قال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190]، قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة."
بعض أهل العلم يرى أن أول آية نزلت في القتال هي قوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [سورة الحـج:39]، فكان إذناً مطلقاً، ثم بعد ذلك جاء الأمر به مقيداً: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190]، فلم يكن الأمر بالقتال في أول الأمر على سبيل العموم، والإطلاق، فيرى هؤلاء العلماء أن هذه ثاني آية نزلت في القتال.
ومنهم من يرى أن هذه هي الآية الأولى التي نزلت بالأمر بالقتال: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190]، ومن ثم فإن طائفة من هؤلاء يقولون: إنها قد نسختها الآية الخامسة من سورة براءة، وهي قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [سورة التوبة:5]، ويقولون: إن هذه الآية نسخت مائة، وأربعا، وعشرين آية، أي: آيات العفو، والصفح، ومثل هذه الآيات في القتال كقوله: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190]، ومثل ذلك قوله تعالى: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [سورة التوبة:36]، فلم يقيد ذلك بقتال الذين يقاتلون، وهذا قول معروف لطائفة من السلف، والخلف.
وذهب آخرون إلى أن الآية ليست منسوخة، وليس هذا هو معناها أصلاً، وإنما جيء بهذه الصيغة: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190] من أجل التحضيض، والتحريض على قتالهم، كما قال لهم في سورة براءة: أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ... [سورة التوبة:15] أي أن ذلك على سبيل التحريض على القتال، فبعض أهل العلم يقول: هذه على هذا الباب: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190]، أي: أن الله أمر بالقتال مقروناً بهذا ليكون ذلك حاثاً لهم على مقاتلة الأعداء، أي كأنه يقول: هم يقاتلونكم فكيف تقعدون عن قتالهم؟ وبالتالي ليس المقصود بالأمر بالقتال هنا على هذا القول قتال من قاتلهم فقط.
ومن أهل العلم من يقول: إن هذه الآية ليست منسوخة، وليست على ما فهمه أولئك من أن القتال يختص بمن يقاتلهم من طوائف الكفار، وإنما تكون في من يقدر على حمل السلاح دون النساء، والشيوخ، والرهبان ممن لا يشارك في القتال، ولا رأي، ولا تدبير له فيه، فالمقصود قاتلوا الرجال المقاتلة.
وهكذا اجتمع لنا في هذه الآية ثلاثة أقوال مشهورة: الأول على النسخ، والثاني، والثالث على أنه لا نسخ فيها، وكل هذه الأقوال ترجع إلى أن هذه الآية ليس المراد بها الاقتصار في القتال على من قاتل المسلمين فقط من طوائف الكفار، إلا أن يكون باعتبار أن هذا هو المعنى، ثم نسخ، وإما أن المراد التحضيض، والتحريض بذكر أمر تتحرك معه النفوس، وإما بأن المراد مقاتلة من يقدر على القتال، ومَن مِن شأنه القتال من الرجال، وبالتالي لا نسخ.
وعلى كل هذه التقديرات ندرك أن ما يروجه بعض المفتونين، أو الذين يكذبون على الله في مثل هذه الأيام، ويتنصلون من شرائع الإسلام، ويقولون للمسلمين، ولغير المسلمين: الإسلام عندنا يقول: قاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم فقط، بل حتى الذين يقاتلون المسلمين صارت مقاتلتهم إرهاباً إذا دافع المسلمون عن عرضهم، وبلدهم، وحريمهم، فلا بد من الاستكانة، والخضوع، ودفن الرءوس في التراب، ومن قاتل هؤلاء الكفار دهموا بلده، وانتهكوا عرضه، وقتلوا نساءه؛ لأنه من الخوارج بزعمهم، أما الذي يهدم القرى، والمدن على بيوت الناس بأنواع الأسلحة الفتاكة فهذا حامل الحضارة، والمدنية، ورسولها، فحسبنا الله، ونعم الوكيل.
وعلى كل حال هذا هو معنى الآية على كل التقديرات التي قال بها أهل العلم، ومن أراد أن يكذب على الله، ويبدل شرائع الإسلام فهذا شأن آخر، فالإنسان يمكن أن يسكت؛ لأنه يرى أنه لا مصلحة في بعض الكلام أحياناً، لكن لا يجوز له أن يكذب على الله في كل حال، وعلى كلٍ نحن مطمئنون، والحمد لله بأن الجهاد باق إلى يوم القيامة، ولا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجال، فهذا وعد صادق لا يمكن أن يتخلف.
ولذلك فهؤلاء مشكلتهم مع القرآن، وليست مع شيء آخر، ولذلك أخرجوا قرآناً آخر، وطلبوا من المسلمين أن يتبعوه، وبالتالي فليست القضية إلا في من جاء من المفتونين المنسلخين، الذين قالوا: إن الصحابة فهموا القرآن بناءً على معطيات عندهم، ونحن بشر مثلهم، وهم بشر، ونحن رجال، وهم رجال، ولهم فهم، ولنا فهم، وكل عصر يفهم القرآن على ضوئه، وقالوا: لا بد من قراءة جديدة للقرآن، ويقصدون بالقراءة الجديدة أنه يفسر بنفس آخر مثل ما يقول فهمي هويدي الذي يفسر الجهاد في الإسلام فيقول: هو أن يوجد حلف ضد دولة معتدية على دولة أخرى، فتطالب بدايةً بالسبل الدبلوماسية، فإن تعذر ذلك فإن هذا الحلف يكسر هذا العدوان، كما قادت أمريكا حلف الأطلسي، أو الناتو في محاربة صربيا عندما اعتدت على البوسنة.
وهذا داعية إسلامي في بلاد الغرب يدافع عن الإسلام على حد زعمه فيقول في بعض القنوات الفضائية عن الحور العين: هؤلاء يجاهدون من أجل الحور العين، ولا يوجد شيء اسمه حور عين أصلاً، وهذا تكذيب للقرآن، - والله المستعان - .
"قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله ﷺ يقاتل من قاتله، ويكف عمن كفَّ عنه، حتى نزلت سورة براءة.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال: هذه منسوخة بقوله: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5]، وفي هذا نظر؛ لأن قوله: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة:190]، إنما هو تهييج، وإغراء بالأعداء الذين هِمَّتهم قتال الإسلام، وأهله، أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم، كما قال: ِوَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [سورة التوبة:36]، ولهذا قال في الآية: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [سورة البقرة:191] أي: لتكن همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً."
قوله تعالى: حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [سورة البقرة:191] ليس معنى ثقفتموهم، وجدتموهم فقط، وإنما لفظة "ثقف" تدل على حذق في الشيء، فالرجل الثقف في القتال هو الحاذق الحذر البصير، وبالتالي فإن معنى قوله: حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي: حيث أدركتموهم، وتمكنتم من أخذهم، فهي حذق، ومهارة في إدراكهم، وأخذهم، وحيث: تدل على الزمان، أو على المكان.
"وقوله تعالى: وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ [سورة البقرة:190] أي: قاتلوا في سبيل الله، ولا تعتدوا في ذلك، ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي كما قال الحسن البصري - رحمه الله تعالى -: من المثلة، والغلول، وقتل النساء، والصبيان، والشيوخ الذين لا رأي لهم، ولا قتال فيهم."
إلا إذا كان له رأي فيقتل، مثل ما قتل النبي ﷺ دريد بن الصمة لما كانت وقعة حنين حيث جيء به شيخ كبير، قد عمي بصره، وكان له رأي، وتجربة في الحروب، وقد وقع حوار بينه، وبين مالك ابن عوف النصري قائد هوازن، ومعلوم كلامه الذي قاله:
ليتني فيها جذع | أخب فيها، وأضع |
"والشيوخ الذين لا رأي لهم، ولا قتال فيهم، والرهبان، وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة، كما قال ذلك ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومقاتل بن حيان، وغيرهم."
لا تفعل هذه الأمور لغير مصلحة، أما إذا كان ذلك فيه مصلحة كإغاظة العدو، أو كسر شوكته فيجوز ذلك كما فعل النبي ﷺ في حصار بني النضير، فقال الله : مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [سورة الحشر:5] هذا إذن قدري، وإذن شرعي، والقرآن يعبِّر بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالله أذن لهم بهذا في حصار عدوهم إذا احتاجوا إليه لكسر العدو، فإذا كان ذلك لا يتأتى إلا بإحراق هذه الأشجار فإنها تحرق؛ لما فيه من إغاظة الأعداء عندما يرون مالهم يصير إلى الحرق.
قوله: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ [سورة الحشر:5] يعني: من نخلة، سواء كان نوعاً خاصاً من النخل، كما قال بعضهم: العجوة، أو أنواع النخيل ما عدا العجوة، أو ما عدا العجوة، والبرني، أو غير ذلك من الأقوال.
"ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة : أن رسول الله ﷺ كان يقول: اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا أصحاب الصوامع[1]
المُثلة معروفة، وهي لا تجوز ابتداء، واختلف العلماء فيها هل تجوز على سبيل المقاصة، أم لا؟ فمن أهل العلم من يرى أن ذلك يجوز؛ لقوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126]، وكذلك ما فعله النبي ﷺ حيث سمل أعين العرنيين، وقطع أيديهم، وأرجلهم، وألقاهم في الحرة، فكانوا يستغيثون، ويطلبون الماء، ولم يعطوا ماءً حتى ماتوا؛ لأنهم فعلوا بالراعي مثل ذلك، وعلى كل حال فالمسألة معروفة، وهي ليست محل اتفاق.
"وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: "وُجِدت امرأة في بعض مغازي النبي ﷺ مقتولة فأنكر رسول الله ﷺ قتل النساء، والصبيان"، والأحاديث، والآثار في هذا كثيرة جداً."
وكذلك من أعطى الجزية، وصاحب العهد، والمستأمن لا يجوز قتلهم، فيكون على هذا القول قوله تعالى: وَلاَ تَعْتَدُواْ [سورة البقرة:190] أي: لا تعتدوا بقتل من أعطى الجزية، والمعاهد، والمستأمن، والشيخ الكبير، والمرأة، والطفل، والرهبان في الصوامع، وما أشبه ذلك، وعلى القول بأنها منسوخة، يكون العدوان بقتال الطوائف التي لم يحصل منها قتال، والنبي ﷺ وجد امرأة مقتولة في بعض المغازي، فأنكر قتل النساء، والصبيان[2]، وفي رواية قال: ما كانت هذه تقاتِل فيمن يقاتل[3]، يعني أنه أنكر قتلها.
وهذا القول الأخير أي: لا تعتدوا بقتل من لا يستحق القتل من صاحب جزية، أو مستأمن، أو شيخ كبير، أو نحو ذلك، هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وبهذا الاعتبار تكون الآية ليست منسوخة.
"ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس، وقتل الرجال، نبه تعالى على أن ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله، والشرك به، والصدِّ عن سبيله أبلغ، وأشد، وأعظم، وأطمّ من القتل، ولهذا قال: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [سورة البقرة:191]."
هذا جواب كبير لسؤال، أو لشبهة تطرح في قضية الجهاد، وهي: أن فيه إزهاقاً للنفوس فالله يقول: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [سورة البقرة:191]، ويقول في موضع آخر: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [سورة البقرة:217]، أي: ما هم فيه من الكفر، أو فتن الناس عن دينهم، وصدهم عن سبيل الله حتى يصيروا إلى الكفر هذا أعظم من القتل، ولذلك ينبغي أن نستفيد من أجوبة القرآن في الرد على دعايات الكفار ضد المسلمين، وتشويه صورة الإسلام.
"قال أبو مالك: أي ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل، وقال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس في قوله: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [سورة البقرة:191]، يقول: الشرك أشد من القتل."
هذا معنى ما ذكر في الرواية السابقة من أن الفتنة هي الشرك، ومن أهل العلم من يقول: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [سورة البقرة:191] أي: صد الناس عن الدين، وامتحانهم حتى يتحول الرجل من الإيمان إلى الكفر بالله أشد، وأعظم من سفك دمه، وهذا الذي اختاره ابن جرير في معنى الآية.
"وقوله تعالى: وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:191]، كما جاء في الصحيحين: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السماوات، والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحلَّ لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ﷺ فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم[4]
فقوله - تبارك، وتعالى -: وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191]: هذه الآية صريحة في تحريم القتال في الحرم، والمراد بالمسجد الحرام الحرم بأجمعه، وليس المقصود به مسجد الكعبة المعروف فقط، وإنما الحرم كله.
قال بعض أهل العلم في هذه الآية كابن جرير - رحمه الله -: إنها منسوخة بقوله - تبارك، وتعالى - في سورة براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ [سورة التوبة:5]، وبقوله - تبارك، وتعالى -: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة البقرة:193]، على أن قوله تعالى: حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ عام، يدخل فيه الحرم، وغيره، وقوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ بمعنى حتى لا يكون كفر، فحيث وجد الكفر، وجد القتال.
وهذا القول فيه نظر؛ لأن تلك الآيات، وإن كانت عامة فإنها مخصصة بهذه الآية: وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191]، أي: قاتلوا الكفار، ولكن المسجد الحرام لا يحل لأحد أن يقاتل فيه، وإنما أحل للنبي ﷺ ساعة من نهار.
والذي يدل على أن هذه الآية محكمة غير منسوخة هو أن النبي ﷺ صرَّح بعد فتح مكة بأن القتال لا يحل لأحد بعده، فقال: وإنما أحلت لي ساعة من نهار[6].
وغزوة تبوك نزلت فيها، أو بعدها بقليل كثير من آيات سورة براءة، وذلك قبل حجة الوداع كما هو معلوم، وحجة الوداع كانت في آخر حياته حيث لم يعش بعدها النبي ﷺ إلا قريباً من ثمانين يوماً، وقد قال ﷺ لأصحابه في ذلك الجمع العظيم في خطبته: أي يوم هذا، أي شهر هذا، أي بلد هذا، ثم قال لهم: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا[7]، أو كما قال - عليه الصلاة، والسلام -، فهو يرسخ هذا المفهوم، ويؤكد مدلول الآية بأن الحرم لا يجوز لأحد أن يقاتل فيه، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً، وخلفاً، ولكن العلماء اختلفوا في بعض التفصيلات، كما لو التجأ إلى الحرم أحد ممن عليه دم، فبعضهم يقول: يضيق عليه حتى يخرج منه ثم يؤخذ، وبعضهم قال: إن الحرم لا يعصم دم من عليه دم، أو جناية، وقتاله لا يكون مخالفاً لمدلول هذه الآية، وهذا هو الأرجح، وهو أن من كان عليه جناية من الجنايات فإن وجوده في حرم الله لا يمنع من أن يقتص منه، ويدل على هذا أيضاً أمور منها:
أن النبي ﷺ أمر بقتل ابن خطل، وغيره ممن أهدر دمه ﷺ حينما فتح مكة، ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، وقد وجدوا ابن خطل متعلقاً بأستار الكعبة فقُتل، وهذه هي خلاصة مسألة القتال في المسجد الحرام بإيجاز شديد، وستأتي مسألة أخرى إن شاء الله في موضعها في سورة براءة، في قوله - تبارك، وتعالى -: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [سورة التوبة:36] فعندنا القتال في الحرم: فهو يختص بالبقعة، ولا يتوقت بوقت، وعندنا القتال في الأشهر الحرم: فهو لا يختص ببقعة، ولكنه مؤقت بوقت في أرجاء الدنيا، وهذا الوقت هي الأشهر الحرم - ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب - فهذه لا علاقة لها بالبقعة، والخلاف فيها أكثر من الخلاف في المسألة الأولى، وهي مسألة القتال في الحرم، ويأتي - إن شاء الله تعالى الكلام على هذا -.
قال المؤلف: يعني بذلك - صلوات الله، وسلامه عليه - قتاله أهلها يوم فتح مكة، يلاحظ أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات، والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وهنا يقول: إن مكة فتحت بالقوة عام الفتح، وهذه مسألة فيها خلاف كثير جداً بين أهل العلم، وتترتب عليها مسائل من قضية القتال في مكة، ومسائل تتعلق ببيوت مكة، وأرضها، وهل دخلها النبي ﷺ صلحاً، أو فتحها بالقوة، والقهر، وهذه المسائل مبسوطة في كتب الفقه، والقول بأنها فتحت بالقوة، أو فتحت صلحاً يترتب عليه أحكام، والأقرب من كلام أهل العلم أنها فتحت بالقوة، وحصل يوم الفتح قتال بعض النواحي مع بعض فلول المشركين، ولكنه قليل، وقتل منهم من قتل، وفر من فرَّ.
يقول: وقتلت رجال منهم عند الخندمة، الخندمة تطلق على محال واسعة، ويمكن أن يراد بها جبال مكة الشرقية إلى ناحية الشمال قليلاً ابتداء من جبل أبي قبيس إلى جبل ثبير، وجبل ثبير كان يقول المشركون فيه، وهم في منى: أشرق ثبير كي ما نغير، أي لأجل أن يذهبوا إلى عرفة، فالمقصود أن الخندمة تدخل فيها هذه المناطق كلها، ومنها المناطق التي لم يكن الناس يأتونها في السابق مثل: محبس الجن، وتدخل فيها منطقة الملاوي، والروضة، والعزيزية، ومن جهة الشمال قليلاً يدخل فيها شعب عامر، وفيها الأبيات المعروفة لحماس ابن قيس لما كان يعد امرأته دائما، ويقول لها: سأُخدِمُك بنات محمد، فلما حصل الفتح جاءها فاراً يطرق بابه، ويطلب منها أن تفتح مع أنه كان يقول لها: لا تفتحي لي الباب إذا انهزمت، فجاء فاراً ذلك اليوم، فقالت: أين ما كنت؟، وكان يبحث عن مكان يختبئ فيه، فقال لها:
إنك لو شهدت يوم الخندمة | إذ فر صفوان وفر عكرمة |
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة | يقطعن كل ساعد، وجمجمة |
لهم نهيت خلفنا وغمغمة | لم تنطقي باللوم أدنى كلمة |
من هم الأحابيش؟
لما يتكلم أهل السير عن غزوة أحد يقولون: جاءت قريش، وجاء أهل تهامة، ومن معهم من الأحابيش، وتهامة معروفة، وأما الأحابيش فهم بطون من العرب، أو قبائل حول مكة ليسوا من قريش مثل: بني الهون، وبني المصطلق من خزاعة، وبني الحارث بن عبد مناة، وأمثال هؤلاء يقال لهم: الأحابيش، وقيل لهم ذلك بناء على حلف حصل بين هذه القبائل - قبائل من كنانة، ومن خزاعة، أو بطون من كنانة، وخزاعة - يقال: إنهم تحالفوا عند وادٍ من الأودية يقال له الأحبش فنسبوا إليه، ويقال: إنهم تحالفوا عند جبل قريب من عرنة بجوار عرفة، يقال له: حُبْشِي فنسبوا إليه.
"ثم كفَّ الله القتال بينهم فقال: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [سورة الفتح:24]، وقال: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [سورة الفتح:25].
- أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، والسير - باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة (1731) (ج 3 / ص 1356).
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب قتل النساء في الحرب (2852) (ج 3 / ص 1098)، ومسلم في كتاب الجهاد، والسير - باب تحريم قتل النساء، والصبيان في الحرب (1744) (ج 3 / ص 1364).
- صحيح ابن ماجه في كتاب الجهاد - باب الغارة، والبيات، وقتل النساء، والصبيان (2842) (ج 2 / ص 948).
- أخرجه البخاري في أبواب الجوية - باب إثم الغادر للبر، والفاجر (3017) (ج 3 / ص 1164)، ومسلم في كتاب الحج - باب تحريم مكة، وصيدها، وخلاها، وشجرها، ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (1353) (ج 2 / ص 986).
- أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، والسير - باب فتح مكة (1780) (ج 3 / ص 1405).
- سبق تخريجه.
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب حجة الوادع (4144) (ج 4 / ص 1599)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات - باب تغليظ تحريم الدماء، والأعراض، والأموال (1679) (ج 3 / ص 1305).