يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [سورة البقرة:186].
وإذا سألك أيها النبي عبادي عني فقل لهم: إني قريب منهم، أجيب دعوة الداعي إذا دعاني، فليستجيبوا لي بالإيمان والطاعة والانقياد والإذعان؛ وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون، يعني: يهتدون إلى ما فيه نفعهم وصلاحهم في دنيهم ودنياهم.
فمن الهدايات التي تُؤخذ من هذه الآية: أن آية الدعاء جاءت في وسط آيات الصيام، فبعدها حديث عن الصيام، وقبلها حديث عن الصوم، فهذا يدل -والله تعالى أعلم- كما ذكر جمع من أهل العلم بأن الدعاء في رمضان له مزية، وأن الدعاء مع الصيام له مزية؛ ولهذا قال النبي ﷺ: للصائم دعوة مُستجابة ولاحظ دعوة هنا نكرة في سياق الإثبات، والنكرة في سياق الإثبات بمعنى المُطلق، يعني غير مُحددة بوقت معين، فطالما أنه صائم فمنذ أن يُمسك إلى أن يُفطر له دعوة مستجابة.
فالدعاء -كما هو معلوم- له أحوال يُستجاب بها كالصوم، وله أوقات كالأسحار، وبين الأذان والإقامة، وله أيضًا مواضع وأماكن حري أن يُستجاب للدعاء فيها، كما لا يخفى، فهنا دلت هذه الآية على أن رمضان له مزية، فالآيات تتحدث عن رمضان وعن الصيام، وكذلك الصوم ولو كان في غير رمضان ثلاث دعوات لا ترد دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر يعني: في أي وقت دعا في أول النهار، أو في وسطه، أو في آخره، لكن بالحديث: وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه هذه فرحة وليست دعوة.
وأما ما ورد: للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة فإن ذلك لا يصح فيه الحديث عن رسول الله ﷺ، فالرواية ضعيفة، وإنما وقت الصوم هو وقت للدعاء، حري بأن يُجاب دعاء الصائم، والله -تبارك وتعالى- هنا لم يُقيد الدعاء في حال الصيام، بل ذكر أنه قريب، ولم يقل: وإذا دعاك عبادي الصائمون، فإني قريب أُجيب دعوة الداعي إذا دعان، وإنما قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة:186] فقربه -تبارك وتعالى- من الصائمين ومن غير الصائمين في رمضان وفي سائر شهور العام، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [سورة البقرة:186].
وتأمل هذه النسبة وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي [سورة البقرة:186] فأضافهم إليه، فهذا يقتضي التشريف، فهؤلاء أهل العبودية الخاصة، وهم أهل الإيمان، وأهل الاستجابة والطاعة، فأضافهم إليه، فهذه الإضافة تقتضي تشريفًا وخصيصة لهؤلاء؛ لأن العبودية كما نعلم عبودية خاصة، وهي لأهل الإيمان، وعبودية عامة، وهي لجميع الخلق، فكل من في السماوات والأرض عبد لله -تبارك وتعالى، ومملوك له، والعبودية كما نعلم منها عبودية قهر، فهذه لجميع الخلائق حتى الكفار، والعبودية الثاني هي عبودية اختيار وهذه عبودية أهل الإيمان الذين سلكوا طريق الإيمان والطاعة والعبادة.
ولاحظ هذا التعبير وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] فإني قريب، فكان هذا هو الجواب، فالله -تبارك وتعالى- قريب يسمع دعوتك، ولو كنت تُناجيه بحيث لا يسمعك من بجوارك، وهو قريب -تبارك وتعالى- قُربًا خاصًا من الداعين، فقُربه -تبارك وتعالى- من البعد منه ما هو قُرب عام، ومنه ما هو قُرب خاص، فالله -تبارك وتعالى- ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له .
وكذلك أيضًا ينزل عشية عرفة، والعشي يكون من بعد زوال الشمس، يعني: من بعد الظهر، هذا وقت العشي، وقربه -تبارك وتعالى- الخاص من الداعين الذين يسألونه، فلا تحتاج المسألة إلى أن تنتظر، أو إلى أن تترقب طويلاً، أو نحو ذلك، وإنما عليك أن ترفع يديك وتدعو فهو قريب من الداعين، فالله -تبارك وتعالى- قريب ممن دعاه، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] وقد جاء عن بعض السلف: "مفتاح البحار السُفن، ومفتاح الأرض الطُرق، ومفتاح السماء الدعاء" .
يعني: إذا أراد الإنسان أن يسلك طريقًا في البحر، فالسُفن هي معوله، وإذا أراد أن يسلك طريقًا في البر، فالطُرق توصله إلى مطلوبه، وإذا أراد أن يطرق باب السماء، فإن ذلك لا يتوصل إليه بسفينة ولا بطائرة، ولا يتوصل إليه بمزاولات يعملها العبد ليصعد، وإنما يكون ذلك بدعائه وسؤاله -تبارك وتعالى، فهذا قُربه الخاص، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن.
وقد تكلمنا على هذا الاسم الكريم في الكلام على الأسماء الحسنى، وقلنا: إن مما يدخل في معنى الباطن: القُرب، فهو الظاهر ليس فوقه شيء، وهو الباطن ليس دونه شيء، فهو أقرب إلى العبد من عُنق راحلته، كما قال النبي ﷺ لما رفع أصحابه أصواتهم بالذكر عندما صعدوا على مُرتفع كبروا بأصوات مرتفعة، وإذا نزلوا سبحوا بأصوات مرتفعة، فأمرهم أن يربأوا على أنفسهم، وعلَّل ذلك بقوله: أيها الناس اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم ما تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته .
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة:186] كما قال الله : فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [سورة هود:61] يُجب من دعاه، وإذا عرف العبد هذا فإنه يُبادر إلى الإقبال على الله ، ويرفع حاجته إلى الله -تبارك وتعالى- مُباشرة، وقد قال بعض السلف: "متى أطلق الله لسانك بالدعاء والطلب، فاعلم أنه يُريد أن يُعطيك" وذلك لصدق الوعد بإجابة من دعاه، ألم يقل الله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] فهذا وعد وخبر حق.
ويُؤخذ أيضًا من قوله: فَإِنِّي قَرِيبٌ أنه في الجواب لم يقل: فقل لهم: إني قريب، وإنما قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة:186] فجاء الجواب مُباشرة من الله دون ذكر واسطة، ودون أن يقول: فقل لهم، وهذا كله يدل على شدة قُربه -تبارك وتعالى- من الداعين، فاختصر الكلام في ذلك، فتولى إجابتهم عن سؤالهم بنفسه مُباشرة دون أن يجعل واسطة، كالرسول ﷺ، فيقول له: فقل لهم، أو فقل لعبادي: إني قريب من الداعين، وإنما مُباشرة فَإِنِّي قَرِيبٌ فهذا يدل على أنه ليس بين الله -تبارك وتعالى- وبين خلقه واسطة في الدعاء، مُباشرة يتوجه إليه العبد بالدعاء.
والمشركون كانوا يتوجهون إلى معبوداتهم وأصنامهم، ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [سورة الزمر:3] فكانوا يتوجهون إلى هذه الوسائط، ويقولون: إنها تُقربنا إلى الله، وتوصل حاجتنا إلى الله -تبارك وتعالى، وهذا لا شك أنه خلل في الاعتقاد، فالله ليس بينه وبين عباده واسطة، فإذا أذنب العبد مُباشرة يتوجه إلى الله، ويستغفر ويتوب، والله تعالى يتوب على من تاب، فليس هناك وسائط، كما عند النصارى يأتي التائب لدى القسيس، ويجلس على كرسي، يُقال له: كُرسي الاعتراف، وهذا موجود في غُرفة صغيرة يمثُل أمامه، ثم يذكر بالتفاصيل الجنايات والأعمال والمُقارفات والمزاولات التي عملها، ثم بعد ذلك يُعطيه صك الغُفران، فهذا كله من الضلال والانحراف.
أما الله -تبارك وتعالى- فيكفي أن تتوجه إليه بالاستغفار والتوبة، أو السؤال والدعاء، ولا تحتاج إلى عمل كثير، حتى تحصل على وقت لتُناجيه فيه، وإنما تستطيع أن تُناجيه في أي وقت، وفي أي مكان في المسجد، أو في بيتك، أو في مكان عملك، أو في الصحراء والخلاء، أو بين الناس.
ثم تأمل قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي [سورة البقرة:186] جاء كله بضمير المُتكلم، وقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة:186] جاء بطريق الالتفات؛ لأن قبله: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ [سورة البقرة:185] فلم يقل: ولتكبروني؛ ثم قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [سورة البقرة:186] فهنا في مقام الدعاء ناسب أن يكون بضمير المتكلم فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] ولا شك أيضًا هناك أنه أظهر في مقام يصح فيه الإضمار، فناسب مع التكبير ذكر اسم الله مُظهرًا، والله تعالى أعلم.
وأيضًا لم يقل: إني مجيب، أو فإني أُجيب دعوة الداعي لكوني قريب، وإنما قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] فإذا سألك عبادي عني في توجههم ودعائهم وسؤالهم، ونحو ذلك، فالعبد لا شك أنه يغتبط بقُرب ربه -تبارك وتعالى- منه أعظم من غِبطته بإجابة دعائه، فحينما يُقال لك: أيهما أعظم في نظرك أن يكون الله قريب منك، أو تُستجاب لك هذه الدعوة والمسألة؟ لا شك أن قُرب الله -تبارك وتعالى- من العبد أشرف وأعظم، وما حال عبد ربه قريب منه؟! وكيف تكون ألطافه به وحفظه ورعايته وكلاءته، وما إلى ذلك، فما أرحمه من رب! وما أعظمه وأكرمه!
فهذا الذي نعبده -أيها الأحبة- يتعرف إلينا بهذه الأوصاف فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186] فقد يسعى العبد لمُقابلة إنسان آخر له شأن، وربما يحتاج إلى مُدة حتى يُحدد معه موعدًا لكثرة أشغاله وأعباءه، ونحو ذلك، ولكثرة الطالبين لمُقابلته، ربما ينتظر أسبوعًا أو شهورًا حتى يُحدد له هذا الموعد، لكن الله -تبارك وتعالى- مُباشرة.. ارفع يديك، وقل: يا رب بقلب حاضر، ولا تحتاج إلى وسائط من المخلوقين، ولا تحتاج إلى أن تنتظر حتى يؤذن لك بالمُناجاة والدعاء.
وأيضًا هنا قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ فهو أقرب إليك مما تطلب، وتسأل وتحتاج، وهذا القُرب لم يُحدده مثلاً من قوم عند بيته الحرام، فيحتاج الناس إلى أن يسافروا إلى هناك من أجل الدعاء، وإنما في كل مكان في البر والبحر، وليس من الضرورة أن يذهب الإنسان إلى البيت الحرام من أجل أن يدعو إن كانت له حاجة، وإنما من مكانه وموضعه، لكن يحتاج العبد إلى صحة الاعتقاد بأن الله يُجيب دعوة الداعي، ويحتاج إلى إحضار قلب، وأن يدعو وهو موُقن بالإجابة، ولا يدعو كالمُختبر لربه، المُجرب أو اليائس، أو الذي يقول كما قال النبي ﷺ: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي فهذا استعجال.
وبعضهم يقول: ما رأينا شيء من هذا الدعاء -نسأل الله العافية، وهذا سوء ظن بالله -تبارك وتعالى، ومن ظن أن الله لا يُجيب دعاء الداعين، وسؤال السؤالين، فقد أساء الظن بربه وخالقه ومليكه ، وتقدست أسماؤه، فيحتاج إلى أن يُحسن الظن، وأخبر النبي ﷺ بقوله: ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استجيب له، فإما أن يعجل في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل فهذا الإنسان المُصاب، والمريض، الذي تدعو له، أو يدعو لنفسه، قد تقول: ما برأ، فالله ادخرها له في الآخرة، أو دُفع عنه من الشر مثل ذلك، وقد تتضاعف عليه علته وبليته، ونحو ذلك.
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [سورة البقرة:186].
إجابة الدعاء: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، تكون عن صحة الاعتقاد، وكمال الطاعة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله لأن الله ذكر الأمرين بقوله: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي، فذكر الإيمان وذكر أيضًا الطاعة والاستجابة، وهذه الطاعة والاستجابة هي التي فيها مصلحة العبد، وقوام سعادته في الدنيا والآخرة، وأما ما سأل فقد يكون فيه مصلحة له قد يكون فيه مضرة كما قال الله -تبارك وتعالى: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ [سورة الإسراء:11]، فالإنسان قد يدعوا بشيء يسأل شيئًا قد يكون مضرة عليه، أما الاستجابة لله -تبارك وتعالى، والإيمان به فذلك مصلحة على كل حال، هذا الذي يحصل به سعادة الدنيا والآخرة، واستقامة الأحوال كما لا يخفى.
وتأمل قوله -تبارك وتعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، هو ما قيل له: داعٍ إلا لأنه دعا، فلاحظ هنا: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، فسماه داعيًا ثم علق بالشرط بقوله: إِذَا دَعَانِ، فهذا ذكر بعض أهل العلم أنه يُشعر بمعنى الإقبال على الله -تبارك وتعالى- بالدعاء، والسؤال والطلب مع الصدق في ذلك، وحضور القلب، والافتقار إلى الله -تبارك وتعالى، فهذا يمكن أن يؤخذ من هذه الجملة: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، يعني: إذا صدق في دعاءه وإقباله على ربه -تبارك وتعالى- مع شعوره بالافتقار إلى ربه والانطراح بين يديه فإن الله يُجيب دعاءه: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، فيحتاج إلى إخلاص في هذا الدعاء مع حضور القلب والصدق في الرغبة لا يدعوا دعاء المُجرب، ولا يكون هذا الدعاء من قلب غافل يرفع يديه وقلبه بعيد عن هذا الدعاء والسؤال.
وتأمل هنا قوله: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، لم يُقيده بالمشيئة ما قال: إن شئت وإنما مُباشرة: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، لكن في موضع آخر: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ [سورة الأنعام:41]، فبعض أهل العلم يقولون: إن هذه الآية: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ [سورة الأنعام:41]، جاء التقييد بالمشيئة؛ لأنها في دعاء الكفار فقيده بذلك، أما هذه فهي خطاب للمؤمنين الذين خوطبوا بالصيام وأضافهم إلى نفسه إضافة تشريف: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186]، فهنا جاءت هذه من غير تقييد بالمشيئة، فدعاء المؤمن لا يُرد إلا إذا كان بإثم أو قطيعة رحم، أو إذا حصل فيه العجلة كما قال النبي ﷺ: يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، وفسر ذلك بقوله ﷺ: يقول دعوت فلم يُستجب لي يعني: يستبطأ الإجابة.
وتأمل أيضًا قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186]، جاء عن خالد الربعي -رحمه الله- أنه قال: "عجبت لهذه الأمة، أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة وليس بينهما شرط يعني: أن البشارة مشروطة بالإيمان والعمل الصالح، لكن هنا في الدعاء ليس هناك شرط: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر:60]، بلا شرط، لم يذكر شرطًا في الآية، فما بينك وبين ربك -تبارك وتعالى- إلا أن ترفع يديك وتقول: يا رب.
ثم إن قوله -تبارك وتعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي، هنا فليستجيبوا لي بالإيمان وطاعة المعبود ، والعمل بشرائع الدين، والكف عن ما حرم الله -تبارك وتعالى، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، وذكر هذا بعد الدعاء والوعد بالإجابة مُشعر بأن ذلك من جهة أنه -تبارك وتعالى- مُستحق للاستجابة لأنه يستجيب دعاءكم، ومن جهة أيضًا أن من أراد أن يُستجاب دعاءه وأن يُحقق سؤله فعليه أن يستجيب لربه -تبارك وتعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال:24]، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، إذا دعاك أمرك الله بشيء فيجب عليك أن تمتثل، وتقول: سمعنا وأطعنا.
وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ من أجل أن يحصل لهم الرشد وذلك كمال الحال واستقامة الأمور والأعمال في هذه الدار في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فإن الاستجابة لله -تبارك وتعالى- مؤذنة بصلاح الدارين، تستقيم أحوال الناس وتكون أرزاقهم دارة وبلادهم قارة ويكون هؤلاء الناس على حالة مرضية تنتفي عنهم العقوبات الربانية وتكون أعمالهم مُسددة، وأقوالهم مُسددة، ويكون الناس في حال من الصلاح والاستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى، هذا هو الرشد لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، وفي الآخرة يكون ذلك بالفوز برضا الله -تبارك وتعالى- وجنته.
فهذه الآية الكريمة تضمنت هذه المعاني، ونحن أحوج ما نكون إلى التبصر بذلك في مثل هذه الأوقات التي تكثر فيها الشرور والفتن، أن يُكثر المرء من دعاء الله وسؤاله أن يُنجيه، وأن يُسلمه، وأن يُخلصه، وأن يُصلح قلبه وعمله، وأن يُسدد لسانه، ويهدي قلبه، فيسلم من الضلالات والآفات والآثام وسائر الشرور والمُوبقات، المؤمن أحوج ما يكون إلى هذا في أوقات الفتن فهو كالذي يركب البحر فهو يقول: اللهم سلم اللهم سلم، يسأل ربه السلامة والعافية، ويسأل ذلك أيضًا لإخوانه المسلمين، ولا يكون شغله بغيره يشمت بهذا، ويسخر من هذا أو نحو ذلك، كما جاء عن بعض السلف: "لا تنظر إلى ضلال من ضل كيف ضل، ولكن انظر إلى نجى كيف نجى انظروا ما يجري وما جرى في هذا اليوم وفي غيره.
لو شاء ربك أيضًا كنت مثلهم |
فالقلب بين أصابع الرحمنِ |
كيف يرتكب الإنسان ما يُزين له الشيطان، وتُزين له نفسه، ثم بعد ذلك تكون عاقبته إلى حال غير مرضية، فيحتاج العبد إلى أن يُجدد التوبة دائمًا، ويُكثر من الاستغفار ويُراجع نفسه وينظر في طريق النجاة كيف يسلم كيف يلقى الله سالمًا من الشرور والفتن، فهي تكثر أيها الأحبة في آخر الزمان، وكثرتها مؤذنة بتساهل الناس فيها وقلة المُبالة، وكثير من الناس ليس له في ذلك من البصر وحُسن النظر في الأمور، والاعتبار والتعقل إنما شُغله أن يقفوا ما ليس له به علم، والله يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [سورة الإسراء:36].
وإذا كان أشرف الخلق -عليه الصلاة والسلام- يُكثر أن يقول ﷺ في سجوده: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فكيف يقول من هو من المقصرين المُخلطين المُذنبين من أمثالنا، فنحتاج إلى صدق مع الله، وإخلاص، ومُحاسبة للنفس، وكثرة الدعاء بالهداية، والنجاة، والسلامة من مُضلات الفتن.