الإثنين 17 / ربيع الآخر / 1446 - 21 / أكتوبر 2024
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَٱلْـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُوا۟ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلْأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلْأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا۟ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَٰكِفُونَ فِى ٱلْمَسَٰجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة البقرة:187]".
قوله - سبحانه -: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ تعتبر هذه الآية ناسخة، إما لما سبق من قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:183]؛ لاعتبار أن التشبيه في الصفة، أو أنها تكون ناسخة لما ثبت في السنة. 
وقوله - سبحانه -: إِلَى نِسَآئِكُمْ عديت بـ"إلى" لتضمنها معنى الفعل، وهي أحسن من تضمنها معنى الحرف؛ لأننا إذا قلنا: إنها تتضمن معنى الحرف كانت بمعنى مع، وإذا تضمنت معنى الفعل صارت بمعنى الإفضاء، والمقصود الإفضاء إلى النساء بالقسط؛ وقد ورد التعدي بإلى في غير موضع كما في قوله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [سورة الممتحنة:8] فالمتبادر أن يقول: تقسطوا معهم، لكنه قال: وتقسطوا إليهم، فهنا يقال بالتضيمن، فهو مضمن معنى الإحسان، أو الإفضاء، والبر في الآية بمعنى الإحسان، والقسط بمعنى العدل، وأراد من تضمينه معنى الإفضاء تداخل المصالح في العلاقات التجارية التي تشتركون فيها، في حالة إذا لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، ولم يظاهروا على إخراجكم.
"هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين، ورفْع لما كان عليه الأمر في ابتدأ الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل، والشرب، والجماع إلى صلاة العشاء، أو ينام قبل ذلك، فمتى نام، أو صلى العشاء حرم عليه الطعام، والشراب، والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة".
كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هو جمع بين الآثار الواردة؛ لأن منها ما قيدتْ ذلك بصلاة العشاء، ولم تذكر النوم، فأباحت له الأكل، والشرب حتى صلاة العشاء في الليلة القابلة، ومنها: ما جاء التقييد فيها بالنوم، فإذا نام حرم عليه الطعام، والشراب إلى الفطر في اليوم الثاني، فهو جمع بينهما بقوله: يأكل، ويشرب، ويحل له الجماع إلى العشاء ما لم ينازعه النوم قبل ذلك، فإن نازعه امتنع بعدها عن الأكل، والشرب حتى الليلة القابلة.
"والرفث هنا هو الجماع قاله ابن عباس ، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وطاوس، وسالم بن عبد الله، وعمرو بن دينار، والحسن، وقتادة، والزهري، والضحاك، وإبراهيم النخعي، والسدي، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حيان".
كثير من السلف على أن الأصل في معنى الرفث أنه أعم من الجماع، وهو كل ما يطلبه الرجل من امرأته من ألوان الاستمتاع، يقال له: رفث، وهو الأصل في كلام العرب، لكن ما المراد به في بعض المواضع، مثل قوله تعالى هنا: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ ؟ [سورة البقرة:187] ظاهر كلام الحافظ ابن كثير، وكثير من السلف أن المقصود الوقاع فقط، فلم يدل دليل على تحريم ما دونه في نهار رمضان على مفهوم المخالفة، وفي قوله - تبارك، وتعالى -: فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة:197]، المقصود بالرفث هو الجماع، ودواعيه، ومقدماته، حتى الكلام بخصوصه في حضرة النساء يدخل فيه.
"وقوله تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [سورة البقرة:187]، قال ابن عباس ، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان: يعني هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن.
وقال الربيع بن أنس: هن لحاف لكم، وأنتم لحاف لهن، وحاصله أن الرجل، والمرأة كل منهما يخالط الآخر، ويماسه، ويضاجعه، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان؛ لئلا يشق ذلك عليهم، ويحرجوا".

قوله سبحانه: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ تفسير من فسره بالسكن يعتبر من تفسيره باللازم؛ لأن هذا السكن إنما يحصل بهذه المعاشرة، والمضاجعة.
وقول من قال: هن لحاف لكم، وأنتم لحاف لهن، هذا أشبه ما يكون بالتفسير المطابق؛ والمعنى: أنّ كل واحد منكم ستر لصاحبه - فيما يكون بينكم من الجماع - عن أبصار سائر الناس.
أو كما يقول بعضهم: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ فقال: للامتزاج، الذي يحصل بامتزاج كل منهما بالآخر عند الوقاع، كما يحصل الامتزاج بين الثوب، ولابسه، ومعلوم أن المرأة يقال لها: فراش، ويقال لها أيضاً: إزار، يكنى عن المرأة بالإزار، وبالفراش.
وبعضهم يقول: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ بالنظر إلى تجردهما في لحافٍ واحد، فكل واحد منهما يكون بالنسبة للآخر بمنزلة ما يلبسه على جسده من ثيابه، فهو كناية على هذا الاعتبار عن اجتماعهما متجرديْن في فراش واحد، أو في لحاف واحد، هذا قاله بعض أهل العلم، والثياب يكنى بها عن الجسد، فهو أحد المعاني المذكورة في قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [سورة المدثر:4]، فقد قيل: القلب، والنفس، وقيل: الجسد، وقيل: الثياب الظاهرة تطهر من النجاسات، وهذه المعاني كلها تدخل فيه، -والله أعلم -.
"وقال أبو إسحاق عن البراء بن عازب قال: كان أصحاب النبي ﷺ إذا كان الرجل صائماً فنام قبل أن يفطر، لم يأكل إلى مثلها، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، وكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام. قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته فلما رأته نائماً قالت: خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي ﷺ، فنزلت هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ إلى قوله: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، ففرحوا بها فرحاً شديداً".
سبب النزول في الآية صريح، ابن كثير نظر إلى هذه الرواية، ونظر إلى الروايات الأخرى التي تذكر ذلك محدوداً بحد، وهو وقت العشاء، فجمع بينها بقوله: يأكل، ويشرب إلى العشاء فقط ما لم يحصل له نوم، فإن حصل النوم امتنع عن الأكل، والشرب، وهذا وجه حسن من الجمع بين الروايات.
"ولفظ البخاري هاهنا من طريق أبي إسحاق سمعت البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ [سورة البقرة:187]".
قوله - سبحانه -: تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ الخيانة المقصود بها الخروج عن الطاعة، والوقوع في المعصية، والمعنى أنكم تفعلون ما نهاكم عنه.
وقوله - سبحانه -: فَتَابَ عَلَيْكُمْ لها نظائر في القرآن الكريم، ويحتمل أن المراد بها قبول التوبة؛ لأن بعضهم كان يختان نفسه فالله  وفقهم للتوبة فندموا عليها، ولذا جاء عمر إلى النبي ﷺ يخبره بما وقع له، وهو نادم، فجعل ندمهم توبة لهم، وعليه فيكون معنى قوله: فَتَابَ عَلَيْكُمْ أي: قبل توبتكم.
ويحتمل أن يكون فَتَابَ عَلَيْكُمْ بمعنى خفف عنكم، ورخص لكم هذا التكليف الشاق على نفوسكم، كما جاء في قوله تعالى: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [سورة المزمل:20] ففي أحد الوجوه في تفسيرها خفف عنكم في قيام الليل، وكذا الكفارة للقتل الخطأ يقول سبحانه: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ [سورة النساء:92] يحتمل أن يكون توبة صادرة من المتعدي، أو توبة من الله على العبد، فيكون ذلك تخفيفاً من الله على عباده، والمعنى تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ أي: تخفيفاً عليهم حيث قبل منهم الصيام، وشرعه لهم؛ والقاتل خطأ ليس عليه ذنب حتى يقال يتوب، فالتوبة صادرة من الرب؛ لأن العبد ما صدر منه معصية. 
"وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء، والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا من النساء، والطعام في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ، فأنزل الله تعالى: عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ... الآية [سورة البقرة:187]، وكذا روى العوفي عن ابن عباس".
 قوله سبحانه: وَعَفَا عَنكُمْ قد يراد به العفو عن الذنب أي: عفا عن إساءتكم، ويحتمل أن يكون العفو هنا بمعنى خفف عنكم، أو وسع لكم، وتاب عليكم فلا يكون ذلك مختصاً بتجاوز من وقع منه الإساءة فحسب، بل تشمل مجموع الأمة، فنسخ هذا الحكم الذي شق عليكم تخفيفاً عنكم، وتوسيعاً لكم، والآية تحتمل الأمرين، ولا شك أن إسقاط الحكم عنهم هو من سعة عفوه - سبحانه، وتعالى -، وهولاء الذين وقعوا في الإساءة داخلون في هذا دخولاً أولياً؛ لأنهم سبب نزول الآية، - والله أعلم بالصواب -.
فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ أصل المباشرة من ملاقاة البشرة للبشرة، ويكنى بذلك عن الوقاع، ويدخل فيه أيضاً ما دون الجماع كمقدماته، ودواعيه، وقد ثبت أن النبي ﷺ كان يباشر، ويقبل وهو صائم، ويقصدون بها ما دون الوقاع من الأمور المباحة للزوج، لكن لعل المراد من المباشرة في الآية الجماع، وما دونه، فهو شامل للأمرين بناء على الأصل، وهو حل مثل هذه المحظورات للصائم ما دام قد دخل عليه وقت الإباحة استشهاداً بقوله سبحانه: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ أي: بعد غروب الشمس، ودخول وقت الفطر للصائم حتى طلوع الفجر الصادق.
"وقوله تعالى: وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187] قال أبو هريرة، وابن عباس، وأنس ، وشريح القاضي، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، والربيع بن أنس، والسدي، وزيد بن أسلم، والحكم بن عتيبة، ومقاتل بن حيان، والحسن البصري، والضحاك، وقتادة، وغيرهم: يعني الولد".
إذا فسرنا المراد من قوله: وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ بأنه الولد الذي هو نتيجة للجماع، فيحتمل أن يكون ذلك من قبيل التفسير باللازم؛ لأنه يبيح لهم الوقاع ليلة الصيام الذي هو سبب الولد، وهذا قول بعض السلف، ومن السلف من فهم غير هذا فلا يُخطَّأ، لكن من قال: إنه بمعنى الولد، طلب الولد، قد لا يسَّلم له بأن ذلك من قبيل التفسير باللازم؛ لأن دلالة الآية تحتمل أكثر من وجه، - والله أعلم بالصواب -.
"وقال قتادة: وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم، وقال سعيد عن قتادة: وابتغوا ما كتب الله لكم، يقول: ما أحل الله لكم".
اختلف المفسرون في المراد بقوله سبحانه: وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ على أقوال:
أنها بمعنى الرخصة، أي: ابتغوا الرخصة التي وسع بها عليكم كما جاء في الحديث: إن الله يحب أن تؤتى رخصه[1]، وقيل: ما أحل لكم، وهو معنى مقارب جداً للرخصة، وهذا يسمى خلاف التنوع، وليس ذلك من خلاف التضاد في شيء، وبعضهم يقول: وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ يعني القرآن بما أبيح لكم فيه، فالقرآن تتلقون منه التشريع، فهو يخاطبكم، ويقول لكم: إن ذلك قد أبيح بعد أن كان محرماً عليكم، فابتغوا ما كتب الله لكم، واطلبوه لتتعرفوا على الحلال، والحرام؛ لأنه مصدر التشريع.
وقيل: وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ يعني الإماء، والزوجات.
وقيل: المراد به ليلة القدر، ويلاحظ هذا التباين الكبير بين هذه الأقوال، ولكن توجيه ذلك ينحل به الإشكال، فالقائلون بأن المقصود من لفظ الآية ليلة القدر وجهوا قولهم بأن الله أحل لهم الجماع في ليالي الصيام، ثم نبههم، ولفت أنظارهم إلى ما لا ينبغي أن يشغلهم عنه هذا الوقاع الذي وسع الله به عليهم، وأحله لهم عن التماس ليلة القدر، التي هي في أحد ليالي هذا الشهر، ولابن القيم - رحمه الله - جمع جيد بين هذه الأقوال مفاده: أن الله لما خفف عنهم بإباحة الجماع، وكان المجامع دافعه إلى ذلك الشهوة، وتلبية الغريزة، أرشدهم إلى طلب مرضاته بهذا الوطر وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ، يعني يحتسبون في ذلك الأجر عند الله، ويطلبون به العفاف، والولد؛ ليكون نتيجة هذا الجماع إنسان يقيم العبودية لله ، فهذا الولد يخرج ليعبد ربه - تبارك، وتعالى -، ويطلبون الرخصة لأن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، ولا يشغلهم هذا الوقاع عن التماس ليلة القدر، وطلبها، وهذا من أجمل، وأجود ما يكون من الجمع بين الأقوال التي يتوهم الإنسان لأول وهلة أنها في غاية التنافر، والتباعد، وأما ابن جرير - رحمه الله - فإنه يحمله على معنى قريب، يقول: وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ في اللوح المحفوظ من هذه الرخص من ولدٍ، وتوسعة، وجماع، فأدخل فيه هذه المعاني لكن بهذه الطريقة، والتوجيه الذي ذكره ابن القيم أحسن من هذا، وأقرب، - والعلم عند الله  -.
فائدة: التحقيق في اسم قيس بن صرمة، وواقعة سبب نزول الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ إلى قوله: وَكُلُواْ، وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ
" وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الإصابة: صرمة بن مالك الأنصاري ذكره ابن شاهين، وابن قانع في الصحابة، وأخرج من طريق هشيم بن حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بسنده، ثم ساق سبب النزول الذي ذكر سابقاً، وفيه صرمة بن مالك، ويقال: إن القصة، وقعت لصرمة بن أنس أخرج ذلك هشام بن عمار في فوائده، بسنده عن القاسم بن محمد ثم ذكر بالنزول، وقال فيه: صرمة بن أنس، قال: وفيه إسحاق بن أبي فروة، وهو متروك.
وأخرج الطبري من طريق حماد بن سلمة بسنده إلى يحيى بن حبان أن صرمة بن أنس، ثم ذكر سبب النزول.
وأخرج الطبري من طريق السدي، وذكر سبب النزول، وفيه أبو قيس بن صرمة، ووقع في صحيح البخاري أن الذي وقع له ذلك قيس بن صرمة، أخرجه من طريق البراء بن عازب، ووقع عند أبي داود من هذا الوجه صرمة بن قيس، وفي روية النسائي أبو قيس بن عمرو.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: فإن حمل هذا الاختلاف على تعدد أسماء وقع لهم ذلك، وإلا فيمكن الجمع برد جميع الروايات إلى واحد، فإنه قيل فيه: صرمة بن قيس، وصرمة بن مالك، وصرمة بن أنس، وقيل فيه: قيس بن صرمة، وأبو قيس بن صرمة، وأبو قيس بن عمرو، فيمكن أن يقال: إن كان اسمه صرمة بن قيس فمن قال فيه: قيس بن صرمة قلبه، وإن كان اسمه صرمة فكنيته أبو قيس، أو العكس، وأما أبوه فاسمه قيس، وصرمة على ما تقرر من القلب، فكنيته أي - كنية أبيه -، فكنيته أبو أنس، ومن قال فيه: أنس حذف أداة الكنية، ومن قال فيه: ابن مالك نسبه إلى جده، - والعلم عند الله تعالى -.
وقال الحافظ ابن عبد البر في "الاستيعاب": صرمة بن أنس، صرمة بن أبي أنس، اسم أبي أنس صرمة بن مالك بن عدي بن عامر بن غن بن عدي بن النجار الأنصاري، يكنى أبا قيس، غلبت عليه كنيته، وربما قال فيه بعضهم: صرمة بن مالك، فنسبه إلى جده، وهو الذي نزلت بسببه، وفي عمر، ثم ذكر الآيات - هذا، والله أعلم -.
وقوله تعالى: وَكُلُواْ، وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [سورة البقرة:187].
"أباح تعالى الأكل، والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصبح من سواد الليل، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود، ورفع اللبس بقوله: مِنَ الْفَجْرِ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري عن سهل بن سعد قال: أنزلت وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ، ولم ينزل من الفجر، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض، والخيط الأسود، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد مِنَ الْفَجْرِ، فعلموا أنما يعني الليل، والنهار[2]".

فقوله - تبارك، وتعالى -: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أي: يتميز لكم بياض الصبح من سواد الليل، وذلك بظهور الفجر الصادق الذي ينتشر في السماء، وينبلج، ولا يزال يزداد حتى تطلع الشمس. 
ويستنبط من رواية البخاري عن سهل بن سعد فوائد كثيرة، أهمها فائدتان:
الأولى: أن ذلك وقع لجماعة حيث ربطوا خيطاً أبيض، وخيطاً أسود.
والثانية: أن قوله: مِنَ الْفَجْرِ لم تنزل مع الآية ابتداءً، وإنما نزلت متأخرة، وهذان الأمران أبلغ جواب في الرد على من قال: إن النبي ﷺ قصد بقوله: إن وسادك لعريض القفا[3]، والوساد هو المخدة، وهذا الكلام كناية عن الوصف بالغباوة إذا فهم هذا الفهم، وفعل هذا الفعل، ومثله في الحديث: إنك لعريض القفا[4]، وهو مؤخرة الرأس، وعرضه عنوان الغباوة في المرء قصد عدي بن حاتم ، لما جعل تحت وسادته خيطين أسود، وأبيض، فكان يأكل، ويشرب، وينظر إليهما، فقال له النبي ﷺ ذلك؛ لأن هذا أولاً: لم يقع لعدي ، وإنما وقع لجماعة كما ورد في هذه الرواية من الحديث.
ثانياً: أن قوله: مِنَ الْفَجْرِ لم تنزل إلا متأخرة فلم يدركوا أن المراد من الخيط الأبيض، والخيط الأسود هو الفجر الصادق، والفجر الكاذب، فحملوا الخطاب على ظاهره، فلما تبين لهم من لفظة مِنَ الْفَجْرِ أحجموا عن صنيعهم هذا. 
إضافة إلى أن الصحابة من أكمل الناس عقلاً، وعدي بن حاتم كان سيداً عظيماً من سادات قومه، وأخلاق النبي ﷺ تأبى أن يقول ذلك لرجل من أدنى أصحابه فضلاً عن أن يقوله لرجل من سادات العرب، وكبرائهم، وإذا كان الرجل لا يقول ذلك لصاحبه تخلقاً، وتأدباً فما بالك بالبني ﷺ الذي هو أكمل الناس خلقاً - عليه الصلاة، والسلام -، فهذا بعض ما يجاب به عن ذلك الكلام الذي يقرأ كثيراً في شروح الحديث، وفي الكلام أحياناً على مسألة الصيام.
"وروى البخاري عن الشعبي عن عدي قال: أخذ عدي عقالاً أبيض، وعقالاً أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله ﷺ جعلت تحت وسادتي، قال: إن وسادك إذاً لعريض إن كان الخيط الأبيض، والأسود تحت وسادتك[5]".هذا جواب أصرح من الرواية الأخرى في الجواب على من زعم أن المقصود في الحديث عدي بن حاتم؛ لأنه قال: إن وسادك لعريض إن كان، باعتبار أن الوسادة تضمن بياض الصبح، وسواد الليل.
ويؤخذ من الآية أن الصائم يعذر، ولا يؤمر بالقضاء إذا أكل، وشرب جاهلاً، وقد طلع الفجر، وهذا واضح من دلالة الحديث، وهذا له صور كثيرة جداً في قضايا مختلفة، مثل حديث معاوية بن أبي الحكم السلمي لما تكلم في الصلاة، فلم يأمره النبي ﷺ بالقضاء، وحديث المسيء صلاته ما أمره النبي ﷺ إلا بقضاء الصلاة التي في الوقت، حيث علمه أن صلاته هذه لا تصح، ولا تجزئ، وقصة حمنة عندما كانت تستحاض فتترك الصلاة، والصيام سبع سنين ما أمرها النبي ﷺ بالقضاء، إلى غير ذلك من أمور كثيرة جداً، وأدلة يؤخذ منها هذا الحكم. 
"وجاء في بعض الألفاظ إنك لعريض القفا، ففسره بعضهم بالبلادة، وهو ضعيف، بل يرجع إلى هذا؛ لأنه إذا كان وساده عريضاً فقفاه أيضاً عريض، - والله أعلم -.
ويفسره رواية البخاري أيضاً عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله ﷺ ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين، ثم قال: لا، بل هو سواد الليل، وبياض النهار [6].
وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور؛ لأنه من باب الرخصة، والأخذ بها محبوب؛ ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ بالحث على السحور، ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: تسحروا فإن في السحور بركة[7].
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: إن فصل ما بين صيامنا، وصيام أهل الكتاب أكلة السحر[8].
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: السحور أكله بركة، فلا تدعوه، ولو أن أحدكم تجرع جرعة ماء فإن الله، وملائكته يصلون على المتسحرين[9].
وقد، ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء تشبها بالآكلين".

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - استخرج من إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر الدليل على استحباب السحور، فمن أين مستخرج الاستحباب؟
يطرق الأصوليون مسألة موجب الأمر بعد الحظر إلى ما يرجع الحكم فيه؟ فيقولون: يرجع الحكم إلى ما كان يفيده قبل الحظر، فالأكل، والشرب كان مباحاً ابتداء ليلة الصيام بعد العشاء، وبعد النوم، لينزل بعده الحكم بالتحريم في الحالين، ثم جاء الأمر في الآية: وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا [سورة البقرة:187]، والأمر يأتي للإباحة، ويأتي للاستحباب، ويأتي للوجوب، والأصل أنه للوجوب إلا لصارف، وعندنا قرينة صرفت الأمر من الوجوب في الآية إلى ما كان عليه قبل ذلك من الإباحة، فصار الأكل، والشرب في ليلة الصيام، وبعد النوم مباحاً، وفي المقابل، وجدت نصوص أخرى تدل على طلب الشارع، ومحبته للأكل، والشرب في وقت السحر، فصار مقوياً للأمر من مجرد الإباحة إلى الاستحباب، وعليه فقوله - سبحانه: وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا يؤخذ منه استحباب الأكل، والشرب في وقت السحور، إذ إن في وقت السحر عندنا قدراً زائداً من الأدلة يمكن أن نفهم على ضوئها هذا الأمر بالأكل، والشرب فيها، كحديث: إن الله، وملائكته يصلون على المتسحرين، وحديث: فصل ما بين صيامنا، وصيام أهل الكتاب أكلة السحور، ومثله: تسحروا فإن في السحور بركة إلى غير ذلك من الأدلة..، فمن مجموع هذه الأمور أخذ استحباب أكلة السحور من قوله - سبحانه -: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة:187]، - والله أعلم -.
"ويستحب تأخيره إلى وقت انفجار الفجر كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله ﷺ ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس: قلت لزيد كم كان بين الأذان، والسحور. قال: قدر خمسين آية.[10]"
المستحب في السحور تأخيره إلى وقت طلوع الفجر كما جاء عن أبي ذر أن النبي ﷺ قال: لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر، وأخروا السحور[11]، وهنا تحديد للمقدار بين الأذان، والسحور قال: قدر خمسين آية، فإذا كان المؤذن يؤذن الأذان الثاني عند طلوع الفجر، والأول قبل ذلك، فالوقت بينهما يسير، وقد جاء في المقنع أنه قدر ما ينزل هذا، ويصعد هذا، والمقصود تقليل مدة الوقت، فيأكلون في ذلك الوقت الذي هو آخر أجزاء الليل، ومن آخر أجزاء الليل، وعلى هذا تحمل مثل هذه الروايات.
وأما النصوص الأخرى الواردة عن بعض الصحابة كأبي بكر، وجماعة من كبار الصحابة، بما يشعر ظاهره أنهم كانوا يأكلون بعد طلوع الفجر وقت الإسفار، أو قريباً منه، فمثل هذه النصوص مشكلة في ظاهرها، ومحملها، ومعناها، إلا أنّ لأهل العلم محاملَ، وتأويلاتٍ في ذلك، والأفضل التعامل معها وفق ما قرره الإمام الشاطبي - رحمه الله - في كتابه "الموافقات" حيث جعل قاعدة في التعامل مع النصوص، ومحورها إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: النصوص الجادة حيث تتوارد النصوص، وتتضافر على معنى من المعاني، فهذا يعمل به، ولا إشكال فيه.
النوع الثاني: أن تتضافر النصوص، وتتوارد في معنى، ويوجد في النادر ما ظاهره يخالف ذلك، فيعمل به على الجادة، والأصل الذي تضافرت فيه النصوص.
القسم الثالث: ما وردت فيه النصوص متضافرة تقرر معنى، ووجد قليل يخالف ذلك، فهذا إن ظهر له محمل حمل عليه، وإن لم يظهر له محمل فإنه يعمل بالأصل الذي تتابعت النصوص على تقريره. 
القسم الرابع: أن يوجد أدلة كثيرة تدل على معنى، ويوجد أدلة أخرى كثيرة تخالفها، فمثل هذه يجمع بين هذه الروايات، وينظر أنه كان يفعل هذا أحياناً، أو كان ذلك على وجه كذا، ونحو ذلك.
القسم الخامس: ما وردت فيه الأدلة في كذا، وكذا، فمثل هذا لا تطرح الأدلة الأخرى، وينظر فيها، فمسألة  الأكل، والشرب بعد الإسفار، وعند الإسفار، ونحو هذا، نرجع فيها إلى الأصل المحكم الثابت، وهو قوله سبحانه: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة:187]، ولا نتتبع أشياء أخرى تخالف هذا الأصل.
ومثل هذه القضية ما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص في قصة الرجل الذي قال فيه النبي ﷺ: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ،... فلما قام النبي ﷺ تبعه عبد الله بن عمرو إلى بيته فقال له: "إني لاحيت أبي، فآليت أن لا أدخل عليه ثلاثاً،.. " ثم أخبره بعد مضي الثلاث أنه لم تكن بينه، وبين أبيه أي ملاحاة، أنما أراد أن ينظر في صنيعه، وعبادته..." القصة، فالشاهد هل يصح أن نجوّز الكذب للمصلحة، حيث لا ضرر، ونقررها قاعدة للناس، ونستدل بهذا الدليل؟ الجواب لا؛ لأننا سنترك الأدلة الكثيرة المخالفة، والمتضافرة في الكتاب، والسنة على تحريم الكذب، ووسْمه بأنه ثلث النفاق، وأما صنيع عبد الله بن عمرو فهو لاعتبارات معينة فهم ذلك، وتأول، ولسنا متعبدين بما أقدم عليه، فهذه القواعد التي أرساها الإمام الشاطبي عظيمة، لو تحاكمنا إليها عند ورود مثل هذه الإشكالات. 
"وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر، روي مثل هذا عن أبي بكر ، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت أجمعين، وعن طائفة كثيرة من التابعين منهم محمد بن علي بن الحسين، وأبو مجلز، وإبراهيم النخعي، وأبو الضحى، وأبو وائل، وغيره من أصحاب ابن مسعود، وعطاء، والحسن، والحكم بن عتيبة، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وإليه ذهب الأعمش، ومعمر بن راشد، وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد، - ولله الحمد -".
ابن جرير الطبري أورد في تفسيره روايات عن جمع من الصحابة، والتابعين في جواز السحور عند مقاربة الفجر، بل ووقْت رؤيتهم له، وبعد طلوعه، إلا أن ابن كثير حملها على تسامحهم في السحور في هذا الوقت، لكن مثل هذا لا يُترك فيه المحكمات، ويُلجأ إلى مثل هذه المشكلات، ولا يفهم إنسان هذا الفهم فيصدق عليه قول الشاعر:
ألقاك فهمك في مهاون فليتك ثم ليتك ما فهمت
"وقد ورد في الصحيحين من حديث القاسم عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم فإنه ينادي بليل، فكلوا، واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر[12] لفظ البخاري.
وروى الإمام أحمد عن قيس بن طلق عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: ليس الفجر المستطيل في الأفق، ولكن المعترض الأحمر[13]".

يشير في الحديث إلى الفرق بين الفجرين الصادق، والكاذب، وكلام الفقهاء أن الفجر الكاذب كذنب سرحان أي: كذنب الذئب حيث يكون ضوؤه إلى أعلى، ويكون مستطيلاً، وأما الفجر الصادق فيكون معترضاً، ومنبلجاً، ويزيد إضاءةً، أما ذاك فيختفي.
"ورواه أبو داود، والترمذي، ولفظهما كلوا، واشربوا، ولا يَهِيدَنَّكم الساطع المُصعَد، فكلوا، واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر[14].
وروى ابن جرير عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ﷺ: لا يغرنكم أذان بلال، ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير[15]
ورواه مسلم في صحيحه مثله سواء.
مسألة: ومن جعْلِه - تعالى - الفجر غاية لإباحة الجماع، والطعام، والشراب لمن أراد الصيام، يُستدل على أنه من أصبح جنباً فليغتسل، وليتم صومه، ولا حرج عليه، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء سلفاً، وخلفاً".

هذا النوع من الاستنباط يعرف عند الأصوليين بدلالة الإشارة، والراجح أن دلالة الإشارة من أنواع المنطوق، لكنه المنطوق غير الصريح؛ لأن المنطوق ينقسم إلى قسمين:
- منطوق صريح.
- منطوق غير صحيح.
فهي من المنطوق غير الصريح، ويعرفه الأصوليون بأنه: إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد علما.
ودلالة الإشارة تارة تكون بنص واحد، وتارة تكون بالجمع بين الدليلين، فمثل الأول ما جاء في قوله سبحانه: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ إذ المعنى أنه يجوز للرجل أن يجامع إلى آخر جزء من الليل حتى بعد طلوع الفجر، وهذا يدل على جواز أن يصبح الإنسان جنباً، لكن الآية ما سيقت لتقرير هذا المعنى، ولذلك سميت دلالة الإشارة. 
وتارة بدليلين مثل قوله سبحانه: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [سورة الأحقاف:15] مع قوله سبحانه: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [سورة لقمان:14]، فالعامان أربعة، وعشرون شهراً، فإذا وضعتَ أربعة، وعشرين من ثلاثين يبقى ستة شهور هي مدة الحمل؛ لأنه إذا ثبت كون مدة الرضاع حولين من ثلاثين شهراً، بقي ستة أشهر فتكون هي مدة الحمل ضرورة أخذاً من مجموع الدليل، فهذه أيضاً دلالة إشارة، مع أنه ما سيق أحد الدليلين لتقرير أقل مدة الحمل، ودلالة الإشارة عند الأصوليين غير دلالة الإشارة عند المفسرين، وعند الصوفية، - والله أعلم -.
"وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء سلفاً، وخلفاً لما رواه البخاري، ومسلم من حديث عائشة، وأم سلمة - ا - أنهما قالتا: كان رسول الله ﷺ يصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يغتسل، ويصوم[16].
وفي حديث أم سلمة عندهما، ثم لا يفطر، ولا يقضي.
وفي صحيح مسلم عن عائشة - ا - أن رجلاً قال: يا رسول الله تدركني الصلاة، وأنا جنب فأصوم؟ فقال رسول الله ﷺ: وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب فأصوم فقال: لست مثلنا يا رسول الله ﷺ فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي[17]".

وهذا التأخر من النبي ﷺ لا يمكن أن يكون وقع على وجه التساهل، والتفريط؛ لأنه مشرِّع، وأتقى الأمة لله.
"وقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [سورة البقرة:187] يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكماً شرعياً كما جاء في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ: إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم[18]، وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله ﷺ: لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر أخرجاه[19].
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ يقول الله : إن أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطراً، ورواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب[20]."

قوله - تبارك، وتعالى -: ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [سورة البقرة:187] لما كانت "إلى" تدل على الغاية، وأنها في بعض صورها يكون المغيا خارجاً عما قبله كما في هذا المثال فإن الليل بهذا الاعتبار ليس محلاً للصوم فلا يقول قائل: إنه لا يتحقق صيام النهار إلا بصيام جزء من الليل فإن هذا يذكرونه من باب ما لا يتم الواجب إلا به لكن لا شك أن الجميع يوافق على أن وقت الصوم هو النهار إلى آخر جزء منه، أي: إلى غروب الشمس فقط، وهذا الذي دلت عليه هذه الغاية، وهذا الاستنباط الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -، والحديث الذي ذكره كقوله ﷺ: إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم[21]، يحتمل أنه يكون معنى أفطر الصائم أي: قد حل فطره، ويحتمل أن يكون معناه قد أفطر حقيقة، أو حكماً، ومعنى أفطر حكماً أي أنه صار في حكم المفطرين شاء أم أبى، والكلام في مسألة الصيام في الليل - الوصال - معروف.
"ولهذا، ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال: وهو أن يصل يوماً بيوم، ولا يأكل بينهما شيئا روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تواصلوا قالوا: يا رسول الله إنك تواصل قال: فإني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي، ويسقيني[22]."
قوله: يطعمني ربي، ويسقيني : على الأرجح من أقوال أهل العلم، وهو الذي يقتضيه الحال أنه ليس معنى ذلك الطعام، والشراب الحقيقي، وإلا لم يكن صائماً بهذا الاعتبار، وإنما المقصود ما يحصل له من الكفاية عن الطعام، والشراب بلذة المناجاة، والقرب من الله ، وما أشبه ذلك من المعاني، وهذا هو الذي ذكره المحققون، وهو أمر ليس بمستغرب فالنبي ﷺ قال: لا تكرهوا مرضاكم على الطعام، والشراب فإن الله يطعمهم، ويسقيهم[23]، ولذلك تجد المريض ربما يبقى اليوم، واليومين لا يطعم، ومع ذلك لا يجد أثر الجوع كما أنه يحصل للإنسان من الإعانة في وقت الصوم ما لا يحصل له في غيره إذا كان صحيح القصد، والنية.
أما ترون أن الإنسان إن كان صائماً ينتصف عليه النهار، بل يذهب معظمه، وهو لا يجد أثر الجوع في كثير من الأحيان؟ وإذا كان مفطراً فلا يكاد ينتصف عليه النهار إلا وهو في غاية الجوع حتى إن أطرافه ربما ترتعش؟ وإذا كان صائماً لا يلتفت إلى شيء من هذا فالإنسان يعان على الصيام، وأحوال الناس في هذا في غاية التفاوت، والمقصود أن الإنسان ربما يحصل له شيء من هذه المعاني، ولا شك أن ذلك دون رسول الله ﷺ بمراحل لكن المقصود الدلالة على أصل المعنى، وتقريبه.
حكم الوصال:
الذي تدل عليه ظواهر النصوص بمجموعها أن النبي ﷺ لم يعزم عليهم في النهي عن الوصال، وإنما نهاهم عنه رفقاًَ بهم، وشفقة عليهم، وقد كان بعض الصحابة يواصل بل نقل عن عبد الله بن الزبير أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً، والحافظ ابن حجر - رحمه الله - يقول كلاماً معناه: أطول من حفظنا عنه في الوصال ما جاء عن ابن الزبير أنه كان يواصل عشرة أيام متواصلة، وكان يواصل هذا الوصال في الوقت الذي كان محاصراً في المسجد الحرام، وكان يخرج على الكتيبة بمفرده فيفلها حتى ربما بلغ بهم الحَجُون، ولا يقف أحد في وجهه مع أنه كان يواصل هذا الوصال العظيم حتى إنه سئل مرة كيف تطيق هذا؟ فذكر أنه يشرب الوَدَك، ومعلوم أن الوَدَك إذا شربه الإنسان فإنه لا يهضم بسهولة؛ لكثافته، وكثرة ما فيه من الدهون.
"قال: فإني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي، ويسقيني قال: فلم ينتهوا عن الوصال فواصل بهم النبي ﷺ يومين، وليلتين، ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم، وأخرجاه في الصحيحين[24]، وقد ثبت النهي عنه من غير وجه، وثبت أنه من خصائص النبي ﷺ، وأنه كان يقوى على ذلك، ويعان."
يعني أن النبي ﷺ كان يتقرب إلى الله بهذا، فهو بالنسبة إليه من مراتب الكمال، وأما الأمة فهي غير مطالبة بذلك، وإنما تجشمه من تجشمه من الصحابة لفرط رغبتهم في مزيد من التقرب، والعبادة لكن لا يقال: إن الأمة مطالبة بهذا، وتندب إليه كما أنه لا يقال: إنه حرام.
"والأظهر أن ذلك الطعام، والشراب في حقه إنما كان معنوياً لا حسياً، وإلا فلا يكون مواصلاً مع الحسي، وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: لا تُواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله قال: إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني، وساق يسقيني أخرجاه في الصحيحين أيضا[25]."
الأصل أن نهي النبي ﷺ بقوله: لا تُواصِلوا للتحريم، ولكن الصحابة لم يفهموا هذا من مقتضى الحال، وإنما فهموا أنه نهاهم عنه شفقة عليهم، وإلا لم يواصلوا معه ﷺ، ولم يقرهم هو على هذا؛ لأنه لا يقر - عليه الصلاة، والسلام - على باطل، والصحابة لا يمكن أن يتقربوا إلى الله بمعصية رسوله ﷺ فالأصل أن النهي للتحريم ما لم يوجد له صارف.
"وقوله تعالى: وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ، وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [سورة البقرة:187] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان، أو في غير رمضان."
الاعتكاف معروف، وأصله بمعنى الملازمة، وطول المكث كما قال تعالى عن إبراهيم : إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [سورة الأنبياء:52] تقول: فلان عاكف على كذا بمعنى أنه يطيل المكث معه، أو عنده؛ ولذلك كان الاعتكاف هو ملازمة المسجد على سبيل القربة على وجه مخصوص، أو بشرطه، أو نحو ذلك من العبارات التي تقرب معناه.
والأرجح أن الاعتكاف لا يحد بيوم، وليلة إذ لا دليل على ذلك، وغاية ما يستدلون به كما هو معروف سؤال عمر للنبي ﷺ أنه نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، وقالوا: الليلة إذا ذكرت عند العرب فمعها اليوم فنقول: ما الحكم فيما إذا كان قد سأل النبي ﷺ عن الاعتكاف ثماني عشرة ساعة؟
فأظن أن الوسط في هذه المسألة هو بين قول هؤلاء، وقول الحنفية الذين قالوا: يصح أن يكون الاعتكاف، ولو بوقت يسير، ولذلك فإنهم إذا أرادوا دخول المسجد للصلاة قالوا: انووا الاعتكاف، والصواب أن هذا لا يعتبر اعتكافا، ولا يقال لهذا الإنسان: إنه معتكف، وإنما الاعتكاف هو المكث الطويل، والأحسن لمن أراد أن يعتكف ألا يقل اعتكافه عن يوم، وليلة.
ومسألة هل يدخل المعتكف المسجد من قبل غروب الشمس، أو قبيل الغروب، أو مع الغروب، أو يدخل بعد طلوع الفجر، أو مع الفجر على الحديث الوارد أنه دخل معتكفه بعد أن صلى الفجر - عليه الصلاة، والسلام -[26] كل هذا ليس محله هنا.
"فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً، أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه، وقال الضحّاك: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء فقال الله تعالى: وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [سورة البقرة:187]، أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد، ولا في غيره."
يقول ابن عباس: فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً، أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان، أو في غيره؛ فالاعتكاف لا يختص برمضان، وإن كان النبي ﷺ اعتكف في رمضان فالمقصود أن الله حرم على المعتكف أن ينكح النساء ليلاً، أو نهاراً؛ لأن الوطء من مفسدات الاعتكاف.
قال الضحّاك: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [سورة البقرة:187] هذه الرواية لها حكم المرسل، وبالتالي لا يعتمد عليها بأنه كان جائزاً في أول الأمر أن المعتكف يخرج لحاجته، وفيمكن أن يواقع في هذا الخروج.
قال الله تعالى: وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ : أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد، ولا في غيره. يقصد إن اعتكفتم في المسجد فلا تباشروهن في المساجد، ولا في غير المسجد، فالوطء في المسجد لا يجوز بكل حال سواء كان الشخص معتكفاً، أو غير معتكف فالمساجد ما بينت لهذا، وكذلك لا يجوز للمعتكف أن يجامع أهله، ولو في خارج المسجد ما دام معتكفاً..
"أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد، ولا في غيره، وكذا قال مجاهد، وقتادة، وغير واحد أنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية."
قوله: وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ: أصله من مس البشرة فهل المنهي عنه هو المس مطلقاً، أو على سبيل الاستمتاع، والمقصود به معنىً أخص من ذلك، وهو الجماع؟
أما مجرد اللمس فهذا ليس له وجه إطلاقاً في قوله: وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد، وأما القول بأن المراد به النهي عن جميع أنواع الاستمتاع فهذا هو الظاهر، - والله تعالى أعلم -، وأما الجماع فهو داخل قطعاً، وبعض أهل العلم يحرم الجماع، ويبيح ألوان الاستمتاع الأخرى إلا أن المعتكف في الأصل معرض عن هذا كله، ومشتغل بالإقبال على الله ، فهو ليس بصدد قضاء، وطره، ولذاته إذ حال المعتكف على النقيض من هذا.
والعلماء رحمهم الله في مسألة الاعتكاف تكلموا عن أمور أخرى كالقراءة في الفقه - مثلاً - هل يشتغل به المرء، وهو معتكف أم لا؟ فكيف يقال له: اذهب لمباشرة أهلك دون الجماع! فهناك فرق بين الاعتكاف، وبين الصوم فالصائم له أن يباشر، وهو صائم لكن الاعتكاف انقطاع إلى الله فهو بمنأى عن هذا، - والله أعلم -.
ومما يدل على أن اللمس المطلق ليس داخلاً في المنهي عنه للمعتكف أن النبي ﷺ كان في معتكفه يخرج رأسه لعائشة - ا - فترجله[27]، وبالتالي فمثل هذا لا إشكال فيه.
"قال ابن أبي حاتم: روي عن ابن مسعود، ومحمد بن كعب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وقتادة، والضحّاك، والسدّي، والربيع بن أنس، ومقاتل قالوا: لا يقربها، وهو معتكف."
لا يقربها، وهو معتكف يعني لا بجماع، ولا بما دونه من وجوه الالتذاذ، والاستمتاع، وهذا المعنى نقل عليه الحافظ ابن عبد البر الإجماع، وإن كان قد وجد من يقول بجواز التقبيل، ونحو ذلك إلا أنه قول ضعيف.
"وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفاً في مسجده، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يتلبث فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط، والأكل.
وليس له أن يقبل امرأته، ولا أن يضمها إليه، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه، ولا يعود المريض لكن يسأل عنه، وهو مارٌّ في طريقه، وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابه، وقد ذكرنا قطعة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام، ولله الحمد، والمنة."

جاء عن بعض السلف كعائشة - ا - فيما يتعلق بالمريض أنها كانت إذا دخلت سألت دون أن تقف فالمقصود أنه لا يتلبث في شيء من هذه الأمور دون حاجته الأصلية، ويكون ذلك بقدر الإمكان بمعنى أنه إذا كان يستطيع أن يأكل في محل قريب من معتكفه فلا يذهب إلى بيته البعيد، وإذا كان لا يجد، أو لا يصلح لمثله أن يأكل في الشارع، أو في الساحة، أو نحو ذلك، أو لا يلائمه هذا، وإنما يحتاج إلى نوع خاص من الطعام فيذهب، وكذلك إذا كان يجد مكاناً قريباً يغتسل فيه، أو نحو ذلك؛ فلا يذهب إلى المكان البعيد أما أنه يذهب ليأكل، ثم يشتري في الطريق أغراضا ليست ضرورية كعطر، أو أشياء من هذا القبيل مما يتوسع فيها الناس، ويتساهلون كأن يذهب ليشحن الجوال، أو يعِد صاحبه في مكان في الساحة، أو نحوها فيخرج إليه فمثل هذا ليس خروجاً للحاجة الأساسية، وهذه الأمور تضييع لمعنى الاعتكاف المشروع.
ومن تضييع معنى الاعتكاف أنك تجد عشرين، أو ثلاثين شخصاً يعتكفون معا بحيث يجدون من الأنس، والانبساط، والضحك، والقيل، والقال في المسجد الحرام، أو في المسجد النبوي ما لا يجدونه في بيوتهم فمثل هذا اعتكاف صوري، وليس حقيقيا؛ إذ لم يشرع الاعتكاف من أجل هذا إطلاقاً، وإذا كان الذي يصلي ليس له من صلاته إلا نصفها إلا ربعها..الخ فإن قضية الاعتكاف مثل ذلك.
فالاعتكاف لا يؤدي إلى الثمرة المرجوة إلا بأن يجمع المعتكف بين حبس النفس عن الطعام، والشراب في الصوم، وبين حبسها عما ألفت عليه من الخلطة - لا سيما عند من يشترط الصوم للاعتكاف - بحيث يكون منقطعاً فإذا حصل له هذا، وهذا حصل له المعنى الذي من أجله شرع الاعتكاف لذلك من أراد أن يعتكف فليعتكف لوحده، وإن كان ولا بد من رفيق فليكن مع شخص واحد من الجادين بحيث يكون مقبلاً على مصحفه، وذكر ربه، ودعائه لا يشغله رفيقه بالكلام، والقيل، والقال.
"ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف اقتداء بالقرآن العظيم فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم."
كذلك لا سيما أن النبي ﷺ اعتكف في رمضان فناسب ذكره بعده، والأمر الآخر: أن كثيراً من أهل العلم يقولون: إن الاعتكاف من شرطه الصوم فلا يصح من غير صوم، وهذه المسألة ليست محل اتفاق لكن على كل حال هذا وجه ذكر الاعتكاف بعد الصوم، وليس الحديث الآن عن الاعتكاف.
"وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد، وتنبيه على الاعتكاف في الصيام، أو في آخر شهر الصيام."
هذا مثلُ ما سبق أنه ذكر قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة:186] بين آيات الصوم فاستنبط منها العلماء معنى، وهو أن للصائم دعوة مستجابة فالدعاء في حال الصوم له مزية، وبالتالي ذكرت آية الدعاء بين آيات الصيام.
"وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد، وتنبيه على الاعتكاف في الصيام، أو في آخر شهر الصيام كما في السنة عن رسول الله ﷺ أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده، أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين - ا -[28]."
قوله: ثم اعتكف أزواجه من بعده هذا يدل على أن الاعتكاف مشروع للمرأة كالرجل مع أن النبي ﷺ في حياته لما رأى تلك الحصر التي أعدتها زوجاته في المسجد للاعتكاف قال: آلبر تردن[29]، وأمر بهتكها، وإزالتها، ورفعها؛ والسبب أنه وإن كانت النساء شقائق الرجال، ولكن الاعتكاف ليس أفضل للمرأة من أن تبقى في بيتها، وهذا الكلام لا يعجب النساء إطلاقاً، ولكنه هو الحق الذي لا مرية فيه قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [سورة الأحزاب:33]، والأحاديث واضحة في أن مكان المرأة بيتها بل في أبعد مكان في بيتها، وصلاتها فيه أفضل من صلاتها في مسجد حيها، وصلاتها في مسجد حيها أفضل من صلاتها في المسجد الجامع، وصلاتها في المسجد الجامع خير من صلاتها في مسجد رسول الله ﷺ، وخلفه فالأحاديث الواردة في هذا معروفة فكيف الحال إذا كان خروجها لتكون بائعة في الصيدلية، أو المستلزمات النسائية تتجول في السوق، أو غير ذلك؟
ولقد أصبحت قضية خروج المرأة مشكلة، بل حتى قضية اعتكاف المرأة صارت مشكلة إذ ربما وصل العدد في بعض المساجد - غير المسجد الحرام، والمسجد النبوي - إلى ثمانين معتكفة، بل وأكثر من ذلك، وإذا تسامعت النساء بهذا ستأتي أعداد أضعاف هذا العدد، وقضية خروج المرأة منه ما هو إسلامي، أو خروج تحت راية الشيطان بحيث تكون أجيرة عند الآخرين، وهكذا تستغل المرأة بأنها شقيقة الرجل، وأنها نصف المجتمع، ولا يطير المجتمع إلا بجناحين اثنين، ولا بد أن تعطى فرصة، وغير ذلك من الدعوات التي تصدقها المرأة، فأعداء الإسلام يريدون أن يخرجوا المرأة من حصنها الحصين في غاية التبرج عبر الوسائل المختلفة من قيادة السيارة إلى المشاركة السياسية إلى التمثيليات فلا يكفي أن تقف المرأة عند ما يناسبها من الأعمال بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية، والله المستعان.
"وفي الصحيح أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي ﷺ، وهو معتكف في المسجد فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت لترجع إلى منزلها، وكان ذلك ليلاً، فقام النبي ﷺ ليمشي معها حتى تبلغ دارها، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة، فلما كانا ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي ﷺ أسرعا، وفي رواية: تواريا أي حياءً من النبي ﷺ لكون أهله معه فقال لهما النبي ﷺ: على رسلكما إنها صفية بنت حيي أي لا تسرعا، واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال ﷺ: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا، أو قال: شراً  [30].
قال الشافعي - رحمه الله -: أراد أن يُعلم أمته التبري من التهمة في محلها؛ لئلا يقعا في محذور، وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي ﷺ شيئاً، - والله أعلم -."

أي أن النبي ﷺ بهذا الجواب يشرِّع لأمته، ويؤدبهم بهذا الأدب، وهو أن لا يجعل الإنسان نفسه في موضع ريبة، فإن كان في مقام ربما يرتاب فيه أحد بيّن له الحال؛ ليدفع عن نفسه التهمة؛ لأن الإنسان قد لا يلام إذا حكم بالظاهر، ومما يدل على ذلك أنه لما بركت ناقة النبي ﷺ في قصة الحديبية قال بعض الصحابة: خَلأت القصواء فأعلمهم أن ذلك ليس لها بخُلُق، وأن الذي حبسها إنما هو حابس الفيل فلم ينكر عليهم قولهم ذلك، ولم يقل لهم: استعجلتم بحكمكم هذا، وكيف تحكمون بالظاهر، وإنما بيّن لهم معنى آخر فالمقصود أن الإنسان يدفع عن نفسه التهمة، ولا يجعل نفسه في موضع ريبة، ثم ينتظر من الآخرين أن يحسنوا الظن به.
"ثم المراد بالمباشرة إنما هو الجماع، ودواعيه من تقبيل، ومعانقة، ونحو ذلك فأما معاطاة الشيء، ونحوه فلا بأس به، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة - ا - أنها قالت: كان رسول الله ﷺ يدني إليَّ رأسه فأرجله، وأنا حائض، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان قالت عائشة - ا -: ولقد كان المريض يكون في البيت فلا أسأل عنه إلا وأنا مارة[31].
وقول تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ [سورة البقرة:187] أي هذا الذي بيّناه، وفرضناه، وحددناه من الصيام، وأحكامه، وما أبحنا فيه، وما حرمنا، وذكرنا غاياته، ورخصه، وعزائمه حدود الله."

الحد: أصله من المنع، وقيل له ذلك؛ لأنه يمنع غيره من الدخول فيه نقول: هذا الحد، والزم هذا الحد، والزم حدك، ونحو ذلك، وربما قيل للحدود التي تقام على أصحاب بعض الذنوب - الحدود الشرعية - حدود؛ لأنها تمنع مَن واقَعَ شيئاً من هذه الذنوب أن يعود إليها، فهي تردعه، وتمنع الآخرين أيضاً من الدخول في شيء من ذلك، - والله أعلم -.
"أي شرعها الله، وبيّنها بنفسه فلا تقربوها: أي لا تجاوزوها، وتتعدوها."
قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ [سورة البقرة:187] أي هي تلك التي شرعها في أحكام الصوم، والاعتكاف، وأنه لا يباشر أهله من هو معتكف في المسجد فهذه حدود الله  فلا يقول الإنسان: أنا معتكف تطوعاً فأريد أن أتوسع في هذا الاعتكاف، فيرتكب شيئاً، وأشياء مما يخل بالاعتكاف، ويبطله، ومثل هذا الشعور يوجد أحياناً عند الإنسان فيكون مسيئاً باعتكافه هذا متعدياً فيه حدود الله ، ولو بغير المباشرة كأن يذهب ليتعشى في شقته مثلاً فينبسط في الحديث، ويطيل المكث فهذا الأمر لا يسوغ بل ربما بطل اعتكافه بسبب ذلك المكث الطويل، وبسبب الخروج المتكرر من غير ضرورة بأن يخرج مرة لحاجة إنسان، ومرة ليتعشى، ومرة يخرج ليأتى بالجوال، ومرة يخرج ليشتري أشياء كمالية ليست ضرورية يريد أن يدخلها معه - فالله المستعان -.
مسألة الاشتراط في الاعتكاف:
مسألة الاشتراط في الاعتكاف مسألة ينبغي التحرز، والاحتياط فيها أما أن يقول: أشترط أن أخرج للحاجة الفلانية، ثم يخرج - مثلاً - من الحرم إلى جدة من أجل معاملة تجارية حان وقتها، وهو معتكف فيذهب يتم معاملته، ثم يرجع إلى معتكفه، فأي اعتكاف هذا، وأي اشتراط؟!!
وتجد معتكفاً آخر يشترط الزيارات للمرضى، وزيارات لطلاب العلم ليلقي عليهم درسا، ونحو ذلك، وهذا كثير فهذا لا ينبغي، وعلى الإنسان أن يحتاط لهذا الأمر؛ فقد لا يجد دليلاً يسعفه في مثل هذه القضايا.
"وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني هذه الحدود الأربعة، ويقرأ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ [سورة البقرة:187] حتى بلغ: ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [سورة البقرة:187] قال: وكان أبي، وغيره من مشيختنا يقولون هذا، ويتلونه علينا.
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:187]: أي كما بيّن الصيام، وأحكامه، وشرائعه، وتفاصيله، كذلك يبيّن سائر الأحكام على لسان عبده، ورسوله محمد ﷺ.
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة البقرة:187] أي يعرفون كيف يهتدون، وكيف يطيعون كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة الحديد:9]."

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة البقرة:187] بالنسبة لـ"لعل" تحتمل المعنيين من التعليل، ومعنى الترجي، وأما التقوى هنا أي يتقون ما حرم الله عليهم فهذه حدود الله فلا يواقعوا شيئاً من ذلك، وبمعنى أنهم إن كانوا مراعين لحدود الله فإن ذلك يكون سبباً لتحقيق التقوى، وبين المعنيين ملازمة لا تخفى، - والله أعلم -.
  1. رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (5866) (2/108)، وصححه الألباني في صحيح، وضعيف الجامع الصغير برقم (2766).
  2. رواه البخاري في كتاب الصوم - باب قول الله تعالى: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [سورة البقرة: 187]  برقم (1818) (2/677)، ورواه مسلم في كتاب الصيام - باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك برقم (1091) (2/767).
  3. رواه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة، برقم (4239) (4/1640). 
  4. رواه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة البقرة برقم (4240) (4/1640).
  5. سبق تخريجه برقم  (2).
  6. سبق تخريجه.
  7. رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة - باب وقت الفجر برقم (1823) (2/678)، ومسلم في كتاب الصيام - باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره، وتعجيل الفطر، برقم (1095) (2/770).
  8. رواه مسلم في كتاب الصيام - باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره، وتعجيل الفطر برقم (1096) (2/770).
  9. رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (11101) (3/12)، وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح، وهذا إسناد ضعيف لجهالة أبي رفاعة.
  10. رواه البخاري في كتاب الصوم - باب قدر كم بين السحور، وصلاة الفجر برقم (1821) (2/678)، ورواه مسلم في كتاب الصيام - باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره، وتعجيل الفطر برقم (1097) (2/771)
  11. رواه أحمد في مسنده برقم (213580) (5/147)، وضعف إسناده شعيب الأرنؤوط.
  12. أخرجه البخاري في كتاب الأذان - باب الأذان قبل الفجر (596) (ج 1 / ص 224)، ومسلم في كتاب الصيام - باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل، وغيره حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح، وغير ذلك (1093) (ج 2 / ص 768). 
  13. رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (16334) (4/23)، وحسنه شعيب الأرنؤوط.
  14. رواه الترمذي برقم (705) (3/85)، وأبو داود برقم (2348) (1/717)، وحسنه الألباني في صحيح، وضعيف الجامع الصغير برقم (8635).
  15. رواه مسلم في كتاب الصيام - باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل برقم (1094) (2/769).
  16. رواه البخاري في كتاب الصوم - باب اغتسال الصائم برقم (1830) (2/681)، ورواه مسلم في كتاب الصيام - باب صحة صوم من طلع عليه الفجر، وهو جنب برقم (1109) (2/779).
  17. رواه مسلم في كتاب الصيام - باب صحة صوم من طلع عليه الفجر، وهو جنب برقم (1110) (2/781).
  18. أخرجه البخاري في كتاب الصوم - باب متى يحل فطر الصائم (1853) (ج 2 / ص 691)، ومسلم في كتاب الصيام - باب بيان وقت انقضاء الصوم، وخروج النهار (1100) (ج 2 / ص 772).
  19. أخرجه البخاري في كتاب الصوم - باب تعجيل الإفطار (1856) (ج 2 / ص 692)، ومسلم في كتاب الصيام - باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره، وتعجيل الفطر (1098) (ج 2 / ص 771).
  20. أخرجه الترمذي في كتاب الصوم -   باب ما جاء في تعجيل الإفطار (700) (ج 3 / ص 83)، وأحمد (ج 2 / ص 237)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (4041).
  21. سبق تخريجه.
  22. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب، والسنة - باب ما يكره من التعمق، والتنازع في العلم، والغلو في الدين، والبدع (6869) (ج 6 / ص 2661)، ومسلم في كتاب الصيام - باب النهي عن الوصال في الصوم (1103) (ج 2 / ص 774).، وأحمد (ج 2 / ص 281).
  23. أخرجه الترمذي في كتاب الطب - باب ما جاء: لا تكرهوا مرضاكم على الطعام، والشراب (2040) (ج 4 / ص 384)، وابن ماجه في كتاب الطب - باب لا تكرهوا المريض على الطعام (3444) (ج 2 / ص 1140)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7439).
  24. سبق تخريجه في الحاشية رقم (5).
  25. أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري في كتاب الصوم - باب الوصال، ومن قال ليس في الليل صيام (1862) (ج 2 / ص 693)، واللفظ للبخاري، ومسلم عن عائشة في كتاب الصيام - باب النهي عن الوصال في الصوم (1105) (ج 2 / ص 776)، ولفظه: نهاهم النبي ﷺ عن الوصال رحمة لهم فقالوا إنك تواصل قال: ((إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي، ويسقيني)). 
  26. أخرجه البخاري في كتاب الاعتكاف - باب الاعتكاف في شوال (1936) (ج 2 / ص 718)، ومسلم في كتاب الاعتكاف - باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (1172) (ج 2 / ص 830).
  27. أخرجه البخاري في كتاب الاعتكاف -   باب الحائض ترجل المعتكف(1924) (ج 2 / ص 714)، ومسلم في كتاب الحيض - باب جواز غسل رأس زوجها، وترجيله، وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها، وقراءة القرآن فيه (297) (ج 1 / ص 244).
  28. أخرجه البخاري في كتاب الاعتكاف - باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها (1922) (ج 2 / ص 713)، ومسلم في كتاب الاعتكاف - باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان (1172) (ج 2 / ص 830). 
  29. أخرجه البخاري في كتاب الاعتكاف - باب الأخبية في المسجد (1929) (ج 2 / ص 715)، ومسلم في كتاب الاعتكاف - باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (1172) (ج 2 / ص 830)، واللفظ لمسلم.
  30. أخرجه البخاري في كتاب الخمس - باب ما جاء في بيوت أزواج النبي ﷺ، وما نسب من البيوت إليهن (2934) (ج 3 / ص 1130)، ومسلم في كتاب السلام - باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة، وكانت زوجته، ومحرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به (2175) (ج 4 / ص 1712).
  31. أخرجه مسلم في كتاب الحيض - باب جواز غسل رأس زوجها، وترجيله، وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها، وقراءة القرآن فيه (297) (ج 1 / ص 244).

مرات الإستماع: 0

"أُحِلَّ لَكُمْ الآية، كان الأكل، والجماع محرمًا بعد النوم في ليل رمضان، فجرت لذلك قصة لعمر بن الخطاب ولصرمة بن مالك، فأحلهما الله تخفيفًا على عباده".

قوله: "كان الأكل، والجماع محرمًا بعد النوم في ليل رمضان" وهذا كما أشرنا من قبل، بأن الروايات الصحيحة دلت على أن صفة الصوم كانت على حال، ثم نسخت، يحرم الأكل، والشرب، والجماع مطلقًا ليالي الصوم إلى آخر الشهر، وأما الأكل، والشرب، فجاء في بعض الروايات عن بعض الصحابة إلى العشاء، أي يأكل، ويشرب إلى العشاء، وفي بعضها: ما لم ينم، يعني لو أنه نام بعد غروب الشمس قبل أن يفطر، فإنه يكون بذلك مأمورًا بالإمساك إلى اليوم الذي بعده، إلى غياب الشمس، فنُسخ هذا بقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ.

ومن هذه الروايات ما جاء عن البراء بن عازب  قال: قال: " كان أصحاب محمد ﷺ إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته، ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي ﷺ فنزلت هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة: 187] ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة: 187][1].

وهذا سبب نزول صريح، والرواية ثابتة صحيحة، فقال الله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ وقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فلم يتقيد ذلك بنوم.

ولفظ البخاري: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ[2] هذا في الجماع.

يقول: "فجرت لذلك قصة لعمر بن الخطاب  ولصرمة بن مالك" وفي البخاري سماه: قيس بن صرمة الأنصاري.

وأورد لكم بعض هذه الروايات في هذا الباب: منها: حديث سهل بن سعد  قال: أنزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة: 187] ولم ينزل مِنَ الفَجْرِ [البقرة: 187] فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض، والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: مِنَ الفَجْرِ [البقرة: 187] فعلموا أنه إنما يعني الليل، والنهار[3]. فهذا سبب نزول آخر لقوله: مِنَ الفَجْرِ.

وجاءت روايات فيها ذكر عمر بعضها صحيحة، وبعضها لا تخلو من ضعف، جاء هذا عن جماعة من الصحابة، لكن يقوى بعضها بعضًا.

ومن هذه الروايات التي يصح إسنادها، ما جاء عن ابن عباس - ا - في قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ يقول: وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء، والطعام إلى مثلها من القابلة - قيده هنا إلى العشاء بغض النظر عن النوم - ثم إن ناسًا من المسلمين أصابوا الطعام، والنساء في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب - هنا الإشارة إلى عمر - فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَاب عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ[4].

وجاء أيضًا عن ابن عباس في رواية صحيحة قال: إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل يأكلون، ويشربون، ويحل لهم شأن النساء - وهنا ذكر شأن النساء أنه حلال ما لم يكن نومة، مع أن الرواية الأخرى التي ذكرنا قبل أنه يحرم عليهم الشهر كله يعني النساء - فإذا نام أحدهم لم يطعم، ولم يشرب، ولم يأت أهله حتى يفطر من القابلة، فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعدما نام، ووجب عليه الصوم وقع على أهله، ثم جاء إلى النبي ﷺ فقال: أشكو إلى الله، وإليك الذي صنعت، قال: وماذا صنعت؟ قال: إني سولت لي نفسي فوقعت على أهلي بعد ما نمت، وأنا أريد الصوم، فزعموا أن النبي ﷺ قال: ما كنت خليقًا أن تفعل فنزل الكتاب: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ[5].

وهذه الروايات، وإن وُجد في تضاعيفها بعض التفاصيل، إلا أن ذلك لا يؤثر، يعني كونه مثلًا إلى العشاء، أو إذا نام، وكونه كان النساء يحرمن الشهر كله، أو ما لم ينم، كالأكل، والشرب، فالقدر المتفق عليه بين هذه الروايات: أن الصوم لم يكن كما هو عليه بعد نزول هذه الآية، فكان يحرم عليهم الأكل، والشرب، والجماع، إما أن يحرم الجماع مطلقًا في الشهر، أو ما لم ينم، أو إلى العشاء، ثم نُسخ، يعني أنه وجد نسخ، فهذا القدر المشترك في الروايات الصحيحة يدل على وقوع النسخ، فالذين قالوا: بأن التشبيه في الصفة كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قالوا: هذه الآية أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ هي ناسخة لذاك الصوم الذي كان على صفة صوم أهل الكتاب، فكان يحرم عليهم الوقاع، والأكل، والشرب ما لم ينم، أو إلى العشاء.

وقال بعض أهل العلم: إن قوله: كَمَا كُتِبَ في أصل الفرض فلا نسخ في الآية، وهذه الروايات يمكن أن يقال: بأن ذلك نسخ لما ثبت في السنة، من صفة الصوم في أول ما شُرع، وهذا يحتمل أن تكون كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أنه وقع فيها نسخ جزئي، ويحتمل أنها ليست منسوخة، وإن وقع نسخ في شأن الصوم، فهو نسخ لما ثبت في سنة رسول الله ﷺ فالنسخ موجود لكن الآية تحتمل- والله أعلم -.

"الرَّفَثُ هنا الجماع، وإنما تعدى بـ(إلى) لأنه في معنى الإفضاء".

تفسير الرفث بالجماع، قال به عامة السلف: كابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وطاوس، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعمرو بن دينار، والحسن البصري، وقتادة، والزهري، والضحاك، وإبراهيم النخعي، والسدي، وعطاء الخرساني، ومقاتل بن حيان[6] فكل هؤلاء قالوا: إن الرفث هو الجماع.

وبعضهم يقول: بأن الأصل في الرفث: التصريح بما يجب أن يُكنى عنه من ذكر النكاح، وكل كلام يُستحي من إظهاره، والإفصاح عنه، طبعًا قطعًا هذا ليس بمقصود؛ لأنه لا يحرم عليهم ليلة الصيام أن يتحدثوا عن شيء من هذا، فليس هذا الذي كان محرمًا، فبعضهم يقول: إنه في الأصل يطلق على كل ما يريد الرجل من امرأته، فيدخل فيه الجماع فما دونه من المباشرة، والقبلة، والمعانقة، ونحو ذلك من جوه الاستمتاع، وهذا قاله الأزهري صاحب تهذيب اللغة[7] والزجاج صاحب معاني القرآن[8] فعلى هذا يشمل الجماع، ومقدماته، وما يتصل به من قول، أو فعل، كل هذا يقال له رفث.

فصار عندنا في تفسير الرفث أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ احتمالات، فيحتمل أنه الجماع فقط، ويجوز المباشرة، والقبلة، ونحو هذا، ويحتمل أن يكون المراد جميع أنواع الاستمتاع، فتحرم عليه، كما يحرم على المحرم الاستمتاع، والله أعلم، لكن الجماع داخل فيه قطعًا بالاتفاق، والقدر الزائد على الجماع هو الذي اختلفوا فيه.

قال: وإنما تعدى الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ بـ(إلى) لأنه في معنى الإفضاء، يعني أنه مضمن معنى الإفضاء، فكلمة الرفث مصدر، فهو مضمن معنى الإفضاء؛ لأن الإفضاء يتعدى بـ(إلى) لم يقل: أحل لكم ليلة الصيام الرفث مع نسائكم، وإنما قال: (إلى) بهذا الاعتبار - والله أعلم -.

وهذا أحسن من قول الكوفيين: بأن الحرف مضمن معنى حرف آخر، يعني الرفث إلى نسائكم يقولون: حروف الجر تتناوب فـ(إلى) هنا بمعنى (مع) وذكرنا من قبل أن قول البصريين أبلغ، فيكون فيه تضمين الفعل، أو ما يقوم مقامه معنى فعل آخر، فيكون أوفى، وأكمل بالمعنى، كما قال الله : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة: 8] ولم يقل: وتقسطوا معهم، وإنما قال: إليهم، فالإقساط هنا مضمن معنى الإفضاء، تفضوا إليهم، يعني يكون بينكم، وبينهم مداخلة بمصالح، ومنافع متبادلة، ونحو ذلك، فجاء بـ(إلى) ليدل على معنى الإفضاء، فدل على العدل، وزيادة - والله أعلم -.

"هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ تشبيه بالثياب، لاشتمال كل واحد من الزوجين على الآخر، وهذا تعليل للإباحة".

هنا التشبيه بالثياب لاشتمال كل واحد من الزوجين على الآخر، يعني أن كل واحد من الزوجين بالنسبة للآخر بمنزلة اللباس، ووجهه بعضهم بقوله: هو كناية عن شدة المخالطة، يعني كالثياب التي تلي الجسد، فهي أقرب شيء إليه، فهذا مؤذن بقلة الصبر عنهن؛ لشدة القرب.

أو لأن كل واحد منهما لباس للآخر باعتبار أن كل واحد من الزوجين يستر حال صاحبه.

وقال بعضهم: يستره عند الوقاع عن أعين الناس، ومن أهل العلم من قال: يستر حال صاحبه، إما باعتبار أنه لا يفشي سره، ويتكلم، كما جاء النهي، والوعيد على هذا، تحدث الرجل، أو المرأة في المجالس عما يجري بينهما، وكذلك الستر باعتبار آخر، وهو أنه يستره بمعنى يمنعه من الفجور، يقول الإنسان مثلًا: زوجت بناتي لأسترهن، وتزوجت أريد الستر، يعني العفاف، فالزواج يمنعه من الفجور.

وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك باعتبار انضمامهما متجردين، فكل واحد منهما بمنزلة اللباس للآخر، وبعضهم يقول: لشدة امتزاجهما في حال الوقاع كامتزاج اللابس الثوب بلابسه، وبعضهم فسره بأمر معنوي هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ قال: بمعنى سكن لكم، وأنتم كذلك سكن لهن، وهذا مروي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان[9].

وقال بعضهم: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ هن لحاف لكم، وأنتم كذلك، وهذا مروي عن الربيع[10] والعرب تقول للمرأة: لباس، وإزار، وفراش، وأصل هذه المادة يدل على الملابسة، والمخالطة، والقرب، ونحو ذلك، بمعنى أن صبرهم عنهن يقل، ويكاد ينقطع لشدة المقاربة، والمخالطة، فهو لا يصبر عنها.

"تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي: تأكلون، وتجامعون بعد النوم في رمضان".

تختانون افتعال من الخيانة، وهي مخالفة الحق، بنقض العهد سرًا أَنْفُسَكُمْ أضاف هذا إلى النفس باعتبار أن ذلك يعود عليها بالضرر، والإثم.

"فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ أي: غفر ما وقعتم فيه من ذلك، وقيل: رفع عنكم ذلك الحكم".

فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ يحتمل هنا العفو عن الذنب، ويحتمل العفو هنا بمعنى التوسعة، والتسهيل عليهم، يقول: "أي غفر ما وقعتم فيه من ذلك" ويحتمل أن يكون تاب عليكم يعني قَبِل توبتكم، ووفقكم للتوبة، وقبلها منكم وَعَفَا عَنْكُمْ بمعنى وسع عليكم، ورفع الحرج، ونحو ذلك من العفو الذي هو التوسعة، أو عفا عن الذنب، أي قَبِل التوبة، وعفا عن الذنب.

وقيل: رفع عنكم ذلك الحكم، وهذا هو التوسعة، كقوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [المزمل: 20] بالتوسعة، أي خفف عنكم، وهذا كقوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ [النساء: 92] فهذا تخفيف من الله - تبارك، وتعالى - على عباده.

"بَاشِرُوهُنَّ إباحة".

يعني الأمر هنا للإباحة فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ والأصل أن الأمر للوجوب، فهل يجب عليه أن يباشر ليلة الصوم؟ الجواب: لا، والقاعدة أن على الأرجح الأمر بعد النهي يعود فيه الحال إلى ما كان عليه قبل النهي، ما حكم المباشرة قبل النهي عنها ليلة الصوم؟ إذا قلنا: إنها مباحة فيكون للإباحة، مثل ما جاء في قوله في الجمعة: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9] اتركوا البيع، وهذا تحريم للبيع، وسائر المعاملات، وأنواع العقود، إلى أن قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] إذا فُسر هذا بالتجارة، مع أن بعض أهل العلم قال: عيادة المريض، وصلة الرحم، وطلب العلم، لكن المشهور هو التجارة، أنها أبيحت لهم، فلما قال: وَذَرُوا الْبَيْعَ قال بعد ذلك: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فهذا أمر، فهل يجب عليه إذا صلى الجمعة الخروج، كما يقول ابن جزم؟ الجواب: لا؛ لأن الأمر هنا يرجع إلى ما كان عليه قبل النهي، وحكم التجارة قبل النهي مباح، فيكون ذلك بعد الصلاة مباحًا.

فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ والمباشرة أصلها كما سبق في الغريب من ملاقاة البشرة للبشرة.

"ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قيل: الولد يبتغى بالجماع، وقيل: الرخصة في الأكل، والجماع لمن نام في ليل رمضان بعد منعه". 

قيل: "الولد يبتغى بالجماع" وهذا قول الجمهور من السلف فمن بعدهم، وهو أحد الأقوال عن ابن عباس - ا - وكذلك قول أنس، وأبو هريرة وشريح، والحسن، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان، وابن زيد[11].

وقوله: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ معناه: أن يكون له نية في الوقاع، لا يواقع بمجرد الاستجابة للغريزة، فالعلماء قالوا: يكون للإنسان نية في النكاح، فيقصد بذلك الاقتداء بالمرسلين - عليهم الصلاة، والسلام - وكذلك إعفاف نفسه، وإعفاف غيره، وإنجاب أولاد صالحين، والامتثال لقول النبي ﷺ: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج[12] وقوله: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم[13] فتكون نيته في ذلك صالحة في النكاح، هذا أكمل حالًا ممن يتزوج لمجرد قضاء الوطر، وكذلك في كل مرة يأتي أهله يكون له نية، فالمراد بقوله: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ الولد، يكون له ولد صالح يعبد الله  ويدعو له، ونحو ذلك، وبعض أهل العلم يقولون: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني ليلة القدر.

وبعضهم يقول: العبادة في ليالي العشر، أو في ليالي رمضان، يعني حينما أُبيح لهم الوقاع ليالي الصوم، فلا ينبغي أن يكون ذلك مشغلًا لهم عن المطلوب الأعظم، وهو قيام هذه الليالي، والتعبد فيها، أو التماس ليلة القدر.

وبعض أهل العلم جمع بين المعنيين فقال: طلب الولد بالجماع، وكذلك طلب ما ينبغي طلبه من العبادة في ليالي رمضان، والتماس ليلة القدر، وهذا قول جيد، والآية تحتمل هذا، وهذا وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ لم يحدد، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير[14] والحافظ ابن القيم - رحم الله الجميع -[15]: أن ذلك يشمل هذا، وهذا.

أما قول من قال: بأن المقصود من قوله: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي الرخصة في الأكل، والجماع لمن نام في ليل رمضان، وهذا قال به قتادة[16] واستحسنه ابن عطية[17]؛ وهذا ابن عاشور[18] حمل هذا على ما أباحه الله من مباشرة النساء في غير وقت الصوم.

وأبعد من ذلك من قال: بأن المقصود من قوله: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني القرآن، باعتبار بما أبيح لكم فيه، فهذا لا يخلو من تكلف - والله أعلم -.

وقال بعضهم: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من الإماء، والزوجات، وهذا أيضًا بعيد، لكن ابن جرير - كما سبق - حملها على طلب ما كُتب لهم في اللوح المحفوظ، وعمم هذه المعاني، سواء كانت الرخصة، التي رخص الله، ووسع عليهم بها، أو الولد، أو ليلة القدر، أو ما كتبه لهم أنه يباح، ويطلق، يقول: "وقد يدخل فيه جميع معاني الخير" ويعتبر هو أن الولد هو الأقرب، لكن يقول: كل هذا داخل فيه.

"مِنَ الْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض لا للأسود؛ لأن الفجر ليس له سواد، و(الخيط) هنا استعارة يراد بـ (الخيط الأبيض) بياض الفجر، وبـ(الخيط الأسود) سواد الليل، وروي أن قوله: مِنَ الْفَجْرِ نزل بعد ذلك بيانًا لهذا المعنى؛ لأن بعضهم جعل خيطًا أبيض، وخيطًا أسود عند وسادته، وأكل حتى تبين له، فقال له النبي ﷺ: إنما ذلك سواد الليل، وبياض النهار[19]".

هذا جاء من حديث سهل بن سعد في الصحيحين: أنها نزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة: 187] ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض، والخيط الأسود، فلا يزال يأكل، ويشرب، حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد مِنَ الْفَجْرِ وهو الحديث الذي ذكره المؤلف، وقد قاله النبي ﷺ في عدي بن حاتم، ولكن ليس فيه أنه سبب النزول، يعني قوله: إنما ذلك سواد الليل، وبياض النهار[20] هذا قاله لعدي لما ذكر أنه اتخذ عقالين أسود، وأبيض... إلخ، فقال له النبي ﷺ​​​​​​​: إنما ذلك سواد الليل، وبياض النهار[21] لكن لم يرد فيه أنه سبب النزول.

"إِلَى اللَّيْلِ أي: إلى أول الليل، وهو غروب الشمس، فمن أفطر قبل ذلك فعليه القضاء، والكفارة، ومن شك هل غربت أم لا؟ فأفطر فعليه القضاء، والكفارة أيضًا".

باعتبار أن الأصل بقاء النهار، بخلاف من شك في طلوع الفجر فأكل، وشرب، فالأصل بقاء الليل، لكن لو أنه لم يشك، فأفطر، فتبين أن النهار لم يزل بعد، فليس عليه شيء على الأرجح.

وقد جاء عن أسماء بنت أبي بكر الصديق - ا - قالت: "أفطرنا على عهد النبي ﷺ​​​​​​​ يوم غيم، ثم طلعت الشمس" قيل لهشام: فأمروا بالقضاء؟ قال: "لا بد من قضاء"، وقال معمر: سمعت هشاماً: لا أدري أقضوا أم لا"[22].

لكن لا يكون مبنى ذلك على الشك، فإذا شك فيجب عليه أن يتثبت؛ لأن الأصل بقاء النهار.

"وقيل: القضاء فقط".

الراجح أنه عليه القضاء فقط، ولا كفارة عليه.

"وقالت عائشة - ا -: إِلَى اللَّيْلِ يقتضي المنع من الوصال، وقد جاء ذلك في الحديث".

عائشة - ا - احتجت بقوله: إِلَى اللَّيْلِ على منع الوصال، فهذا مروي عنها - ا - حيث قالت: من أراد الوصال إلى السحر فله ذلك؛ لحديث أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي ﷺ​​​​​​​ يقول: لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر[23] فهذا ثابت في الصحيح، لكن أيضًا، ورد عنها الاستدلال على منع الوصال بقوله: إِلَى اللَّيْلِ والليل يصدق بغروب الشمس، لكن ما ذكرت من الحديث هو الثابت عنها - ا -.

وحديث أبي سعيد  أنه سمع النبي ﷺ​​​​​​​ يقول: لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر[24] ولما ذكروا له ﷺ​​​​​​​ وصاله، قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني، وساق يسقين[25] وهو مخرج في الصحيحين.

وهنا قال: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ فيه بيان انقضاء الصوم، هل معنى ذلك أنه إذا غابت الشمس أفطر الصائم حتمًا شاء أم أبى؟ فكلامه مبناه على هذا ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ إذن ما بعد الليل ليس محلًا للصيام.

أما الوصال فبعضهم يقول: يحرم الوصال مطلقًا، وقال بعضهم: يواصل إلى السحر، وكلام أهل العلم في هذا معروف، لكن حديث أبي سعيد هذا أنه رخص لهم في الوصال إلى السحر، ونهاهم عما زاد على ذلك، مع أن بعض السلف كان يواصل، والحافظ ابن حجر - رحمه الله - نقل عن ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن الزبير أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً[26] يعني يواصل خمسة عشر يوماً متواصلة، وسئل كيف تطيق؟ فذكر أنه يشرب الودك[27] فيتقوى به، وكان يَفُل الكتيبة لما حاصره الحجاج في الحرم، كان يخرج من باب، ويلقى كتيبة وحده، وهو مواصل الصوم، ويفُلُهم إلى الحجون، ونحن الواحد إذا صام يكون وجهه أصفر، وشاحب، وإذا جاء الضهر بدأت ترتعش أطرافه من الجوع!

"وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ تحريم للمباشرة حين الاعتكاف، قال الجمهور: المباشرة هنا الجماع فما دونه، وقيل: الجماع فقط".

الجماع فما دونه يعني القبلة، والمعانقة، والمباشرة، وكل هذا، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير[28] وتكلمنا على هذا، وتفصيل المذاهب، كلام الفقهاء فيه، في الكلام على أحكام الاعتكاف.

فإذا نظرنا إلى معنى المباشرة بأنها تشمل الجماع فما دونه، فيقال: يحرم عليه سائر أنواع الاستمتاع، وهو منقطع للعبادة، وهذا هو الأقرب، لكن له أن يجلس مع امرأته، وأن يمسها من غير شهوة، كما في حديث عائشة: "أنها كانت ترجل، تعني رأس رسول الله ﷺ​​​​​​​ وهي حائض، ورسول الله ﷺ​​​​​​​ حينئذٍ مجاور في المسجد، يدني لها رأسه، وهي في حجرتها، فترجله، وهي حائض"[29].

وكذلك حينما جاءت صفية، وحدثته، وهو في معتكفه ﷺ​​​​​​​ في القصة المعروفة، وقوله: على رسلكما إنها صفية[30].

"فِي الْمَساجِدِ دليل على جواز الاعتكاف في كل مسجد، خلافًا لمن قال: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، ومسجد المدينة، وبيت المقدس".

حديث: لا اعتكاف إلا في هذه المساجد الثلاثة: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد إيلياء[31] وكلام أهل العلم في محمله، فبعضهم يقول: لا اعتكاف على وجه الكمال، وبعضهم تكلم في ثبوته، وصحته.

والمساجد إذا قيل: بأن (أل) هذه معرفة فهي للعموم، على ما قال المؤلف، هذا الذي مشى عليه باعتبار أن ذلك في كل المساجد، وعلى تفاصيل عند أهل العلم، هل يكون في غير الجامع، أو لا؟ يعني هل يشترط أن يكون في جامع؟ والذين قالوا: في جامع، قالوا: من أجل ألا يحتاج إلى الخروج في وقت الجمعة، لكن هذا يرد عليه لو كان سيعتكف في غير وقت جمعة؟

والأقرب أنه يصح في كل مسجد تصلى فيه الجماعة، يعني له إمام راتب، يعني ليس مجرد مصلى.

وأما المرأة فتعتكف في المسجد، ولو كان ليس له جماعة راتبة، يعني لو كان المصلى لا يصلى فيه، لكنه باقي مسجد، أو يأتونه الناس من المسافرين فيصلون فيه في بعض الأوقات، أو مكان يُصلى فيه فرض واحد لوجود ناس في هذا المكان في وقت فرض معين، فالمرأة لأنها غير مأمورة أصلًا بحضور الجماعة فلها أن تعتكف في مثل هذا المسجد، وأما الرجل فلا يعتكف إلا في مسجد تُقام فيه الجماعة في الفروض الخمسة، ولو لم يكن جامعًا، ويجوز له أن يخرج، لكن تكلموا في التبكير للجمعة بالنسبة للمعتكف، هل يُبكر لها، أو لا يُبكر؟، وقول الجمهور: أن ذلك لا يختص بالمساجد الثلاثة.

وبعض النساء تسأل في رمضان تقول: أنا أريد أن أعتكف في مكان معين في البيت، في غرفة، أضع فيها مصلى، وأعتكف هناك؟ نقول: لا، ليس لها أن تعتكف في بيتها، وبقاؤها في بيتها أفضل من اعتكافها في المسجد، لكن لا تكون معتكفة شرعًا في بيتها.

"وفيه أيضًا دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، لا في غيرها خلافًا لمن أجازه في غيرها من مفهوم الآية، حُدُودُ اللَّهِ أي: أحكامه التي أمر بالوقوف عندها".

الحد يقول بعضهم: أصله من المنع، قيل له ذلك لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج عنها ما هو منها، وهذا أيضًا قيل للحدود التي تقام على أصحاب الجنايات الخاصة؛ لأنها تمنع صاحبها من العود.

"فَلا تَقْرَبُوها أي لا تقربوا مخالفتها، واستدل بعضهم به على سد الذرائع؛ لأن المقصود النهي عن المخالفة للمحدود؛ لقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: 229] ثم نهى هنا عن مقاربة المخالفة سدًا للذريعة".

هنا لم ينهَ عن مقارفة ذلك مثلًا، ومواقعته، وإنما عن المقاربة؛ ولذلك إذا نهى الله عن شيء، فهو نهي عنه، وعن كل ما يوصل إليه، وإذا أمر بشيء فهو أمر به، وبكل ما يوصل إليه؛ ولهذا قال صاحب المراقي:

سَدُّ الذَّرَائِعِ إِلَى الْمُحَرَّمِ حَتْمٌ كَفَتْحِهَا إِلَى الْمُنْحَتِمِ[32]

فتح الذرائع إلى الواجب، واجب، والأسباب الموصلة إليه، وكذلك في الممنوع، في المحرم يجب سد الذريعة الموصلة إليه؛ ولذلك قال: فَلَا تَقْرَبُوهَا وهذه منهيات، ومحظورات، فقال: فَلَا تَقْرَبُوهَا وفي المأمورات قال: فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229] يعني لا تتجاوزوا هذه التي أمركم الله بها.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب قول الله جل ذكره: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم، وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم [البقرة: 187] برقم: (1915).
  2.  أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم [البقرة: 187] برقم: (4508).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب قول الله تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل [البقرة: 187] (1917)، ومسلم في الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر رقم (1091).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 496-2940).
  5.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 511).
  6.  المصدر السابق (1/ 510).
  7.  تهذيب اللغة (15/ 58).
  8.  معاني القرآن، وإعرابه للزجاج (1/ 270).
  9.  تفسير ابن أبي حاتم (1/ 316).
  10.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 232).
  11.  تفسير ابن أبي حاتم (1/ 317).
  12. أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب قول النبي ﷺ: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، لأنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح برقم (5065) ومسلم في نكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، رقم (1400).
  13.  أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء برقم: (2050)، وقال الألباني: "حسن صحيح".
  14.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 248).
  15.  التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص: 147).
  16.  تفسير عبد الرزاق (1/ 311)، وتفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/ 508).
  17.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 258).
  18.  التحرير، والتنوير (2/ 183).
  19.  أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب قول الله تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل [البقرة: 187] برقم: (1916)، ومسلم في الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر رقم: (1090).
  20.  سبق تخريجه.
  21.  سبق تخريجه.
  22.  أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب إذا أفطر في رمضان، ثم طلعت الشمس برقم: (1959).
  23.  أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الوصال إلى السحر برقم: (1967).
  24.  سبق تخريجه.
  25.  أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الوصال، ومن قال: "ليس في الليل صيام" برقم: (1963) ومسلم عن ابن عمر في كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم برقم: (1102).
  26.  فتح الباري لابن حجر (4/ 204).
  27.  الودك: هو دسم اللحم، ودهنه الذي يستخرج منه. انظر: النهاية في غريب الحديث، والأثر (5/ 169).
  28.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 272).
  29.  أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب غسل الحائض رأس زوجها، وترجيله برقم: (296).
  30.  أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس، وجنوده برقم: (3281)، ومسلم في كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة، وكانت زوجته، أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به برقم: (2175).
  31.  أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (4/ 348-8016)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 667-2786): "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقول ابن مسعود، ليس نصاً في تخطئته لحذيفة في روايته للفظ الحديث، بل لعله خطأه في استدلاله به، على العكوف الذي أنكره حذيفة، لاحتمال أن يكون معنى الحديث عند ابن مسعود: لا اعتكاف كاملاً، كقوله ﷺ: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له والله أعلم".
  32.  نشر البنود على مراقي السعود (2/ 265).

مرات الإستماع: 0

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة البقرة:187].

هذه الآية على الأرجح من أقوال المفسرين ناسخة للتخيير الذي في قوله -تبارك وتعالى- قبل ذلك: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [سورة البقرة:184]، فكان الصوم أول ما فُرض على التخيير من شاء صام ومن شاء أطعم فجاء الأمر بصوم رمضان من غير تخيير فكان نسخ ذلك بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [سورة البقرة:185].

وهذه الآية بعض أهل العلم يقولون: هي ناسخة لقوله أو لبعض ما جاء في قوله -تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183]، وهذا باعتبار أن التشبيه في الآية: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أنه في الصفة، يعني: أن صوم أهل الكتاب كان يحرم معه المُباشرة ليلة الصيام، وكذلك أيضًا من أكل أو شرب فنام فإنه لا يأكل ولا يشرب إلى اليوم الآخر، أو لو أنه حل الفطر فنام قبل أن يُفطر فإنه لا يأكل ولا يشرب حتى الفطر الآخر، فعلى هذا القول تكون هذه الآية ناسخة: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ، والروايات الواردة في الباب تدل على أنه كان يحرم عليهم المُباشرة والمُعاشرة للنساء، يحرم عليهم الجماع، كذلك يحرم عليهم الأكل والشرب إذا نام ليلة الصيام، يعني بعد النوم لا يحل له أن يأكل ولا يشرب، فجاءت هذه الآية ناسخة لذلك.

ومن يقول بأن التشبيه في قوله -تبارك وتعالى: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أنه في العِدة في العدد يعني أن الذي كُتب علينا كما يقول ابن جرير -رحمه الله [1] هو شهر رمضان كما كُتب على الذين من قبلنا شهر رمضان فلا نسخ، وأما من قال بأن التشبيه في قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أنه التشبيه في العِدة عدة الصوم، وأنه كان ثلاثة أيام مع عاشوراء فإن هذا نُسخ بقوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة:185]، يعني: أن أول فرض الصوم كان ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، ومن قال بأن التشبيه هو كما كُتب على الذين من قبلكم يعني في أصل الفرضية فُرض عليكم كما فُرض عليهم بصرف النظر عن صفة صومهم أو عن عدده أو عن ميقاته، يعني: هل هو في شهر رمضان أو في شهر آخر فهنا يقولون لا نسخ.

المقصود أن الذي يتعلق بهذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ، أن ذلك يكون ناسخًا على قول من قال بأن التشبيه في تلك الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183]، أنه في الصفة على صفة صومهم، يحرم عليهم الجماع ويحرم عليهم الأكل والشرب إذا نام، فخُفف لا شك أنه حصل تخفيف.

ومن يقول بأن التشبيه هو في أصل الفرضية فلا تكون هذه الآية ناسخة لتلك، ولكن تكون ناسخة لما ثبت في سنة رسول الله ﷺ من تشريع الصيام بهذه الصفة أنه يحرم الجماع ويحرم أيضًا الأكل والشرب بعد النوم، وجاء في بعض الروايات عن بعض الصحابة إلى العشاء [2] يعني: يأكل ويشرب إلى العشاء ثم يحرم عليه الأكل والشرب بعد ذلك.

فالمقصود أن هذه الآية تدل على نسخ فهي إما أن تكون ناسخة لقرآن أو ناسخة لسنة، فوسع الله وأباح وخفف فقال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ، والرفث يصدق على الجماع بالإجماع بالاتفاق، واختلفوا في ما زاد على ذلك من المُباشرة والقُبلة ونحو ذلك، فلفظ الرفث يدل على هذا وهذا، يدل على الجماع ويدل على كل ما يطلبه الرجل من المرأة من جماع، ومُباشرة، وقُبلة، ونحو ذلك، كل هذا داخل فيه.

فهنا: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، هذا كالتعليل للإباحة، وذلك أنه شق عليهم هذا المنع مع صعوبة التحرز لكثرة المُلابسة والمُقاربة والمُخالطة، فقال: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ، بالجماع ليلة الصوم، وربما الأكل أو الشُرب بعد النوم، فذلك يُعد خروجًا عن حكم الشرع، فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ، قبل توبتكم، ووفقكم للتوبة، وعفا عنكم هذا الذنب والجناية، أو عفا عنكم بمعنى وسع في هذا التشريع فرفع عنكم ذلك الحكم الذي شق عليكم، وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ، فعلى القول بأن العفو هنا المقصود به التوسعة عفا عنكم فرفع ذلك الحكم فتكون الفاء للتعليل، فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ، يعني: دلالة الإيماء والتنبيه، يعني: رُتب على ما قبله، لما عفا عنا رفع هذا الحكم فالآن حل المُباشرة.

والمُباشرة مأخوذة من مُماسة البشرة للبشرة، ويُكنى بها عن الجماع ويُكنى بها عن المُقارفات التي تكون دونه مما يكون بشهوة، وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، هذا الذي كتبه الله لنا من أهل العلم من يقول: الولد تطلب الولد بهذا الجماع بحيث لا يكون الجماع مجرد تلبية للغريزة فيكون للإنسان فيه نية، أو أن يكون ذلك لما وسع عليهم وأباح لهم المُباشرة والمُعاشرة ليلة الصوم أرشدهم إلى أمر قد يفوت وهو أعظم من المُباشرة وذلك ليلة القدر، وقيام ليالي الشهر: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، من ليلة القدر، والقيام، والتقرب إلى الله -تبارك وتعالى.

وبعضهم يقول: وابتغوا ما كتب الله لكم في اللوح المحفوظ، ما الذي كتبه في اللوح المحفوظ؟

يدخل فيه الولد، يدخل فيه هذا الحكم الذي هو الإباحة والتوسعة، ويدخل فيه أيضًا المُباشرة والمُعاشرة، ويدخل فيه التماس الفضائل والأعمال الصالحة من ليلة القدر وقيام ليالي الشهر، وهكذا ما كتبه -تبارك وتعالى- لعباده مما ينالونه من الخيرات والأعمال الصالحات.

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، هذ الأمر للإباحة، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، لأن القاعدة أن الأمر الذي يكون بعد الحظر يرجع إلى ما كان قبل الحظر، الأمر الذي يكون بعد حظر مُنعوا من الأكل والشرب والجماع ليلة الصوم فكان ذلك محظورًا فهذا الحظر جاء بعده الأمر: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ، هل المُباشرة واجبة ليلة الصوم؟

الجواب: لا، هي مُباحة، كذلك أيضًا الأكل والشرب، الآن باشروهن، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، فهذا أمر للإباحة؛ لأنه جاء بعد منع وحظر، فصار ذلك مُباحًا، فهذه قاعدة صحيحة وإن لم تكن محل اتفاق بين أهل العلم.

قال: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، يعني: أنه يجوز الأكل والشرب والجماع إلى آخر جُزء من الليل، حتى يتبين لكم الخيط، وتبين الخيط الأبيض معناها بياض الصُبح، حيث ينشق الفجر وينفلق من الظلام، والخيط الأسود هو سواد الليل، شبهه بالخيط بعض أهل العلم يقولون: لأنه يبدأ كالخيط ثم بعد ذلك ينبلج، وهذا محل بحث لأهل العلم في الكلام على وقت الإمساك، فالذين يقولون: إنه يجب الإمساك بأول طلوع الفجر، يقولون: سماه خيطًا وذلك قبل انبلاج النور، فيكون الإمساك في أول بزوغ الفجر، يعني: مما يسترعي النظر، وتحري ذلك.

ومن أهل العلم من يقول: إن هذا يكون حينما ينبلج الصُبح وينتشر هذا الخيط وحتى قال بعضهم: حتى يُرى الصُبح في البيوت والمساجد، يعني: يُرى الضياء في البيوت والمساجد، هكذا قال بعضهم، ومرجع ذلك هذا الموضع في الآية الخيط ما المراد به؟ الذين قالوا: حتى ينبلج قالوا حتى يتبين فالتبين لا يحصل بمجرد ظهور ذلك الخيط الرفيع الدقيق في أوله فهذا يحتاج إلى تأمل ونظر، وتدقيق لكن التبين أوسع من هذا، والفقهاء كيف تختلف أقوالهم بناء على لفظة، ثم ذلك قد أشكل على بعض الصحابة ، فبعضهم جعل عند أو تحت وساده عِقالين أسود وأبيض وجعل ينظر متى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود [3].

وبعضهم ربط بإبهاميه خيطًا أبيض وآخر أسود وجعل يأكل ويشرب وينظر حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود [4] وقعت وقائع فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فبين لهم أن ذلك هو بياض الصُبح من سواد الليل [5] حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ، فنزلت: مِنَ الْفَجْرِ، بعد ذلك، ولهذا أشكل عليهم لم تنزل ابتداء.

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ، إذا طلع الفجر أمسك ثم يُتم الصوم إلى الليل، فهذا وقت الصوم، فإلى الفجر الأكل والشرب والجماع معنى ذلك أنه إن شك في طلوع الفجر لم يلزمه الإمساك فلو أكل أو شرب ثم تبين له أن الصبح قد طلع فصومه صحيح، وأما في النهار فإنه إذا شك في غروب الشمس فيجب عليه أن يتثبت، لماذا؟ لأن الأصل بقاء النهار، لكن لو أنه جزم بذلك ثم تبين أنه أخطأ إما أن الساعة خطأ لم يتوقع، أو أنه سمع مؤذنًا يثق به تقدم على الفجر بدقائق فتبين أنه أخطأ أو أنه لربما حصل له خطأ بسبب الغيم من غير ساعات كما كان في السابق، أو لم يكن معه ساعة في البر، أو نحو هذا، كما في حديث أسماء: "أفطرنا في يوم غيم على عهد رسول الله ﷺ، ثم طلع الشمس" [6] ولم يُذكر أنهم أُمروا بالقضاء، قال: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ، وهذا يدل على مسألة وهي كما قال النبي ﷺ: إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم [7]

إذا ذهب النهار وأقبل الليل وغابت الشمس أفطر الصائم، لكن الأحاديث الواردة في مسألة الوصال فيها كلام معروف، هل للإنسان أن يواصل مُطلقًا، هل له أن يواصل إلى السحر؟ خلاف بين الصحابة فمن بعدهم في هذه المسألة، فمنهم من منع مُطلقًا لنهي النبي ﷺ عن الوِصال كما في حديث عائشة -رضي الله عنها [8]  وغيرها.

وكذلك أيضًا منهم من رخص فيه إلى السحر باعتبار أنهم لما أرادوا أن يواصلوا رخص لهم النبي ﷺ إلى السحر [9]

ومنهم من رأى أن النهي ليس للتحريم، وأن ذلك للإرفاق بهم فقط، والشفقة عليهم فواصل بعض السلف ، ومن هؤلاء ابن الزبير  فقد جاء في بعض الروايات أنه يواصل لمدة أسبوعين خمسة عشر يوما [10] وفي بعضها سبعة عشر يومًا [11] وجاء ذلك أيضًا عن غيره.

فالمقصود أن قوله: إِلَى اللَّيْلِ، يدل على أن نهاية الصوم إلى الليل والمقصود بداية الليل.

وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، هذا يدل على التحريم تحريم المُباشرة يدخل فيه الجماع، والراجح أنه يدخل فيه أيضًا سائر أنواع الاستمتاع.

وهنا لا يكون ذلك مُقيدًا في المسجد، يعني: أن المُباشرة تُمنع في المسجد وإنما المقصود أنه لا يجوز له أن يُباشر حال كونه مُعتكفًا؛ لأنه ربما خرج الواحد لبيته للحاجة فربما ألمّ بامرأته فلا يجوز: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، ليس المقصود ألا تُباشر وأنت في المسجد تُباشرها في المسجد، هذا لا شك من غير اعتكاف ليس للإنسان أن يُعاشر امرأته في المسجد، ولكن المقصود حال كونه مُعتكفًا إذا رجع إلى بيته لحاجة فليس له؛ لأن الجماع يُبطل الاعتكاف وينقضه.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا، هي ما حده لعباده من الشرائع والأحكام والحلال والحرام.

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، كذلك البيان والإيضاح يُبين الله  آياته للناس من أجل أن تحصل لهم التقوى فإنهم إذا عرفوا ما حده الله لعباده، وما شرعه لهم كان ذلك سبيلاً إلى لزومه والتمسك به، ونحو ذلك. 

 

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة البقرة:187].

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات والفوائد من قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ أنه بني الفعل هنا للمجهول أُحِلَّ مع أن مصدر التحليل والتحريم معلوم لا يخفى فهو الله -تبارك وتعالى، فأبهمه لكونه معلومًا، فلا يتطرق إلى الأذهان أن غير الله -تبارك وتعالى- يملك حق التحليل والتحريم؛ ولهذا قال الله عن أهل الكتاب: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [سورة التوبة:31]، ولما سأله عدي بن حاتم وقال: ما عبدناهم، فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟، فقال: بلى، قال: فتلك عبادتهم [12]

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ، فقدم هنا الجار والمجرور أُحِلَّ لَكُمْ ما قال: أحل ليلة الصيام لكم الرفث إلى نسائكم، فهذا حكم يتصل بهم وتوسعة قد وقعت لهم فقدم ما يخصهم.

هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، فهذه العبارة: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ يؤخذ منها فائدة وهي التكنية عما لا يحسن التصريح به، فالشارع يكني، وهذا من الأدب في الألفاظ أن يكنى عما يستحيى منه، أو مما لا يحسن ذكره صراحة: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، وأيضًا التعدية في قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ فمعلوم أنه لا يقال: رفث فلان إلى امرأته، ولكن جيء بـ"إلى" في هذا الموضع؛ لأن الرفث مضمن معنى الإفضاء، الإفضاء إلى نسائكم، والفعل يُضمن معنى الفعل، وكذلك ما يقوم مقامه كالمصدر، وأن هذه طريقة البصريين وأنها أبلغ؛ لأنها أكثر في المعاني، وذلك أنه دل على معنى الرفث، وقلنا: هو الجماع بالإجماع، ويدخل فيه ما يريده الرجل من المرأة من مباشرة وقبلة ونحو ذلك.

الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ فدل على الرفث وزيادة وهو الإفضاء، أن يفضي إلى امرأته، أن يُفضي إليها بأنواع المقارفات والملابسات التي هي من جنس الاستمتاع، الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ فهذا لما يقع بينهما من الملابسة؛ ولهذا قال: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [سورة البقرة:187]، ولاحظ التعبير هنا باللباس فاللباس يستر، فهنا الرجل لباس للمرأة والمرأة لباس للرجل، فيحصل بذلك أنواع الستر التي ذكرها أهل العلم، الستر المعنوي، بمعنى أن الإنسان حينما يتزوج فإنه يستر نفسه، ويحجزها عن مقارفة ما لا يليق من الفواحش، ومواقعة الحرام ونحو ذلك؛ ولذلك تجد الإنسان حينما يتزوج يعلل هذا أحيانًا، يقول: أريد الستر، تزوجت، زوَّج فلان موليته ليسترها، ولهذا يقال: النكاح الزواج ستر بالعفاف والمباعدة عما يشين مما يلوث ويدنس الأعراض، والزنى والمقارفات المحرمة لا شك أنها فضيحة وعار وشناعة وفاحشة، يكفي أن الله سماها فاحشة: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [سورة الإسراء:32]، والفاحشة هي الذنب الكبير العظيم.

وهذا ستر معنوي من جهة أنه لا يكشف سرها ولا تكشف سره، وهذا من جهتين: من جهة أنه لا يتحدث عما يجري بينهما في الوقاع فهذا فعل من لا خلاق له، وقد جاء النهي صريحًا عن ذلك، أن يتحدث الرجل عن امرأته وما يجري بينهما، وكذلك المرأة لا تتحدث بين النساء عما يقع بينها وبين زوجها، فهذا ستر.

كذلك أيضًا لا يليق بالرجل بحال من الأحوال الذي هو لباس للمرأة أن يتحدث عن أمور خاصة يفشيها إلى الآخرين مما يتصل بامرأته فيفضحها، يتكلم عن عيوب وأوصاف ومؤاخذات ونحو ذلك مما لا يعرفه الناس، فيتحدث عند أصحابه، يتحدث عند أهلها، يتحدث عند أهله، يتحدث عند أخواته فيكشفها، أو أن المرأة تتحدث عن زوجها وماذا يصدر عنه، فتفضحه بذلك، فهذا خلاف الستر، الزوج يكون لباس لامرأته يسترها، والمرأة تكون لباسًا لزوجها تستره، فيكون ما بينهما من القرب كما بين الثياب ولابسيها، ومن التحصين للفروج ما هو ظاهر، فالثياب تستر البدن، فهكذا ينبغي أن يكون الزوج لزوجته والزوجة لزوجها، لا داعي للحديث ونشر الغسيل كما يقال، وكل واحد من الزوجين يمشي ويتحدث عن عيوب الآخر ونقائصه، وقد يتساهل بعض الناس في هذا إذا كثرت المشكلات وساءت العلاقة.

وبعضهم قد يتحدث عما يجري بينهما من أمور المعاشرة وذلك عند من يتزوج لربما زواجًا لا يقصد به الاستدامة، يسافر فيتزوج أيامًا ثم يطلق، فيتحدث مع رفقائه الذين سعوا سعيه، فكل واحد يتحدث عن المرأة التي صارت من نصيبه، فهذا لا يليق، هذا بصرف النظر عن هذا النوع من الزواج، وما يحتف به من أنواع المفاسد، لست أتحدث عن هذا، أنا أتحدث عن قضية أخرى وهي هذا الحديث الذي يجري في الكشف والهتك والفضيحة ونحو ذلك فهذا أبعد ما يكون عما ذكره الله -تبارك وتعالى، وإذا كان الرجل سترًا لامرأته يسترها فينبغي أن لا يقصر في أداء حقها الذي يحصل به العفاف.

وينبغي للمرأة ألا تقصر في حق الزوج بالتزين والتجمل وما إلى ذلك من أجل ألا يتطلع إلى غيرها فيلتفت هنا وهناك، وكثير من النساء تفرط في هذا، وتتبذل، ولا تُعرف بزينة إلا إذا أرادت الخروج، إذا أرادت الزيارة والذهاب هنا وهناك تجملت فيعرف ذلك منها، إذا رأوها قد تجملت سألوها: إلى أين؟؛ لأنه لا يُعهد منها التجمل في البيت، فالرجل يتطلع هنا وهناك وينظر ويندب حظه على هذا الحال التي صار إليها من الإهمال والتضييع والتفريط، فيبدأ يفكر مليًا في المخرج من ذلك، فمن لا يصبر وكان عفيفًا فإنه يفكر بالبدائل زوجة أخرى، ومن لم يكن كذلك لربما يبحث عن الحرام، ولربما إذا عوتب لامها وقال: إنها هي التي ألجأته إلى ذلك.

فأقول: يجب على المرأة أن تتفطن لمثل هذا الجانب، فحينما يتطلع الرجل الزوج إلى غيرها من النساء فأول ما تتفكر فيه هو أن ترجع إلى نفسها، وأن تنظر في تقصيرها معه.

كذلك إذا كان الرجل لباسًا للمرأة، والمرأة كذلك للرجل فهذا يدل على شدة القرب، فلا يصح أن تلتقي الأجساد والقلوب متنافرة، ألا يوجد الوئام، ألا يوجد حياة كريمة تصفو فيها النفوس، وأن يوجد السكن يسكن إليها كما هي الغاية التي ذكرها الله : لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم:21] ما قال: محبة، وإنما قال: مَوَدَّةً، وقال: وَرَحْمَةً، فإذا تحولت العلاقة بين الزوجين إلى بغض وعداوة ومنافرة وأذى فإن هذا خلاف مقصود الشارع، وهو خلاف مقاصد الناس في النكاح، حياة غير مستقرة، يعني هذه المرأة قبلت بهذا الرجل وأحسنت الظن به أنها ستعيش معه حياة كريمة.

فاللائق والقاعدة التي ينبغي أن يجعلها أولو الألباب من الرجال بين أعينهم: أنك إن لم تستطع أن تنقلها إلى سعادة أكمل مما كانت عليه عند أهلها فلا أقل من أن تجعلها في حال مستوية مع ما كانت فيه عند أهلها من السعادة، فيكون الزيادة بالنسبة إليها أنها ذات زوج، في كنف زوج يحميها ويحوطها وينفق عليها وتُرزق منه الولد، ويحصل لها العفاف، هذه مقاصد النكاح، يكونون أسرة ونحو ذلك، فينقلها إلى سعادة أعلى، فإن لم يستطع فلا أقل من أن يكون ذلك على وزان ما كانت عليه قبل ذلك، هذا العاقل الكريم، أما أن تتحول من بيت أهلها وهي في بحبوحة من العيش إلى حياة نكدة شقية بائسة، تصبح على همٍّ وتبيت على مثله فهذا لا يليق، يكون هناك حوار، يكون هناك علاج، يكون هناك حل، يكون هناك تنازل من كل طرف، يحاول كل إنسان أن يصحح حاله وأن يرتقي بنفسه وذوقه، وأخلاقه، ويعمل جاهدًا لتلافي النقص والتقصير والأخطاء.

وهكذا الرجل اختار هذه المرأة على نساء العالمين، النساء كُثُر والبيوت مليئة، فقصد هذه المرأة واختارها من بين سائر النساء يؤمل من وراء ذلك أن يسعد بها، فينغي أن تكون المرأة عند حسن ظنه، وأن يجد فيها بأخلاقها وتعاملها وتهيئها له والقيام بشؤونه أن يجد فيها قرة العين، فيزداد تمسكًا بها، ويدرك أنه لم يخطئ في هذا الاختيار، هذا لمن يعقل.

كذلك أيضًا حينما يكون الرجل للمرأة بهذه المثابة وكذلك لباس، كذلك المرأة، فهنا معنى ذلك أن المرأة بمنزلة عند الرجل والرجل بمنزلة عند المرأة، حيث إن ذلك بمنزلة اللباس، واللباس أمر يحتاج إليه كل أحد، فلا غنى لأحد عن النكاح، والنبي ﷺ يقول: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج [13] فالتعجيل والتبكير في النكاح أفضل.

كذلك أيضًا هنا يؤخذ من هذا الموضع أن اللباس يُتجمل به كذلك أيضًا المرأة تتجمل بالزوج، والرجل يتجمل بامرأته، هذا حينما تكون أحوالهم على ما ينبغي، فتعتز المرأة بهذا الرجل، وترى أنه كفأ ليقابل أهلها وقرابتها والناس أجمعين، فهي ذات زوج رجل تملأ اليد منه، لا تفاجأ بإنسان خامل قاعد عن كل فضيلة، اهتماماته ساقطة فيُسقط في يدها، وتشعر أنها قد ضُيعت.

وكذلك الرجل حينما يتزوج امرأة يعتز بها، إذا جاء أهله قامت بهم هكذا، إذا جاء الضيوف قامت بهم هكذا، تبادر وتلبي وترحب من غير تأفيف ولا ضجر، لا يظهر ذلك في قسمات الوجه، ولا في نبرة الصوت، ولا في نظرة العين، بل ترحب بكل من يأتي من قبله، تفرح بأضيافه وتكرمهم، وتفرح بأهله وقراباته، وتغتبط بمجيئهم، ولا تستثقل ذلك أبدًا، ولا تتبرم به، يتجمل بها، ولا يُحسن إذا أرادت الذهاب إلى أهلها أن تهرول ولربما نسيت بعض حاجتها لشدة عجلتها، وإذا أرادت أن تذهب إلى أهله أبطأت ثم أبطأت ثم أبطأت، متثاقلة، الرجل عنده شعور وعنده إحساس، قد يسكت لكنه يلاحظ الفرق، فلن تكون بمنزلة عنده، ولن يستطيع أن يتجمل بها عند أهلها، فهو قد يرقع مرة وثانية وثالثة ورابعة، ولكن الثوب مخرق لا يستر.

فهذا ينبغي ملاحظته وأن يكون الرجل على حال لائقة، أن تكون المرأة على حال لائقة، ولا شك أن الزواج رفعة لكل منهما، المرأة المتزوجة أرفع من المرأة غير المتزوجة اجتماعيًا، والمرأة المتزوجة ذات الزوج في عصمة زوج أرفع من المرأة المطلقة مثلاً، ولذلك نقول: مهما استطاعت المرأة أن تُبقي على هذه الوشيجة والصلة وتحل المشكلات خيرٌ لها من الطلاق، بعض النساء تعجل وقد تندم، فاللائق أن تقارن الأرباح والخسائر فيما لو طلقت منه ما الذي يفوتها؟ وماذا تجني بهذا الطلاق؟ يكون عندها ميزان في الأرباح والخسائر، إذا بقيت عنده ما هي المكاسب؟ وإذا فارقته ماذا يبقى عندها؟ ماذا يبقى في يدها؟ أحيانًا تكون خسارة محققة من كل وجه، يعني قد يكون قد فاتها من المقاصد مقاصد النكاح واحدة أو اثنتان، لكن إذا طُلِّقت فاتها الجميع، فأيهما خير؟!

كذلك أيضًا يمكن أن يؤخذ من اللباس أنه يستعمل للحماية والوقاية من الحر والبرد وما إلى ذلك، فكل واحد من الزوجين يحمي صاحبه ويحوطه فلا يترك امرأته عرضة للضياع مع السائق، أو تذهب حيث شاءت، أو تخالط الرجال، تعمل في مكان مختلط أو نحو هذا، وإنما يكون عنده غيرة، يحفظ هذه المرأة ويذهب بها هو أو أحد من محارمها، ولا يخلو بها رجل أجنبي.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية تربية الذوق في الألفاظ والعبارات التي نتعامل بها ونتحدث عنها، هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [سورة البقرة:187]، وتقديم المرأة في هذا يدل والله أعلم على أنها أبلغ من هذه الحيثية، هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [سورة البقرة:187] فهي تستر الزوج.

كذلك أيضًا مما يؤخذ من الفوائد من هذه الموضع أن اللباس هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ قيل للزوج: لباس وللمرأة كذلك، عبارات العلماء اختلفت فيه، وحاصلها يرجع إلى الستر، كما قلت: إما حسًا وإما معنىً، فبعضهم قال: لباس لشدة المقاربة والمخالطة، بمعنى أنك لا تستطيع الصبر عنها، ففي الصوم هي قريبة منه فإذا مُنع منها ليلاً فإن هذا يُشق عليه؛ لشدة القرب كاللبس.

وبعضهم يقال: لأن كل واحد من الزوجين يستر صاحبه حال الوقاع عن أعين الناس.

وبعضهم يقول: يستره -كما سبق- من جهة المعنى العفاف، أو لا يذكر سره.

وكذلك أيضًا بعض المفسرين يقول: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [سورة البقرة:187] باعتبار شدة الممازجة والمخالطة حال المعاشرة، فكأنه لباس لها وكأنها لباس له، وذلك أنه يفضي إليها وتفضي إليه بمنزلة اللباس له وكذلك هو. 

 

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [سورة البقرة:187]، فقوله -تبارك وتعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ علم الله -تبارك وتعالى- ذلك بمعنى أن بعضهم لربما أكل أو شرب بعد النوم أو جامع ليلة الصيام، وقد عرفنا قبل بأنه كان يحرم ليلة الصوم الجماع ويحرم الأكل أو الشرب إذا نام بعد العشاء أو إذا نام قبل العشاء فإنه يُمسك إلى اليوم الآخر، قلَّ صبرهم، وحصل من بعضهم التجاوز لمثل هذا.

وهذا الذي أشار إليه قوله -تبارك وتعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ، علم الله، فالله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه خافية، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [سورة غافر:19]، فخائنة الأعين يدخل فيها مسارقة النظر إلى الحرام مع الإخفاء؛ لئلا يشعر به أحد وهو ينظر إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى، فكيف بالنظر الذي يكون مكاشرة يُظهره الإنسان أمام الآخرين، وذلك وإن كان يدخل في جملة خائنة الأعين إلا أن المعنى الأول أخفى وأدق، فكل ذلك يعلمه الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه، ويعلم ما هو أخفى من هذا، وهو ما تخفي الصدور، أي: إذا كان ربنا -تبارك وتعالى- يعلم ذلك كله فينبغي أن يكون التعامل معه في غاية الحذر، وأن يكون العبد رقيبًا على فعله وتصرفاته وحركات نفسه، فإن الله -تبارك وتعالى- يعلم ما تكنه الصدور، وما يبدُر عن العبد من ألوان التصرفات.

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [سورة البقرة:284] بعض أهل العلم قال: إن هذه الآية منسوخة، والأرجح أنها ليست بمنسوخة، وإنما يكون ذلك فيما يكون فيه الحساب من الإيمان والكفر والنفاق والرياء والمقاصد الفاسدة، فكل ذلك داخل في هذا المعنى ما يخفيه الإنسان وما يبديه، فالله يعلم تحول النيات وتقلب الأفئدة، ويحاسب العباد على ذلك كله.

فإذا أراد العبد أن ينظر أو أن يتكلم أو أن يكتب أو أن يمشي أو أن يفعل فعلاً من الأفعال التي قد تكون في ظاهرها مما يحبه الله ويرضاه أو كانت من مساخطه فينبغي أن يحاسب نفسه قبل ذلك، هذا الفعل الذي يحبه الله هل النية فيه صالحة، أو أن الإنسان يريد بذلك المحمدة وتعزيز الذات كما يقال، قد يكتب مقالاً جميلاً ينصر فيه الإسلام والسنة ولكن قصده قد يكون فاسدًا، فيكون هذا المقال وزرًا عليه وحسرة يوم القيامة، الأمر ليس بالسهل، فيحتاج العبد إلى مراقبة لله -تبارك وتعالى.

عَلِمَ اللَّهُ، وأظهر لفظ الله الجلالة هنا، لم يكتفِ بالضمير عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ وجاء بـ"أن"، وعبَّر هنا بلفظ الخيانة تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ، فسمى ذلك خيانة وأضافه إلى النفس، فحينما يفعل الإنسان المعصية أو يسارق النظر إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى، أو يتعاطى شيئًا من المنكرات فينبغي أن يدرك أن ذلك هو خيانة لنفسه، تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ، وأن ذلك لا يضر الله شيئًا، ولا يمكن للإنسان أن يخفي عن ربه -تبارك وتعالى- تلك الجنايات التي قد تخفى على الخلق فيثنون عليه ويطرونه ويحبونه؛ لأنهم يرون ظاهره والله يرى باطنه وظاهره على حد سواء، فهنا سمى ذلك خيانة، فدل ذلك على أن العبد قد يخون نفسه.

إذن: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [سورة الإسراء:15]، فنحن حينما نستقيم على أمر الله  لا نقدم لله -تبارك وتعالى- شيئًا ينتفع به، فهو أعظم من ذلك: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني   [14]

الخلق أضعف من هذا، كما أننا لا نقدم نفعًا للآخرين حينما نكون على حال من التقوى، وإنما نقدم ذلك لأنفسنا، والعبد سيأتي بعمله يوم القيامة فيوبقه أو يعتقه.

كذلك أيضًا لما ذكر الله -تبارك وتعالى- هذا الاختيان، هذا من عظيم رحمته بعباده ولطفه بهم، لم يعاقبهم ويعاجلهم بالعقوبة بعده أو يزيد عليهم في التكليف، ويثقِّل عليهم بآصار وأغلال من التكاليف الشاقة الثقيلة التي كانت على من قبلنا من أهل الكتاب، وإنما جاء بعد ذلك بالتخفيف: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فالفاء هذه تشعر بأنها للتعليل، لما حصل هذا الانقطاع، انقطع صبركم وضعفتم عن القيام والنهوض بهذا التكليف على الوجه المطلوب اللائق خفف الله عنكم فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ فهذا نسخ كما سبق لقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183] على القول بأن التشبيه في الصفة، وأما على القول بأن ذلك في أصل الفرضية كما ذكرنا فليس بنسخ، أو أن ذلك في الوقت، أنه فرض عليهم شهر رمضان فليس ذلك بنسخ، فيكون نسخًا لما ثبت في السنة من صفة الصوم حيث لا يحل له ليلة الصيام أن يأكل أو يشرب إذا نام، وكذلك لا يجامع ليالي الصوم، فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ.

والمباشرة قلنا: بأنها من مماسة البشرة للبشرة، فيدخل فيها الجماع دخولاً قطعيًا، ويدخل فيها سائر ألوان الاستمتاع، فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وهذا الابتغاء يعني الطلب أن يطلب ما كتب الله له، وذكرنا أقوال أهل العلم في ذلك، الولد، ليلة القدر، قيام ليالي الشهر، كذلك ما كتب لكم من الرخصة، ما كتب لكم في اللوح المحفوظ مما تنالونه في علم الله -تبارك وتعالى، فكل هذا داخل فيه كما قال أبو جعفر ابن جرير الطبري -رحمه الله [15]

وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، فلا يكون هذا الجماع واستفراغ الغرائز والشهوات مشغلاً لكم عن المقاصد السامية من طلب الولد الذي يعبد الله، فإذا عاشر الرجل امرأته لا ينبغي أن يكون ذلك لمجرد استفراغ الشهوة، واتباع هذا السبيل، فإن هذا يستوي فيه بنو آدم مع الحيوانات، ولكن يكون له مقاصد سامية من طلب الولد الصالح وإعفاف نفسه وإعفاف زوجه فهذه مقاصد نبيلة، وكذلك أيضًا اتباع سنن المرسلين ونحو ذلك، كما قال النبي ﷺ: وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام ألا يكون عليه وزر؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال [16] 

وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا أباح لهم المعاشرة وأباح لهم الأكل والشرب، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ وذكرنا المعنى المتعلق بهذا الموضع، يعني بياض الصبح من سواد الليل، وما هو الحد والمقدار، فهم بعض أهل العلم كما ذكرنا سابقًا في الكلام على المعنى العام للآية، أن التبين هنا لابد أن ينجلي الصبح ويظهر ضوؤه فيملأ البيوت والطرقات.

وبعضهم قال: حَتَّى يَتَبَيَّنَ أي: بمجرد ما ينشعب فلق الصبح، فإنه يحرُم عليهم الأكل والشرب وسائر المفطرات.

لكن قوله -تبارك وتعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ "حتى" للغاية يعني إلى حد طلوع الفجر، بمعنى أنه إلى آخر لحظة من الليل، فأخذ من هذا بعض أهل العلم وهذا ما يسمى عند الأصوليين بدلالة الإشارة: وهي إشارة اللفظ لمعنى لم يكن مقصودًا للمتكلم حينما ساق هذا الخطاب، يعني ما ساقه ليقرر هذا المعنى، لكنه أخذ منه بطريقة دقيقة، فهذا المعنى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ أنه يجوز أن يأكل ويشرب -هذا المنطوق- إلى آخر جزء من الليل، ومقتضى ذلك وهي من دلالة المنطوق، وهي دلالة الإشارة هذه، لكنه منطوق غير صريح، أنه لو أصبح وهو جُنُب من غير احتلام فإن صومه صحيح، الصوم لا يرتبط بالطهارة، وبعض النساء تسأل تقول: لم تغتسل من الحيض، أخرت الاغتسال إلى بعد الفجر هل صومها صحيح؟

نقول: نعم، الصوم صحيح، الطهارة تطلب للصلاة وليس للصوم، كذلك هذا الذي يقول: بأنه أخر الاغتسال إلى بعد طلوع الفجر هل عليه شيء، هل صومه صحيح؟

الجواب: نعم، صومه صحيح؛ لأنه إذا جاز له أن يجامع إلى آخر جزء من الليل فهذا يقتضي أنه لن يبقى وقت للاغتسال إلا بعد طلوع الفجر، فاستنبط العلماء من هذا "حتى" التي للغاية إلى آخر جزء من الليل أنه يجوز أن يصبح جنبًا من غير احتلام، وهكذا كان يقع للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم، فدل ذلك على صحة صومه.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، أنه لما ذكر هنا: حَتَّى يَتَبَيَّنَ أن من أكل أو شرب كما ذكرنا في المعنى العام للآية وهو شاك في طلوع الصبح أن صومه صحيح، لكن لا يفرط؛ لأن من الناس من لا ينظر أصلاً، يقول: استيقظت من النوم وذهبت مباشرة وشربت، ثم علمت أن الناس قد خرجوا من صلاة الفجر، هلا نظرت إلى الساعة؟! فهذا تفريط، لكن يقال: من كان شاكًا لسبب أو لآخر، ليس عنده ساعة، كان شاكًا؛ لأنه في مكان في برية أو نحو ذلك، أو لا يعلم بطلوع الصبح فهنا له أن يأكل ويشرب حتى يعلم، بخلاف من أفطر وهو يشك في غروب الشمس فالأصل بقاء النهار، فلا يجوز له أن يأكل ويشرب إلى إذا علم أن الشمس قد غابت، اللهم إلا ما يقع من قبيل الخطأ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورة البقرة:286]، كما في حديث أسماء: "أفطرنا في يوم غيم على عهد رسول الله ﷺ ثم طلعت الشمس" [17] يعني تبين أنها ما غابت، فما أمروا بالقضاء، ما أمروا بالقضاء.

وقوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة:187] أخذ منه بعض أهل العلم فضيلة تأخير السحور، والنبي ﷺ يقول: لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور [18] القضية تبدو أنها قضية ليست ذات شأن، وكثير من الناس لا يبالي بالسحور، ولربما لا يتسحر ولو كان مستيقظًا، لكن لا تزال أمتي بخير ربط أشياء دقيقة بخيرية الأمة وبقاءها على الخير له مغزى ومعنى.

وفي قوله ﷺ: لتسوُّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم [19] أو قال: بين قلوبكم [20] القضية تبدو سهلة ومع ذلك النبي ﷺ ذكر هذا وعلقه به، فكيف بالقضايا الكبار من مصالح الأمة العظام ونحو ذلك، وهذا كله يحمل المؤمن على العمل بطاعة الله ظاهرًا وباطنًا، ولزوم السنة، وألا يفرط بشيء بدعوى أنه سهل ويسير، وإنما كل ما شرَّعه الله -تبارك وتعالى- فهو لحكمة وهو أمر جليل عظيم؛ لأن الذي شرَّعه كذلك.

ويؤخذ من هذه الآية قال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ لما أباح لهم الأكل والشرب والجماع إلى آخر لحظة قال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وكما ذكرت في المعنى العام ليس المقصود أن يجامع في نفس المسجد، وإنما إذا كان متلبسًا بالاعتكاف ليس له أن يقارف مع امرأته إذا دخل بيته لحاجة الإنسان، كالأكل أو الشرب أو قضاء الحاجة، فمن الناس من قد يُلم بامرأته بقبلة، أو مباشرة بوطء أو نحو ذلك، فليس له ذلك، فالمعتكف يمتنع من سائر صنوف الاستمتاع؛ لأن الاعتكاف خلوة وانقطاع ومفارقة لعوائد النفس ومطلوباتها وشهواتها، لكن الجلوس مع المرأة كما ذكرنا، النبي ﷺ جاءته صفية وحادثته بعد العشاء  .

وكذلك كان يخرج رأسه ﷺ من المسجد من كوة فيه فعائشة -رضي الله عنها- تُرجِّل شعره وهو معتكف في المسجد [21]  فهذا لا إشكال فيه، لكن ما كان بشهوة من قبيل المباشرة بالجماع فما دونه فإن ذلك لا يكون للمعتكف.

وإذا جامع في نفس المسجد أو باشر في نفس المسجد فهذا أعظم، فهذا يمنع منه حتى غير المعتكف، لكن مفهوم الآية هكذا وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ يعني حال التلبس بالاعتكاف إذا رجع إلى بيته لحاجة الإنسان ليس له أن يباشر، ولا يلم بامرأته.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، وقد أشرت إلى هذا في الكلام على المعنى العام للآية، الاعتكاف لا يكون في البيت، المرأة ليس لها أن تعتكف في غرفة في بيتها أو في مصلى في بيتها، وإنما في المساجد، أما الرجل فيعتكف في مسجد تقام فيه الفروض الخمسة، يؤذن فيه وله إمام راتب.

وأما المرأة فلها أن تعتكف في مسجد لا تقام فيه الفروض الخمسة، يقام فيه أحد الفروض أو هجر هذا المسجد، ترك، انتقل الناس إلى مكان آخر مبنى آخر وبقي هذا المسجد لا يصلى فيه، لكنه مسجد، أرض موقوفة لمسجد، فللمرأة أن تعتكف؛ لأن المرأة لا يجب عليها حضور الجماعة، أما الرجل فيجب عليه حضور الجماعة، واشترط بعضهم أن يكون الاعتكاف في المسجد الجامع، قالوا: من أجل ألا يخرج لصلاة الجمعة، والأقرب أن ذلك لا يُشترط، فإن تخلل اعتكافه جمعة فالأفضل أن يكون في الجامع ولا يجب.

وكذلك أيضًا فيما لو كان الاعتكاف، هل يشترط الاعتكاف أن يكون في المساجد الثلاثة كما جاء ذلك في الأثر: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة  [22] بهذه الصيغة بالحصر؟

من أهل العلم من ضعف الحديث أصلاً.

ومنهم من حمله على الكمال، فالذي عليه الجمهور من السلف فمن بعدهم أن الاعتكاف يصح في سائر المساجد، ولا يختص بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.

كذلك أيضًا: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ يدل على أن المعتكف لا يخرج عن نطاق المسجد مثلاً؛ لأنه معتكف في المسجد فله أن يتنقل ويتحول فيه، في جلوسه أو نومه أو نحو ذلك، كأن يجلس في الصف الأول، وإذا جاء وقت الراحة ذهب إلى مكان آخر في المسجد، لكنه في المسجد، وما أحاط به سور المسجد فمن المسجد، لكن من الناس من يترخص ويخرج خارج السور أو المسجد قد لا يكون له فناء كمسجدنا هذا فكثير من الناس في الاعتكاف يخرجون إلى الخارج خلف الباب؛ ليتصل، ويتحدث أو نحو ذلك، أو لربما يذهب يتوضأ ثم يجلس يتحدث مع إنسان بين بين، يعني بين مخرجه ومدخله يجلس يتحدث، فهذا قد يقطع اعتكافه ويبطله؛ لأنه خرج من الاعتكاف بهذه الحال من غير عُذر، وإنما خروجه يكون بقدر الحاجة، يعني كما جاء عن عائشة -ا- في حينما يدخل الإنسان بيته لحاجة الإنسان إن كان ثمة مريض أو نحو ذلك فهو يسأل عنه وهو يمشي لا يتوقف، مع أن من أهل العلم من رخص في عيادة المريض، واتباع الجنائز، ونحو ذلك.

ومنهم من رخص فيه إن اُشترط، إذا اشترطه المعتكف من البداية ولكن لا يظهر على هذا دليل صريح وواضح، ولهم في ذلك تعليلات، وقياس على اشتراط المحرم، لكن هذا ليس محل اتفاق، -والله تعالى أعلم.

كذلك أيضًا يؤخذ من قوله: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ أن هذا الاعتكاف جعله الله  مشروعًا في المساجد، ولم يُشرع لنا الاعتكاف في دير، أو معبد، أو غابة، أو كهف، أو نحو ذلك كما كان يفعل الرهبان ونحو ذلك ممن ينقطعون عن الناس، المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم [23] فالانقطاع عن الناس في البرية في مكان منعزل لا يحضر فيه الجمع ولا الجماعات هذا أمر لا يسوغ شرعًا، فإن فعله بقصد التعبد فهذا من جنس فعل الرهبان، أما إن فعله لأمر دنيوي كالذي يكون عنده غنم أو نحو ذلك فهذا لا يُحمد إذا كان ينقطع عن حضور الجمع والجماعات.

أما من فعله فرارًا من الفتن فقد فعل ذلك بعض أصحاب النبي ﷺ، وقال النبي ﷺ عن آخر الزمان: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن  [24].  

 

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [سورة البقرة:187]، تحدثنا إلى هذا الموضع من هذه الآية.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعدما ذكر هذه الأحكام: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [سورة البقرة:187] بعد بيان أحكام الصيام والاعتكاف تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وحدوده هي أحكامه وشرائعه التي حدها، من الحلال والحرام، فَلا تَقْرَبُوهَا لا تقربوها، فكان ذلك النهي عن مقاربتها أبلغ من النهي عن مقارفتها، لم يقل الله -تبارك وتعالى: تلك حدود الله فلا تقارفوها أو فلا تعتدوا عليها، وإنما قال: فَلا تَقْرَبُوهَا، فهذا نهي، والنهي للتحريم، فالنهي عن قربها أبلغ من النهي عن المقارفة نفسها، وذلك حينما يقال: لا تقرب كذا، فمعنى ذلك أنك تبتعد عن كل سبب يوصل إليه ويقرب منه، ولذلك جعل الله -تبارك وتعالى- على شرائعه الكبار وأحكامه العظام سياجًا يحوطها؛ لئلا يصل الإنسان إليها.

وفي قضية التوحيد وهي القضية الكبرى نجد ألوان الوسائل المحرمة والذرائع المفضية إلى الشرك من البناء على القبور، تجصيصها، والصلاة إليها، واتخاذ القبور مساجد، بناء المساجد على القبور، كذلك أيضًا قضايا تتعلق بالمحظورات الأخرى الزنى مثلاً، نهي المرأة عن أن تخضع بالقول، وكذلك أن تبدي الزينة، وأن تتبرج، وأن تضرب برجلها ليُعلم ما تخفي من زينتها، صوت الحلي في القدم، حينما استترت فقد تُظهر لونًا من الزينة خفية فتتراقص معه القلوب المريضة حينما تمشي وتضرب برجلها ليُسمع صوت الخلخال.

وكذلك أيضًا إطلاق البصر: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [سورة النور:30] فغض البصر؛ لأنه الطريق إلى الفاحشة، وحفظ الفروج يشمل حفظ الفروج عن كل مقارفة محرمة، ويشمل المعنى الآخر الذي ذكره كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله [25] وهو حفظها من نظر الناظرين إليها بالستر، فتجد أن الشريعة حفظت حدود الله -تبارك وتعالى- بما أحاطتها به من سياج، ولذلك تجد الأصول الكبار، يعني هذه الشريعة والذي اتفقت عليه جميع شرائع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- حفظ الضرورات الخمس: أعلاها الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض ثم المال، خمس اتفقت على حفظها جميع الشرائع من الجهتين من جهة الوجود ومن جهة العدم، من جهة الوجود بثبيت ما يقررها ويثبت أركانها ودعائمها، فتجد في الدين إنما تثبت أركانه بالدعوة إليه وتعليم الناس شرائع الإسلام والعمل به وبشرائعه وتنفيذ أحكامه، أن يكون حاكمًا مهيمنًا على الخلق، ومن جانب العدم بمنع البدع والمحدثات والشبهات والدعوات المضلة، الفرق المنحرفة، التشكيك والتلبيس والطعن، كل هذا حفظًا له من جانب العدم، ولهذا كان حد المرتد القتل؛ حفظًا للدين من جانب العدم.

وأيضًا حفظ النفس من جانب الوجود بالأمر بالأكل من الطيبات ونحو ذلك، من جانب العدم القصاص على من اعتدى على النفس بالنفس أو بالأطراف.

وكذلك أيضًا نجد حفظ العقل بالإرشاد إلى النظر والتفكر التفكير الصحيح، وفي جانب العدم بمنع ما يؤثر على العقل كالمسكرات والمخدرات؛ ولهذا كان حد السُكْر لحفظ العقل من جانب العدم؛ لئلا يؤثر عليه شيء من جهة السلب.

وما يتعلق بالعرض حفظه من جانب الوجود بالأمر بالنكاح الزواج يا معشر الشباب  [26] تكثير العفاف، ومن جانب العدم بمنع كل من يسيئ إلى عرض أخيه بالقذف أو أي لون من الإساءة يُعزَّر بما يردعه.

كذلك أيضًا حد الزنى حد القذف هذا حفظًا للأعراض من جانب العدم، وكذلك بالنسبة للمال بتثميره والاتجار به بألوان التجارات الصحيحة المباحة، ومن جانب العدم بمنع السرقة والاختلاس والغش والتدليس وأنواع البيوع المحرمة، الغرر، الجهالة، ونحو ذلك، ولذلك كان حد السرقة لحفظ المال من جانب العدم، وبهذا نعلم أن جميع الحدود تتصل بالضرورات الخمس فقط، حفظًا لها من جانب العدم، وهذه الضرورات الخمس عليها سياج يسمى بالحاجيات، حفظ المال يوجد البيع والشراء والمعاملات والعقود وأنواع، حفظًا له بسياج اسمه الحاجيات توسعة على الناس، ثم سياج ثالث اسمه: التحسينيات هذا في حفظ هذه الضرورات الخمس جميعًا، كل واحدة من الضرورات عليها سياج اسمه الحاجيات يدعمها ويقويها ويؤكدها يثبتها، وسياج ثالث اسمه التحسينيات، يعني مثلاً العرض الضروري هو حفظ العرض، ومن اعتدى عليه بالقذف حد القذف، من اعتدى بالزنى حد الزنى للمحصن وغير المحصن، وبالنسبة للحاجيات مشروعية النكاح، النكاح هذا تحفظ به الأعراض، وتصان، ويكثر العفاف، التحسينيات مثلاً في هذا الموضع أن لا تلي المرأة الخطبة بنفسها، أن يكون هناك ولي لا نكاح إلا بولي .

أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل [27] لماذا؟ حفظًا لماء وجهها؛ لئلا تظهر في الصورة في النهاية أنها تتولى العقد على بضعها كأنها تتشوف للرجال، والواقع أن المرأة هي أحد طرفي العقد، العقد في النكاح بين الزوج والمرأة، هما الطرفان، لكن من الذي يتولى عن المرأة: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ [سورة البقرة:221]، لما ذكر المشركات قال: وَلا تُنكِحُوا، الرجل هو الذي ينكح: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ [سورة البقرة:221]، لما جاء في تزويج المشركين قال: وَلا تُنكِحُوا، المرأة ما تَنكِح تُنكَح تُزوَج، لماذا يتولى؟ هل هذا نقيصة فيها كما يقول بعض الناس، هي عاقلة وهي تفهم وهي راشدة، لا، الشريعة شرَّعت هذا حفظًا لرونقها وماء وجهها تبقى جوهرة مصونة محفوظة لا تظهر في الصورة كأنها هي طرف العقد الذي يتولى هذه العملية كأنها متشوفة إلى الرجال، تعقد على بضعها، فصانها وحفظ ماء وجهها، هذا من التحسينيات مع أنه واجب، ولا يصح النكاح إلا به، فكلمة تحسيني لا تعني أنه مستحب، لكن في أصل التشريع لماذا شرع؟

لحفظ كمال المروءات، وأن يكون الناس على كمال الإنسانية، تكون حياتهم على وئام، مثل اللباس وستر العورات هذا من التحسينيات مع أنه واجب، الحجاب من التحسينيات وهو واجب؛ من أجل أن تبقى حياة الناس حياة كريمة، لا يكون الناس كالبهائم.

فالمقصود هذا الاستطراد مفيد وتدعو الحاجة إليه: فَلا تَقْرَبُوهَا فهو نهي عن مقاربتها ونهي عن كل سبب يوصل إليها، ولذلك فإن الله إذا حرَّم شيئًا حرَّم وسائله، وذرائعه المفضية إليه، وإذا شرَّع وأمر وأوجب فإنه يكون ذلك إيجابًا لكل سبيل لا يتحقق هذا الوجوب إلا به، ولهذا قالوا: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم ترك المحظور إلا بتركه فتركه واجب، على اختلاف في التعبير عن مثل هذا بين الأصوليين.

وفي هذه الآية من آيات الصيام: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا لكن بعد ذلك، يعني هنا لما قال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ثم نهى عن مباشرة المرأة حال الاعتكاف ونحو ذلك قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [سورة البقرة:187]، بعد ذلك بآيات لربما تقرب من أربعين آية قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [سورة البقرة:229] لما ذكر الطلاق: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:229]، إلى أن قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا، لماذا قال هنا في هذه الآية في الصيام تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [سورة البقرة:187] وهناك قال: فَلا تَعْتَدُوهَا؟

آية الصيام هذه جاءت بعد مجموعة من النواهي فيقول: لا تقربها، هذه محظورات، بل أكثر من هذا قال النبي ﷺ: وبينهما مشبهات، وشبه ذلك أيضًا ومثله بالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى إلا وإن حمى الله محارمه [28] فهو مطالب بالبعد والنأي عن هذه المحظورات لا يقرب، لكن فيما يتعلق بآية الطلاق التي عقبها بقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا أنه جاء ذلك بعد مجموعة من الأوامر: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [سورة البقرة:229]، فلما ذكر هذا وما بعده نهى عن التعدي فَلا تَعْتَدُوهَا لا تتجاوز هذه التشريعات التي شرعها الله -تبارك وتعالى- فليس بعد الهدى إلا الضلال، هكذا ذكر بعض أهل العلم.

كذلك أيضًا قال: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة البقرة:187]، كذلك البيان: يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ بيانًا لا يترك في الحق لبسًا، يبينها للناس لَعَلَّهُمْ أي: من أجل أن تتحقق لهم التقوى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فدل ذلك على أن العلم سبيل للتقوى، قد يكون الإنسان عالمًا ولكنه غير تقي، ولهذا قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار اليهود، فكانوا أهل غضب، وأهل لعن، عرفوا الحق وتركوه" [29] لكن الإنسان يترك الحق إما جهلاً؛ لجهله، وإما لغلبة هواه، فهنا الله يبين حدوده من أجل ألا يقع الناس في الممنوع والمحرم والمنكر جهلاً منهم؛ لأنهم لا يعرفون شرائعه، ولهذا فينبغي للإنسان أن يتعلم، بعض الناس لا يُتهم بالهوى ويبكي ويتأثر لما وقع منه، لكن الذي حصل من المخالفة كان بسبب الجهل، كثير من الناس يسأل بهذه الطريقة، فعلت كذا في الحج، في الصيام، في العمرة، في الطلاق، في البيع، اشترى السيارة وانتهى بطريقة غير صحيحة، تُرجعها يقول: ما يردونها يأبون، ماذا أصنع؟ كرهت السيارة، هو خائف من الله، فما وقع في هذا بسبب هواه لكن بجهله، بعض الناس يعقدون صفقات أموال تجارات ملايين والعقد فاسد، وقد يكون هؤلاء فيهم من الدين والصلاح والخير والتقوى الشيء الكثير، لا يعلمون، لو علموا صيغة العقد الصحيحة لما أوقعوه على هذه الصيغة المحرمة، فليس لهم فيها هوى أصلاً، لكن الجهل هو الذي أوقعهم، تقع عقود، يقول أحد الطرفين مثلاً: أنا أضمن لك رأس المال، أضمن لك نسبة من الربح، لك نسبة ثابتة من الربح، هات عشرة آلاف أعطيك شهريًا خمسمائة ريال، لكن قد يربح قد يخسر، ما يجوز، يقع فيه بعض الناس، هات مائتي ألف نفتح مخبز، نفتح ورشة، نفتح مصنع، نفتح كذا، وسأعطيك كل شهر عشرة آلاف ريال، طيب قد لا يحقق أربحانًا تعطيني من أين؟ فمثل هؤلاء الذي يفعل الشيء ثم بعد ذلك يسأل هذا مثل الذي يقطع الطريق الشارع فإذا وصل إلى الضفة الأخرى الناحية الأخرى التفت هل في سيارات، المفروض أنه يلتفت قبل ما يمشي خطوة، ما هو إذا جاوز الطريق وقطع التفت في سيارة أو ما في سيارة، بعض الناس يسأل إذا انتهى من المعاملة أو العمل، قال: هل فعلي صحيح أو غير صحيح؟ السؤال متأخر، ما الذي أوقعك بهذا أصلاً؟

وفي هذه الآية ما يدل على أن العلم هو سبيل للتقوى، العلم الصحيح؛ لأنه إذا بان له الحق واتضح تبعه، وإذا بان له الباطل اجتنبه، فلو تركه يكون متبعًا لهواه.

يقول بعض العلماء: إذا كانت الحدود مما يجب فعله قال الله: فَلا تَعْتَدُوهَا وإذا كانت مما يجب تركه قال الله: فَلا تَقْرَبُوهَا.

وهكذا يؤخذ منه أيضًا النأي والبعد عن المشتبهات؛ لئلا يقع الإنسان في الحرام: فَلا تَقْرَبُوهَا فحتى يتحقق هذا لا بد أن يترك المشتبهات، وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- في كتابه: "الموافقات"[30] بأن التوسع في المباح -يعني إلى آخر نقطة- والحلال إلى آخر نقطة، بعض الناس يسأل يقول: أنا أريد الحد الفاصل، قل لي حرام أو حلال، لا تقل لي: تورع منه أو اجتنب هذا الشيء لا أنصحك بفعله، يرد مباشرة يقول لك: لا أريد أنا أريد حلال أو حرام، هذا الذي يصل إلى آخر نقطة في الحلال لا يأمن أن يقع في الحرام، وهذا الذي يتوسع في المباحات هذا التوسع سيوقعه في المشتبهات، فإذا وقع في المشتبهات سيقع في الحرام؛ ولذلك لا يحسن التوسع في المباحات والمبالغة في هذا، وإنما يكون الإنسان في حال من الاعتدال، يأخذ من الحلال ما يستعين به على أمر دينه ودنياه، لكن من غير توسع؛ لأن هذا سيفضي به إلى شيء من المواقعة للمشتبهات.

ثم أيضًا هذا التشريع وهذا التعقيب: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة البقرة:187] من أجل أن يتقوا، هذا يبين أن التقوى منزلة عالية رفيعة، ينبغي السعي من أجل تحصيلها، والجد والاجتهاد في طلبها ونيلها، وهي قضية نسبية يتفاوت الناس فيها تفاوتًا كبيرًا، بعض الناس تقواه هي على حال المقتصدين، يعني الذي يفعل الواجب ويترك المحرم، هو تقي، لكن بهذا القدر، ومن الناس من يكون من السابقين لفعل الواجبات وترك المحرمات وترك المشتبهات وفعل المندوبات، وهذا باب واسع، يختلف ويتفاوت الناس فيه بحسب ما يقوم في القلوب، وبحسب ما يصدر عنهم من أعمال الجوارح، وقد جاء عن سفيان بن عيينة -رحمه الله- قال: "لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه" [31]

هذه الآية قد اشتملت على الأصول، اشتملت على الأحكام الأساسية والأصلية في موضوع الصيام، يقول الشيخ محمد: "العبادات التي كان النبي ﷺ يحرص عليها في رمضان كلها مذكورة في آيات الصيام في سورة البقرة، صدقة، فدية، طعام مسكين، تلاوة القرآن: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة:185].

الدعاء: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186].

الاعتكاف: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [سورة البقرة:187].

التكبير في العيد: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [سورة البقرة:185]. 

  1. تفسير الطبري (3/ 159).
  2. تفسير الطبري (3/ 154).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك، برقم (1090).
  4. انظر: تفسير الطبري (3/ 251)، وتفسير ابن كثير (1/ 513).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول الله تعالىوَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [سورة البقرة:187]، برقم (1916).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، برقم (1959).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب متى يحل فطر الصائم، برقم (1954)، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، برقم (1100).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب الوصال، ومن قال: "ليس في الليل صيام"، برقم (1964)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، برقم (1105).
  9. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب الوصال إلى السحر، برقم (1967).
  10. تفسير الطبري (3/ 265).
  11. المصدر السابق.
  12. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (218)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (20350)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (3293).
  13. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب قول النبي ﷺمن استطاع منكم الباءة فليتزوج، لأنه أغض للبصر وأحصن للفرج وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح؟، برقم (5065)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، برقم (1400).
  14. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
  15. تفسير الطبري (3/ 247).
  16. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، برقم (1006).
  17. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، برقم (1959).
  18. أخرجه أحمد في المسند، برقم (21312)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7284).
  19. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، برقم (717)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل، وتقريبهم من الإمام، برقم (436).
  20. أخرجه أبو داود، تفريع أبواب الصفوف، باب تسوية الصفوف، برقم (662)، وأحمد في المسند، برقم (18430)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (668)، وفي صحيح الجامع، برقم (1191).
  21. أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب غسل المعتكف، برقم (2031).
  22. أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار، برقم (2771)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2786).
  23. أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب 55، برقم (2507)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم (4023)، وأحمد في المسند، برقم (5022)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6651).
  24. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن، برقم (19)، وبرقم (3300)، في كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال.
  25. تفسير الطبري (17/ 255).
  26. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب قول النبي ﷺمن استطاع منكم الباءة فليتزوج، لأنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح؟، برقم (5065)، وبرقم (5066)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، برقم (1400).
  27. أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، برقم (2083)، والترمذي، أبواب النكاح عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، برقم (1102)، وابن ماجه، أبواب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، برقم (1879)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1817).
  28. أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم (1599).
  29. الفوائد لابن القيم (ص:31).
  30. انظر: الموافقات (1/ 172).
  31. جامع العلوم والحكم ت الأرناؤوط (1/ 209).