السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِىَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا۟ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا۟ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَٰبِهَا ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة البقرة:189]: "قال العوفي عن ابن عباس - ا -: سأل الناس رسول الله ﷺ عن الأهلة فنزلت هذه الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:189]، يعلمون به، حِلَّ دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم."
فقوله - تبارك، وتعالى -: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ [سورة البقرة:189]، أولاً هذا السؤال، هل كان عن فائدة هذه الأهلة، والمنافع المنوطة بها، ومن ثم جاء الجواب مطابقاً للسؤال فقال: هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [سورة البقرة:189]؟ أم أن السؤال إنما كان عن الأهلة، لماذا يبدو الهلال في أول الشهر دقيقاً، ثم يكبر حتى ينير، ثم بعد ذلك يكتمل فيكون قمراً، ثم بدراً، ثم لا يزال ينقص حتى يعود هلالاً في آخر الشهر، ثم يختفي؟
كثير من البلاغيين، والمفسرين قالوا: إن السؤال إنما كان عن الثاني، لماذا يبدوا الهلال دقيقاً، ثم بعد ذلك لا يزال يزداد حتى يصير بدراً..؟
ومن ثَمَّ يقولون: إن الجواب جاء على طريقة الأسلوب الحكيم، والمراد بالأسلوب الحكيم عندهم: أن يأتي الجواب على سؤال بغير ما سأل به السائل، وإنما بما هو أجدر أن يسأل عنه، أي أنه يجيبه بما هو أحوج إليه، وأنفع له دون ما سأل عنه؛ لأن ذلك لا ينتفع به، أو لا يعنيه.
هكذا يقولون إلا أن هذه المسألة ليست محل اتفاق بين أهل العلم، أعني عن ماذا كان السؤال، وبالتالي هل طابقه الجواب، أو لا، فمن أهل العلم من يقول: إن السؤال إنما كان عن فائدة الأهلة، وبالتالي جاء الجواب مطابقاً له، وممن قال بهذا جماعة من المحققين، ويمكن الرجوع إلى كلام الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات.
قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ [سورة البقرة:189]، الأهلة: جمع هلال، وإذا قيل: لماذا لم يقل: يسألونك عن الهلال، فيمكن أن يقال: إنه نزّل اختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات، فالهلال يكون في أول الشهر، ويكون في آخر الشهر، والقمر حينما يتضاءل فإنه لا يزال كذلك حتى يصير هلالاً، وعلى كل حال فهو في يومه الأول ليس كيومه الثاني، وليس كيومه الثالث، وهكذا، ففي كل وقت تختلف حاله.
لماذا سمي الهلال هلالاً:
يمكن أن يقال: لأن الناس حينما يرونه يرفعون أصواتهم إخباراً به، فرفع الأصوات هذا هو إهلال، كما تقول: أهل بالإحرام، وكقوله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ [سورة البقرة:173]، وذلك أنهم كانوا يرفعون أصواتهم عند ذكر أصنامهم، وآلهتهم على الذبيحة فقيل له: إهلال، ولو لم يحصل فيه ذلك كما يقال لليمين: حلف باعتبار أن كل واحد منهما يأخذ بيد صاحبه توثيقاً، فاليمين قول يصاحبه فعل، ثم صارت تطلق اليمين على كل حلف، وعلى كل حال ربما يكون سمي الهلال بهذا؛ لأنهم يرفعون أصواتهم عادة إخباراً به عند رؤيته.
 وبعض أهل العلم يقول عن الهلال: إنه لا يزال هلالاً حتى يستدير، وإذا استدار صار بدراً، وبعضهم يقول: لا، إنما يكون ذلك حتى ينير، وذلك ليلة السابع، ومن ثم يكون قمراً ثم بدراً. 
"يعلمون به حِلَّ دَيْنِهِم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم."
في قوله: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:189] يجيبهم عن فوائد الأهلة، فيقول: هِيَ مَوَاقِيتُ أي: مواقيت لعِدَد النساء؛ فالمتوفى عنها زوجها تتربص أربعة أشهر، وعشراً، والمطلقات الصغيرات، والآيسات يتربصن ثلاثة أشهر، وذلك يعرف بالأهلة.
وبالهلال كذلك يعرفون وقت الصوم، والفطر، والكفارات حينما يصوم شهرين متتابعين، كما أنه يعرف بذلك أيضاً مواقيت الديون، والآجال، إلى غير ذلك مما يحتاجون إلى معرفة ميقاته من العهود، والعقود، والمواثيق المؤقتة بوقت، وما إلى ذلك.
ثم ذكر بعدها الحج فقال: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [سورة البقرة:189] فالحج من جملة المواقيت - ولكن يمكن أن يكون سبب هذا الإفراد له أن الحج هو أعظمها -، وذلك أن الناس إنما يقفون في عرفة بناءً على معرفة الوقت، فكل الناس يكون وقوفهم بناءً على هذه الرؤية، بل في الدنيا جميعاً إنما يعرفون ذلك اليوم، ويوم النحر، وأيام التشريق بناءً على رؤية الهلال فيكونون تبعاً فيه لأهل مكة، ولذلك لا يختلفون في عيد الأضحى فهم تبع لأهل مكة، والمقصود أنه ذكر الحج بعد العموم؛ لأهميته بالنسبة للأمور الأخرى من العِدَد، وما إلى ذلك، فهي قضايا تتعلق بالإنسان نفسه، لكن الحج هو أعظمها، فهو ركن من أركان الإسلام، ويتعلق به حكم المكلَّفين جميعاً.
"وروى عبد الرزاق عن ابن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً[1]، ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [سورة البقرة:189]."

يُلاحظ أن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت، ولم يجعل الشمس كذلك، وبالتالي فإن ضبط المواقيت إنما يكون بالأهلة لا بالشمس، وهذه هي الطريقة الشرعية، وقد تكلم ابن القيم - رحمه الله - في مواضع من كتبه على أن ذلك أثبت، وأدق، وبيّن وجه هذا، خلافاً لما يتداوله الناس اليوم جهلاً، أو تقليداً للكفار من التوقيت بغير ذلك، وذكر أن التوقيت الذي كان عليه الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - إنما كان بالأهلة، ولم يكن بالشمس، واستدل على هذا بأمور منها: حديث عاشوراء الذي فيه أن النبي ﷺ جاء في اليوم العاشر فرآهم يصومون ذلك اليوم فصامه النبي - عليه الصلاة، والسلام -، وأمر بصيامه.
"عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [سورة البقرة:189]."
هذه الآية هي مثال على ما قد يخفى معناه إلا بمعرفة سبب النزول، ومن المعلوم أن سبب النزول في الأهمية ليس على مرتبة واحدة، فأحياناً يتوقف عليه فهم المعنى، وأحياناً يزول به بعض الإشكال، أو الغموض، وأحياناً يكون من باب زيادة الإيضاح، وأحياناً لا يؤثر في المعنى، فهذا مما قد يتوقف عليه فهم المراد، يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا [سورة البقرة:189] المراد بهذا الكلام بيّنه سبب النزول، وهو أن بعض العرب من الأنصار، أو من غير الأنصار كانوا يرون أن دخول البيوت من الأبواب، أو الاستظلال تحت السقوف من محظورات الإحرام، فإذا جاء أحدهم لحاجة فإنه يأتي البيت من ظهره لا من بابه؛ لأنه يرى أنه ممنوع من هذا، فبيّن الله أن البر ليس له تعلق بإتيانكم البيوت بهذه الصفة، وإنما تؤتى البيوت من أبوابها، هذا هو سبب نزول الآية.
مسألة:
من الناس من يعتمد على التفسير بما تحتمله اللغة العربية من غير نظر إلى أسباب النزول، ومن أمثلة ذلك قول أبي عبيدة معمر بن المثنى من المعتزلة في قوله - تبارك، وتعالى - في سورة الأنفال: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [سورة الأنفال:11]: "المقصود الربط على القلوب بحيث تثبت القدم في المعركة فلا يفر"، وهذا المعنى تحتمله اللغة لكنه ليس المراد، فأسباب النزول، وملابسات النزول تدل على أنه نزل مطر فلبّد الأرض، وكانت تسوف فيها الأقدام، فحصل ما حصل.
وهذا مثال آخر: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [سورة البقرة:189] بعضهم قال: هذا مثل ضربه الله ، وهو أن تؤتى البيوت من أبوابها بمعنى أن الإنسان إذا أراد شيئاً فإنما يأتيه من وجهه الذي يحصَّل به، وذلك بتعاطي الأسباب الصحيحة، والطرق الموصلة إلى المطالب، وهذا الكلام، وإن كانت تحتمله اللغة، لكنه ليس مراداً هنا، فالمقصود أنه إذا عرف المراد، وفسرت الآية به، فلا مانع عندئذ أن يقال: إن هذا العموم في اللفظ يمكن أن يعتبر في المعنى الآخر، بل هو يستعمل استعمال المثل بمعنى أنه إذا كانت للإنسان حاجة فينبغي أن يعرف السبيل الموصل إليها، وإلا فإن ذلك قد يضيع عليه حاجته، ويفوت مطلوبه، - والله أعلم -.
"هكذا رواه أبو داود الطيالسي عن البراء قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه فنزلت هذه الآية."
يُلاحظ في هذه الروايات أن صياغاتها صريحة حيث يقولون: فنزلت، وأما الاختلافات فهي في ألفاظ هذه الروايات، وهي يسيرة، ففي بعضها يقال: إنهم كانوا يرون ذلك من محظورات الإحرام، وفي بعضها أنهم كانوا إذا قدموا من سفر، وعلى كل حال يمكن أن تحمل هذه الألفاظ المختلفة على أنهم كانوا يفعلون ذلك في  هذا، وفي هذا، أو أن بعض العرب يفعله في هذه الحال، والبعض الآخر يفعله في حال أخرى، فقد كانت لهم من العقائد، والعادات أمور في عداد العجائب، ومن أراد أن يطلع على شيء من طقوسهم الدينية - لا سيما ما يتعلق بالإحرام، والحج، والمناسك - فليقرأ في مثل كتاب: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، فهذا كتاب كبير، يبلغ نحو تسعة مجلدات، أو أكثر، وفيه كل ما يتعلق بالعرب، ومن ذلك ما يتعلق بالمناسك، والحج، وكيف يصنعون، وقبائل العرب ماذا تصنع كل قبيلة إذا أحرمت، وتلبية كل قبيلة، ومحظورات الإحرام، والعادات المتبعة عندهم، وأمور غريبة عجيبة جداً، وتجد أن منهم من يذهب قبل حجه لزوماً إلى بعض المحال التي تعظم فيها الأوثان؛ لأنه يرى أن ذلك من تمام النسك، ومنهم من يكون منصرفه إليها بعد قضائه لحجه، وتجد كيف هي طريقة التلبية التي يرددونها، فقبيلة عك مثلاً يتقدم غلامان أسودان عاريان أمام الموكب، ويصيحان بأعلى صوتهما، نحن غرابا عك، فيصيح الجمع خلفهم، ويقولون: عك إليك عانية، عبادك اليمانية، وكلام فارغ كثير مما يضحك منه العاقل يوجد في تلك الكتب.
"وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً، وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم، ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه، ولكن يتسوره من قبل ظهره، فقال الله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا [سورة البقرة:189] الآية."
المقصود أن هذه الاختلافات في هذه الروايات لا تؤثر في فهم المعنى، وإنما الذي يفهم به المعنى أن نعرف أنه كانت لبعضهم عادات في بعض الأحوال، فبعضهم كان يتسور داره، والآخر يأتي البيت من ظهره دون الدخول من بابه، وسواء كان ذلك إذا أنشأ سفراً، أو كان قد أحرم، فكل هذا لا يؤثر ما دام المقصود واضحاً.
"وقوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة البقرة:189] أي اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به، واتركوا ما نهاكم عنه لعلكم تفلحون غداً إذا وقفتم بين يديه فيجازيكم على التمام، والكمال."
  1. أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (ج 3 / ص 201)، والحاكم (ج 1 / ص 584)، والطبراني في الكبير (ج 8 / ص 331)، والدارقطني (ج 2 / ص 163)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3093).

مرات الإستماع: 0

"يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ سببها: أنهم سألوا عن الهلال، وما فائدة محاقه، وكماله، ومخالفته لحال الشمس؟ والهلال ليلتان من أول الشهر، وقيل: ثلاث، ثم يقال له قمر".

الأهلة هنا جاءت بصيغة الجمع، فيحتمل أن يكون ذلك باعتبار هلال كل شهر، أو كل ليلة، أحوال الهلال في الليلة الأولى، وفي الليلة الثانية، وفي الليلة الثالثة، تنزيلًا لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات، والهلال سبق في بعض المناسبات: أنه اسم لما يبدو في أول الشهر، وفي آخره، حتى يستتم.

وقال بعضهم: يقال له هلال إلى أن يُنير ليلة السابع، ومعروف أن الهلال في أول الشهر، وفي آخر الشهر لا يُنير، ولكنه في ليلة السابع يُنير؛ ولذلك الناس الذي كانوا يسافرون في الوسائل القديمة على الدواب يعرفون الأيام التي يسيرون فيها ليلًا؛ وذلك حينما يُنير الهلال ليلة السابع.

وأما تسميته بالهلال، فمن الإهلال، قيل: لأن الناس يرفعون أصواتهم إذا رأوه بالإخبار عنه، ثم يقال في الإهلال في النسك رفع الصوت بالتلبية، أهلّ بالحج، وأهلّ بالعمرة، ولبيك حجة، ولبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، ونحو ذلك.

هنا قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ذكر أن سببها: أنهم سألوا عن الهلال، وعن فائدة، ومخالفته لحال الشمس، يعني باعتبار لماذا الأهلة يكون لها هذه الأحوال، يبدو صغيرًا حتى يستتم، فيكون بدرًا، ثم بعد ذلك يبدأ بالنقصان، ويضمحل، حتى يصير إلى المحو، فلماذا لم يكن كالشمس؟ لا يحصل لها مثل هذا، هكذا يقول بعضهم: أن السؤال كان عن هذا، وأنه لم يجبهم عنه، وإنما أجابهم عما يحتاجون إليه من التوقيت بها، ويسمون هذا بالجواب الحكيم، يعني أعرض عن الجواب عن سؤال السائل إلى أمر ينفعه.

وبعضهم يقول: كان سؤالهم عن هذا، ولم يسألوا عن أحوال الهلال، من حيث أطواره، ونحو هذا، لكن السؤال كان عن فائدة الأهلة، فقال: هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ.

قوله: وما فائدة محاقه، يعني حيث لا يُرى في أول الشهر، وآخر الشهر، فهذا أليق بكلامه، وكلام المفسرين عادة في مثل هذا الموضع: أنهم سألوا عن الهلال، أي عن أحواله، لماذا يصير إلى حال من الكمال، أو الاضمحلال، وما يحصل له من الأطوار في بدوه، حتى يُنير، ثم بعد ذلك يكون بدرًا.

لكن لو كان هكذا: وما فائدته، فيكون هذا هو المعنى الثاني الذي ذكره بعض أهل العلم، ما فائدة الأهلة، فيكون أجابهم عما سألوا عنه.

"مَواقِيتُ جمع ميقات لمحل الديون، والأكرية، وانقضاء العدد، وغير ذلك، ثم ذكر الحج اهتمامًا بذكره، وإن كان قد دخل في المواقيت للناس".

يعني أن ذكر عطف الخاص على العام يدل على الاهتمام به، ومنزلته، هي مواقيت للناس في كل شيء: في الحج، والصيام، والعدد، والآجال، والديون، ونحو هذا، لكنه خص الحج لأهمية ذلك فيه، فالحج أشهر معلومات، فيحتاج إلى عناية، وضبط؛ وذلك أنهم كانوا في الجاهلية كما أخبر الله - تبارك، وتعالى -: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة: 37] وفي القراءة الأخرى: (يُضِل به الذين كفروا)[1] يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة: 37] فكان النسيء في الأشهر الحرم، فيقولون مثلًا: الشهر الحرام بدلًا من محرم يكون في صفر، وهكذا، وقد ذكر بعض أهل العلم: إن قول النبي ﷺ في حجة الوداع: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات، والأرض[2] ذُكر في معناه أقوال معروفة، منها: أنهم كانوا ينسؤون الأشهر، فكانت تتحول، وتتغير، فرد النبي ﷺ الأمر إلى نصابه، الأشهر الحرم في وقتها، والحج في وقته الذي شرعه الله تعالى، فذكر الحج لتأكد ذلك؛ ولما كان يقع منهم من النسيء، والنسيء من نسأ الشيء أخره، كان الرجل يقوم في الموسم إذا رجعوا إلى منى، ويتكلم بكلام أنه لا يُجارى، ولا يبارى، ولا راد لما يقول، يقول: "وقد جعلت محرم في صفر" أو نحو ذلك، ويجري على الناس.

وقوله: "وانقضاء العدد" مثل عدة المتوفى عنها زوجها، والمطلقة التي تعتد بثلاثة أشهر، كالآيسة، والصغيرة التي لم تحض، وهكذا آجال الديون، ونحو ذلك.

"وَلَيْسَ الْبِرُّ الآية، كان قوم إذا رجعوا من الحج لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها، وإنما يدخلون من ظهورها، ويقولون: لا يحول بيننا، وبين السماء شيء، فنزلت الآية إعلامًا بأن ذلك ليس من البر، وإنما ذكر ذلك بعد ذكر الحج؛ لأنه كان عندهم من تمام الحج، وقيل: المعنى ليس البر أن تسألوا عن الأهلة، وغيرها مما لا فائدة لكم فيه، فتأتون الأمور على غير ما يجب، فعلى هذا (البيوت) و(أبوابها) و(ظهورها) استعارات؛ يراد بـ(البيوت) المسائل، وبـ(ظهورها) السؤال عما لا يفيد، و(أبوابها) السؤال عما يحتاج إليه".

قوله: وَلَيْسَ الْبِرُّ هذه كانت من مزاولاتهم، واعتقاداتهم في الجاهلية، على اختلاف في الروايات، والتفصيل الوارد في هذا الموضع، لكن المؤدى: أنه كان عندهم في الجاهلية في بعض العرب، وجاء أن ذلك أيضًا في أهل المدينة في الأنصار: أن الواحد منهم إذا رجع، وفي بعضها: أنه إذا أحرم، لا يستظل، ولا يدخل بيتًا من بابه، فإذا احتاج فإنه يدخل من ظهره.

وأعمال الجاهلية، ومناسك الجاهلية، واعتقادات الجاهلية في الإحرام، والنسك كثيرة، ومن أراد أن يقف على أحوالهم بالتفصيل في كل قبيلة، وفي كل جانب، مما يتعلق بالإحرام، أو التلبية، أو المحظورات، أو نحو هذا، ومواضع الذبح، والأصنام التي كانوا يأتون إليها، ويتقربون عندها، منهم من يأتيها قبل الحج، ومنهم من يأتيها بعد الحج، كل هذا تجدونه مفصلًا في مثل كتاب (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) وهو كتاب حافل بهذه القضايا.

وهذه الآية جاء من حديث البراء بن عازب أنه قال: نزلت هذه الآية فينا[3].

وقد عرفنا أن قول الصحابي: نزلت فينا، أن هذا مما يكون له حكم التفسير، لكن قد يأتي في آخر الرواية أحيانًا التصريح بسبب النزول، يعني يذكر عبارة صريحة، فهو يقول: نزلت هذه الآية فينا، وهو أنصاري، كانت الأنصار إذا حجوا، فجاءوا يعني رجعوا من الحج، لم يدخلوا من قِبَل بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَل بابه، فكأنه عُيّر بذلك، فنزلت[4] وهذه صريحة في آخر الرواية بكونها سبب النزول.

فالشاهد أنهم كانوا يتقربون بهذا، كانت القضية لها تعلق بالنسك، فذُكرت بعده، فذكر ذلك في آية الحج، وأما ما ذكره هنا من المعنى الآخر، وهو قوله: "المعنى: ليس البر أن تسألوا عن الأهلة، وغيرها... إلخ" فليس هذا معنى الآية، ولكنه يؤخذ من الآية بطريق الاعتبار، يعني يشبه هذا أن يكون من باب أن الشيء بالشيء يذكر، أو ما يُسمى بالتفسير الإشاري، فإتيان البيوت من أبوابها المنهي عنه هنا هو ما كانوا يفعلونه مما سبق ذكره حقيقة، لكن يؤخذ من هذا الموضع أمر بإتيان البيوت من أبوابها بطريق الاعتبار أن ذلك يشمل سلوك الطرق الموصلة إلى المطلوب، فإذا أراد الإنسان تحصيل أمر من الأمور، فعليه أن يسلك الطريق الصحيحة الموصلة إليه، فيأتي البيت من بابه، وهذا صار يُستعمل كالمثل، هذه بعضهم يسميها بالأمثال المرسلة، يعني عبارات وردت في القرآن صارت تُستعمل استعمال الأمثال، فإذا رأيت أحدًا يريد أن يتوصل إلى مطلوب من غير وجهه، قيل له: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا فإذا أراد أنه أن يتعلم الفقه مثلًا فعليه أن يأخذ ذلك عن طريق فقيه، وأن يذهب فيدرس في كلية الشريعة، ولا يصح أن يطلب الفقه فيدرس في كلية اللغة العربية، فيقال له: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا لا يدرس الفقه عند حجام، أو نجار، أو حداد، أو نحو ذلك لا بصر له بالفقه، وإذا أراد أن يتعلم النجارة جاء إلى هذا النجار، وهكذا وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا إذا أراد خطبة امرأة فإنه يذهب إلى وليها، ولا يكون ذلك بتكوين علاقة معها بحجة أنه يريد خطبتها، وأن يتعرف على شخصيتها، ونحو ذلك، وإنما نقول له: وأتوا البيوت من أبوابها، وهكذا في المطالب الدينية، والدنيوية، وهذا المعنى ذكره بعض أهل العلم كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -[5] فهم وإن لم يصرحوا أن هذا من قبيل التفسير الإشاري إلا أن الواقع أنه منه، وهذا من الصور الصحيحة فيه، فإذا أُمر الناس أن يأتوا البيوت المادية الحسية المعروفة من أبوابها، فهذا أيضًا في الأمور الأخرى في سائر المطالب، تؤتى من أبوابها، فهي، وإن لم يكن لها أبواب حقيقة إلا أن ذلك يُعبر به، كما هو معلوم، يأتي الشيء من بابه، ويتوصل إلى المطلوب.

"الْبِرَّ مَنِ اتَّقى تأويله: مثل وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ".

 

وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة: 177] هذا سبق الكلام فيه، (ولكن البر) إما أن يكون ذلك على تقدير: ولكن البر بر من آمن، أو أنه عبر بالمصدر عن الفاعل (البار) ولكن البار من آمن، على سبيل المبالغة، فسماه بالبر يعني البار، فهنا: ولكن البر بر من اتقى، أو ولكن البار من اتقى، يعني البار هو التقي، والمقصود أن مثل هذه المزاولات دخول البيوت من ظهورها، ونحو ذلك مما لم يأمر الله تعالى به، وليس ذلك من البر، وليس من الطاعة، والمعروف، ولكن البر الحقيقي هو بتقوى الله - تبارك، وتعالى - في طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه.

  1. إعراب القرآن للنحاس (2/ 118) وهي قراءة: الحسن، وأبو رجاء.
  2.  أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، يوم خلق السماوات، والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين برقم: (4662) ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات باب تغليظ تحريم الدماء، والأعراض، والأموال برقم: (1679).
  3.  أخرجه البخاري في أبواب العمرة، باب قول الله تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها [البقرة: 189] برقم: (1803) ومسلم في أوائل كتاب التفسير رقم: (3026).
  4.  أخرجه البخاري في أبواب العمرة، باب قول الله تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها [البقرة: 189] برقم: (1803) ومسلم في أوائل كتاب التفسير رقم: (3026).
  5.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 88).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة البقرة:189].

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ سألوه عن أحوال هذه الأهلة وتغيرها كيف يبدو الهلال، يولد صغيرًا ثم بعد ذلك يكبر حتى يستتم فيصير بدرًا، ثم بعد ذلك يصغر حتى يرجع هلالاً، هكذا قال جمع من أهل العلم من المفسرين، أن السؤال كان عن هذا.

قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ وعلى هذا المعنى الذي ذُكر يكون الجواب، هذه المعازف لا تحل لا في المسجد ولا في غير المسجد. هذا على هذا القول هذا السؤال يكون ذلك من قبيل الأسلوب الحكيم، يعني سألوا عن شيء فأجابهم عما هم أحوج إليه وما هو أنفع لهم، بدلاً من السؤال عن حال هذا الهلال، ولماذا يتحول ويتغير بهذه الطريقة وهي ظاهرة فلكية تحصل بإرادة الله -تبارك وتعالى- وكمال علمه وتدبيره، فأجابهم عن شيء ينفعهم ويحتاجون إليه، هذا يسمونه الأسلوب الحكيم، أن يسأل سائل عن شيء فيكون الجواب عما هو أنفع له، يعني لا يجاب عن نفس السؤال، وإنما عما هو أنفع وأحوج إليه، مع أن بعض أهل العلم يقولون: إن السؤال هنا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ أنهم سألوا عن هذا من جهة أحكامها، والتوقيت بها، فجاء الجواب مطابقًا للسؤال، وذلك أن الله قال: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ يعني جعلها علامات يعرف بها الناس أوقات العبادات المحددة كالصوم والفطر والحج، وكذلك أيضًا العِدد عِدد النساء، وكذلك الآجال بما يتصل بمعاملاتهم وديونهم ونحو ذلك كل ذلك يعرف بالأهلة.

ثم بيّن لهم أمرًا هم أحوج ما يكونون إليه، وذلك فيما يتصل بحقيقة البر، البر لفظة جامعة تنتظم محاب الله -تبارك وتعالى، تصدق على الخير بكل صوره وأشكاله، فقال الله -تبارك وتعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى هذه الآية حينما ننظر إلى لفظها وظاهرها قد يشكل معناها والمراد بها، ما المراد: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا فهذا من المواضع التي يُفهم مراد الله  بها بمعرفة سبب النزول، والملابسات التي كانت إبان نزول القرآن.

وقد ورد في ذلك روايات صح بعضها، من هذا أن بعض قبائل العرب كالأنصار كان الواحد منهم إذا حج ثم رجع لم يدخل البيت من بابه، وإنما يدخل البيت من ظهره، يعتقدون أن هذا من المحظورات والممنوعات في الإحرام جهلاً منهم، وكانت عند العرب طقوس في الجاهلية في النسك والعبادة والإحرام والمواقيت وما إلى ذلك كالتلبية لهم عادات، وكل قبيلة لها عادات، فدخل رجل من باب بيته فعيِّر بذلك فنزلت الآية: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [1] أن القضية ليست قضية بر ولا طاعة لله ولا عمل صالح ولا مطلوب شرعي أن تدخل البيت من ظهره، وإنما عليك أن تدخل البيت من بابه، فهذا ليس من محاب الله ولا مما شرَّعه، ولا أمر به، وإنما هي جهالات يتناقلونها ويعملون بها من غير وعي.

وكذلك جاءت روايات أخرى تدور حول هذا المعنى أنه كان الواحد منهم إذا أحرم فإنه لا يدخل بيتًا ولا يستظل، فإن عرضت له حاجة دخل البيت من ظهره لا يدخل من الباب، فبين لهم الله -تبارك وتعالى- أن هذا ليس من العمل الصالح، ولا من المطلوبات الشرعية: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى، كانوا يفعلون ذلك يظنون أنه قربة يتقربون بها إلى الله، حينما يمتنع الواحد أن يدخل بيتًا من بابه، فبين لهم أن ذلك ليس من البر في شيء، ولكن البر الخير هو في تقوى الله -تبارك وتعالى- بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى.

وَلَكِنَّ الْبِرَّ بعض أهل العلم يقولون: المقصود بالبر هنا مصدر أطلق على الفاعل، يعني مبالغة، ولكن البار من اتقى، فسمي البار بالبر كأنه صار نفس البر: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى.

وبعضهم يقول: فيه مقدر محذوف ولكن البر بر من اتقى، هذا هو البر الحقيقي هو تقوى الله بطاعته، والانقياد لشرعه، وفعل أوامره، واجتناب مساخطه، كل ذلك من محاب الله ، ومما دعت إليه شريعته.

ثم قال لهم: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ذاك الذي تفعلونه ليس بشيء، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لما بين لهم أن البر هو التقوى أمرهم بالتقوى فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وهذا أمر والأصل أن الأمر للوجوب، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: من أجل أن تفلحوا، والفلاح هو تحصيل المطلوب والنجاة من المرهوب، هذا هو الفلاح، فدل ذلك على أن سبيل الفلاح إنما يكون بتقوى الله -تبارك وتعالى، الفلاح كما يقول ابن حزم -رحمه الله [2] يقول: تطلبت شيئًا يتفق عليه الخلق مسلمهم وكافرهم، فوجدته في طرد الهم، وتحصيل اللذة، والسعادة، الجميع يتفق على هذا لكن تتفرق طرائقهم في طلبها، فبعضهم يطلب هذه الراحة بالشهوات المحرمة.

وبعضهم يظن أنه يحصل ذلك بالمال إذا كان غنيًا يكون سعيدًا.

وبعضهم يظن أنه يحصل هذا بالطرب.

وبعضهم يظن أنه يحصل هذا بالمسكرات والمخدرات وما يُذهب العقول ويفسدها.

وبعضهم يظن أن ذلك بالأكل والشرب ونحو ذلك، وهذا كله في الواقع لا يجلب هذا المطلوب، لا يجلب هذه السعادة، وإنما: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فالمفلح الذي يحصل على مطلوبه وينجو من مرهوبه هو التقي.

ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد [3]

يؤخذ من هذه الآية أيها الأحبة من الفوائد يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ حرص الصحابة على العلم، يسألون النبي ﷺ.

وكذلك أيضًا بيان علم الله -تبارك وتعالى- وإحاطة سمعه بسائر المسموعات، سمع سؤالهم فجاء الجواب من فوق سبع سموات يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ كما صح عن عائشة -رضي الله عنها: "سبحان من وسع سمعه الأصوات"، لما ذكرت المرأة التي كانت تجادل النبي ﷺ في زوجها وهي خولة بنت ثعلبة -رضي الله عنها- امرأة أوس بن الصامت [4]  لما ظاهر منها، قَدْ سَمِعَ اللَّهُ "قد" التي تفيد التحقيق قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [سورة المجادلة:1] فالله يسمع الأصوات.

ومن عجيب ما وقع في هذا أني كنت أتحدث عن هذه الآية مرة: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [سورة المجادلة:1] وكنت أتحدث عن سمع الله  فبعد انتهاء الدرس تبعني أحد الشباب أحد الطلاب ثم قال وحسر عن ذراعه وإذا هو أثر الخياطة فيه طويل، فقال: كنت أقرأ هذه الآية فقلت: اللهم إن كنت تسمعني الآن، قال عن نفسه يعني دعا بأن يكسر الله يده، يقول: فسقطت فكسرت، ثم أجري لها هذه العملية التي ترى، فقلت له: هلا دعوت الله  إن كان لا بد من دعوة في هذا المقام أن يدخلك الجنة وأن يباعدك من النار، أن يكسر يدك! فهذا من الجهل، كما قال أولئك: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال:32] دعوا بهذا: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ما قالوا: فاهدنا إليه.

فالمقصود أن سمع الله محيط، سمع سؤالهم فجاءهم الجواب، وهذا من رحمته -تبارك وتعالى- بهم، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ أصل مادة الهلال ترجع إلى معنى الاشتهار والظهور، وقد كانوا يرفعون أصواتهم إذا رأوا الهلال يخبرون بظهوره، فرفع الصوت بذلك يعتبر من قبيل الإهلال، وكذلك الإهلال بالتلبية هو رفع الصوت بها، حينما يرفع صوته ويقول: لبيك حجة، لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك ونحو ذلك فهذا يقال له: الإهلال، أهل بالنسك.

ولهذا فإن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله [5] يرى أن الهلال بهذا الاعتبار لا تعتبر رؤيته إلا بالظهور والاشتهار، بمعنى أنه إذا رآه رجل فلم يخبر به، أو أخبر به فلم تقبل شهادته فإنه لا يصوم؛ لأن الهلال لا يعتبر إلا بالاشتهار، هذا قول في المسألة، والمسألة فيها خلاف معروف عند الفقهاء، فعلى هذا المعنى الذي ذكره شيخ الإسلام أنه لا بد من الظهور، وأن يعرفه الناس وإلا لم يكن هلالاً، فهو يُعلن به ويُجهر به.

كذلك أيضًا يؤخذ من قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قال قتادة -رحمه الله: سألوا نبي الله ﷺ لم جعلت هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون، فجعلها لصوم المسلمين، ولإفطارهم، ولمناسكهم، وحجهم، ولعدة نسائهم، ومحل دينهم في أشياء والله أعلم بما يصلح خلقه" [6]

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ يدل على أن المعتبر بالتاريخ والتوقيت هو الأهلة، وليس الحساب الشمسي، إنما هو الأهلة، فهذا هو الأصل الذي ينبغي أن يُعتمد وقد بينه ووضحه وشرَّع التوقيت به من خلق: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك:14].

أما التوقيت بالشهور الإفرنجية أو بالسنة الشمسية أو نحو ذلك فهذا لا أصل له في الشرع، ثم إن هذا التوقيت بالشهور الإفرنجية أو بالسنة الشمسية أو نحوه يضيع هذه المصالح، فكيف تعرف أشهر الحج وهي لا يمكن أن تنضبط بحساباتهم بتلك الشهور الإفرنجية، فهذا فيه مفاسد كبيرة، ومن استعاض بهذه المواقيت عن التوقيت أو الميقات الذي جعله الله  لخلقه فيكون هذا ممن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وللأسف لو نظرت في أقطار المعمورة لوجدت أن المعتمد هو التوقيت الإفرنجي إلا في هذه البلاد، وقد كان المسلمون قاطبة لا يعرفون إلا التوقيت بالأهلة التاريخ الهجري، وهذا لا شك أنه أضبط، وأنفع، وأدق، وأحسن، وهو شعار للملة، فلا ينبغي أن يُضيع ويترك.

وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله: "وقد بلغني أن الشرائع قبلنا أيضًا إنما علقت الأحكام بالأهلة" [7]  يعني حتى أهل الكتاب من قبل كانوا على التوقيت بالأهلة، قال: "وإنما بدل من بدل من أتباعهم".

ويقول: "بأنهم جعلوا بعض أعيادهم بحساب السنة الشمسية وكذلك النصارى في صومهم وكذلك أعيادهم كل ذلك بالسنة الشمسية، وكذلك ما يفعله الصابئة والمجوس وغيرهم من المشركين"[8]

وكذلك ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: "فالحكمة البالغة التي في تقدير السنين والشهور بسير القمر أظهر وأنفع وأصلح، وأقل اختلافًا من تقديرها بسير الشمس" [9]  هذا كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله-.

فلا ينبغي أن يُضيع مثل هذا، مما يدل على أن أهل الكتاب كانوا يؤرخون بالأهلة أن النبيﷺ لما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يصومون في يوم عاشوراء، فلو كان التوقيت بالسنة الشمسية لتغير عن العاشر من محرم، وكذلك ما ذكره النبي ﷺ من حج بعض الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فهذا يدل على أن شرائعهم مرتبطة بالأهلة.

ثم أيضًا في قوله: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ هذه عبارة في غاية البلاغة مختصرة، يعني لو أراد أن يعدد المنافع من الأهلة هي ميقات لكذا ولكذا ولكذا ولكذا ولكذا، فهذا لا يتناهى، وإنما قال: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ في كل شأن من شؤونهم، فهذا من الإيجاز وبلاغة القرآن، ويشمل كل ما يمكن أن يعد ويحصى من أنواع المواقيت.

وأفرد الحج بعدها: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ يدخل في ذلك الحج والصيام لكنه أفرد الحج؛ لأهميته، كانوا في الجاهلية ينقلون الحج عن وقته فكانوا إذا رجعوا إلى منى بدأت أنواع الجهالات الأخرى تعلن، فمن ذلك ما ذكره الله -تبارك وتعالى- بقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة التوبة:37]، وفي القراءة الأخرى: (يُضِل به الذين كفروا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله)، فهذا النسيء هو تأخير الأشهر الحرم، والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الفرد، فكانوا إذا رجعوا إلى منى يقوم كبير من هؤلاء الجاهليين مطاع فيتكلم بكلام يُعلنه في الموسم في منى، يعلن لهم أنه لا يُعاصى ولا يُجارى ولا يُبارى ولا يرد ما يقول، ثم بكل بساطة يقول لهم: بأنه جعل هذا العام جعل المحرم في صفر، إذا كانوا يريدون غزوًا أو تسلطًا أو نهبًا للحجاج أو غير ذلك قبل أن يرجعوا إلى بلادهم أخروا المحرم إلى صفر، الله  جعل الحج في وسط هذه الأشهر الحرم، شهر يأتون إلى مكة وشهر يرجعون فيأمنون على أنفسهم، وذو الحجة في الوسط، فهؤلاء أحيانًا يأتون ويقولون: محرم هذه السنة سيكون في صفر، فيبقى هؤلاء عرضة لكل آسر وكاسر.

وهكذا في السنة القادمة يأتي آخر ويقول: جعلته في ربيع الأول، فيدور مع السنة ويغيرون الشهور: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ زيادة على كفرهم بالله ، كذلك يعبثون بالأشهر الحرم: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [سورة التوبة:36]. 

 

ما لا زال الحديث متصلاً بما يستخرج من الهدايات من قوله -تبارك وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة البقرة:189].

تحدثنا عن صدر هذه الآية، السؤال عن الأهلة والجواب بأنها مواقيت للناس والحج، وقوله: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ فهذا لجنس الناس، اللام تفيد العموم، لكل الناس، كما ذكرنا قبل لمؤمنهم وكافرهم، فالله جعل الأهلة مواقيت فمن طلب التوقيت في غيرها فإنه يكون بذلك قد أخطأ ما جعله الله -تبارك وتعالى- ميقاتًا للناس.

ثم أيضًا: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ إذا كان كذلك هي ميقات الحج والصوم ونحو هذا فما كان معتبرًا في زمن النبي ﷺ من ذلك فهو المعتبر في كل زمان، فالنبي ﷺ قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وبيَّن الحكم حينما يغم الهلال فإذا غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين [10] فهذه الشريعة كما قال الشاطبي -رحمه الله: "شريعة أمية" [11]  وهذا من كمالها أنها تصلح لكل زمان ومكان، تصلح لقوم لديهم من الوسائل والآلات والعلوم والمعارف ما تقدموا به على غيرهم، وتصلح لقوم لم يحصلوا شيئًا من ذلك، تصلح لأهل الحواضر والقرى، وتصلح لأهل البوادي.

فالمعتبر هو النظر إلى هذا الهلال الذي يمكن لكل أحد، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لا يحتاج إلى دراسة، ولا إلى علم بالحساب، ولا غير ذلك، لهذا قال النبي ﷺ: الشهر هكذا وأشار ثلاثًا ثم قبض أصبعه [12]  يعني تسعًا وعشرين، وكذلك أشار بثلاثين، فهذا هو الشهر، ولذلك لا نحتاج إلى تكلف ولا نحتاج إلى كثير اختلاف عند دخول شهر رمضان بين من يعتبرون الحساب ومن يعتبرون الرؤية.

فالقضية قد بينها الله -تبارك وتعالى: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ فكيف تطلب المواقيت بغير ذلك؟!، لاسيما أنها قضية شرعية، فهذا واضح والحمد لله.

ثم أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا لما ذكر أن الأهلة مواقيت للناس والحج وكان من عملهم بالحج أن بعض العرب لا يستظل إذا أحرم، ولا يدخل بيتًا من بابه إن دعت الحاجة إلى دخوله وإنما من ظهره، فقال الله -تبارك وتعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا فهذه من موروثات الجاهلية، فبين الله -تبارك وتعالى- أن ذلك ليس من البر في شيء، ويؤخذ منه أن الشريعة وأن محاب الله -تبارك وتعالى- لا تؤخذ من موروثات الناس في عادتهم وتقاليدهم ونحو ذلك فيضاف ذلك إلى الله.

وينبغي أن نفرق بين أمرين بين ما كان من جنس العادات، وبين ما كان من شرع الله -تبارك وتعالى، وهذه قضية يحصل بسببها كثير من التلبيس، فإن بعض الطاعنين في الشريعة لربما يلبسون هذه الطعون بأنها موجهة لعادات وتقاليد وأن ذلك ليس من شرع الله في شيء كالحجاب مثلاً، الذي يطعنون في شرع الله في الحجاب يقولون: هذه موروثات من العادات لا علاقة لها بالتشريع، فأضيفت إلى شرع الله ، وهذا الكلام غير صحيح، وهذه مغالطة.

وقل مثل ذلك فيما يتعلق بفصل النساء عن الرجال، فالبعض يقول: هذه عادات في بعض البيئات ليست من شرع الله في شيء، وهذا الكلام غير صحيح، فهناك نصوص كثيرة تدل على هذا المعنى من الكتاب والسنة، كما تدل عليه أيضًا القواعد الشرعية، والله -تبارك وتعالى- قد بين للناس ما يحتاجون إليه، ففي مثل هذه القضية بين أن دخول البيوت من ظهورها ليس من البر، والعمل الصالح في شيء، من هنا ينبغي أن يعرض العمل على الشرع فإن كان موافقًا له قبل، وإن لم يكن موافقًا له نُظر فيه فما كان من العادات الحسنة فلا بأس، وقد يكون من كمال المروءات فمثل هذا لا ينكر، لكن لا يقال: إن هذا مما شرَّعه الله -تبارك وتعالى- فيفعل على سبيل التقرب إلى الله والتعبد، نفرق بين هذا وهذا، يعني العادات الحسنة نبقيها لا ننكرها، لكن لا يعني ذلك أن يقال: إن هذا تشريع، هذا هو الدين، هذا هو الذي أمر به الشرع.

ثم أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى كما قلنا: ولكن البر بر من اتقى، كما قدره بعض أهل العلم، وقال آخر: وَلَكِنَّ الْبِرَّ يعني البار، فأطلق عليه المصدر، كأن هذا البار صار هو نفس البر من باب المبالغة لتلبسه بالبر، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى فدل على أن التقوى هي لزوم البر، وأن التقي هو الذي يوصف بالبر، وأصل هذه اللفظة كما ذكرنا تدل على الاتساع، ولهذا يقال للصحراء: البر، ومن أسماء الله -تبارك وتعالى- البر وذلك لسعة وكثرة كمالاته وأوصافه -جل جلاله وتقدست أسماؤه، فهو واسع العطاء واسع الكرم، واسع الرحمة، واسع الجود، واسع المعروف الإحسان إلى الخلق، كامل الصفات من كل وجه.

وأيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى أن الناس يتفاوتون في هذا الوصف بحسب تفاوتهم بالتقوى، تقول: فلان بر من الأبرار، اللهم اجعلنا من الأبرار، هذا يكون بحسب ما يتحقق للعبد من تقوى الله -تبارك وتعالى، فهي قضية نسبية يتفاوت الناس فيها هذا بر وهذا بر، ولكن يكون بينهما من المفارقة والتفاوت كما يكون في مراتب أهل الإيمان والعبودية، فمنهم من يكون في أعلى درجات السابقين، ومنهم من يكون دون ذلك: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [سورة المطففين:26]، فإذا تحقق العبد بالبر انكف عن مساخط الله وأقبل على محابه، واشتغلت قلبه وجوارحه بذكر الله وطاعته، وعم خيره ونفعه، فلا يصدر عن لسانه إلا كل معروف، ولا يصدر عن جوارحه إلا كل معروف، ولا يخطو إلا إلى معروف، ولا يبطش بيده إلا وفق ما يحبه الله -تبارك وتعالى، وعندها يكون الله -تبارك وتعالى- كما جاء في الحديث القدسي: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه [13]  هذا ولي الله حقًا.

فهذه الأمور ليست بالدعاوى والنسب المجردة والألقاب، إنما يكون ذلك بالعمل والإيمان والطاعة والامتثال.

كما يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا كما أن البيوت المعروفة تؤتى من أبوابها كما أمر الله وذلك هو سبب النزول كما عرفنا، فمن باب الاعتبار والقياس أن من أراد أمرًا فينبغي أن يسلك الطريق الموصل إليه الطريق الصحيح، من أراد أن يحصل مطلوبًا فعليه أن يتحرى أقرب الطرق التي توصل إلى هذا المطلوب، فيأتي البيوت من أبوبها: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا أراد أن يخطب امرأة فليس بصحيح أن يتواصل معها من وراء أهلها، بأي طريق من طرق التواصل، ولا حاجة لأن يرسل إليها عن طريق صديقتها ورفقيتها أو نحو ذلك، وإنما يطرق هذا الأمر من بابه الصحيح، فيذهب إلى وليها ويكلمه بحاجته، أما أن يبقى تواصل بين رجل أجنبي وهذه الفتاة، ثم بعد ذلك تقع أمور قد لا تحمد عواقبها، فهذا غير صحيح، تؤتى البيوت من أبوابها.

وكذلك أيضًا سائر الأمور المعنوية، كما أن الأمور الحسية البيوت والأبواب تؤتى من هذا الطريق فكذلك سائر المطالب بما يوصل إليها.

إذا أراد الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيسلك الطريق الذي هو أدعى للقبول، هذا الإنسان يمكن أن تكلمه مباشرة إذا كان يقبل عنك، وإذا كان لا يقبل فيمكن أن تكلم من يقبل منه، وهكذا ما يتعلق بالمنكرات العامة فيسلك الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى المطلوب، فإذا كان المسلك يسبب زيادة في هذا المنكر وتفاقمًا له أو تثبيتًا له فذلك لا يكون من طاعة الله ، ويكون هذا الأمر بالمعروف هو في الواقع من المنكر، فليس ذلك من طاعة الله ولا من محابه ومراضيه؛ لأن المقصود هو إزالة المنكر، فإذا عرف الإنسان أن هذا الطريق يؤدي إلى زيادته فلا يجوز له أن يسلكه.

وكذلك أيضًا فيما يتعلق بالعلم إذا أراد أن يتعلم يأتي البيوت من أبوابها، يذهب إلى أهل العلم من عرفوا بالعلم، وكذلك أيضًا يتدرج فيه، يسلك ذلك بطريقة صحيحة حتى يصل إلى مبتغاه، إذا أراد أن يقرأ القرآن قراءة صحيحة فيذهب إلى من يحسن ذلك ويقرأ عليه.

وإذا أراد الإنسان أن يتفقه فإنه يبحث عن فقيه يأخذ هذا الفقه عنه، وقل مثل ذلك أيضًا في سائر الأعمال من المطالب المختلفة، فمثل هذا من شأنه أن يصل، وأن يحصل، ولكن قد يخطئ الإنسان فيطلب الشيء من غير وجهه فلا يحصل له مطلوبه بل قد يحصل له عكس ذلك.

فهذه قضية يمكن أن ينتفع بها، ومعنى كبير واسع أن نجعل ذلك سبيلاً إلى كل مطلوب، أن يطرق من بابه، وأن يؤتى إليه من الوجه الذي يمكن أن يتحقق ذلك فيه: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا لما نهاهم عن إتيان البيوت من ظهورها وأن ذلك ليس من البر أمرهم بضد ذلك: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، فهذا كثير في نصوص الكتاب والسنة: لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [سورة البقرة:104]، وهكذا في مسألة التبني: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ۝ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [سورة الأحزاب:4، 5]، قل: فلان ابن فلان، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ تقول: يا أخي، وَمَوَالِيكُمْ [سورة الأحزاب:5] يا مولاي، زيد بن حارثة كان يقال له: زيد بن محمد، فأحيانًا لا يعرف اسم الأب أو ينسى مع طول الزمن، فلما جاء هذا التشريع أمرهم أن ينسبوهم إلى آبائهم، فإن لم يعلم الأب فعندها يقال: أخي، ومولاي، هكذا في هذه الشريعة.

وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ [سورة الأحزاب:1] بعدها قال: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [سورة الأحزاب:2]، لكن لا يشترط في كل تشريع حينما ينهى الله -تبارك وتعالى- عن شيء أن يؤتى بالبديل، لكن يحسن أن يُرشد الناس إلى البديل في باب الفتوى، وفي باب التعليم، وفي باب التربية أن يُرشد الناس إلى البدائل الصحيحة، الرجل الذي جاء لابن عباس -رضي الله عنهما، وذكر له مهنته أنه رسام فذكر له ابن عباس -رضي الله عنهما- الحديث في الصور: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون  [14] إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال: أحيوا ما خلقتم  [15] فربا الرجل ربوة، يعني الرجل هذا له هوى فيه هذا مصدر الكسب عنده فربا ربوة انتفخ غضب، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما: "ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح" [16]

فأرشده إلى هذا البديل، لكن على المؤمن أن يستسلم وينقاد لله -تبارك وتعالى- ولا يطلب بالضرورة البديل في كل شيء، فإن حصل فالحمد لله، وأحيانًا قد لا يوجد بديل صحيح في ذلك الوقت في ذلك المكان، فعليه الصبر، يعني من الناس من يطلب تمويلاً صحيحًا لا شبهة فيه فقد لا يجد في ذلك الموضع، فيقول: وما البديل؟ يقال: البديل الصبر، اصبر، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة البقرة:189] هذا أمر بالتقوى فالتقوى واجبة، والقدر الواجب منها هو الذي يحصل به فعل الواجبات وترك المحرمات، وما وراء ذلك فهو مستحب من فعل النوافل وترك المكروهات فهذا قدر يحصل به السبق بالخيرات.

وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ كل "لعل" في القرآن فهي للتعليل إلا في موضع واحد وذلك في قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ أي: من أجل أن يحصل لكم الفلاح وعرفنا أن الفلاح هو تحصيل المطلوب والنجاة من المرهوب، فمن أراد الفلاح فعليه بتقوى الله، فإذا أراد الفلاح الكامل فعليه أن يتحقق بالتقوى على أكمل الوجوه وأتمها، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فيكون للعبد من الفلاح هذا الحكم لَعَلَّكُمْ من أجل أن تفلحوا، بقدر ما عنده من هذا الوصف التقوى، فإذا زادت التقوى زاد الفلاح، وإذا نقصت التقوى نقص الفلاح. 

  1. أخرجه البخاري، أبواب العمرة، باب قول الله تعالىوَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [سورة البقرة:189]، برقم (1803)، ومسلم، في أوائل كتاب التفسير، برقم (3026).
  2. انظر: رسائل ابن حزم (1/ 336)، والأخلاق والسير في مداواة النفوس (ص:14).
  3. انظر: أمالي القالي (2/ 202)، والتذكرة الحمدونية (1/ 156).
  4. أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 454)، والنسائي في سننه، كتاب الطلاق، باب الظهار، برقم (3460)، وابن ماجه، أبواب الطلاق، باب المظاهر يجامع قبل أن يكفر، برقم (2063)، وأحمد في المسند، برقم (24195)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، تميم بن سلمة من رجاله، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (7/ 175).
  5. مجموع الفتاوى (25/ 136).
  6. تفسير الطبري (3/ 280).
  7. مجموع الفتاوى (25/ 135)
  8. مجموع الفتاوى (25/ 135).
  9. التبيان في أقسام القرآن (ص:166).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب قول النبي ﷺإذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، برقم (1907).
  11. الموافقات (1/ 56).
  12. أخرجه البخاري، كتاب الطلاق باب اللعان، برقم (5302)، ومسلم، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما، برقم (1080).
  13.  أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم (6502).
  14. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة، برقم (5950)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة، برقم (2109).
  15. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء، برقم (2105)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة، برقم (2107).
  16. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح، وما يكره من ذلك، برقم (2225).