قوله: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188] لا تأكلوها ليس الأكل مراداً في ذاته هنا، وإنما كلُّ أخذ، واستلاب لأموال الناس بأي طريق كان، ولأي غرض كان - للأكل أو لغيره - فهو من أكل أموال الناس بالباطل فكل طريق لا يحل فيه أخذ المال فهو داخل في هذا.
بعض الناس يسول لنفسه أخذ المال من شركات التأمين، ويقول: دعني آخذ هذه الأموال، وسأذهب بها إلى أهل الخير في الجمعيات الخيرية، أو نحو ذلك بدلاً من أن أتركه لهؤلاء الذين أخذوه من غير حله، وهكذا يتأول لنفسه، وما علم أن هذا التصرف من أكل أموال الناس بالباطل الوارد في الآية.
قال: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم ، ومسألة التعبير بأموالكم هنا يعني لا يأكل بعضكم مال بعض؛ حيث إن النفوس المجتمعة على شيء واحد تنزل منزلة النفس الواحدة؛ إذ يقول الله : وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة النساء:29] أي لا يقتل بعضكم بعضاًَ، ويقول - جل، وعلا -: فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:54] أي فليقتل بعضكم بعضاً، ويقول - تبارك، وتعالى -: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85] أي يقتل بعضكم بعضاً، وقوله سبحانه: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم أي لا يأكل بعضكم مال أخيه، وذكر الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع، والعرب تعبر به عن سائر ألوان الانتفاع كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [سورة النساء:10] فلو لم يأكل مال اليتيم، وإنما بنى به بيتاًً، أو اشترى به سيارة أو أثاثاً فالحكم واحد لكن عبر بالأكل؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع، ولذلك يقال: فلان أكل مال فلان، بمعنى أخذه بغير حق.
وقوله تعالى: وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ [سورة البقرة:188]: أصل الإدلاء يدل على التوصل إلى الشيء، والدلو المعروف سمي بذلك؛ لأنه وسيلة، وواسطة يتوصل به إلى الماء، ولذلك تقول: فلان يدلي إلى فلان بالقرابة الفلانية، فما يتوصل به فهو الإدلاء، ومنه قيل: للدلو دلوٌ.
فقوله: وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ يعني تريدون التوصل إلى استلابها، وأخذها بالترافع إلى الحاكم أو القاضي، أي أنه - مثلاً - يأخذ مال أخيه ثم يترافع إلى القاضي، ويكون ألحن بحجته من الآخر، أو يكون المظلوم ليس عنده إثباتات مكتوبة تثبت أن له عند خصمه شيئاً فيقول الآخر: ليس له شيء عندي، وإنما يدعي عليَّ ذلك دون دليل، وربما جاء بالحديث الصحيح أن النبي - عليه الصلاة، والسلام - قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال، وأموالهم[1]، وهكذا يحتال بهذا الكلام على أنه ليس في ذمته شيء لأخيه، ويبقى ذاك لا يستطيع أن يفعل شيئاً، - والله المستعان -.
"وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه."
قوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ تحتمل، وجهين:
الأول: أن يكون قوله: وَتُدْلُواْ معطوفاً على قوله: وَلاَ تَأْكُلُواْ أي: لا تأكلوا، ولا تدلوا، أي أنَّ تأكلوا، وتدلوا مجزومان بـ"لا" الناهية، وقد جاء هذا في قراءة لكنها شاذة، وليست من القراءات المتواترة، وعلى هذا يكون النهي عن الأمرين أي: لا تأكلها خلسة، أو سرقة، أو نحو ذلك، ولا تترافع إلى القاضي لتتوصل إلى أخذ ماله بغير حق بحيث تقول مثلاً: ليس عنده شيء يثبت، والمال تحت يدي، وهو مدعي بهذا الاعتبار، والبينة على المدعي، وما عنده بينة إطلاقاً...الخ، فيؤدي ذلك إلى أن يحكم القاضي لك بالمال.
ويحتمل أن يكون قوله: تَأْكُلُواْ مجزوماً بـ"لا" الناهية، وقوله: وَتُدْلُواْ منصوباً بـ"أن" مضمرة كقول الشاعر:
لا تنهَ عن خلق وتأتيَ مثله | عارٌ عليك إذا فعلت عظيم |
المقصود أن النهي يكون عن شيء واحد هو أكل أموال الناس بالباطل، والتوصل إلى ذلك بطريق الترافع إلى الحاكم من أجل أن يحكم له بهذا المال، وهذا هو الفرق بين المعنيين.
وإن كان المعنى الثاني هو المتبادر، وهو أن النهي عن أمر، واحد بصورته التي ذكرت، وهو الذي يميل إليه بعض المحققين كابن جرير الطبري - رحمه الله - فإن هذا لا يعني أن التحريم منحصر فيها، ولكنه ذكرها لخطرها، وعموم ضررها، وكثرة، وقوعها فخصها بذلك محذراً؛ لأن هذا يقع، ويتكرر كثيراًً بحيث يبقى الإنسان يتحسر، ويتجرع الألم إذ ليس في يده إثبات فتضيع عليه أموال طائلة، وذاك يضحك منه، ويسخر منه، ويتهكم به، - والله المستعان -.
"فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم، آكل الحرام، وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تخاصم، وأنت تعلم أنك ظالم."
هذه الآية تدل على تحريم أموال الناس، وأخذها من كل طريق محرم، ولو طابت نفس المعطِي، وذلك مثل الربا فلو قال له: أقرضني المائة بمائة، وعشرين، وأنا راضٍ بل، وشاكر لك فهذا لا يجوز بل هو من أكل أموال الناس بالباطل، ومثل ذلك في التحريم ما يسمى بالتأمين، ومثال ذلك أيضاً: مهر البغي فالمعطِي تطيب نفسه بإعطاء هذا المال لكن لا يحل لهذه المرأة أن تفجر، ولا أن تأخذ مالاً مقابل بضعها، وشرفها، وعفافها، وكذلك ثمن الكلب، والسنور محرم، وسائر العقود المحرَّمة، ولو طابت نفس المعطِي؛ لأن النبي ﷺ نهى عن ذلك، وهكذا كل طريق محرم لأخذ المال هو من أكل أموال الناس بالباطل، ولو طابت نفس المعطِي، أو الدافع فكله داخل في عموم قوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [سورة البقرة:188]، - والله تعالى أعلم -.
قوله تعالى: لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا [سورة البقرة:188] الفريق: يعني الجزء، أو القطعة من الشيء، و(فريقاً) من المال: يعني جزءاً من المال، أو بعضاً من المال.
وبعض أهل العلم يدعي في هذا معنىً آخر، ومن ذلك القول بالتقديم، والتأخير في الآية أي: لتأكلوا أموال فريقٍ من الناس، والقاعدة في هذا هي أن الأصل إذا دار الكلام بين الترتيب، والتقديم، والتأخير فالأصل فيه الترتيب أي: لا يلجأ إلى دعوى التقديم، والتأخير من غير ضرورة فإن كان يمكن حمل الآية على معنىً يصح من غير تكلف؛ فإنه لا يلجأ إلى دعوى التقديم، والتأخير - الله أعلم -.
"وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ قال: ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضيَ له[2]."
هذا الحديث ساقه أيضاً باعتبار المعنى السابق الذي هو الترافع إلى القاضي من أجل التوصل إلى أموال الناس فهو، ولو حكم له القاضي، فإنما يحكم له بقطعة من نار، وإذا كان لا يحق له هذا المال فإن حكم القاضي، وفتوى المفتي لا تغير حقيقة الحكم، ولهذا قال النبي ﷺ: وبينهما مشبَّهات[3]، وقال: استفت قلبك[4]، وقال: الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس[5] فالإنسان لا يتكئ على فتوى، ويقول: بهذا تبرأ ذمتي فالإنسان إذا كان متبعاً للهوى، أو مجارياً لأهواء النفس، فإنه سيبحث عن الأسهل، وسيقول: أفتاني عالم، فالحقيقة أنه لا يكفي هذا، بل لا بد من التحري فيمن يسأل، فلا يكون الإنسان حينما يتخير المفتي متجارياً مع داعية الهوى، أو يسأل هذا، وهذا، وهذا؛ ليبحث عمن يرخص له فإن الذمة لا تبرأ، وكذلك رشوة القاضي تعتبر صورة من الصور التي تدخل ضمن قوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [سورة البقرة:188]، وذلك أنه يترافع إلى القاضي، ويعطيه مالاً من أجل أن يحكم له، ويتوصل إلى مبتغاه، ومصلحته.
"فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها، أو ليذرها[6]، فدلت هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر فلا يحل في نفس الأمر حراماً هو حرام، ولا يحرم حلالاً هو حلال، وإنما هو ملزم في الظاهر فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجره، وعلى المحتال، وزره."
يعني أن شهادة الزور أو التدليس في القضية بحيث يصدر الحكم على خلاف ما يجب أن يكون كل ذلك لا يغير من الحكم شيئاً لا سيما المسائل التي تتعلق بالطلاق مثلاً، بحيث يأتي الرجل، ولا يوضح القضية كما ينبغي حتى يحكم القاضي له بإرجاع المرأة إليه، وفي حقيقة الأمر أن الصورة الواقعة لا تحل فيها هذه المرأة له فهو حتى وإن حكم له القاضي فإن ذلك لا يغني عنه عند الله شيئاً.
لذلك تجد بعض الأغبياء يظن أن حكم القاضي له بإرجاع امرأته يجعلها له حلالاً، وليس الأمر كذلك فالرجل يكتم أشياء، ويخفي أشياء، ويدلس أشياء عندما يصف للقاضي الواقعة التي حصلت، وبناء على ما يسمع القاضي يصدر الحكم، والحقيقة أنه لا يحل له هذا الحكم.
ومن الصور المنتشرة أن مثل هذا الشخص قد يأتي بشهود، وهؤلاء الشهود الزور في ظنهم أنهم يريدون الخير، والإحسان إليه، ولا يرضون بتشتت الأولاد - مثلاً - لأنه له عشرة من الولد، وليس من مصلحتهم أن يتفرق الأبوان، ويجدون المرأة تبكي، وهي، والأولاد في حال يرثى لها، فأشفق هؤلاء الشهود على المرأة، وأولادها فيشهدون شهادة زور لترجع هذه المرأة إلى صغارها، وهكذا يلمون شمل هذه الأسرة بالحرام، - والله المستعان -.
"ولهذا قال تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:188] أي تعلمون بطلان ما تعملونه، وتروجونه في كلامكم.
قال قتادة: اعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما، ولا يُحق لك باطلاً، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى، ويشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ، ويصيب، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقضِ حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا."
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4277) (ج 4 / ص 1656) ومسلم في كتاب الأقضية - باب اليمين على المدعى عليه (1711) (ج 3 / ص 1336) واللفظ لمسلم.
- أخرجه البخاري في كتاب الأحكام - باب القضاء في كثير المال وقليله (6762) (ج 6 / ص 2627) ومسلم في كتاب الأقضية - باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713) (ج 3 / ص 1337) إلا أنه قال: ((أبلغ)) بدلاً من قوله: ((ألحن)).
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان - باب فضل من استبرأ لدينه (52) (ج 1 / ص 28) ومسلم في كتاب المساقاة - باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599) (ج 3 / ص 1219) ولفظ: ((مشبهات)) عند البخاري، وعند مسلم: ((مشتبهات)).
- أخرجه أحمد (ج 4 / ص 228) والدارمي (ج 2 / ص 320) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1734).
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تفسير البر والإثم (2553) (ج 4 / ص 1980).
- هنا تمام حديث: ((ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم..)) الذي سبق تخريجه في الحاشية (16).