس أكملوا العدة؛ لأنهم ما رأوا الهلال لغيم، أونحوه، فصاموا تسعاً، وعشرين، لهم أجر ثلاثين لا ينقص من أجورهم شيئ، كأنهم صاموا ثلاثين يوماً، وهو أشهر الأوجه.
رَمَضَانَ الجاهليون سموا الشهور في الجاهلية بأسماء مختلفة، فرمضان كان يسمى في الجاهلية: ناتق، سمي بذلك لشدة الحر فيه.
وسمي رمضان بذلك قيل: من رمض الصائم إذا احترق جوفه من شدة العطش، أو لشدة الحر الواقع فيه، يقال: رمضت الفصال إذا اشتد الحر، وقيل: لأنه يرمض الذنوب، والحقيقة أن هذه التعليلات ليس عليها دليل، والتفسير بأن رمضان سمي بذلك لشدة الحر يرد عليه اعتراض بأن رمضان يقع في بعض أحيانه في الشتاء. والجواب أن يقال: إن التسمية باعتبار ما وقع فيه الشهر وقت حلول الفصول، فشهر رمضان صادف وقت حر فسمي بذلك، ولذلك شهر ربيع معلوم أنه يأتي في وسط الشتاء، وفي أوله، وفي وسط الصيف، ومع هذا لم تزل التسمية ملاصقة له، فكان ذلك باعتبار ما وقع فيه آنذاك وقت التسمية، - والله أعلم -.
@
"وكما اختصه بذلك فقد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء، روى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - عن واثلة يعني ابن الأسقع أن رسول الله ﷺ قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍّ مضيْن من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع، وعشرين خلت من رمضان[4]".
هذا الحديث فيه ضعف، ولكنه ضعف قد ينجبر، ولهذا حسنه الشيخ الألباني - رحمه الله -، وضعفه آخرون، والذين حققوا المسند في الطبعة الجديدة حكموا بضعف هذا الحديث.
أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ يُحتمل في المراد بنزوله أمران:
الأول: أن إنزال القرآن كان جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل مفرقاً حسب الوقائع، والأحداث.
الثاني: أن يكون المراد ابتدأ نزوله على النبي ﷺ، ومعلوم أن ابتداء الوحي كان بالرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح كما في حديث عائشة، وكان ذلك ستة أشهر قبل نزول الملك، وكان يتحنث في غار حراء، ويتعبد، وقد جاء في التواريخ، والسير أن تحنثه كان يقع في شهر رمضان، فنزل عليه الملك أول ما نزل بإقرأ في شهر رمضان، وهذا يمكن أن يفسر به أول الآية: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ يعني ابتدأ إنزاله على النبي ﷺ في شهر رمضان.
ويمكن الجمع، والقول بأنه لا منافاة بين القولين: وذلك بأن يكون القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان كما قال سبحانه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [سورة الدخان:3]، ثم بدأ نزول أوله في ليلة القدر من رمضان، ثم نزل منجماً حسب الوقائع، والأحداث، وهذا أحسن الأقوال في الجمع بين الآراء، وتوجيهها، وتفسير هذه الآية، والعلم عند الله ، خلافاً لمن قال من السلف كالشعبي - رحمه الله -: إنه كان ينزل عليه في كل ليلة قدرٍ من رمضان، ما سينزل عليه في السنة، ثم يفرق على النبي ﷺ، وهذا فيه نظر، لأن جبريل أصلاً كان يأخذ القرآن من الله مباشرة، لا يأخذه من اللوح المحفوظ، ولا من أيدي الملائكة، ولا من بيت العزة في سماء الدنيا كما قال الزهري: أحدث آية بالعرش آية الدين، فلو كان في سماء الدنيا لما قال: أحدث آية، فالمستقر عند السلف هو أحاديث تكلُّم الله بالوحي، وإذا تكلم الله بالوحي، فهذه كلها تدل على أن جبريل يأخذ من الله مباشرة، وأما كونه في سماء الدنيا، أو في اللوح المحفوظ، أو في صحف مكرمة، فهذا كله لمزيد عناية الله بهذا القرآن، وتشريفه له.
@
"وقوله - جل، وعلا -: هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [سورة البقرة:185]، هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به، وصدقه، واتبعه، وبينات أي: دلائل، وحججاً بينة، واضحة، جلية لمن فهمها، وتدبرها، دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقاً بين الحق، والباطل، والحلال، والحرام.
وقوله تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة:185]، هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر أي: كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة، ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحاً مقيماً أن يفطر، ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم كما تقدم بيانه، ولما حتم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض، وللمسافر في الإفطار بشرط القضاء فقال: وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:185] معناه: ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه، أو يؤذيه، أو كان على سفر أي: في حالة السفر فله أن يفطر، فإذا أفطر؛ فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام، ولهذا قال: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة:185] أي: إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض، وفي السفر مع تحتمه في حق المقيم الصحيح تيسيراً عليكم، ورحمة بكم".

قوله - تبارك، وتعالى -: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ ليس معناه أنه إن أدرك أول الشهر، وعرض له عارض من مرض، أو سفر فلا يحل له الفطر كما ذكر عن بعض السلف، فليس هذا هو المراد، وعامة أهل العلم سلفاً، وخلفاً على خلافه، والنبي ﷺ ثبت أنه سافر في رمضان، وأفطر، كما حصل في غزوة الفتح، وكانت في رمضان، ومع هذا أفطر - عليه الصلاة، والسلام -، والحاصل أن الإنسان إذا عرض له ما يبيح له الفطر أفطر بشرط القضاء، وهذا - كما أسلفنا - عليه عامة أهل العلم.
"وقد ثبتت السنة عن رسول الله ﷺ أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، وأمر الناس بالفطر[5]. أخرجه صاحبا الصحيح، والأمر في ذلك على التخيير، وليس بحتم؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله ﷺ في شهر رمضان، قال: فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".
أمْر النبي ﷺ للصحابة بالفطر في غزوة الفتح كان من أجل تقويهم به على القتال، فإنهم لما قربوا من مكة أخبرهم أنهم سيلقون عدوهم في الغد، وأن الفطر أقوى لهم، ولمّا بلغه أن رجالاً لم يفطروا، قال: أولئك العصاة، أولئك العصاة[6]، وهذه حالة تعتبر معينة، يقاس عليها مثلها.
وأما السفر، فإن المسافر لا يخلو من إحدى الحالات: إما أن لا يؤثر فيه الصوم، ولا يشق عليه، فمثل هذا الأولى في حقه الصوم، أو يشق عليه الصيام مشقة لكنها يسيرة فالأفضل أيضاً في حقه الصيام، فإن كانت المشقة كبيرة فلا بأس بالفطر، وإذا أفضي الصيام به إلى الضرر ففي هذه الحالة يجب عليه الفطر لقوله ﷺ: ليس من البر الصيام في السفر[7]، والسفر - بإطلاق - الإنسان مخير فيه بين الفطر، والصيام إلا أن النبي ﷺ أخبر: أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه[8]، فيندب له الترخص من أجل التيسير، والتخفيف، والرفق به.
@
"فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام، بل الذي ثبت من فعل رسول الله ﷺ أنه كان في مثل هذه الحالة صائماً، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: "خرجنا مع رسول الله ﷺ في شهر رمضان في حر شديد، حتى إنْ كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله ﷺ، وعبد الله بن رواحة"، والإفطار في السفر أفضل أخذاً بالرخصة، ولما ثبت عن رسول الله ﷺ أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: من أفطر فحسن، ومن صام فلا جناح عليه[9]".
نص أهل العلم على جواز الفطر، أو فرضية الصيام في رمضان لاعتبارات معينة منها: هذا الحديث الوارد في حق الصائم في السفر: من أفطر فحسن، ومن صام فلا جناح عليه، فترك الأمر له بالخيار بين الصيام، والإفطار، وهناك اعتبار آخر للمريض فأحيانا يمتنع عن الأكل، والشرب، وهو غير صائم، فالأفضل له أن ينوي الصيام، ولا ينبغي إكراهه على الأكل، وإرغامه على الشرب، ونفسه تعافه؛ لأن النبي ﷺ قال: لا تكرهوا مرضاكم على الطعام، والشراب فإنما يطعمهم الله، ويسقيهم[10]، إذ قد يكون الصوم أروح لقلبه، ويجد انشراحاً، وإقبالاً بسببه، ويعينه على التخلص من مرضه، فلا يكره عليه، ويترك الأمر له فهو أعرف بحاله.
وأحياناً المسافر لا يجد شيئاً يأكله، فالأفضل أن ينوي الإمساك عن المفطرات، وهو مأجور على نيته إن أصلح نيته، وأعملها، فمثل هذه الاعتبارات لا بد أن تلاحظ في هذا الجانب، - والله أعلم -.
@
"وقال في حديث آخر: عليكم برخصة الله التي رخص لكم، وقالت طائفة: هما سواء لحديث عائشة أن حمزة ابن عمرو الأسلمي قال: يا رسول الله ﷺ إني كثير الصيام أفأصوم في السفر. فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر[11]، وهو في الصحيحين".
الجمع بين النصوص أولى من إهمال أحدها، وأحاديث الصيام في السفر جاءت بعضها مثبتة أن النبي ﷺ كان يصوم في السفر، وبعضها نفت الأمر بالصيام في السفر كحديث: ليس من البر الصيام في السفر فلا يحكم بأفضلية أحد الأمرين على الآخر، بل المطلوب الجمع بين هذه الأحاديث، وعند الجمع يعرف أن الحكم يتفاوت.
@
"وقيل: إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر أن رسول الله ﷺ رأى رجلاً قد ظُلل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البر الصيام في السفر. أخرجاه.
فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه إليه فهذا يتعين عليه الإفطار، ويحرم عليه الصيام، ولا يجب التتابع في القضاء، بل إن شاء فرق، وإن شاء تابع، وعليه ثبتت الدلائل؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر، ولهذا قال تعالى: فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:185] ".

قوله: فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لم يقيد التتابع في القضاء فلا يجب، وتبقى الآية كما أطلقها الله ، لكن هل يجب القضاء قبل رمضان القادم؟ لم يرد فيه شيء لا في الكتاب، ولا في السنة، وغاية ما ورد في ذلك حديث عائشة: "كان يكون عليّ الصومُ من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان؛ لمكان رسول الله ﷺ مني" فكانت تتحرى أن لا يدخل عليها رمضان الآخر إلا وقد صامت ما عليها من القضاء، ففهم منه بعض أهل العلم أنه لا يأتي عليه رمضان الآخر إلا وقد قضى ما عليه، وإن فاته رمضان ذلك العام، ودخل عليه رمضان الآخر، قالوا: إن كان ذلك لغير عذر، فإنه يجب عليه الصوم، والإطعام، كفارة عن التأخير، وهذا قال به جماعة من السلف ، وليست المسألة محل اتفاق، - والله أعلم بالصواب -.
@
"ثم قال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة:185]، وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: يسروا، ولا تعسروا، وسكنوا، ولا تنفروا[12]، أخرجاه في الصحيحين.
وفي الصحيحين أيضاً أن رسول الله ﷺ قال لمعاذ، وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: بشرا، ولا تنفرا، ويسرا، ولا تعسرا، وتطاوعا، ولا تختلفا[13].
ومعنى قوله: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ ، أي: إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار للمرض، والسفر، ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم".

فقوله - تبارك، وتعالى -: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ أي: إنما أرخَصَ لكم في الإفطار للمرض، والسفر، ونحوه لإرادة اليسر، وإنما أمركم بالقضاء تخفيفاً لكم من أجل إكمال عدة الصوم، وجبراناً لذلك النقص الحاصل بسبب هذا العذر.
@
"وقوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم كما قال: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [سورة البقرة:200]، وقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الجمعة:10]، وقال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ۝ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [سورة ق:39-40]، ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح، والتحميد، والتكبير بعد الصلوات المكتوبات، وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله ﷺ إلا بالتكبير".
من أهل العلم من يرى سنية الجهر بالذكر دبر الصلاة المفروضة استدلالاً بأثر ابن عباس، حتى إن بعضهم ألف في هذه المسألة رسالة مستقلة، ومن أهل العلم من يرى خلافه مستدلاً على ذلك بقوله - سبحانه -: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [سورة الأعراف:205]، وقوله : ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف:55]، وبأمر النبي ﷺ بخفض الصوت بالذكر لما كان الصحابة يرفعون أصواتهم في أسفارهم بالتكبير كلما علوا مرتفعاً من الأرض، أو بالتسبيح إذا هبطوا وادياً، وقال: إنكم لا تدعون أصمَّ، ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً...[14]، لكن الملاحظ أن الآية الأولى جاءت في الذكر العام، والثانية وردت في الدعاء، وأثر ابن عباس نص على أدبار الصلوات، وهذا مما يمكن الجمع، ويدفع توهم التعارض، وذلك بأن يقال: إن الأصل في الذكر خفض الصوت، ودون الجهر من القول، إلا ما وردت النصوص في استحباب رفع الصوت بالذكر فيه كتكبيرات العيد، وأيام التشريق، والتلبية، والذكر بعد الصلاة، وهذا خلافاً لمن قال: إن الأصل في الذكر ترك الجهر، وأطلق ذلك، وعممه على جميع النصوص، وواضح خطأ القول به؛ لأنه إهدار لمثل هذه الأحاديث.
وعند الشافعي جواز رفع الصوت بالذكر إذا كان في مقام التعليم، ويحمل عليه أحاديث رفع النبي ﷺ صوته بالذكر، إلا أنه لا دليل يؤكد ذلك، وعلى فرضية صحته فإن الناس في زماننا بحاجة إلى التعليم أكثر من زمان الصحابة، فيصعب اطراده لعدم انضباط المسألة، إذ قد يؤدي إلى التوسعة فيه، والخروج عن المقبول، والمعقول، وسد الذرائع أمر مقنن في الدين، والخلاصة أن غاية ما قيل في أمر رفع الصوت بالذكر أدبار الصلوات أنها من السنة، - والله تعالى أعلم -.
"ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [سورة البقرة:185] ".
من رأوا مشروعية التكبير مستدلين بهذه الآية، اختلفوا في بداية التكبير فذهب بعضهم إلى اعتبار رؤية هلال شوال، وهو قول كثير من أهل العلم، ويرون أن برؤية هلال شوال يكونون قد أكملوا عدة الشهر، ويشرع لهم عندئذ التكبير.
وذهب آخرون إلى أن بداية التكبير بعد صلاة فجر يوم العيد، وتستمر حتى يخرج الإمام إلى الصلاة، وقيل غير هذا.
والتكبير في عيد الفطر تكبير مطلق لا يتقيد بأدبار الصلوات، - والله أعلم -.
"وقوله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك". 
  1. رواه البخاري في كتاب الصوم - باب قول النبي ﷺ ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)) برقم (1810) (2/674)، ورواه مسلم في كتاب الصيام - باب، وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، وأنه إذا غم في أوله، أوآخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً برقم (1080) (2/762)
  2. رواه الترمذي برقم (697) (3/80)، وصححه الألباني في صحيح، وضعيف الجامع الصغير برقم (7316).
  3. رواه البخاري في كتاب الصوم - باب شهرا عيد لا ينقصان برقم (1813) (2/675)، ومسلم في كتاب الصيام - باب بيان معنى قوله ﷺ شهرا عيد لا ينقصان برقم (1089) (2/766).
  4. رواه أحمد في مسنده برقم (17025) (4/107)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1575)، وعلق عليه شعيب الأرنؤوط  بأنه حديث ضعيف تفرد به عمران القطان، وهو ممن لا يحتمل تفرده.
  5. رواه البخاري في كتاب الصوم - باب إذا صام أيام من رمضان ثم سافر برقم (1842) (2/686)، ورواه مسلم في كتاب الصيام - باب جواز الصوم، والفطر في شهر رمضان في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم، ولمن يشق عليه أن يفطر برقم (1113) (2/784)
  6. رواه مسلم في كتاب الصيام - باب جواز الصوم، والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم، ولمن يشق عليه أن يفطر برقم (1114) (785)
  7. سبق تخريجه.
  8. سبق تخريجه.
  9. رواه مسلم في كتاب الصيام - باب التخيير في الصوم، والفطر في السفر برقم (1121) (2/789).
  10. رواه الترمذي في سننه برقم (2040) (4/384)، وابن ماجه برقم (3444) (2/1140)، وحسنه الألباني.
  11. رواه البخاري في كتاب الصوم - باب الصوم في السفر، والإفطار برقم (1841) (2/686)، ورواه مسلم في كتاب الصيام - باب التخيير في الصوم، والفطر في السفر برقم (1121) (2/789).
  12. رواه البخاري في كتاب الأدب - باب قول النبي ﷺ ((يسروا، ولا تعسروا)) برقم (5774) (5/2269)، ومسلم في كتاب الجهاد، والسير - باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير برقم (1734) (3/1359)
  13. رواه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب ما يكره من التنازع، والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه برقم (2873) (3/1104)، ورواه مسلم في كتاب الجهاد، والسير برقم (1733) (3/1359).
  14. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير (2830) (ج 3 / ص 1091)، ومسلم في كتاب الذكر، والدعاء، والاستغفار - باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) (ج 4 / ص 2076).

مرات الإستماع: 0

"شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ، أو خبر ابتداء مضمر، أو بدل من الصيام".

بعضهم يقول: الشهر أصله من الشهرة، والاشتهار؛ ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -  يقول: بأن الواحد مثلًا إذا رأى هلال رمضان، ولم يخبر، لم يشهد بالرؤية، أو أنه شهد بذلك فلم تقبل شهادته، بأنه لا يصوم، إذا لم تُعتبر شهادته[1] باعتبار أن الشهر من الاشتهار، فمن رآه وحده، ولم تُعتبر رؤيته، فلا يكون ذلك دخولًا للشهر على رأي شيخ الإسلام، ومضى الكلام في الغريب ببعض هذه المواضع.

وقال بعضهم: إنه سمي بذلك من رمض الصائم إذا احترق جوفه من العطش.

وبعضهم يقول: باعتبار أنه يرمض الذنوب، كأنه يحرقها.

وبعضهم يقول: سمي باعتبار شدة الحر الذي كان فيه، حينما أطلق عليه ذلك، يعني كان في الصيف، في موسم الحر، فقيل له: رمضان - والله أعلم -.

فيقول: شَهْرُ رَمَضَانَ مبتدأ، والخبر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وبعضهم يقول: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هذه صفة، والخبر فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.

يقول: "أو خبر ابتداء مضمر" يعني المبتدأ مضمر، ويكون هذا شهر رمضان خبر. 

وبعضهم يقدر المبتدأ: تلك الأيام شهر رمضان، أو شهر رمضان هو شهر رمضان، فيكون المبتدأ (هو) أو بدل من الصيام كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ شهر رمضان.

"أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان، ثم نزل به جبريل على النبي ﷺ بطول عشرين سنة، وقيل: المعنى أنزل في شأنه القرآن: كقولك: أنزل القرآن في فلان، وقيل: المعنى ابتدأ فيه إنزال القرآن". 

قوله: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ جاء في حديث واثلة بن الأسقع وقد حسنه بعض أهل العلم، في نزول الكتب في رمضان، وليس القرآن فقط، قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاثة عشر خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع، وعشرين خلت من رمضان[2].

هذا بعض العلماء حسنه كالشيخ الألباني - رحمه الله -[3] وبعضهم يضعف هذا الحديث، لكن المقصود القرآن، فهذه الآية نص صريح على نزول القرآن في هذا الشهر.

والمقصود بهذا النزول شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ كما قال ابن عباس[4]: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا، في ليلة القدر من رمضان، وهذا حكى عليه القرطبي الإجماع[5] ولكن هذا الإجماع غير صحيح، هناك فمن أهل العلم من قال: بأن أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي: اُبتدأ فيه إنزال القرآن على النبي ﷺ .

ومن أهل العلم من جمع بين القولين، وهذا جيد، فقالوا: أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا، كما دل عليه أثر ابن عباس؛ وذلك مما لا يقال من جهة الرأي، فله حكم الرفع، وهو ثابت عن ابن عباس - ا - فالآية تتناول هذا، وكذلك ابتداء نزول القرآن في رمضان، حيث نزل عليه اقْرَأْ [العلق: 1] وكان ابتداء الوحي بالرؤيا الصالحة ستة أشهر، ثم جاءه الملك، وهو في غار حراء، فكان ابتداء نزوله أيضاً على النبي ﷺ في شهر رمضان، فصار ذلك يشمل هذا، وهذا - والله أعلم -.

وهناك من يقول بغير هذا، فمن السلف من يقول بأنه ينزل في كل رمضان ما سينزل في العام، وهذا غير صحيح، ولا دليل عليه، أما قوله هنا: بأنه نزل به جبريل على النبي ﷺ بطول عشرين سنة، هذا بناء على الخلاف في مكثه ﷺ قبل الهجرة بمكة، هل مكث عشر سنين، أو ثلاثة عشر سنة؟، وكلام أهل العلم في هذا معروف.

أما القول بأن المقصود: أنزل في شأنه القرآن فهذا غير صحيح إطلاقاً، فليس هذا هو المقصود، لكن القول بأنه ابتدئ فيه إنزال القرآن، هذا قال به بعض السلف، والقول الأول أشهر، ويمكن الجمع بينهما.

"هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى أي: أن القرآن هدى للناس، ثم هو مع ذلك من مبينات الهدى؛ وذلك أن الهدى على نوعين: مطلق، وموصوف بالبينات، فالهدى الأول هنا على الإطلاق، وقوله: وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى أي: وهو من الهدى المبين، فهو من عطف الصفات، كقولك: فلان عالم، وجليل من العلماء".

وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى يعني دلائل، وحجج بينة، واضحة جلية، لمن فهمها، لا تترك في الحق لبسًا، وتدل على صحة ما جاء به من الهدى، المنافي للضلال، والرَشد المنافي للغيم، ووَالْفُرْقَانِ فرق بين الحق، والباطل، وفصل بين الحق، والباطل، والحلال، والحرام، فهي توضح، وتجلي، وتفصل، وتفرق بين الحق، والباطل، وتبين الأحكام، وتجليها، وتبين ما يحتاج إليه الناس من براهين الإيمان، ودلائل الوحدانية، والبعث، وما أشبه ذلك مما يحتاج إليه الناس في سيرهم إلى الله - تبارك، وتعالى - والسير على صراطه المستقيم، وفيما يتصل بحقائق الآخرة، وأخبار الماضين، وما أشبه هذا وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فأهل الكتاب حرفوا، وبدلوا، وغيروا، واختلفوا، فجاء هذا الهدى الواضح الذي يُجلي الحق، ويبينه، فلا يدع فيه لبسًا.

"فَمَنْ شَهِدَ أي: كان حاضرًا غير مسافر، والشَّهْرَ منصوب على الظرفية".

 

فَمَنْ شَهِدَ أي من كان حاضرًا، مقيمًا، فهذا يجب عليه الصوم، بخلاف المسافر، وفَهِم منها بعض السلف أن من دخل عليه رمضان، وهو مقيم، فلا يجوز له الفطر إذا عرض له سفر فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ شهد دخول الشهر، فدخل عليه الشهر، وهو في حال الإقامة، ولكن هذا القول بعيد، ويرده ما صح عن رسول الله ﷺ في عام الفتح، حينما أفطر ﷺ فكان رمضان قد أدركه في المدينة، ثم خرج إلى مكة، فكان ﷺ صائمًا، فأفطر بعد العصر؛ ليتقوى بالفطر - والله أعلم -.

"والْيُسْرَ والْعُسْرَ على الإطلاق".

يعني يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ في كل ما شرّعه هذا معنى على الإطلاق وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ في كل ما شرّعه، والإرادة هنا إرادة شرعية، وليست إرادة كونية، ولو كانت إرادة كونية لتحتم وقوع المراد، فلم يلحق أحد عسر، لكن من الناس من يُلحق بنفسه العسر، وقد يتجشم الصوم، وهو في غاية المرض، أو في حال سفر يشق عليه الصوم مشقة عظيمة، ويتجشم، فالإرادة شرعية هنا، لا تقتضي تحقق، ووقوع المراد، فهذا حمله على الإطلاق أولى؛ لأن هذه الشريعة مبنية على اليسر.

"وقيل: الْيُسْرَ الفطر في السفر، والْعُسْرَ الصوم فيه".

وهذا يصلح أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فالأصل إن ذلك على الإطلاق في كل ما شرّعه.

"وَلِتُكْمِلُوا متعلق بمحذوف تقديره: شرع، أو عطف على الْيُسْرَ".

وَلِتُكْمِلُوا متعلق بمحذوف تقديره: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ يقول: عطف على اليسر، أو متعلق بمحذوف تقديره: شرع، أي: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ شرع لكم ذلك، والمقصود بالعدة عدة ما أفطر من شهر رمضان، بقضاء الأيام التي أفطرها، وعبارة ابن جرير قريبة من هذا: إكمال عدة ما أفطرتم[6] أو عدة الشهر، وبين القولين ملازمة، وهما متقاربان، لكن من دقق النظر بينهما فرق، فإذا أكمل عدة ما أفطر يكون قد أكمل عدة الشهر.

"الْعِدَّةَ الأيام التي أفطر فيها، ووَلِتُكَبِّرُوا التكبير يوم العيد، أو مطلق".

يُشرع التكبير إذا رؤي هلال شوال، من ليلة العيد، فهذا محمول عليه، كما كان التكبير مشروعًا في الحج، وكما جاء عن ابن عباس - ا -: كنت أعرف انقضاء صلاة النبي ﷺ بالتكبير[7] والمقصود بالتكبير هو الذكر بعد الصلاة. 

  1.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 461)، ومختصر الفتاوى المصرية (ص: 80).
  2.  أخرجه أحمد في المسند (28/ 191-16984)، وقال محققو المسند: "حديث ضعيف".
  3.  في صحيح الجامع (1/ 313-1497).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (15/ 115).
  5.  تفسير القرطبي (2/ 297).
  6.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 219).
  7.  أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة برقم (842)، ومسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة برقم: (583).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- بعد أن شرع الصيام، وفرضه على عباده، بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183] فكان ذلك من تيسيره وتسهيله، كما ذكرنا سابقًا بأن خفف عنهم، وخاطبهم في غاية التلطف باسم الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [سورة البقرة:183].

كما خففه عنهم بذكر كتْبه على الذين من قبلهم، فليسوا بأول من فُرض عليه الصوم، ثم ذكر لهم علته التي تبعثهم على المُبادرة إليه، فتخف عليهم مشقته؛ وذلك بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183] ثم خففه بعد ذلك بقوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:184] مدة قليلة، وهي شهر رمضان، ثم خفف عنهم، ويسر عليهم في البداية، حينما شرعه بأن لم يجعله لازمًا على كل مُكلف، وإنما شرعه على سبيل التخيير، فمن شاء صام، ومن شاء أطعم.

كما رخص أيضًا للمُسافر بالفطر، وكذلك المريض، فقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184] ولم يُقيد هذا المرض بنوعٍ من الأمراض، وإنما أطلقه، فمتى كان هذا المرض يشق معه الصوم مشقة مُعتبرة، أو أنه يتأخر معه البُرء، فإنه يُباح للإنسان الفطر، فينظم ذلك أنواعًا كثيرة من العِلل الموجودة في ذلك الوقت، وما يجد في المُستقبل.

وكذلك أيضًا السفر لم يُقيده بالسفر الطويل بعيد الشُقة، ولم يُقيده أيضًا بما يحصل معه المشقة الكبيرة المُعتبرة، وإنما قال: أَوْ عَلَى سَفَرٍ فالسفر بمُجرده هو مظنة للمشقة، فيجوز له الفطر ولو لم يحصل له شيء من المشقات، وما حصل من الوسائل بعد ذلك، كما نرى اليوم في وسائل النقل المُريحة، التي قد لا يحصل معها مشقة للمُسافرين، ومع ذلك يُباح لهم السفر، فهذا من رحمته -تبارك وتعالى.

وكذلك أيضًا من لُطفه ورحمته وتخفيفه أنه جعل القضاء غير مُقيد بوقت يُكافئ تلك الأيام في الطول أو القِصر أو الحر والبرد أو في شهر معين، أو بعد رمضان مُباشرة، فحينما ينقضي العيد، وإنما قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ في أي وقت في السنة له أن يصوم قضاء الصيف بوقت الشتاء، مع برد الهواء، وقِصر النهار، وله أن يتخير من الأزمان ما شاء، من شهور السنة وأيامها ومواسمها.

وكذلك أيضًا تأمل هذا التخفيف الآخر الذي أشرت إليه آنفًا وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [سورة البقرة:184] فعلى الأرجح من أقوال المفسرين أن المقصود بذلك أن غير المُسافرين والمرضى من ذوي الأعذار أنه يُباح للمُطيق للصوم أن يُفطر من غير علة ولا عُذر في أول شرع الصوم، ويخُرج فدية بدل الصوم، ولا يحتاج إلى القضاء، يُطعم مسكينًا واحدًا، هكذا كان شرع الصوم في أوله، لكنه أرشدهم إلى المُبادرة إلى الخيرات، فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [سورة البقرة:184] سواء كان ذلك من جهة الإطعام وهو أن يزيد على المسكين في المقدار الذي يُخرجه للمسكين، أو أن يزيد في عدد المساكين.

وكذلك أيضًا شرع لهم المُبادرة إلى الخيرات والفضائل والدرجات العالية، بقوله: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:184] يعني: أن الصوم خير لكم من الإطعام، فهو أفضل كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به [1] فالصوم من الصبر، والله يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة الزمر:10].

فيُؤخذ من هذه الآية من الفوائد: مشروعية التخفيف والتسهيل والتيسير في المطالب الشاقة، فإذا كان ربنا -تبارك وتعالى- وهو العزيز الحكيم حينما شرع هذه العبادة الشاقة تلطف بالعباد، وخاطبهم بهذا الخطاب، ويسر وسهل عليهم هذه العبادة بهذه الوجوه من التسهيل، ورغبهم فيها بمرغبات متنوعة، فهكذا يُؤخذ منه أن من يُطالب غيره بأمر يشق عليه أن يتلمس وجوه التيسير، وأن يتلطف بالخطاب، وأن يُخفف من وطأة ذلك عليه، سواء كان ذلك في الأهل والأولاد، أو كان ذلك في الأعمال التي تُناط بالآخرين، مما نُكلفهم به، أو غير ذلك.

ولاحظ هنا جمع القِلة أَيَامًا مَعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:184] فالأيام هذه جمع قِلة، فعُبر عن الشهر بالأيام، كل ذلك للتسهيل والتخفيف، وذكر العدد مَعْدُودَاتٍ وهذه أيضًا جمع قِلة، والشيء الذي يُعبر عنه بمثل هذا أَيَامًا مَعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:184] يدل على يسره وقلته، فهو شيء يحتاج إلى قليل من الصبر، ثم بعد ذلك يمضي، وكل ذلك للتخفيف على المُكلفين، والتسهيل عليهم.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: أَيَامًا مَعْدُودَاتٍ [سورة البقرة:184] سرعة انقضاء الشهر، وكثير منا يتأسف حينما يقرُب رحيل الشهر، ويشعر أنه قد مضى من بين يديه، وتفلت ولم يقض منه نهمته، ولم يستغل الأوقات والساعات من هذا الشهر الاستغلال اللائق به، فنُفرط وتفوت الأيام فينتصف الشهر، ثم بعد ذلك يرتحل فنأسف على رحيله، فهذا يدعو أهل الإيمان إلى الجد والاجتهاد في استغلال لحظات هذا الشهر، والعمر هكذا كله -أيها الأحبة- يمضي سريعًا، وتمضي السنون، وأصبحنا نُخطئ في عدها، وفي حساب الأيام والشهور والأعوام وما يجري فيها، فيلتبس علينا ما كان قبل أربعة أعوام، وما كان قبل عشرة أعوام، ولا ندري ربما ما هو الأول من ذلك، ونُفاجأ أن الأمر الفلاني قد مضى عليه عشر سنوات كأنها ليلة، والموفق من وفقه الله -تبارك وتعالى- لاستغلال الأنفاس واللحظات في طاعة مولاه .

فهذه التخفيفات والتيسير كل ذلك مما يُستدل به على أن المشقة تجلب التيسير، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184] وهذه من القواعد الخمس الكُبرى المعروفة في الشريعة.

وقوله -تبارك وتعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184] يدل في القضاء من جهة حكمه أن من أفطر رمضان يقضي بقدره، وإذا كان رمضان مُكتملاً، فإنه يقضي ثلاثين يومًا، وإذا كان الشهر ناقصًا فإنه يقضي تسعة وعشرين يومًا؛ لأنه لم يقل: فشهر مكانه، وإنما قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184] وهذا يشمل من أفطر الشهر بكماله، ومن أفطر بعضه، كما يدل ذلك أيضًا على أنه يتخير في القضاء، فله كما ذكرت أن يقضيَ الأيام الطويلة إذا كان رمضان في موسم الصيف، في فصل الشتاء، حيث قِصر النهار، فإن الله -تبارك وتعالى- اعتبر الأيام فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184].

ويُؤخذ من هذا أيضًا جانبًا تربويًا، وهو مشروعة التدرج للترقي إلى الوصول إلى المراتب العالية، والأعمال والعبادات التي تحتاج إلى توطين النفوس عليها، سواء كان ذلك في الإنسان مع خاصة نفسه، أو كان ذلك مع غيره، فمن الناس من ربما يغلب عليه الاندفاع في لحظات إشراق للنفس، فيريد أن يقوم ليلاً طويلاً، وأن يصوم يومًا، وأن يُفطر يومًا، وأن يختم كل ثلاث، ثم ينقطع، لكن لو أنه يتدرج، فمن لم يكن له عهد بقيام الليل، فإنه يمكن أن يُصلي وقتًا يستطيع أن يستمر عليه، ثم يزيد بعد ذلك حينما تتوطن نفسه على هذا، فإذا توطنت نفسه على ما بعده ترقى بها إلى مرتبة فوق ذلك، حتى يوطن النفس عليها، ثم يرفعها بعده، وهكذا فيجد نفسه يصل إلى مراتب عالية، وقل مثل ذلك فيمن لا عهد له بالصوم، أعني صوم التطوع، فيمكن أن يبتدأ بشيء لا يشق، كصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثم يصوم يومًا في الأسبوع، ثم يصوم يومين، ثم له بعد ذلك أن يصوم يومًا، وأن يُفطر يومًا، وهكذا في قراءة القرآن، وغير ذلك، يُدرجها بهذه الطريقة، فيبدأ بجزء في كل يوم، فإذا توطنت نفسه عليه، وصار عادة له لا يُخل بها، انتقل إلى ما هو أكثر من ذلك، شيئًا فشيئًا، حتى يختم في سبعة أيام، أو فيما هو أقل من ذلك.

وهكذا أيضًا يُؤخذ من هذه الآية تفاضل الأعمال وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة:184] فدل على أن الصوم أفضل من الإطعام، ومعلوم على أن هذه الآية على الأرجح نُسخ ذلك منها، فصار الصوم لازمًا بما ذكر الله بعده: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة:185] فصار الصوم حتمًا لازمًا على كل مُكلف مُقيم غير معذور كالمريض.

وحذف المعمول في قوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:184] أي: إن كنتم من ذوي العلم الذي يحصل به الميز بين الأنفع والأرفع والأفضل؛ وذلك من بلاغة القرآن، حيث يختصر الكلام الذي يكون معلومًا لدى المُخاطبين، وهو كثير في كتاب الله -تبارك وتعالى. 

 

يقول الله -تبارك وتعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:185].

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة:185] أُنزل فيه القرآن باعتبار أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، فهذا محمله عند طائفة من أهل العلم، أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي: إلى السماء الدنيا، وبعضهم يقول: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي: اُبتدئ إنزاله على النبي ﷺ في شهر رمضان، وإلا فمعلومٌ أن القرآن أُنزل في شهور العام، ولم يقتصر نزوله على شهر رمضان، فهذان قولان مشهوران، وقد جمع بعض أهل العلم بين القولين: بأن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في رمضان، في ليلة القدر، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [سورة الدخان:3] إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1] فالليلة المُباركة هي ليلة القدر، وهي من شهر رمضان، كما قال هنا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فهذا جمع بين القولين: أنه نزل جملة إلى السماء الدنيا في رمضان في ليلة القدر، واُبتدئ إنزاله أيضًا على النبي ﷺ كذلك في رمضان.

وأما قول من قال بغير ذلك، فلا حاجة لذكره، يعني: هناك من فسر الآية بغير هذا، ولا حاجة إلى إيراده، لكن شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هداية للناس يهديهم إلى الحق والطريق الواضح المستقيم، وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [سورة البقرة:185] جعله الله بينات تكشف عن الحق وتُجليه، ولا تجعل فيه لبسًا، فهو في غاية الوضوح.

وكذلك أيضًا بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى هداية في التعريف بالمعبود، وبراهين وحدانيته، وما إلى ذلك مما يُحتاج إليه في هداية الخلق، فهو مُضمن بهذا القرآن، وكذلك الفرقان فهو يفرق بين الحق والباطل، ويفصل بين الحق والباطل؛ ولهذا كان من أسمائه الفرقان، فهو الفارق بين معدن الحق، ومعدن الباطل، يفرق بين الهدى الذي جاء به الرسول ﷺ والضلال الذي يتقوله أهل الجهالة والضلالة.

يقول الله -تبارك وتعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة:185] وشهود الشهر: أن يُدرك الشهر فيدخل عليه رمضان وهو مُقيم صحيح غير معذور، فهنا يجب عليه الصوم فَلْيَصُمْهُ وهذا على قول طائفة من أهل العلم نسخ؛ لقوله تعالى في الآية التي قبلها: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [سورة البقرة:184] على القول بأن المراد بقوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [سورة البقرة:184] يعني: يُطيقون الصيام، لكن كان على التخيير في أول شرع الصوم من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينًا، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

فهنا حتم الصوم فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ولم يُرخص للقادرين بالفطر، وإنما يجب على الجميع الصيام، وكان ذلك من التدريج في فرض هذه العبادة، ثم بقيت الرُخصة للمريض والمسافر، وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:185] المرض -كما ذكرنا في الليلة الماضية- الذي يحصل معه مشقة مُعتبرة غير مُعتادة بسبب الصوم، فالشريعة جاءت بالتوسعة والرحمة والتيسير، وكذلك فيما لو كان الصوم يُؤدي إلى تأخر البُرء فإنه يجوز له أن يُفطر.

وقلنا: إن السفر يُباح به القصر ولو كان مريحًا، بصرف النظر عن الأولى والأفضل، يعني هي رخصة، لكن أيهما أفضل؟ هل الصوم في السفر أفضل أم الفطر؟ من أهل العلم من أطلق، فقال: الصوم رُخصة، والله يُحب أن تؤتى رُخصه كما يُحب أن تؤتى عزائمه، إلى غير ذلك مما يستدل به من يقول بأن الفطر مُطلقًا أفضل، بل بالغ بعض الظاهرية كأبي محمد بن حزم -رحمه الله- فقال: إن الصوم لا يُجزئه في السفر؛ لأن الله أوجبه على من شهد الشهر، ولم يكن مريضًا، أو على سفر، أما من كان مريضًا، أو على سفر، فقال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، يعني: لا ينفعه صومه، وهذا الكلام غير صحيح، والذي عليه الجماهير من السلف فمن بعدهم هو أنه إن صام في السفر أجزأه، لكن يبقى أيهما أفضل؟

فالبعض أطلق بأن الصوم أفضل، وقالوا: هذا مُبادرة إلى إبراء الذمة، وأسهل على المُكلف أنه يصوم مع الناس، ويكون في وقت شريف، وهو رمضان؛ لأنه لن يقضي في وقت مثله، اللهم إلا إذا قضى في عشر من ذي الحجة لشرفها.

وبعضهم فصل -وهذا قريب- فقالوا: إن كان الصوم لا يشق عليه فالصوم أفضل؛ للأسباب التي سبقت، وقالوا: النبي ﷺ كان يصوم "وما فينا صائم إلا ما كان من النبي ﷺ، وابن رواحة" [2]  وهذا في التطوع في السفر، مع أنه قال: ليس من البر الصيام في السفر [3]  لكن قالوا: هذا قاله في مناسبة، وهو أنه وجد رجلاً يُظللونه، فسأل عنه، قالوا: صائم، يعني: كأنه أُغمي عليه، أو أُجهد فلحقه مشقة غير مُحتملة، فقال: ليس من البر الصيام في السفر [4].

وكذلك لما كان النبي ﷺ يتهيأ لفتح مكة، وكان في رمضان، فأفطر النبي ﷺ لما قيل له: إن الصوم شق على الناس، أو يُشق عليهم، وسيلقون عدوهم، فأفطر ﷺ للتقوي على ذلك، فلما بلغه أن بعضًا بقي على صومه، قال: أولئك العُصاة [5] فهذا في حالة خاصة، وهي أنهم سيواجهون عدوًا محتملاً في المعركة، وإلا فهؤلاء يقولون: إن لم يشق عليه الصوم فالصوم أفضل في السفر: لأنه إبراءً للذمة، وفي وقت شريف، ويصوم مع الناس، ويكون أسهل له، وإن كان الصوم يشق عليه مشقة مُحتملة فالفطر أفضل، وإن كان الصوم يشق عليه مشقة غير مُحتملة، أو يحصل معه الهلاك، أو المرض، كإنسان يُغمى عليه، أو نحو هذا، قالوا: يحرم عليه الصوم في هذه الحالة؛ لأن الإنسان لا يجوز له أن يتصرف بتصرفات تُؤدي به إلى التلف، أو العِلة، والمرض، وما جعل الله علينا العسر في هذه الشريعة، هذا معنى يُسر الشريعة، وليس معنى ذلك أن الإنسان يخرج ويتعدى حدود الله ويفعل ما يحلو له من الحرام، ويقول: الدين يُسر، فليس هذا هو المراد، فمن فعل ذلك فقد ظلم نفسه.

ثم قال الله  هنا: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184] ولم يُحدد، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة:185] هذه الإرادة هي إرادة شرعية، وليست بإرادة كونية؛ لأنها لو كانت إرادة كونية لحصل المراد قطعًا، ولم يلحق أحد مشقة، ولا عُسر، لكن نحن نشاهد بعض الناس يتجشم الصوم في السفر، وفي المرض، ويلحقه مشقة كبيرة جدًا، وربما تخرج نفسه وهو مُصر على أن لا يُفطر، فهذا لحقه مشقة، فلو كانت الإرادة كونية فإن مقتضاها يجب أن يتحقق في الكون ويقع ولا تتخلف، لكن الإرادة الشرعية أراده دينًا وشرعًا، فشرع لنا ما فيه اليُسر والسهولة والتخفيف، فهذه إرادة شرعية، يُحب الله مُقتضاها، ولكن لا يلزم تحقق ذلك، مثل أن الله أراد منا الصيام، وأراد منا الصلاة، فمن الناس من يصوم، ومن الناس من لا يصوم، هذه إرادة شرعية، لكن الإرادة الكونية يجب أن تتحقق.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [سورة البقرة:185] عدة الصوم، تصوموا شهر رمضان، إما في إبانه، وإما بأن تقضوا ما أفطرتم من أيامه بعد ذلك، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184].

وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ [سورة البقرة:185] تكبروه فهو أكبر من كل شيء عَلَى مَا هَدَاكُمْ هداكم إلى الإيمان والإسلام، وجعلكم من خير أمة أخرجت للناس، هداكم إلى الصيام هداية إرشاد، فبيّن لكم شرائع الدين، وبيّن لكم ميقات الشهر الكريم، فهذه كلها هداية إرشاد، وبيّن لكم تفاصيل الصيام، وأحكام الصوم، وكذلك هداية التوفيق، حيث وفقكم للإسلام، وهدى قلوبكم إلى طاعته، والاستجابة لمرضاته، ووفقكم لصيام الشهر، وقد حُرم منه من حُرم: إما لعجز عن ذلك، أو لكونه لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يُراعِ حدود الله، وأنتم وفقكم وهداكم هداية توفيق للصوم، فهذه نعمة عظيمة يفرح بها أهل الإيمان، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:185] تشكرون على هذه النِعم والهدايات التي حُرم منها الكثيرون، هذا المعنى العام للآية.

ويُؤخذ من قوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ الارتباط بين رمضان والقرآن، فالقرآن كتاب الهداية، ورمضان شهر القرآن والصيام، فهناك ارتباط وثيق بين رمضان والقرآن، ومن هنا فإن القلوب ينبغي أن تُقبل على تلمس الهداية في شهر رمضان ما لا تُقبل في غيره، وإن كان ذلك مُتاحًا في سائر أوقات السنة، الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ كتاب الهداية أُنزل في هذا الشهر؛ ولذلك ألمح إلى هذا بقوله: هُدًى لِلنَّاسِ فهنا يحصل الاتصال، والتعلق والارتباط بالله -تبارك وتعالى- في هذا الشهر الكريم، حيث إن هذا الشهر وقت تنزل القرآن الكريم الذي قد تضمن ألوان الهدايات.

كذلك أيضًا الصيام له ارتباط بالقرآن، فينبغي أن يكون قلب الصائم محلاً قابلاً للقرآن والهدى الذي تضمنه القرآن، فينغي أن تُنقى القلوب وتُصفى لتلقي هذه الهدايات، فالصوم مظنة لذلك، والشهر مضنة لذلك لما فيه من تنزل القرآن؛ ولما فيه من تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، فأبواب الهداية مُشرعة، والموفق من وفقه الله -تبارك وتعالى.

ونزول القرآن في شهر رمضان كان بنزول: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [سورة العلق:1] وعلى القول الآخر: بنزوله إلى السماء الدنيا قبل نزول (اقرأ) فهذا قبل شرع الصوم؛ لأن الصوم -كما هو معلوم- لم يُشرع إلا بعد الهجرة إلى المدينة، إذًا هذا شهر القرآن قبل أن يكون شهر الصيام، فينبغي العناية بكتاب الله -تبارك وتعالى، والإقبال عليه، وأن يُعمر الليل والنهار بقراءة كتاب الله وتدبره، والتفكر بمعانيه، وما تضمنه من الهدايات.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا: فضل شهر رمضان، وأن الله جعله وقتًا لنزول القرآن شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فاختياره عن علم، والله يخلق ما يشاء ويختار، فيختار من الأزمان ما يريد، فاختار رمضان على سائر الشهور، واختار عشره الأخير على سائر لياليه، واختار ليلة القدر على ليالي العشر، وهكذا اختار من البِقاع المسجد الحرام، واختار مكة، وكذلك اختار المدينة مُهاجرًا لنبيه ﷺ إلى غير ذلك مما هو معلوم، وهكذا اختيار الذوات والأشخاص، فاختار الرسل -عليهم الصلاة والسلام، واختار منهم الخليلين: إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام، واختار هذه الأمة لتكون الأمة الخاتمة للأُمم، وأفضل الأمم، وهم الآخرون السابقون يوم القيامة، وهم أمة وسط، جعلهم الله شهداء على الناس، وجعلهم عدولاً خيارًا، يشهدون على سائر الأمم يوم القيامة.

وحينما ذكر الله تعالى هذا القرآن هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ أطلق فقال: هُدًى لِلنَّاسِ، وفي سورة البقرة قال: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] هو هدى لجميع الناس، لكنه خص المتقين هناك في أول السورة -كما ذكرنا- لأنه إنما يهتدي وينتفع به المتقون، وقلنا هناك: إن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فبقدر التقوى يزيد الاهتداء بالقرآن، فيكون للعبد من الاهتداء بقدر ما عنده من التقوى، فالتقوى والاهتداء بكتاب الله هذا كله يحتاج إلى قلب قابل، وهذا القلب القابل هو القلب الذي يكون زكيًّا نقيًّا نظيفًا طاهرًا؛ ليصلح فيه التفكر والاتعاظ والاعتبار والانتفاع بكتاب الله ، كما ذكر شيخ الإسلام، وهو مذكور قبله أيضًا لبعضهم في قول النبي ﷺ: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة [6] قال: كذلك القلوب إذا كانت تحمل أخلاق الكلاب، فإن الملائكة لا تدخلها بالمعاني الطيبة[7] وفي قوله -تبارك وتعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [سورة الواقعة:79] ذاك الذي قال الله عنه: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس:13-16] فإذا كان الذي في السماء لا يمسه إلا المطهرون، وهي الأرواح الطاهرة، يقول شيخ الإسلام: فكذلك الذي بين أيدينا لا تدخل معانيه، ولا تنال هداياته إلا القلوب الطاهرة [8].

فكل الفضائل والمدح الذي يُذكر كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- للقرآن، هدى، وبينات... إلى آخره، فإن ذلك يرجع إلى شهر رمضان [9] لأن الله قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فهذه الفضائل المُجتمعة تدل على شرف الزمان الذي اُختير لنزوله. 

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:183-185] بلغنا هذا الموضع من آيات الصيام.

فيُؤخذ من هذه الآية قوله -تبارك وتعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فإذا كان الله -تبارك وتعالى- لا يريد فيما أمرنا به ما يعسر علينا، فكيف يُريد ما يكون ضررًا، وفسادًا لنا؟!

يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ قدّم هنا الجار والمجرور المُتعلق بالمكلفين مما يدل -والله تعالى أعلم- على العناية بهم، وأن هؤلاء هم المقصود بالتيسير والتسهيل والتخفيف يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فإذا كان فيما كلفنا به يُريد اليُسر، فكيف يتوهم أحد أنه يُريد الضرر ، فكل ما شرعه الله لعباده فهو خير لهم، ولو أن الأفهام لم تبلغ في مداركها حكمة الله -تبارك وتعالى- في بعض التشريعات، فينبغي على المؤمن أن ينقاد ويُسلم، وأن يستحضر هذا المعنى جيدًا، وأن الله -تبارك وتعالى- يُريد بعباده اليُسر، ولا يُريد بهم العُسر، فتشريعاته -تبارك وتعالى- كلها في غاية الحكمة، وهي مما يدخل في طوق العباد، مما يُطيقون، فلم يُكلفهم بما يعسر عليهم، أو يلحقهم بسببه مشقة وكُلفة غير معهودة، فيكون ذلك عسيرًا عليهم.

وهكذا أيضًا يُؤخذ من قوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ إثبات صفة الإرادة لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته، وإثبات التعليل والحكمة في أفعال الله ، فهو في هذا التشريع بهذه الصفة يريد اليُسر، ولا يُريد العُسر.

فهنا في هذه الآية لما شرع الصوم، وجعله لازمًا على القادرين من غير تخيير، كما في الآية التي قبلها، وهذا لا يخلو من مشقة على المكلفين، ومع ذلك قال بعدها: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فيُؤخذ من هذا أن اليُسر هو ما شرعه الله لعباده، لا أن يكون اليُسر بالخروج من ربقة التكليف، وأن تُنتهك حدود الله، وأن تُضيع محارمه بحجة أن الدين يُسر؛ ولهذا لما شرع الله هذا التشريع قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ فاليُسر هو في لزوم ما شرعه، وأمر به، وجاء السياق بهذا التركيب يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ قد يقول قائل، أو يفهم أحد: أن الله يُريد اليُسر، وهذا اليُسر قد يُداخله شيء من العُسر، فجاء النفي وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فشرعه -تبارك وتعالى- مبني على التيسير؛ ولهذا كان من القواعد الخمس الكُبرى: أن المشقة تجلب التيسير، ورفع الحرج أيضًا، وما يدخل تحت ذلك من القواعد المتنوعة، مثل: إذا ضاق الأمر اتسع، ونحو ذلك.

وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ يقول ابن عباس -رضي الله عنهما: "حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يُكبروا الله، حتى يفرغوا من عيدهم" [10] لأن الله تعالى يقول: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ إكمال عدة رمضان، ثم التكبير برؤية هلال شوال، فيكون التكبير مشروعًا إذا رُؤي هلال شوال، يعني من ليلة العيد، فيكون هذا التكبير شِعارًا للمسلمين، ترتفع به أصوات الرجال في مساجدهم ومجامعهم وأسواقهم وطُرقاتهم، ونحو ذلك، فهذا التكبير مطلوب.

وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ فينبغي أن يكون ذلك شعارًا وظاهرًا يرفع المؤمن صوته به، وهكذا مُصلى العيد، حتى يخرج الإمام، فيُكبر الناس في طريقهم إلى العيد، فلما كان العيد موضع الفرح والسرور والبهجة، وكان مما رُكب في طبع النفوس أنها قد تتجاوز في أحوال الفرح الحد الذي رُسم لها، إما غفلة، وإما بغيًّا، جاء الأمر هنا بالتكبير: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ففرحة العيد لا تحمل على معصية الله -تبارك وتعالى، وتجاوز حدوده، وإنما يتذكر المؤمن أن الله أكبر من كل شيء، فهو أكبر من مطلوبات النفس، ومن شهواتها، ومحبوباتها، وأكبر من لذاتها، وأكبر من محابه، وأكبر من الناس أجمعين، فيخافه، ويلزم طاعته في العيد، وفي غير العيد، فالله -تبارك وتعالى- أكبر من كل شيء، فيمتلأ القلب من إجلاله وتعظيمه ومهابته والخوف منه دون ما سواه.

ولاحظوا هذا التعقيب: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فهذا التكليف فيه مشقة، وهو الصيام، فهنا ناسب أن يُعقب بترجي التقوى، إذا كان تيسيرًا ورُخصة ناسب أن يُعقب بترجي الشكر، ففي الآية الأولى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني بالصوم، وهنا لما كان هذا الموضع موضع ذكر التيسير عقبه بالشكر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فرخص للمريض والمسافر الفطر، وذكر صراحة أنه يُريد بعباده اليُسر، ولا يُريد بهم العُسر، فهذا يقتضي شُكره على ذلك، وشكره على هدايته -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

وحينما نتأمل أيضًا قوله -تبارك وتعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على ما هداكم، هداكم لماذا؟ هداك للإسلام، وللشهر، ولتفاصيل الأحكام المُتعلقة بالصيام وغيره، هداك لذاك كله هداية إرشاد، وهداية توفيق: أن صمت الشهر طائعًا مُنقادًا، فهنا يتلاشى الالتفات إلى النفس والعُجب والزهو، ورؤية العمل، وإنما يستحضر فضل الله -تبارك وتعالى- عليه أن الله هو صاحب الفضل والمنة، فهو الذي هدى، ومن ثَم فإن العبد مهما فعل في صومه، وجد واجتهد بقراءة القرآن والصدقات وقيام الليل، وما إلى ذلك، هو يتذكر أن الله هو الذي هداه لذلك، فيحتاج إلى أن يشكر على كل عبادة وهداية هداه الله إليها، ومن هنا لا محل إطلاقًا للغرور والإعجاب بالنفس، والإدلال بالعمل على الرب -تبارك وتعالى، فما منك شيء، وإنما الفضل لله وحده، وانظروا إلى الأنصار حينما خاطبهم النبي ﷺ: ألم أجدكم ضُلالاً فهداكم الله بي [11]  إلى آخر ما ذكر -عليه الصلاة والسلام- فكانوا يقولون: لله المن والفضل، وهكذا يكون المؤمن، ينبغي ألا يلتفت إلى عمله وجُهده وبذله، وإنما يلتف إلى أن الله قد هداه وحباه ووفقه، فهو يحتاج إلى شكر لتثبت هذه النِعم، وتُستجلب الزيادة.

ويتضح مما سبق أن هذه الهداية تشمل هداية العلم بالأمور التي ذكرناها، وهي هداية الإرشاد إلى الشهر، وإلى أحكام الصوم، وأيضًا هداية التوفيق، وهي هداية القلوب، فتكون عاملة بطاعة الله، مُستجيبة لأمره، فمن صام رمضان، وأكمله، تحققت فيه الهدايتان، هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه [12]  وقال: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء [13]  فكم من محروم من ذلك كله؛ لأنه لم يُهد للإسلام، وكم من محروم من ذلك لكونه لم يوفق للصيام والقيام، بل انتهك حدود الله -تبارك وتعالى، وأفطر من غير عذر، ولم يُراعِ حرمة الشهر.

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تقومون بشُكره -تبارك وتعالى، و(لعل) هنا -كما عرفنا- للتعليل، أي: من أجل أن تشكروا الله -تبارك وتعالى، أن نشكره على إرادة اليُسر بنا، وأن نشكره على أنه لا يُريد بنا العُسر، وأن نشكره على إكمال العدة، وأن نُكبره على ما هدنا، فهذه كلها نِعم تتطلب شكرًا، والشكر هو ظهور أثر النِعمة على المُنعم عليه بالقلب باستحضار النِعمة، وباللسان باللهج بذكرها وذكر المُنعم، وكذلك بالجوارح بالعمل بطاعة الله -تبارك وتعالى، واجتناب مساخطه؛ ولهذا يقول الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المُحجبا[14]

يعني: يقول لمن تفضل عليه، وأحسن عليه، أفادكم هذا الإحسان إلي ثلاثة أشياء: يدي، فصارت تعمل بالخدمة، ولساني: بالثناء، والضمير المُحجبا: بقيام ذلك في القلب.

وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ من نظر إلى الثمرات العظيمة المُترتبة على الصيام مع أنه عبادة شاقة، يجد المصالح التي تتحقق منه من تهذيب النفوس والأرواح، وإصلاح القلوب والجوارح، مما مجموعه حصول التقوى، ويُدرك أن هذه نعمة عظيمة، وأن شهر رمضان هو شهر تهذيب خاص، تُصقل فيه القلوب والأرواح، ويتزود فيه العاملون، وقد هُيئت لهم فيه الأسباب بشهر تتنزل فيه الرحمات، وتُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُصفد الشياطين، فهو شهر أُنزل فيه القرآن، فضله الله على شهور العام، فهو نعمة؛ ولهذا جاء في الحديث: ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له [15] جبريل يقول ذلك للنبي ﷺ، والنبي ﷺ يؤمن على قوله.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم برقم: (1904) ومسلم في الصيام، باب فضل الصيام برقم: (1151).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر برقم: (1945) ومسلم في الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر برقم: (1122).
  3. أخرجه الترمذي في أبواب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في السفر برقم: (710) وأبو داود في كتاب الصوم، باب اختيار الفطر رقم: (2407) وابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في الإفطار في السفر رقم: (1664) وأحمد برقم: (23681) وصححه الألباني.
  4. سبق تخريجه.
  5. أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم، ولمن يشق عليه أن يفطر برقم: (1114).
  6. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء، آمين فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه برقم (3225) ومسلم في اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان برقم: (2106).
  7. شرح حديث النزول (ص: 169).
  8. شرح حديث النزول (ص: 169).
  9. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 501).
  10. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 479).
  11. أخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه برقم (1061).
  12. أخرجه سنن الترمذي في أبواب الدعوات برقم (3522) وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم باب فيما أنكرت الجهمية برقم: (199) وصححه الألباني.
  13. أخرجه الترمذي في أبواب القدر باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن برقم (2140) وصححه الألباني.
  14. البيت في غريب الحديث للخطابي (1/ 346) وربيع الأبرار ونصوص الأخيار (5/ 277) بلا نسبة.
  15. أخرجه الترمذي في أبواب الدعوات برقم: (3545) وقال الألباني: "حسن صحيح".