السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
وَلَا تَأْكُلُوٓا۟ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ وَتُدْلُوا۟ بِهَآ إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا۟ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:188]."
قوله: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188] لا تأكلوها ليس الأكل مراداً في ذاته هنا، وإنما كلُّ أخذ، واستلاب لأموال الناس بأي طريق كان، ولأي غرض كان - للأكل أو لغيره - فهو من أكل أموال الناس بالباطل فكل طريق لا يحل فيه أخذ المال فهو داخل في هذا.
بعض الناس يسول لنفسه أخذ المال من شركات التأمين، ويقول: دعني آخذ هذه الأموال، وسأذهب بها إلى أهل الخير في الجمعيات الخيرية، أو نحو ذلك بدلاً من أن أتركه لهؤلاء الذين أخذوه من غير حله، وهكذا يتأول لنفسه، وما علم أن هذا التصرف من أكل أموال الناس بالباطل الوارد في الآية.
قال: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم ، ومسألة التعبير بأموالكم هنا يعني لا يأكل بعضكم مال بعض؛ حيث إن النفوس المجتمعة على شيء واحد تنزل منزلة النفس الواحدة؛ إذ يقول الله : وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة النساء:29] أي لا يقتل بعضكم بعضاًَ، ويقول - جل، وعلا -: فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54] أي فليقتل بعضكم بعضاً، ويقول - تبارك، وتعالى -: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85] أي يقتل بعضكم بعضاً، وقوله سبحانه: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم أي لا يأكل بعضكم مال أخيه، وذكر الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع، والعرب تعبر به عن سائر ألوان الانتفاع كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10] فلو لم يأكل مال اليتيم، وإنما بنى به بيتاًً، أو اشترى به سيارة أو أثاثاً فالحكم واحد لكن عبر بالأكل؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، ولذلك يقال: فلان أكل مال فلان، بمعنى أخذه بغير حق.
وقوله تعالى: وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ [سورة البقرة:188]: أصل الإدلاء يدل على التوصل إلى الشيء، والدلو المعروف سمي بذلك؛ لأنه وسيلة، وواسطة يتوصل به إلى الماء، ولذلك تقول: فلان يدلي إلى فلان بالقرابة الفلانية، فما يتوصل به فهو الإدلاء، ومنه قيل: للدلو دلوٌ.
فقوله: وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ يعني تريدون التوصل إلى استلابها، وأخذها بالترافع إلى الحاكم أو القاضي، أي أنه - مثلاً - يأخذ مال أخيه ثم يترافع إلى القاضي، ويكون ألحن بحجته من الآخر، أو يكون المظلوم ليس عنده إثباتات مكتوبة تثبت أن له عند خصمه شيئاً فيقول الآخر: ليس له شيء عندي، وإنما يدعي عليَّ ذلك دون دليل، وربما جاء بالحديث الصحيح أن النبي - عليه الصلاة، والسلام - قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال، وأموالهم[1]، وهكذا يحتال بهذا الكلام على أنه ليس في ذمته شيء لأخيه، ويبقى ذاك لا يستطيع أن يفعل شيئاً، - والله المستعان  -.
"وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه."
قوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ تحتمل، وجهين:
الأول: أن يكون قوله: وَتُدْلُواْ معطوفاً على قوله: وَلاَ تَأْكُلُواْ أي: لا تأكلوا، ولا تدلوا، أي أنَّ تأكلوا، وتدلوا مجزومان بـ"لا" الناهية، وقد جاء هذا في قراءة لكنها شاذة، وليست من القراءات المتواترة، وعلى هذا يكون النهي عن الأمرين أي: لا تأكلها خلسة، أو سرقة، أو نحو ذلك، ولا تترافع إلى القاضي لتتوصل إلى أخذ ماله بغير حق بحيث تقول مثلاً: ليس عنده شيء يثبت، والمال تحت يدي، وهو مدعي بهذا الاعتبار، والبينة على المدعي، وما عنده بينة إطلاقاً...الخ، فيؤدي ذلك إلى أن يحكم القاضي لك بالمال.
ويحتمل أن يكون قوله: تَأْكُلُواْ مجزوماً بـ"لا" الناهية، وقوله: وَتُدْلُواْ منصوباً بـ"أن" مضمرة كقول الشاعر:
لا تنهَ عن خلق وتأتيَ مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
وبهذا الاعتبار يكون قد نهاه عن قضية واحدة صوَّرها، وهي أن يستلب مال أخيه، ويتوصل لذلك بواسطة ترافع فيجحد ما عليه من حق، فيحكم الحاكم أو القاضي بأن المال له فهو أخذ مال أخيه بغير حق بأن قال له - مثلاً -: أعرني هذا، فأعاره إياه، أو قال: بعني إياه بالأقساط فلما باعه إياه، ولم يكتب بينهم ثقة بذلك مثلاً  قال له: ليس لك عندي شيء، وإنما هذا مالي، ورثته عن آبائي، فاشتكاه عند القاضي فقال: هذا مالي فإذا كان عنده بينِّه فليأت بها.
المقصود أن النهي يكون عن شيء واحد هو أكل أموال الناس بالباطل، والتوصل إلى ذلك بطريق الترافع إلى الحاكم من أجل أن يحكم له بهذا المال، وهذا هو الفرق بين المعنيين.
وإن كان المعنى الثاني هو المتبادر، وهو أن النهي عن أمر، واحد بصورته التي ذكرت، وهو الذي يميل إليه بعض المحققين كابن جرير الطبري - رحمه الله - فإن هذا لا يعني أن التحريم منحصر فيها، ولكنه ذكرها لخطرها، وعموم ضررها، وكثرة، وقوعها فخصها بذلك محذراً؛ لأن هذا يقع، ويتكرر كثيراًً بحيث يبقى الإنسان يتحسر، ويتجرع الألم إذ ليس في يده إثبات فتضيع عليه أموال طائلة، وذاك يضحك منه، ويسخر منه، ويتهكم به، - والله المستعان -.
"فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم، آكل الحرام، وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تخاصم، وأنت تعلم أنك ظالم." 
هذه الآية تدل على تحريم أموال الناس، وأخذها من كل طريق محرم، ولو طابت نفس المعطِي، وذلك مثل الربا فلو قال له: أقرضني المائة بمائة، وعشرين، وأنا راضٍ بل، وشاكر لك فهذا لا يجوز بل هو من أكل أموال الناس بالباطل، ومثل ذلك في التحريم ما يسمى بالتأمين، ومثال ذلك أيضاً: مهر البغي فالمعطِي تطيب نفسه بإعطاء هذا المال لكن لا يحل لهذه المرأة أن تفجر، ولا أن تأخذ مالاً مقابل بضعها، وشرفها، وعفافها، وكذلك ثمن الكلب، والسنور محرم، وسائر العقود المحرَّمة، ولو طابت نفس المعطِي؛ لأن النبي  ﷺ نهى عن ذلك، وهكذا كل طريق محرم لأخذ المال هو من أكل أموال الناس بالباطل، ولو طابت نفس المعطِي، أو الدافع فكله داخل في عموم قوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [سورة البقرة:188]، - والله تعالى أعلم -.
قوله تعالى: لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا [سورة البقرة:188] الفريق: يعني الجزء، أو القطعة من الشيء، و(فريقاً) من المال: يعني جزءاً من المال، أو بعضاً من المال.
وبعض أهل العلم يدعي في هذا معنىً آخر، ومن ذلك القول بالتقديم، والتأخير في الآية أي: لتأكلوا أموال فريقٍ من الناس، والقاعدة في هذا هي أن الأصل  إذا دار الكلام بين الترتيب، والتقديم، والتأخير فالأصل فيه الترتيب أي: لا يلجأ إلى دعوى التقديم، والتأخير من غير ضرورة فإن كان يمكن حمل الآية على معنىً يصح من غير تكلف؛ فإنه لا يلجأ إلى دعوى التقديم، والتأخير - الله أعلم -.
"وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ قال: ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضيَ له[2]."
هذا الحديث ساقه أيضاً باعتبار المعنى السابق الذي هو الترافع إلى القاضي من أجل التوصل إلى أموال الناس فهو، ولو حكم له القاضي، فإنما يحكم له بقطعة من نار، وإذا كان لا يحق له هذا المال فإن حكم القاضي، وفتوى المفتي لا تغير حقيقة الحكم، ولهذا قال النبي ﷺ: وبينهما مشبَّهات[3]، وقال: استفت قلبك[4]، وقال: الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس[5] فالإنسان لا يتكئ على فتوى، ويقول: بهذا تبرأ ذمتي فالإنسان إذا كان متبعاً للهوى، أو مجارياً لأهواء النفس، فإنه سيبحث عن الأسهل، وسيقول: أفتاني عالم، فالحقيقة أنه لا يكفي هذا، بل لا بد من التحري فيمن يسأل، فلا يكون الإنسان حينما يتخير المفتي متجارياً مع داعية الهوى، أو يسأل هذا، وهذا، وهذا؛ ليبحث عمن يرخص له فإن الذمة لا تبرأ، وكذلك رشوة القاضي تعتبر صورة من الصور التي تدخل ضمن قوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [سورة البقرة:188]، وذلك أنه يترافع إلى القاضي، ويعطيه مالاً من أجل أن يحكم له، ويتوصل إلى مبتغاه، ومصلحته.
"فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها، أو ليذرها[6]، فدلت هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر فلا يحل في نفس الأمر حراماً هو حرام، ولا يحرم حلالاً هو حلال، وإنما  هو ملزم في الظاهر فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجره، وعلى المحتال، وزره."
يعني أن شهادة الزور أو التدليس في القضية بحيث يصدر الحكم على خلاف ما يجب أن يكون كل ذلك لا يغير من الحكم شيئاً لا سيما المسائل التي تتعلق بالطلاق مثلاً، بحيث يأتي الرجل، ولا يوضح القضية كما ينبغي حتى يحكم القاضي له بإرجاع المرأة إليه، وفي حقيقة الأمر أن الصورة الواقعة لا تحل فيها هذه المرأة له فهو حتى وإن حكم له القاضي فإن ذلك لا يغني عنه عند الله شيئاً.
لذلك تجد بعض الأغبياء يظن أن حكم القاضي له بإرجاع امرأته يجعلها له حلالاً، وليس الأمر كذلك فالرجل يكتم أشياء، ويخفي أشياء، ويدلس أشياء عندما يصف للقاضي الواقعة التي حصلت، وبناء على ما يسمع القاضي يصدر الحكم، والحقيقة أنه لا يحل له هذا الحكم.
ومن الصور المنتشرة أن مثل هذا الشخص قد يأتي بشهود، وهؤلاء الشهود الزور في ظنهم أنهم يريدون الخير، والإحسان إليه، ولا يرضون بتشتت الأولاد - مثلاً - لأنه له عشرة من الولد، وليس من مصلحتهم أن يتفرق الأبوان، ويجدون المرأة تبكي، وهي، والأولاد في حال يرثى لها، فأشفق هؤلاء الشهود على المرأة، وأولادها فيشهدون شهادة زور لترجع هذه المرأة إلى صغارها، وهكذا يلمون شمل هذه الأسرة بالحرام، -  والله المستعان -.
"ولهذا قال تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:188] أي تعلمون بطلان ما تعملونه، وتروجونه في كلامكم.
قال قتادة: اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما، ولا يُحق لك باطلاً، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى، ويشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ، ويصيب، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقضِ حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا."
  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4277) (ج 4 / ص 1656) ومسلم في كتاب الأقضية - باب اليمين على المدعى عليه (1711) (ج 3 / ص 1336) واللفظ لمسلم.
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأحكام - باب القضاء في كثير المال وقليله (6762) (ج 6 / ص 2627) ومسلم في كتاب الأقضية - باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713) (ج 3 / ص 1337) إلا أنه قال: ((أبلغ)) بدلاً من قوله: ((ألحن)).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان - باب فضل من استبرأ لدينه (52) (ج 1 / ص 28) ومسلم في كتاب المساقاة - باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599) (ج 3 / ص 1219) ولفظ: ((مشبهات)) عند البخاري، وعند مسلم: ((مشتبهات)).
  4. أخرجه أحمد (ج 4 / ص 228) والدارمي (ج 2 / ص 320) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1734).
  5. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تفسير البر والإثم (2553) (ج 4 / ص 1980).
  6. هنا تمام حديث: ((ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم..)) الذي سبق تخريجه في الحاشية (16).

مرات الإستماع: 0

"وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ أي لا يأكل بعضكم مال بعض".

قوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ هذا يدخل في عمومه كل أخذ للمال بغير وجه حق، ولو طابت نفس صاحبه: كالربا، والرُشا، ونحو ذلك، فهو داخل فيه.

وما ذكره ابن جزي - رحمه الله -: "أي لا يأكل بعضكم مال بعض" بيان للمراد بأكل الأموال في قوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ يعني: لا يأكل بعضكم مال أخيه.

وكما ذكرنا في بعض المناسبات بأن النفوس المجتمعة على ملة، ودين، تُنزل منزلة النفس الواحدة، كما قال الله - تبارك، وتعالى -: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] أي: فليقتل بعضكم بعضًا، وهذا في توبة بني إسرائيل المعروفة، بعد عبادتهم العجل، أُمروا أن يقتل بعضهم بعضًا لا أن يقتل الواحد نفسه، وكذلك هو أحد المعاني في قوله - تبارك، وتعالى -: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة: 8] فإن الآية تحتمل أن يكون المراد أنه يقول بعضهم لبعض سرًا، وكذلك أيضًا في مواضع أخرى مشابهة من كتاب الله - تبارك، وتعالى - كقوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ فهذا لا يقتصر على الأكل، وإنما عُبر به؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، وإلا لو أنه أخذ مال أخيه، ولم يأكله، ولكنه اشترى فيه دارًا، أو مركبة، أو نحو هذا، فالحكم سواء، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء: 10] فهذا لا يختص بالأكل، فلو أتلفها بأي وجه كان فالحكم واحد.

"بِالْباطِلِ كالقمار، والغصب، وجحد الحقوق، وغير ذلك".

يعني بغير وجه حق، وإن طابت نفس صاحبه، مثل الربا، والمعاملات المحرمة، فهي داخلة في هذا، وإن قال: أنا رضيت بهذا، وموافق عليه، لكنه أخذٌ بالباطل.

"وَتُدْلُوا عطف على (لا تأكلوا) أو نصب بإضمار (أن) وهو من أدلى الرجل بحجته إذا قام بها، والمعنى: نهى عن أن يحتج بحجة باطلة؛ ليصل بها إلى أكل مال الناس، وقيل: نهى عن رشوة الحكام بالأموال للوصول إلى أكل أموال الناس، فالباء على الأول سببية، وعلى الثاني للإلصاق".

وَتُدْلُوا مضى في الغريب الكلام على هذه الألفاظ، قال: أدلى دلوه يعني أرسلها، واستُعير بالتوصل إلى الشيء وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ يقول: "عطف على (لا تأكلوا)" فيكون مجزومًا، فـ(لا) ناهية، والفعل بعدها مجزوم وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ وَتُدْلُوا فهو مجزوم بهذا الاعتبار، وعليه قراءة أُبَيّ: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تدلوا) [1] فيكون كالأول سواء، فهذه القراءة توضح ذلك، وهذا الذي استحسنه أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -[2] وذلك بتقدير (لا) ناهية محذوفة.

يقول: "عطف على (لا تأكلوا) أو نصب بإضمار (أن)" كقول الشاعر: 

لا تنهَ عن خلقٍ وتأتيه مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم[3]

(تأتيَ) يعني، و(أن تأتيَ) فيكون منصوبًا بأن مضمرة.

يقول: "وهو من أدلى الرجل بحجته إذا قام بها" والمعنى: نهي عن أن يحتج بحجة باطلة ليصل بها إلى أكل مال الناس وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ هذا القدر واضح، نهي عن أكل الأموال بالباطل وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ يعني نهاه عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن أي يحتج بحجة باطلة ليصل بها إلى أكل مال الناس، يعني لا تتوصلوا بحكم الحاكم إلى أكل الأموال بغير حق؛ وذلك كأن يجحد الإنسان الحق الذي عليه، وليس عليه بينه، أعطاه وديعة، أو أمانة، أو نحو ذلك، أو اشترك معه في مال، أو في مضاربة، ثم بعد ذلك جحده، قال: ليس لك عندي شيء، وليس عند صاحب الحق بينة، فهو يجحد الحق الذي عليه، ولا بينة لصاحب الحق، ثم يخاصمه عند القاضي، يقول: بيني، وبينك القاضي، أو الحاكم، فيدعي ذاك عليه، فينكر هذا، ويحلف فيبرأ، فتوصل بحكم الحاكم إلى أخذ مال أخيه، يعني حكم له القاضي بذلك؛ لأن الأول ليس له بينة.

وقد جاء عن ابن عباس - ا -: أن هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصمهم إلى الحكام[4] وهو يعرف أن الحق عليه، وقد عَلِم أنه آثم آكل حراماً، وجاء نحو هذا عن جماعة من السلف: كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن زيد، قالوا: لا تخاصم، وأنت ظالم[5] ويدخل فيها، كما قال الحافظ ابن القيم - رحمة الله عليه -: رشوة القاضي للتوصل إلى أكل أموالهم.

فصار عندنا الآن صورتان:

الصورة الأولى: أي يأخذ مال أخيه بغير حق، ولا يكون لأخيه بينة، فيترافع معه إلى القضاء، فيدعي ذاك عليه، وهذا يُنكر، فتتوجه اليمين إليه، فيحلف فيبرأ، ويأخذ مال أخيه وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ تتوصلوا بحكمهم إلى اقتطاعها، وأخذها.

الصورة الثانية: أن يُعطي القاضي شيئًا من هذا المال، وهي الرشوة؛ ليأخذ الكثير وَتُدْلُوا بِهَا بالأموال إِلَى الْحُكَّامِ عن طريق الرُشا؛ لتتوصلوا إلى أخذ الأموال بغير حق.

وكذلك أيضًا حينما يدفع هذه الأموال للمحامي، وهو يعلم أنه مبطل، من أجل أن يتوصل إلى أخذ مال أخيه.

وقال بعضهم: بأن وَتُدْلُوا مرتبط بالجملة السابقة وَلَا تَأْكُلُوا فيكون النهي عن مجموع الأمرين: أن يكون النهي خاصًا بهذه الصورة، وهو يكون عن طريق الحكام، إذن صار عندنا معنيان:

المعنى الأول: أن النهي عن كل واحد بخصوصه، على سبيل الاستقلال وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ نهي عن أكل أمول الناس بالباطل (ولا تدلوا بها إلى الحكام) بهذه الأموال؛ لتتوصلوا إلى أخذ مال غيركم بغير حق، سواء كان ذلك عن طريق حكم الحاكم بالإبراء، حيث لا حجة لصاحب الحق، ولا بينة، أو كان ذلك عن طريق الرشوة، فهو نهي عن كل واحد على سبيل الاستقلال، لا تأخذ مال أخيك بغير حق: كالربا، والسرقة، والاختلاس، وسائر الأخذ، عن طريق المعاملات المحرمة، فهذا منهي عن على سبيل الاستقلال.

والأمر الآخر: النهي عن الإدلاء بذلك إلى الحكام، يعني أخذ الأموال عن طريق القضاء برشوة يدفعها، يعني أنه ذكر صورتين، الصورة الثانية: أسوأ من الصورة الأولى، الصورة الثانية: أن يتوصل عن طريق القاضي إلى أخذ مال أخيه، إما برشوة، والرشوة فيها اللعن، وإما بهذا الطريق الذي هو الإنكار، والحلف على الكذب، وهو يعلم أنه كاذب، فيأخذ مال أخيه بهذه الطريقة، وهي شديدة. 

المعنى الثاني: أنه نهي عن مجموع الأمرين: يعني لا تأكل مال أخيك بالباطل، بحيث تتوصل إلى أخذه عن طريق الحكام بالرشا، أو بالجحد، والإنكار، حيث لا بينة لصاحب الحق، يعني يكون المعنى الثاني أنه نهي عن هذا المركب: أكل أموال الناس بطريق معين، وهو حكم الحاكم، فأكل أموال الناس بالباطل محرم بإطلاق، لكنه خص هذه الصورة؛ لشدة شناعتها، وقبحها، وهي ما يُؤخذ من أموال الناس بالباطل عن طريق الحكام، على المعنى الثاني، بإضمار (أن) وهو من أدلى الرجل بحجته إذا قام بها، والمعنى... إلخ.

وقيل: "نهي عن رشوة الحكام بالأموال للوصول إلى أكل أموال الناس، فالباء على الأول سببية" يعني لا تأخذوها بالسبب الباطل، وعلى الثاني: "للإلصاق" هذا كلام المؤلف.

والعبارة في تفسير ابن عطية أوضح إذ يقول: "قال قوم: معنى الآية تسارعون في الأموال إلى المخاصمة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم، إما بأن لا تكون على الجاحد بينة، أو يكون مال أمانة كاليتيم، ونحوه، مما يكون القول فيه قوله - يعني قول الأمين - فالباء في بِها باء السبب، وقيل: معنى الآية ترشوا بها على أكل أكثر منها - يعني يدفع عشرة آلاف ليأخذ مائة ألف - فالباء إلزاق مجرد"[6].

يعني إلصاق مجرد عن السببية.

يقول: "وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا إلا من عصم، وهو الأقل، وأيضاً فإن اللفظتين متناسبتان، تُدْلُوا من أرسل الدلو، والرشوة من الرشا، كأنها يمد بها لتقضى الحاجة - يعني مثل الحبل الذي في الدلو - وتُدْلُوا في موضع جزم، عطفاً على تَأْكُلُوا وفي مصحف أبيّ (ولا تدلوا) بتكرار حرف النهي، وهذه القراءة تؤيد جزم (تُدْلُوا) في قراءة الجماعة، وقيل: تُدْلُوا في موضع نصب على الظرف، وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه (أن) مضمرة"[7] مثل ما ذكرنا في قوله الشاعر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله[8] ...

ولعل الاحتمالات في معنى الآية واضحة: إما أن يكون النهي عن مجموع الأمرين، والصورة مركبة: بأكل أموال الناس عن طريق الترافع إلى القضاء، إما بجحد، أو رشوة.

الصورة الثانية: أنه نهي عن كل واحد من الأمرين: أكل أموال الناس بأي وجه كان، وخص صورةً من ذلك.

"بِالْإِثْمِ الباء سببية، أو للمصاحبة، والإثم على القول الأول في (تدلوا) إقامة الحجة الباطلة كشهادة الزور، والأيمان الكاذبة، وعلى القول الثاني: الرشوة".

الباء سببية، وعلى هذا تتعلق بقوله: لِتَأْكُلُوا أو للمصاحبة، فتكون حالًا من الفاعل في لِتَأْكُلُوا وتتعلق بمحذوف أي لِتَأْكُلُوا متلبسين بالإثم، فعلى الأول بسبب الإثم الذي هو الرشوة مثلًا، والأيمان الكاذبة، أو يكون ذلك باعتبار أنه للمصاحبة، يعني أن تكون حالًا من الفاعل لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ أي: لتأكلوا حال كونكم متلبسين بالإثم.

"وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: تعلمون أنكم على الباطل، وذلك مبالغة في المعصية، والجرأة".

لأن الإنسان إذا أخذ مال أخيه، وهو يعلم أنه على الباطل، فهذا لا شك أنه في غاية السوء.

  1.  معاني القرآن للفراء (1/ 115).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 280).
  3.  البيت نسبه في لسان العرب (7/ 447) للمتوكل الليثي، أو لأبي الأسود الدؤلي.
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 277).
  5.  تفسير ابن أبي حاتم (1/ 321).
  6.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 260).
  7.  المصدر السابق.
  8.  البيت نسبه في لسان العرب (7/ 447) للمتوكل الليثي، أو لأبي الأسود الدؤلي.

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- بعد آيات الصيام: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:188].

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ أي: لا يأكل بعضكم مال أخيه، فإن النفوس المجتمعة على ملة ودين بمنزلة النفس الواحدة، كما قال الله : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة النساء:29]، وكذلك أيضًا قال لبني إسرائيل: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة:54]، وهو أحد الوجهين في قوله -تبارك وتعالى- عن اليهود أو المنافقين، والراجح أنها في اليهود في النجوى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [سورة المجادلة:8] قيل: يقول الواحد في نفسه.

وقيل: يقول فيما بينه وبين أصحابه سرًا.

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل يعني: لا يأكل أحدكم مال أخيه بِالْبَاطِل بكل سبيل كان من الوجوه المحرمة، وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ فهذا الموضع يحتمل معنيين، ويمكن أن تحمل الآية عليهما جميعًا؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فيحتمل أن يكون ذلك يقصد به النهي عن أمرين، أنه نهى عن مزاولتين فهو نهي عن كل واحدة منهما على سبيل الاستقلال:

الأولى: أنه نهي عن أكل أموال الناس بالباطل، كالرشى، والسرقة، والغصب، والاختلاس وسائر أنواع المكاسب المحرمة كالقمار، ونحو ذلك:

والأمر الثاني: هو أن يدفع المال إلى الحاكم القاضي؛ ليتوصل بذلك إلى اقتطاع مال أخيه بغير حق، أن يدفع مالاً قليلاً ليحصل على أكثر منه: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ، فيكون ذلك النهي متوجهًا إلى كل واحد من هذين: لا تأكل مال أخيك، ولا تدفع هذا المال من أجل أن تتوصل إلى أخذ مال أخيك بغير حق، هذا هو المعنى الأول.

والمعنى الثاني: أن ذلك نهي عن مجموع الأمرين، أن يأكل مال أخيه بغير حق فيدفع بمقابل ذلك بإزاء ذلك حتى يحصل على هذا المال بغير الحق يدفع في سبيله الرشى إلى القضاة؛ ليضع يده على هذا المال، وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ عن طريق الرشى، تدلوا بهذه الأموال، وما يكون معها، فهذا كما يذكر بعض المفسرين أنه بحسب حال هذا الآكل لمال أخيه بغير حق، فإذا علم، هذه من الصور الداخلة تحته، إذا علم أن هذا الإنسان صاحب الحق ليس عنده بينة، أعطاه وديعة، اشترك معه في مضاربة، قال له: أنت تعمل وأنا أدفع المال، أو أنه أخذ منه هذا المال على سبيل القرض، أو غير ذلك ثم جحد، وذاك ليس عنده بينة، لا يوجد لا شهود ولا توثيق وكتابة ونحو ذلك، فهو يعلم أنه إذا ترافع معه عند القاضي لن يحصل على شيء؛ لأنه ليس عنده بينة، وهذا ليس عنده مانع أن يحلف إذا توجهت إليه اليمين، فهذا وجه وصورة من صور أكل أموال الناس بالباطل.

وَتُدْلُوا بِهَا ترافع يكون المعنى بهذا الاعتبار، أن يترافع مع خصمه إلى القاضي، ويعلم أن خصمه ليس عنده بينة، فيأكل مال أخيه بغير حق، وَتُدْلُوا بِهَا يقول له: تشتكي تفضل ما أعطيتني شيء ولا عندي لك شيء، وما أخذت منك شيئًا، ولا أعرفك، والمحكمة أمامك، فيذهب ذاك فيطالب بالبينة، فيقول: ليس عندي بينة، فإذا وجهت اليمين إلى الطرف الآخر المنكر فإنه يمكن أن يحلف ويأخذ مال أخيه ويضيع الحق بذلك، هذا وجه ذكره بعض أهل العلم في الآية، وهو وجه أيضًا صحيح، -والله تعالى أعلم، فهو نهي عن كل هذه الصور التي يقتطع بها حق الغير، إما عن طريق رشوة أو عن طريق مرافعة ليس لذاك بينة، وهذا إذا وجهت إليه اليمين حلف ليأخذ مال أخيه بالباطل.

وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:188]، سواءً قلنا ذلك باعتبار الرشوة ليتوصل إلى أكل مال أخيه أو باعتبار الترافع من غير رشوة وهو يعلم أن ذاك ليس عنده بينه، ولذلك كثير من الناس يتساهل في المعاملات والعقود والقروض والودائع ونحو ذلك بناءً على الثقة، فيعطيه المال ويقول: اعمل، فيعمل ذاك، وتكون هذه التجارة واسعة وكبيرة وناجحة ينجح هذا المشروع ثم بعد ذلك يأتيه ويقول: ليس لك عندي شيء، لا أعرفك، المال مني، أعطيتك ملايين، كل ما أملك، فيقول هذا: ليس لك شيء، تريد أن تشتكي اذهب، فمن الناس من يكون بهذه المثابة: لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ، والإثم يطلق على المعصية والمخالفة، ويطلق على الأثر المترتب عليها المؤاخذة، تقول: هذا سبب للإثم، يأثم من فعل كذا، هذا الأثر.

وتقول: هذا إثم يعني معصية، وقد يطلق على معنى أخص في المعاصي وهو الخمر كما قال الشاعر:

شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تفعل بالعقول[1]

فتسمى الإثم فهي أم الخبائث.

فبعد آيات الصيام التي يحصل مع الصوم الامتناع من مباحات، وهي: الأكل، والشرب، والجماع، وسائر المفطرات طاعة لله في وقت الصوم، فإذا كان الإنسان ينتهي عن هذه المباحات عبودية لله وطاعة واستجابة لأمره فينبغي أن يتنزه من محرمات على التأبيد، وهي أموال الناس التي لا يحل له أخذها بغير حق.

فالإنسان أحيانًا يتناقض مع نفسه، نحن نشاهد الإنسان الذي ينتظر غروب الشمس لا يرفع التمرة أو لا يشرب شربة ماء، جالس ينتظر في غاية الانضباط، ويجلس ينظر إلى هذا الطعام أو الشراب ونفسه تطلبه وتتوق إليه ومع ذلك يمنعها عبودية لله وطاعة، لكن في الوقت نفسه إذا أفطر لربما يدخن، لربما ينظر إلى برامج سيئة، ينظر إلى صور إباحية، يجلس مجالس زور في ليالي الصوم، ويتكلم بالإثم والعدوان، ويأخذ أموال الناس في نهاره أو ليله، ما هذا التناقض، ما الذي يجعل الإنسان يمتنع عن تمرة لا يرفعها، ولكنه يُقدم على عظائم الأمور، بل لربما كان يترك الصلاة، فهنا هذه التي تركها الصائم هي من الطيبات، لكن في وقت الصوم لا تحل، فينبغي أن يترك ما لا يحل أصلاً على الدوام، وهي أموال الناس، فلا يقدم على شيء من ذلك، ولا يفرط ولا يتساهل فيه، فهذا ممنوع على كل حال.

ثم أيضًا الصوم ليس فقط عن الطعام والشراب: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه[2]، فإذا كان هذا الإنسان يصوم ويأكل الربا ويأكل الرشى، ويأخذ أموال الناس بالباطل فإن صوم هذا ليس على الوجه الصحيح، وإن كان هذا الصوم يجزئه، لكن مثل قول النبي ﷺ: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، فالعمل بالزور كل معصية لله فهي زور، كل باطل فهو زور، ومن ثَم فهذا الإنسان الذي يأكل أموال الناس ويظلمهم ويستأجر الأجراء ولا يعطيهم حقهم، هذا داخل في هذا الذي لم يدع قول الزور، هذا الذي يأكل أموال الناس بالباطل صومه ليس على التمام والكمال، مع أن ابن حزم -رحمه الله- قال: "بأن الغيبة تفطر الصائم[3]، أن صومه يبطل، وهذا القول شاذ، ليس بصحيح، لكني ذكرته من باب بيان ما ذكره بعض أهل العلم إلى أي حد وصل نظره فيه.

يؤخذ من هذه الآية أيضًا: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ما أشرت إليه في بيان معنى الآية أن النفوس المجتمعة على ملة ودين بمنزلة النفس الواحدة، فمال أخيك هو مالك، فإذا أراد الإنسان أن يعتدي على أموال الآخرين، أو أن يماطل في رد الحقوق إلى أصحابها أو أن يوفي هؤلاء الذين أدوا عملاً، هذا عامل، هذا إنسان حقق له عملاً أو مشروعًا أو غير ذلك، نفذه على الوجه المطلوب لماذا تتأخر في إعطائه، وتجعل هذا الإنسان يتصل عليك كل يوم؟ ثم بعد ذلك لا يرد عليه، ولربما يحتاج أن يتصل بأرقام أخرى، وقبل ذلك حينما كانت الحاجة لك تريد العمل تلقاه بالبشر والطلاقة، هذا لا يجوز وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [سورة المطففين:1] هذا من التطفيف.

إذا كان الحق للإنسان أقبل، وإذا كان الحق عليه أحجم، إذا كان الحق له أراد أن يكون على أكمل الوجوه، وإذا جاء الوفاء بدأ يحاول ويضغط ويريد أن يكسر هذا السعر، حتى لربما رضي ذلك بالخسارة في سبيل أنه ينتهي مع هذا الإنسان المماطل الذي لا يخرج المال من يده إلا بشق الأنفس، من الناس من يكون في غاية العسر والصعوبة في تعامله، المفروض أن الإنسان يضع نفسه مكان أخيه، أنت مكانه، عملت هذا العمل جاء هذا العامل من الصباح إلى المساء يعمل ويتعب ثم بعدما أنهى العمل يقول لك بهذه القيمة ثم تقول له: لا، وتعطيه نصف السعر، أو أقل من ذلك، هلا كان ذلك قبل أن يبدأ، اتفقت معه، فإن لم يحصل اتفاق فمقتضى الشرع أن يُعطى أجرة المثل.

وأما فعل الكرام فإنه يعطيه ما طلب دون مطل ولا تلكؤ، يقول: أنا الذي أخطأت حينما لم أتفق معه منذ البداية على مبلغ معين محدد، فما قاله سأعطيه، وانتهى، فيضع الإنسان دائمًا نفسه موضع أخيه في الخصومة وفي المطالبة، لو الناس فعلوا هذا ما احتيج إلى المحاكم، ولما أشغل القضاة بآلاف القضايا والمطل، وبعض ذلك في غاية الوضوح، ولربما يحصل الترافع على أموال تافهة، خمسمائة ريال، يشغل القاضي والمحكمة، خمسمائة ريال يحصل الترافع عليها، خصومة بين مقاول وبين مستفيد على خمسمائة ريال، فهذا لا يليق بحال من الأحوال، وكما تدين تدان، الذي يأخذ أموال الناس الآن سيدفع الثمن لكن من حسناته، لن يضيع شيء، إذا نقصته ريالاً واحدًا ستدفعه من الحسنات، فاختر لنفسك.

وقد ذكر بعض السلف: أن الذي يأخذ المال كأن يكون ذلك على سبيل القرض فإذا جاء وقت الوفاء ولم يفعل وهو يستطيع يقول: فكل درهم يعني يكسبه ويربحه من هذا الاتجار بهذا المال هو سحت، اقترض منه مائة ألف ريال يتجر بها على أن يردها رأس الحول، جاء رأس الحول يأتي ويعتذر إليه، ويقول: ما عندي شيء مثلاً، أمهلني إلى نهاية الشهر، إلى نهاية السنة، لكن أن يذهب هكذا، فبعض السلف قال: كل درهم يحصله بعد ذلك، يعني بعد هذه المدة المحددة فهو خارج عن المدة التي اتفق معه عليها، فيكون ذلك من قبيل السحت، تأخذ أموال الناس وتتجر فيها وتعبث بها، وتتصرف وتكسب وهم جالسين، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [سورة الرحمن:60]، -والله المستعان.

ثم هنا: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ذكر الأكل؛ لأنه أغلب وجوه الانتفاع، وغالب مزاولات الناس من أجل هذا الأكل، وإلا فلو أنه أخذ أموال الناس بأي طريق كان وصرفها في أي سبيل وجد فإن ذلك داخل فيه، يعني لو أنه ما أكلها أخذها ووهبها، أو أنه أخذها وتصدق بها بزعمه، أو أنه أخذها وذهب بها في سفر تذاكر، أو اشترى بها سيارة أو بنى بها دارًا أو نحو ذلك، هذا كله داخل في الأكل، فعبر عن الأكل؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، فيسمى كل أخذ بهذا الاعتبار يقال له: أكل إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [سورة النساء:10] لو أنهم أحرقوها سواء، ما أكلها ولكنه وهبها أو فعل بها شيئًا آخر من التصرفات المحرمة فذلك داخل فيه: يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى، ولهذا لا زال الناس يعبرون بمثل ذلك، يقولون: فلان يأكل أموال الناس بالإثم بالباطل بالحرام.

ويؤخذ من هذه الآية احتياط الشارع للأموال وهي إحدى الضرورات الخمس، هي الخامس من هذه الضروريات، فاحتاط لها الشارع كما ذكرنا في مناسبة سابقة قريبًا أنه احتاط لها من جهة الوجود ومن جهة العدم، فهذا النهي عن أكلها بالباطل هو احتياط لها من جهة العدم، بمعنى أنه يدفع عنها كل ما يخل بها أو يؤثر عليها أو يفسدها أو ينقصها أو نحو ذلك، باعتبار أنه لا قوام لحياة الناس إلا بالمال، فهو عصب الحياة، فنهى عن كل إتلاف أو إفساد أو عدوان، ولهذا قلنا: كل الحدود الشرعية هي متعلقة بحفظ الضروريات الخمس من جهة العدم، فهنا فيما يتعلق بالأموال، الذي يعتدي عليها بالسرقة تقطع يده، حد السرقة حفظًا لها من جانب العدم، يعني كل ما يؤدي إلى عدمها أو إفسادها وإتلافها.

أما من جهة الوجود فإن الشارع حفظها بتشريع أنواع التعاملات، وإباحة التجارات والمكاسب، فالأصل في المعاملات الحل المكاسب المباحة، إلا ما حرمه الشارع بخصوصه أو ما دلت عليه القواعد الشرعية كالغرر والجهالة ونحو ذلك، هنا كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [سورة النساء:5].

وكذلك أيضًا يؤخذ من قوله: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ بعد قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ قلنا: هذا يدخل في جميع أنواع أكل المال بالباطل، وخص من هذه الصورة على القول بأن النهي عن كل واحد على سبيل الاستقلال، الصورة التي يقتطع بها حق أخيه ومال أخيه عن طريق دفع الرشوة، فهذه لأنها أشد الصور وأقبح هذه الصور؛ لأنه جمع في ذلك جرائم متعددة، أخذ مال أخيه، ورشوة للقاضي -والله أعلم. 

  1. تهذيب اللغة (15/ 117)، ولسان العرب (12/ 6).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور، والعمل به في الصوم، برقم (1903).
  3. انظر: المحلى بالآثار (4/ 306).