الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] الكتاب: القرآن، والريب: الشك" قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس - ا -، وعن مرة الهَمْدانيّ عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ: لاَ رَيْبَ فِيهِ: لا شك فيه.

على كل حال السلف يفسرون اللفظة بما يقرِّب المعنى، فلا تكاد تجد في تفسيرات السلف التدقيق والتنقير بالعناية بذكر المعاني التكميلية، والاشتغال بالفروق بين الألفاظ بناءً على ذلك، وإنما يفسرونها تفسيراً يقرِّب معناها فحسب، ولهذا فهم يفسرون الريب بالشك.

وعلى قول من يقول بوجود الترادف في اللغة، وفي القرآن؛ يمكن أن يكون هذا منه، والذين يفرقون ويقولون: لا يوجد في القرآن مترادف، يقولون: الريب غير الشك، وإن كان يشترك معه في المعنى الأصلي وهو وجود التردد؛ لكن الفرق بين الريب وبين الشك هو أن الريب شكٌّ مع قلق، وبعضهم يقول: شكٌّ مع وجود تهمة.

وابن القيم - رحمه الله - يذكر بين الشك والريب سبعة أوجه من الفروقات، في المعنى، وفي الاستعمال، ما تقول: أنا والله مرتاب هل الشمس خرجت الآن وإلا ما خرجت، لكن تقول: أنا أشك الآن في خروج الشمس، فلو أن إنساناً دخل في مكان فهذا الدخول قد يكون مريباً فيبعث على القلق أو التهمة، إذ هو ليس مجرد شك.

فعلى كل حال إذا أردنا أن نبحث عن المعاني الزائدة عن المعنى الأصلي يمكن أن نقول: إن ثمة فرقاً بين الريب والشك، فالله يقول: لاَ رَيْبَ فِيهِ يعني ليس فيه شك، أو لا يلحقه شك أو تهمة، أو لا يبعث على القلق هل هو حق أو ليس بحق.

المقصود أن قوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك أنه موحى من الله هذا هو المعنى المتبادر، ومما يؤخذ من هذه الآية، وما تحتمله أيضاً، ويمكن أن يجتمع ذلك جميعاً فتفسر به أنه ليس فيه ريب أنه من عند الله، ولا يتضمن أموراً تبعث على الريب من وجود تناقضات كما في كتب المتقدمين التي حرفت، فالقرآن ليس فيه شيء يبعث على الريب لا في ألفاظه، ولا في معانيه.

وأيضاً قوله - تبارك وتعالى -: لاَ رَيْبَ فِيهِ هذا نفي، ومثل هذا النفي إذا ورد في أوصاف الله ، أو أوصاف الرسول ﷺ، أو أوصاف القرآن؛ فإن القاعدة أنه يتضمن ثبوت كمال ضده، فإذا قال: لا ريب فيه فهذا يتضمن ثبوت معنىً وهو أنه مشتمل أو متضمن لكمال اليقين.

وفي قوله - تبارك وتعالى -: لاَ رَيْبَ فِيهِ نفي الريب عنه هذا لا شك أنه واقع موقعه، وأن ريب من ارتاب إنما جاءه إما لفساد قصده، أو لقصور فهمه، وإلا فالقرآن من حيث هو ليس فيه ما يبعث على الريب، ولا ريب أيضاً أنه من عند الله موحى، وأدلة ذلك كثيرة جداً، ويكفي الإعجاز.

وليس معنى هذا أنه لا يرتاب فيه أحد، فالله قال: لاَ رَيْبَ فِيهِ، والذين ارتابوا إنما أتوا من فساد قصدهم، أو من فساد تصورهم، وقصور فهمهم وعلمهم، فهو لا ريب فيه وإن ارتاب فيه بعض الناس.
وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد، وقال ابن أبي حاتم: "لا أعلم في هذا خلافًا"، ومعنى الكلام: أن هذا الكتاب - وهو القرآن - لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى في السجدة: آلم ۝ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [سورة السجدة:1-2]. هذه الآية في سورة السجدة ترجح أحد الموضعين في الوقف في الآية، فمن المعلوم أن قوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ إما أن يكون الوقف على رَيْبَ فتقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ، فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وإما أن تقف على فِيهِ هكذا: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ، هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، ويختلف المعنى بهذا الاعتبار.

فهذه الآية في سورة السجدة لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ المعنى واضح جداً فيها حيث نفى عنه الريب، فيكون الوقف على قوله: فِيهِ، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ فنفى عنه الريب، ثم وصفه بأنه هدى للمتقين، وهذا أبلغ من الوقوف على قوله: لاَ رَيْبَ، فكأنه يقول: ذلك الكتاب لا ريب ولا شك، فيه هدى للمتقين، فإن وصف القرآن بأنه هدى أبلغ من قولك: في القرآن هدى؛ لأن القرآن كله هدى، فهذا أبلغ من الأول، وبالتالي يكون الوقف على قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ أحسن من الوقف على قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ، لكن لا يقال: إن الوقف على الثانية منكر، وينكر على صاحبه، وأنه أفسد المعنى، بل هو محتمل، ومعلوم  أن كثيراً من قضايا الوقف هذه إنما مرجعها إلى النظر والاجتهاد بحسب ما يلوح من المعنى.

وقال بعضهم: هذا خبر، ومعناه النهي أي: لا ترتابوا فيه.على كل حال هو خبر لا ريب فيه يمكن أن يقال: إنه يتضمن النهي، أي لا ترتابوا فيه، مثل قوله تعالى: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] هذا خبر يتضمن الأمر، بمعنى أن الله يعلمهم كيف يحمدونه، قال تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ [سورة النمل:59]، فالحاصل أن الله علمهم بذلك من أجل أن يحمدوه، وقل مثل هذا أيضاً في مواضع أخرى في كتاب الله كقوله في سورة البقرة أيضاً: وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ [سورة البقرة:272]، فلا شك أن الصيغة صيغة خبر، وهو مع هذا يتضمن طلب الإخلاص، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الآية تدل على اشتراط الإخلاص وطلبه، فهي على سبيل الشرط، وإن لم تكن الصيغة صيغة طلب لذلك.
ومن القراء من يقف على قوله تعالى: لاَ رَيْبَ، ويبتدئ بقوله تعالى: فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، والوقف على قوله تعالى: لاَ رَيْبَ فِيهِ أولى للآية التي ذكرناها؛ ولأنه يصير قوله تعالى: هُدًى صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون: فِيهِ هُدًى، وهُدًى يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت، ومنصوبًا على الحال.

طبعاً المرفوع لا تظهر علامة الرفع عليه هنا؛ لأن آخره حرف علة، فالألف من حروف العلة لا تظهر عليه الضمة، ولا الفتحة، ولا الكسرة، لا تظهر عليه حركات الإعراب للتعذر.

وخصّت الهداية للمتَّقين. كما قال: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت44].هذا جواب لسؤال هو: لماذا خص الله الهدى بالمتقين مع أن القرآن هدىً عام للأحمر والأسود، فلماذا خصه بالمتقين كما قال الله : يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [سورة المائدة:16]، فالقاعدة في هذا الباب أن الشيء قد يكون عاماً فيصح أن يخص ببعض أفراده لكونهم المنتفعين به، حيث يصح في كلام العرب أن يخص الشيء العام في بعض الأفراد؛ لأنهم هم المنتفعين به مع أنه عام، فالقرآن هدى لجميع الخلق، وعلى كل حال جاء وصف القرآن بهذا، ووصف القرآن بهذا، وجاء فيه التفصيل بأنه هدىً للمتقين، وأن الذين لا يؤمنون يكون سبباً لعماهم، فإذا أنزلت السورة وقع لهم التخبط والعمى فيقولون: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [سورة المدثر:31]، ويقولون: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [سورة التوبة:124]، ويقولون: مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16]، إذا خرجوا من عند النبي ﷺ فهؤلاء أهل النفاق لا يفهمون، ويكون ذلك سبباً لمزيد من غوايتهم فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:125] نسأل الله العافية.

وقال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء:82]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار، كما قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس:57].يعني أن القرآن موعظة للجميع وشفاء لما في الصدور، وهو هدىً أيضاً، ولكن لما كان الذي يهتدي به هم أهل الإيمان خصهم بذلك، وإلا فهو عين الهدى، ومن طلب الهدى في غيره أضله الله ، ومن ثَمَّ فإن وصفه بالهدى بهذا الأسلوب لا شك أنه يدل على أن القرآن مشتمل على حقيقة الهدى في ألفاظه ومعانيه بكل ما يمكن أن تحتمله لفظة هُدًى.

قول الله وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ: ما قال: ننزل من القرآن ما هو دواء؛ لأن الدواء قد يتخلف معه البرء، وقد يحصل عكس المقصود من تعاطيه، لكن الله قال: شفاء، وكذلك في العسل والنحل قال الله عنه: يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ [سورة النحل:69]، ما قال: فيه دواء للناس.

وعن ابن عباس وابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ و: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ يعني: نورًا للمتقين.على كل حال هدىً يعني نوراً وغير ذلك من المعاني التي يقرب بها هذا، والهدى لا يخفى، لكن هل هذا الهدى هنا المراد به هداية التوفيق، أو هداية الإرشاد، أو أنه مشتمل، أو أن المراد بذلك الأمران؟ كل ذلك محتمل، فبعض أهل العلم يقولون: هدىً للمتقين المراد هنا هداية التوفيق، وذلك أنه خصهم به، فهم الذين تحققت لهم الهداية، وبعضهم يقول: المراد به هداية الإرشاد، لكن لما انتفعوا به خصوا بذلك، وعلى كل حال كل هذا يصح في تفسير الآية، فيقال: القرآن هدى للمتقين، فهو يبصرهم بالحق، وبكل ما يحتاجون إليه مما تكون به سعادتهم، ويرشدهم إلى كل خير، فهو إرشاد ودلالة بهذا الاعتبار كما أنه هداية بمعنى الإرشاد ودلالة يدل على الله لعموم الخلق، يعرفهم بالله، وبأسمائه، وصفاته، وما يليق به، يأمرهم بتوحيده، فهذا كله من هداية الإرشاد والدلالة، وهو هدى للمتقين الذين آمنوا بالله ، واهتدوا بالقرآن وانتفعوا به، ولا شك أن هذه الهداية التوفيقية حصلت لمثل هؤلاء.

لكن يبقى سؤال آخر وهو أن الله قال: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ هذا وصف للقرآن كله أنه هدى للمتقين، فهل معنى هذا أنه قبل أن ينزل عليهم كانوا متقين؟

قال الله عن الكتاب: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، فهو وصف هذا الكتاب بكامله أنه هدى قبل أن ينزل، ولمَّا نزل كان هدى للمتحققين بالتقوى المتصفين بها.

بعض أهل العلم قالوا: إن الكتاب المقصود به التوراة أو الإنجيل، حيث قالوا الله يقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ وذلك إشارة للبعيد، والإشارة للقريب تكون بـ(هؤلاء) إذن: ليس المقصود بهم الذين نزل عليهم القرآن وإنما المقصود بالكتاب التوراة أو الإنجيل هدىً للمتقين، لكن هذا القول بعيد جداً، بل هو وصف لهذا القرآن.

والذي جعلهم يقولون هذا القول - وهو موجود في كتب التفسير - أمور:

الأول: أن الكتاب يطلق على جميع القرآن، ويصح أن يطلق على بعضه مما نزل منه، كما يصح أيضاً أن ينزل ما لم ينزل منزلة ما نزل بأنه متحقق الوقوع والنزول، فيسمى الجميع - ما نزل وما لم ينزل - بهذا الاعتبار يسمى الكتاب.

الثاني: أن الله عليم حكيم، يعلم حال الخلق، فهؤلاء الذين وصفوا بالتقوى في قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ يوفقهم الله ، ويهديهم لما علم من صلاح قلوبهم، وصحة مقاصدهم، فيهديهم، وهان عليه تعالى أقوام، وعلم فساد حالهم، وقلوبهم، وما انطوت عليه نفوسهم فأذلهم، فلم ينتفعوا بهذا القرآن، ولم يدخلوا في الإسلام أصلاً.

ونجد أيضاً أن هذه القرآن يشتمل على ألوان الهدايات مما فصله الله في بيان الأحكام التي نزلت تباعاً، وبيان حقائق الإيمان وما إلى ذلك، فهذا كله لا شك أنه هدايات لمن دخلوا في الإسلام، وهم الذين يستحقون الوصف المذكور وهو التقوى، والمقصود من تحقق التقوى هنا هو الدخول في الإسلام وإلا فالتقوى تعرفون معناها وما جاء فيها.

"عن ابن عباس - ا - قال: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ قال: هم المؤمنون "الذين يتَّقون الشرك بي، ويعملون بطاعتي".
وعنه للمتقين قال: "الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به"، وقال قتادة لِّلْمُتَّقِينَ هم الذين نعتهم الله بقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [سورة البقرة:3] الآية والتي بعدها، واختيار ابن جرير: أن الآية تَعُمّ ذلك كله، وهو كما قال".
على كل حال هو ذكر شيئاً من أبرز صفاتهم بعده الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3]، كما يقول الله في صفات أهل الإيمان، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63]، وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [سورة المؤمنون:1-2] إلى آخره مع أن هذا ليس حصراً لأوصافهم، وإنما يذكر طرفاً من أوصافهم، أو قد يذكر أبرز وأهم الأوصاف وهكذا، وهذا لا يشكل على كل حال؛ فكل هذه الأقوال التي قيلت لا منافاة بينها، ولا نحتاج إلى شيء من الترجيح، فنقول: هي أقوال صحيحة، ولا شك أن المتقين هم الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وهم الموصوفون بكل ما ذكر.

"وقد روى الترمذي وابن ماجه عن عطية السعدي قال: قال رسول الله ﷺ: لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس[1]، ثم قال الترمذي: حسن غريب".على كل حال هذه الرواية معروف ما فيها من الضعف، وقضايا التصحيح والتضعيف هي من القضايا الاجتهادية، وبالتالي لا تضيق ذرعاً إذا قال لك أحد: بأنه يشترط أن لا يضع في الكتاب إلا روايات صحيحة، ثم تجد بعض الروايات يقال عنها: إنها ضعيفة؛ لأن هذا كله من قبيل الاجتهاد، فالناس يجتهدون، وقد يختلفون في بعض أصول وقواعد الجرح والتعديل، أو بعض قضايا المصطلح، ويقع بينهم التفاوت حتى في تطبيقها، فعلى كل حال المعنى الذي ذكر في قوله: لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لا شك أن هذه من أرفع مراتب التقوى وهي الورع عن الأمور المشتبهة، والورع عن الأمور المكروهة، والورع عن التوسع في الدنيا مما يقعده عن بلوغ المقامات العالية في منازل العبودية، كل هذه الأنواع الثلاثة في الورع - يعني غير ترك الحرام - لا شك أنها إذا تحققت توصل العبد إلى درجة عالية في التقوى، يترك ما لا بأس به من التوسع في المآكل ونحو ذلك، وكان هذا هو مذهب عمر ، وكان يتأول قوله - تبارك وتعالى -: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [سورة الأحقاف:20]، وتعلمون تنزه بعض الصحابة عن بعض الأشياء من اللباس الفاخر جداً، وكل إنسان في هذا الباب بحسبه.

ولذلك لا يليق بالعالم أن يسكن القصور، لكن هذا قد يصلح لبعض العامة من أهل السعة والغنى أما العالم لا يصلح له هذا، وقد لا يصلح له أن يركب المراكب الفخمة جداً التي تنشد إليها أنظار الناس؛ لأن هذا قد يكون نقصاً في حقه، مع أن العامة يترفعون بمثل هذه الأمور، ويكملون نقصهم بمثل هذا البهرج، أما العالم فلا، وكذلك قد لا يصلح للعالم أن يلبس فاخر الثياب، ونفيس الثياب؛ ذا الثمن الغالي جداً، لكنه يلبس اللباس النظيف المعتدل الذي يليق بمثله، وهكذا، لكل أحد ما يلائمه، ويناسبه، فقد يكون هذا زيناً في حق أحد، وشيناً في حق آخرين.
ويطلق الهدى ويراد به: ما يقر في القلب من الإيمان، وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله قال الله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [سورة القصص:56]، وقال: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [سورة البقرة:272]، وقال: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ [سورة الأعراف:186]، وقال: مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا [سورة الكهف:17]، إلى غير ذلك من الآيات.
ويطلق ويراد به: بيان الحق وتوضيحه، والدلالة عليه والإرشاد، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52]، وقال: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [سورة الرعد:7]، وقال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [سورة فصلت:17].
وجه الاستشهاد بهذه الآية: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ على أنها هداية إرشاد؛ لأنها لو كانت هداية توفيق لكان لا بد أن يكونوا قد دخلوا في الإيمان؛ لأن الله لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لكنهم ما اهتدوا، بل استحبوا العمى على الهدى فبقوا على الكفر، فهي هداية إرشاد، فمعنى هديناهم أي بيِّنا لهم الحق من الباطل، فآثروا الباطل.

وهنا مسألة وهي أن كل هداية مثبتة للنبي ﷺ فهي هداية إرشاد، وكل هداية منفية عنه فهي هداية التوفيق.

وقال: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد:10] على تفسير من قال المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح، والله أعلم.بل هذا هو قول عامة أهل العلم من السلف والخلف، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ: أي بيَّنا له طريق الخير من طريق الشر، وأما القول الآخر في الآية أي: هديناه الثديين حينما يخرج من بطن أمه فيلتقم الثدي، فهذا القول في الآية بعيد ولا يتبادر، وإن كان الله قد هدى الرضيع إلى هذا، لكن هذه الهداية وهداية المخلوقات عموماً لما تقوم به معائشها، ومصالحها؛ كلها تسمى هداية فطرية.

وأصل التقوى التوقي مما يكره؛ لأن أصلها "وقوى" من الوقاية.التقوى على وزن فعلى، وأصل مادة التقوى من الناحية التصريفية وقي، فقول الحافظ ابن كثير: "وقوى" لأنها أحد أطوار التصريف، فالتصريف يمر بأكثر من طور فيما يعللون به في الإبدال، فهي "وقي" فأولها حرف علة، وآخرها حرف علة، فهي معتلة الأول، ومعتلة الآخر، فأبدل حرف العلة الأول، وأبدل حرف العلة الأخير فصارت بهذا الاعتبار تقوى، يعني تستطيع أن تقول: إن المراحل "وقي" فأبدل الأول تاء، وصارت تقي، وحتى تعرف أن ابن كثير - رحمه الله - ما أخطا، فبدلاً من  أن تقول: أبدل الأول قل: أبدل الأخير، أي أبدلت الواو ألفاً، فالذي ذكره ابن كثير يمكن أن تكون المرحلة الوسطى في أطوار التصريف.

وقد قيل: إن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: "أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت قال: فذلك التقوى".

  1. أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب: ما جاء في صفة أواني الحوض (2451) (ج 4 / ص 634)، وابن ماجه في كتاب: الزهد - باب: الزهد في الدنيا (4215) (ج 2 / ص 1409)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6320)

مرات الإستماع: 0

"قوله: ذلِكَ الْكِتابُ هو هنا القرآن."

أشار إليه بالبعيد لعلو مرتبته.

وقيل: التوراة، والإنجيل.

هذا غير صحيح، ولا يدل عليه السياق.

وقيل: اللوح المحفوظ.

هذا أيضًا غير صحيح، وأيضًا لا يدل عليه السياق؛ لقوله تعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ لكن كأن الذين قالوا هذين القولين استدلوا بالإشارة إلى البعيد، وربما يكون ذلك باعتبار أن القرآن حينما نزل لم يُجمع في كتاب، لكن من أهل العلم من قال: تسميته بالكتاب فيه إشارة إلى ما سيؤول إليه أمره، وحاله من كونه مجموعًا في كتاب.

ولذلك قال بعض أهل العلم: إن التمثيل الذائع، الشائع للمصالح المرسلة بجمع عثمان  القرآن في مصاحف فيه نظر، وأن ذلك قد دل عليه القرآن في مواضع منها: ذَلِكَ الْكِتَابُ فليس من قبيل المصلحة المرسلة من حيث هو بطريق الاستدلال، نعم لا شك أنه مصلحة لكن الكلام في هذا النوع من الأدلة الذي هو المصالح المرسلة، والمصالح المرسلة مثل بناء المدارس، والدواوين التي كانت في زمن عمر .

وهو الصحيح، الذي يدل عليه سياق الكلام، ويشهد له مواضع من القرآن.

قوله: وهو الصحيح: هاهنا سقط، والتقدير: والأول هذا هو الصحيح، وإلا كان الكلام متناقضًا؛ لقوله: والمقصود منها إثبات... يعني القرآن باتفاق. إذن المقصود بقوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ هو القرآن، وهذا هو الصحيح الذي لا يسوغ العدول عنه.

والمقصود منها إثبات أن القرآن من عند الله كقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السجدة: 2]، يعني: القرآن باتفاق، وخبر ذَلِكَ: لا رَيْبَ فِيهِ وقيل: خبره الْكِتابِ.

اعتبار أن الخبر ذَلِكَ الْكِتَابُ باعتبار أن أل تدل على الوصف الكامل، يعني: ذلك الكتاب الكامل في صفته الذي قد حوى العلوم، والهدايات، ويكون الكلام هنا قد تم من مبتدأ، وخبر، وهذا مثل ما تقول: هذا الرجل. أي أنه قد استجمع الوصف الأكمل.

فعلى هذا ذَلِكَ الْكِتَابُ جملة مستقلة فيوقف عليها.

لكن الأقرب أنه متصل بما بعده، وأن الكلام لم يتم، يعني ذلك الكتاب ما به؟ لا ريب فيه، فهذا هو الخبر.

قوله - تعالى -: لا رَيْبَ فِيهِ.

الريب هو شك مقلق، فهو أخص من مطلق الشك، مع أن الكثير من أهل العلم في كتب اللغة، وكتب التفسير يفسرون الريب بالشك، وهو قريب من معناه، وهذا كثير في كلامهم، لكن إذا أردت أن تذكر المعنى الدقيق فالشك أنواع، ومراتب، فمنه ما يكون معه قلق، فهو شك مقلق يقال له: الريب.

وهذا النفي للريب يقتضي ثبوت كمال ضده، بمعنى أنه يدل على أنه يورث كمال اليقين، وأنه متضمن لليقين الكامل؛ لأن النفي الذي يكون في صفات الله أو في صفات الملائكة كما في قوله تعالى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم: 6] وفي صفات الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - وفي صفات القرآن، كل هذا يقتضي ثبوت كمال ضده؛ لأن النفي المجرد لا مدح فيه. 

ومعنى هذا أن هذا الكتاب ليس فيه ما يورث الريب من التعارض، والتناقض في المعاني، فمن أراد اليقين الكامل فعليه بتدبر القرآن، واتباعه، وليس فيه أيضًا ما يورث الريب من جهة المباني كالضعف، والركاكة، واللحن، ونحو هذا، وكذلك أيضًا لا ريب فيه أنه من عند الله، وليس من البشر، وقد فسره بهذا جمع من المحققين، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

أي: لا شك أنه من عند الله في نفس الأمر، وفي اعتقاد أهل الحق، ولم يعتبر اعتقاد أهل الباطل.

قوله: ولم يعتبر اعتقاد أهل الباطل: لأنه لا عبرة بهم.

(فيه): خبر (لا) فيوقف عليه.

هذه الإعرابات التي يذكرها المؤلف يتوقف عليها المعنى، فهناك ملازمة بين المعنى، والإعراب، فهنا يتم المعنى عند: لَا رَيْبَ فِيهِ ويكون ابتداء الكلام: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ أي: هو هدى للمتقين، فوصفه بوصفين:

الوصف الأول: نفي الريب عنه.

الوصف الثاني: أنه هدى للمتقين.

وهذا إذا اعتبرنا (فيه) خبر (لا).

وقيل: خبرها محذوف. فيوقف على (ريب).

أي أن خبر (لا) محذوف، فيقف على (رَيْبَ) فيقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ أي: لا شك أنه من عند الله، وفيه مقدر محذوف، ويكون ما بعده جملة مستأنفة: فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ أي: أنه متضمن للهدى للمتقين.

والأول أرجح.

أي: أن قوله: (فيه) يتعلق بما قبله، فهو خبر لـ (لا) يعني تقرأ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ وتقف، وهذا الأكمل في المعنى، ثم تقول: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وفرق بين أن يكون هذا الكتاب بأجمعه هدى، وبين أن يقال: فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ومن ثم فإن الوقف يكون على قوله فِيهِ يكون أبلغ، وهذا الذي يدل عليه القرآن.

لتعيّنه في قوله: (لَا رَيْبَ) في مواضع أخر.

أي: يفسر القرآن بالقرآن، كقوله تعالى: وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 37]، فهنا لا يصلح أن يقال: الوقف على (لَا رَيْبَ) ؛ لأنه لا يتأتى المعنى، ولا على وجه ضعيف، وهكذا في قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة: 2] ، فلا يمكن أن يوقف على: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ ثم يقال: فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لأن هذا يفسد المعنى.

فهاتان الآيتان يتضح بهما الاحتمال في آية البقرة، فيكون الأرجح: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ولاحظوا علامات، ومواضع الوقف، والوصل، والابتداء أنها تغير المعنى، وهي في جملتها لا تخضع لقواعد، وإنما يرجع ذلك إلى المعنى، فيترجح لدى المفسر الوقف هنا باعتبار معنى، فيرى أن هذا الوقف تام، أو كاف، أو جائز، أو نحو ذلك، وقد يترجح لآخر غير ذلك، ومن لا يميز في هذه الأمور فإنه يلتزم العلامات الموجودة على المصحف.

وبعض أهل العلم يقولون: لَا رَيْبَ فِيهِ صيغة خبرية، والمعنى الأمر. أي لا ترتابوا فيه، جاء بصيغة الخبر، ولكنه متضمن معنى الإنشاء،  فظاهر اللفظ لا يدل عليه، وإنما يؤخذ من لازمه، فإذا كان لا ريب فيه فإنه يلزم من ذلك ألا يرتاب فيه أحد.

فإن قيل: فهلا قدّم قوله (فِيهِ) على (الريب) كقوله: لَا فِيهَا غَوْلٌ [الصافات: 47] ؟

أي تكون: لا فيه ريب.

فالجواب: أنه إنما قصد نفي الريب عنه، ولو قدم (فِيهِ) لكان إشارة إلى أن ثمّ كتاب آخر فيه ريب، كما أن قوله: لَا فِيهَا غَوْلٌ إشارة إلى أن خمر الدنيا فيها غول، وهذا المعنى يبعد قصده فلا يقدم الخبر.

قوله: فالجواب: أنه إنما قصد نفي الريب عنه. ولو قدم (فِيهِ) لكان إشارة إلى أن ثمّ كتاب آخر فيه ريب: المقصود في الآية هنا نفي الريب عن القرآن، دون قصد الإشارة إلى أن ثمة كتابًا آخر فيه ريب.

هُدىً: هنا بمعنى الإرشاد لتخصيصه بالمتقين، ولو كان بمعنى البيان لعمّ كقوله تعالى: هُدىً لِلنَّاسِ.

الذي يظهر - والله أعلم - أنه لا فرق بين كونه للإرشاد، أو البيان؛ لأن الهدى نوعان:

النوع الأول: هدى الدلالة، والبيان، والإرشاد. كما قال الله : وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52]، يعني: النبي ﷺ يهدي.

النوع الثاني: هدى التوفيق. وهو المذكور في قوله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56]، أي: لا توفق إلى الإيمان من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء.

واجتمعت الهدايتان في قوله - تبارك، وتعالى - عن ثمود: فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17]، أي: هديناهم هداية إرشاد.

وهداية البيان، والإرشاد ترجع إلى شيء واحد هُدًى لِلْمُتَّقِينَ يعني: أنه يبين لهم ما يحتاجون إليه مما يتصل بصفات المعبود  وما يتعلق بتوحيده، ودلائله، وبراهينه، وما يتعلق بتفاصيل الصراط المستقيم التي أمرهم بسلوكها، إلى غير ذلك من الهدايات المضمنة في القرآن، فهو هدى لهم يدلهم على ما يحتاجون إليه مما تقوم به مصالحهم، وتتحقق به نجاتهم في الدنيا، والآخرة، ولاحظ أنه خصص الهدى للمتقين، مع أنه هدى لجميع الناس، لكن لا حاجة لأن يُلتمس لذلك ما ذكره المؤلف من أن ذلك بمعنى الإرشاد لتخصيصه بالمتقين، فالبيان، والإرشاد يرجعان إلى شيء واحد في التفسير هنا، لكن يمكن أن يقال: خصه بالمتقين لكونهم المنتفعين به.

ويصح تخصيص الشيء لمثل ذلك، كما في قوله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44].

وهكذا في قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82].

وكذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57].

وهكذا في قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [المائدة: 16] ، وقوله: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ۝ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لقمان: 2، 3]، فخص المحسن، والمتقين، ومن اتبع رضوانه لأنهم المنتفعون به، بخلاف من لم يرفع بذلك رأسًا، فيكون عليهم عمى، وإلا فالقرآن هدى لجميع الناس.

وإعرابه: خبر ابتداء.

أي كما سبق هو هدى، والمبتدأ محذوف، وهذا بناء على الوقف على قوله: فِيهِ فتكون الجملة الجديدة: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ أي: هو هدى للمتقين.

أو مبتدأ، وخبره: فِيهِ عند ما يقف على قوله: لَا رَيْبَ.

فتكون: فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ والجار، والمجرور خبر مقدم. والأول أرجح كما تقدم.

أو منصوب على الحال، والعامل فيه الإشارة.

أي: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى [البقرة: 2]، أي: حال كونه هدى.

لِلْمُتَّقِينَ مفتعلين من التقوى.

التقوى على وزن فعلة، أصله وقي فبدلت الواو تاء فأصبح تقيًا، ثم أُبدلت الياء واوًا، وعرفنا أن التقوى هي أن تجعل بينك، وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى.

واعلم أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فبقدر التقوى يحصل الاهتداء بالقرآن، وقد ذكرنا لطائف، ومعان، وهدايات من هذه الآيات، ولا حاجة لذكر هذه الأشياء هنا، وإنما هنا يدور الكلام على ما يذكره ابن جُزي - رحمه الله - دون توسع، كعادة المؤلف أنه يقف عند بعض المواضع فيتحدث عن أمور خارجة عن التفسير، فيتحدث مثلًا عن أنواع الهدى، والهدايات، والتقوى، والتوبة، والصبر، فهذا خارج عن التفسير، وبعض هذا الحديث الذي يذكره جيد، ومفيد، وبعض هذا الحديث لا يخلو من بعض العبارات التي يستعملها أهل التصوف.

وقد تقدّم معناه في اللغات. 

على كل حال كثير من الألفاظ التي سترد قد مضى الكلام عليها في الغريب، وهي المقدمة الثانية من هذا الكتاب، وقد تضمنت ستمائة واثنين من الألفاظ الغريبة، ونحتاج إليها، وقد تكلمنا عليها بشيء من التفصيل، فلا حاجة لإعادة ذلك في كل موضع.

فنتكلم عن التقوى في ثلاثة فصول: الأوّل: في فضائلها المستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة:

مثل هذا يجمع فيه هذه المعاني، والفوائد، والذي يشتغل بهذا أصحاب التفسير الموضوعي، فيجمعون الآيات في موضوع معين، ويتحدثون عنها بهذا الاعتبار، وهو كونها تمثل وحدة موضوعية، سواء كانت من سورة واحدة أم القرآن كاملًا، ويرتبونها تحت عناوين.

الهدى لقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2].

والنصرة لقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [النحل: 128].

والولاية لقوله: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 19].

والمحبة لقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [براءة: 4].

والمعرفة لقوله: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال: 29].

قوله: والمعرفة لقوله: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ليس مجرد المعرفة، بل أيضًا البصيرة التي يميزون فيها بين الحق، والباطل، ومعدن الحق، ومعدن الشبهات.

 

والمخرج من الغم، والرزق من حيث لا يحتسب لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق: 2] الآية،

وتيسير الأمور لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4].

وغفران الذنوب، وإعظام الأجور لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق: 5].

وتقبل الأعمال لقوله: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27].

والفلاح لقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة: 189].

والبشرى لقوله: لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [يونس: 64].

ودخول الجنة لقوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:34].

والنجاة من النار لقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: 72].

الفصل الثاني: البواعث على التقوى.

وهي عشرة: خوف العقاب الدنيوي، أو الدنياوي، وخوف العقاب الأخراوي. 

الذي يجعل الإنسان يتحقق بالتقوى، ويكون متقيًا لله، هو أن يخاف نزول عقوبة عامة في الدنيا، أو خاصة به، فلا يعصي الله ويفعل ما أمره به يخشى أن يُنزل به قارعة، ويخاف العذاب الأخروي، ويختلف الناس باختلاف هذه البواعث، فمن الناس من تكون تقواه بسبب خوف من عذاب في الدنيا، ومنهم من يخاف عذاب الآخرة، ومنهم من يرجو الثواب الدنيوي، وهذا لا يكون بالقصد الأول، وإنما يكون على سبيل التبع، يعني كونه يتقي لأجل أن يوسع له في الرزق، وتسهل حياته، ونحو ذلك، لا يجعله بالقصد الأول، وإنما من الأمور التابعة، وإلا فإن الله يقول: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15، 16]، فمن كانت أعماله من أجل الدنيا فقد خاب سعيه، لكن إن كان بالتبع فلا إشكال، وقد قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 198]، أي: التجارة في مواسم الحج، وقد ذكرنا قبل عما يروج كثيرًا من فعل العبادات، وقيام الليل، ونحو ذلك لأجل المطالب الدنيوية، فيقال: قوموا الليل لصلاح أولادكم. وفرق بين أن يقوم الليل، ويدعو الله بالأسحار بصلاح الأولاد، وبين أن يكون قيامه الليل من أجل صلاح الأولاد، فهذا مطلب دنيوي، وتُنشر بين الناس رسائل ركيكة تحمل مثل هذه المعاني، وتجد قبولًا ذائعًا، وهذا من أعجب الأشياء أن تُحوّل مثل هذه الأعمال المقربة إلى الله إلى وسائل تُحصل بها الدنيا، واللذات المتقضية، حتى الصلاة حينما يُذكر ما لها من فوائد جسدية، ورياضة للبدن، ونحو هذا، وهذا كله لو ثبت فإن الصلاة لم تُشرع لأجله إطلاقًا، ولم يكن ذلك مقصودًا لهذه العبادات، وإنما شرعت لتعبيد النفوس لله وإقامة الصلة، فهي أعظم صلة بين العبد، وربه، وتحويل، واختزال هذه المعاني الكبار لمثل هذه المقاصد الحقيرة لا شك أنه بخس للعبادة، وتضييع لمقصودها، فقد تجد كتابات، ومؤلفات خاصة إذا قرأها ممن لا بصر له فإنه يجد فيها أشياء لربما يقتنع بها، وتعظم في عينه الصلاة من جهة المنافع الدنيوية، ويظن أن هذا من حكمة الله في تشريع الصلاة، وهذا غير صحيح، فالناس موغلون في طلب الدنيا، ومن غير الصحيح أن نوجه عبوديتهم جريًا معهم على مثل هذه المطالب التي يتهافتون عليها.

ورجاء الثواب الدنيوي، ورجاء الثواب الأخروي، وخوف الحساب، والحياء من نظر الله، وهو مقام المراقبة.

قوله: والحياء من نظر الله، وهو مقام المراقبة: مقام المراقبة لا يتوقف على الحياء، وقد مضى الكلام عليه في الأعمال القلبية، لكن قد يكون الباعث على المراقبة الحياء، وقد يكون الخوف من الله - تبارك، وتعالى - وهذا هو الغالب.

والشكر على نعمه بطاعته، والعلم لقوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28]، وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيبة.

وقال قبل ذلك عن الحياء: وهو مقام المراقبة. وهذه العبارات يستعملونها كثيرًا، وأكثر ما ترد عند الصوفية، وقد استعملها غيرهم، فتجد هذا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وفي كلام الحافظ ابن القيم كثير، ولا إشكال في استعمالها، وهم يقصدون بالمقامات الأوصاف التي صارت راسخة في النفس، فعندهم أمران:

الأمر الأول: الحال. وهي عارضة، فعندما يجد لذة للإيمان قد لا تستمر هذه اللذة في أيام العمر بأكمله، ولكنها تعرض، وهذه الأشياء التي تعرض يسمونها أحوال، فربما كان الإنسان في حال يطرب معها بسبب ما هو فيه من الطمأنينة، والراحة، وما أشبه ذلك من آثار الإيمان التي يجدها.

الأمر الثاني: المقام. وهو الوصف الثابت الراسخ.

ولذلك يختلفون في بعض الأعمال القلبية هل هي من المقامات؟ أو من الأحوال؟. 

وصدق المحبة فيه؛ لقول القائل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

 

ولله درّ القائل:

قالت وقد سألت عن حال عاشقها بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ وقلت قف عن ورود الماء لم يرد

 

 

قوله: قالت وقد سألت... قف عن ورود الماء لم يرد. 

أي: أنه من شدة المحبة لها صار بهذه الصفة، فلو أنه كان ينازع الموت من العطش، فقالت له: قف عن ورود الماء. لم يرد، وهذا وصف بليغ يدل على شدة محبته التي صارت سببًا لعبوديته لها، فهو مستجيب غاية الاستجابة، ولو كان في حال الموت من شدة العطش، فهو لا يخرج عن أمرها، ويكون طوع إشارتها، وأمرها - والله المستعان -.

الفصل الثالث: درجات التقوى خمس:

وجعل درجات التقوى كلها من المقامات.

أن يتقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام.

لأن من سلم من الكفر فقد تحقق الإسلام.

وأن يتقي المعاصي، والمحرمات، وهو مقام التوبة

من سلم من المعاصي، والمحرمات فهذا مقام التوبة، وهو الرجوع عن المعصية.

وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات، وهو مقام الزهد.

قوله: وأن يتقي المباحات، وهو مقام الزهد: وبعضهم يفسر الزهد بأنه ترك ما لا ينفع في الآخرة، وبعضهم يقول: أن تكون الدنيا في يده، ولا تدخل قلبه.

ويكون الفرق بين الورع، والزهد على ما ذكره المؤلف: أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة، ويخشى أن يلحقه جراء ذلك تبعة.

وأن يتقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة.

يكون الله حاضرًا في قلبه دائمًا، فهو ذاكر بقلبه، وهذا مقام الذكر، والمراقبة لله والإحسان، بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ولعل هذا أحسن من التعبير بالمشاهدة - والله أعلم -.

مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسيكون الكلام على ما تيسير من الهدايات من هذه السورة الكريمة التي تضمنتها في آياتها وجُملها، فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع.

هذه السورة "سورة البقرة" فواصلها تجتمع في هذه الحروف التي رُكبت بـ "قُم فلنتدبر"، نحن قلنا: بأن سورة الفاتحة فواصلها تدور على النون والميم، يعني: آخر حرف في كل آية، أما فواصل سورة البقرة "قُم فلنتدبر"، القاف، والميم، والفاء، واللام، والنون، والتاء، والدال، والباء، والراء.

وقد افتتحت هذه السورة بالحروف المقطعة حروف التهجي، وجاء هذا الافتتاح بألف لام ميم، في ست سور، وعدد الحروف المقطعة في أوائل السور جميعًا بحذف التكرار تبلغ أربعة عشر حرفًا، ومع التكرار تبلغ ثمانية وسبعين من الحروف، هذه الحروف غير المُكررة الأربعة عشر مجموعة في قولك: "طرق سمعك النصيحة".

وهذه كل الحروف المقطعة في القرآن في أوائل السور من غير تكرار، أو في قولك: "نص حكيم قاطع له سر"، هذه الحروف المقطعة ذكر بعضهم فيها نحوًا من أربعين قولاً، وذكر بعضهم واحدًا وعشرين قولاً، ونحن في مثل هذه المجالس لا نذكر التفسير ولكني أُشير إلى بعض اللفتات واللطائف لأتوصل إلى ما يمكن أن يُقال في هذه الحروف المقطعة من لفتة ربما تكون مقصودة -والله تعالى أعلم.

لكن حاصل المعاني التي ذكروها في الحروف المقطعة يمكن أن ترجع إلى ثلاثة رئيسة، يتفرع من كل قول منها الأقوال الأخرى، يعني: من قال: إنها تبلغ واحدًا وعشرين قولاً أعاد ذلك إلى ثلاثة أقوال رئيسة:

  • الأول: أنها رموز من كلمات أو جُمل، وهذا تحته ثمانية أقوال، هذه الثمانية ترجع إلى أن ذلك من قبيل الرموز، رموز من كلمات أو جُمل، يعني: الحرف يرمز لكلمة، أو يرمز لجملة.
  • الثاني: أنها أسماء أو أفعال أو أوصاف، يعني: هل هذا اسم للنبي ﷺ مثلاً: طه، وهكذا قاف هل هو اسم لشيء اسم لجبل أو غير ذلك، فتحت هذا أربعة أقوال.
  • الثالث: أن ذلك من قبيل حروف التهجي جيء بها لمعنى، ما هذ المعنى الذي قُصد؟ هذا تحته تسعة أقوال.

لكن بصرف النظر عن هذه الأقوال المتعددة، فإن هذه الحروف وغيرها من الحروف المقطعة في أوائل السور تشير إلى قضية وهي الإعجاز، إعجاز القرآن الكريم، فالله -تبارك وتعالى- تحدى بهذا القرآن فعجز أولئك الذين طرق سمعهم القرآن لأول وهلة عن الإتيان بمثله مع فصاحتهم وبلاغتهم مع ما عندهم من الأنفة مع شدة الحنق والعداوة ومع ذلك عجزوا، ولا زال الناس في حال من العجز البالغ إلى يومنا هذا إلى يوم القيامة.

وكل من يطعن في القرآن أو يتكلم في دين الإسلام، أو يُشكك أو يُلبس فيه، نقول: بيننا وبينك هذا القرآن هات سورة مثل أقصر سورة منه ثم بعد ذلك نتناقش فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة البقرة:24] هذا الذي بيننا وبينهم، كل طاعن في الإسلام كل مُشكك كل مُلبس بيننا وبينه شيء واحد، هات أقصر سورة، هات ما يعدل أو هات مثل أقصر سورة في القرآن، أقصر سورة، وهذه السور نازلة على سبعة أحرف، هذا القرآن نازل على سبعة أحرف هات على وجه واحد؟

فإن عجز فنقول: إذن هذا كلام الله فعليك أن تُسلم به، وكل ما دل عليه من الهدايات والعقائد والأحكام والأخبار كل ذلك حق وصدق لابد أن تؤمن بهذا، والذي جاء به هو محمد ﷺ وهو نبي، وقد أخبر هذا القرآن أنه خاتم الرسل -عليه الصلاة والسلام- فلا نبي بعده، وجاء مُصدقًا لجميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام.

وقد أمر الله بطاعته وقرن طاعة هذا الرسول -عليه الصلاة والسلام- بطاعته، فمن كان يدعي الإيمان آمن بهذا القرآن فليُطع رسول الله ﷺ وليُذعن لسنته؛ لأنها الشارحة للقرآن، والذين نقلوا إلينا هذا القرآن هم أصحاب النبي ﷺ الذين اصطفاهم الله واختارهم لصحبته من بين العالمين عن علم، وهم الذين بلغونا هذا القرآن، فكل طاعن في السنة وفي النقلة من أصحاب النبي ﷺ وهم رواة هذا الدين وحملته، نقول له: هذا القرآن من أين جاء؟ من الذي نقله إليك؟ هذا الذي تقرؤونه إن كنتم تؤمنون به، فمن الذي نقله لكم؟ هل هم كذبة كفار؟!

فلابد أن يقبل ما جاء في القرآن من الثناء عليهم، وتزكيتهم في مواضع لا تخفى من كتاب الله وهكذا ما جاء في أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- من براءتها كل هذا دل عليه القرآن.

وهكذا ما دل عليه من حقائق الآخرة والأسماء والصفات والإيمان وما إلى ذلك من قضايا الاعتقاد، هذا كله يُبطل المذاهب الباطلة الفاسدة، المذاهب الفلسفية والكلامية، ومذاهب الباطنية على اختلاف أنواعها ونِحلها؛ لأن هذا القرآن دل على هذه الحقائق بصورة واضحة، وهم يؤلونها ويحرفونها.

القرآن زكى هؤلاء الصحابة، زكى أم المؤمنين عائشة، فالطاعن فيهم طاعن في القرآن، لم يؤمن بالقرآن، هؤلاء نقلته، وهو الذي زكاهم، وهم أصحاب رسول الله ﷺ وهكذا، فلا نحتاج إلى أن نطول الكلام مع هؤلاء المُبطلين بصنوفهم ومِللهم ومذاهبهم، وإنما نقول لهم:

أولاً: أول شيء هذا القرآن، هاتوا سورة واحدة، فإن عجزوا فعند ذلك يكون إعلانًا للإفلاس والانقطاع فيكون بعد ذلك مُبطلاً يُريد إبطال الحق، أو ترويج الباطل الذي يحمله، ومثل هذا لا يستحق أن يُناقش، ولهذا قال الله : وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [سورة العنكبوت:46] فهؤلاء لا يطلبون الحق، فهؤلاء لا مجال للجدال معهم؛ لأنهم لا يُجدي معهم الجدل، إنما قصدوا إبطال الحق أو إقرار الباطل.

ولذلك انظر إلى الردود القرآنية والجدل في القرآن تجد أنه يقطع ذلك أحيانًا، حينما قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [سورة البقرة:275] مُكابرة جاء الرد هكذا: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [سورة البقرة:275] لم يطول معهم في الحُجج العقلية والإقناع وضروب الجدال، وإنما قال هذا فقط، أحل الله البيع وحرم الربا، انتهى، تؤمن بالله الله حرم هذا، وأنتم عبيده وأحل هذا، وأنتم عبيده ليس عليكم إلا الإذعان، فيُقطع المُبطل بهذه الطريقة.

هذا الذي يُجادل في السنة ويقول: دعونا في القرآن والسنة فيها وفيها، نقول له: أخبرنا كم تصلي الظهر، وكم تصلي العصر، وكم تصلي المغرب، وكم تصلي العشاء وكم تصلي الفجر؟ وقبل كل شيء، وماذا تقرأ في الركعة الأولى، وماذا تفعل بالركوع، وكيف ترجع وتسجد، وكيف تفعل في هذه الصلاة، كيف تؤديها، فإذا قال: لا أُصلي، نقول: لا جدال معك، نحتاج أن نتحدث معك عن الإسلام، وعن وجوب الصلاة، وعن ما يُدخل به هذا الدين: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [سورة التوبة:5] وفي الآية الأخرى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [سورة التوبة:11] فإذا قال أنا أُصلي، نقول: كم صلاة تُصلي في اليوم والليلة، خمس صلوات، كم ركعة في هذه الصلوات؟ من أين أتيت بهذا؟

لابد أن يقول: هذا جاء مشروحًا في السنة إلا إذا كان قد بلغ في الجهل غايته، وقال: إن هذه الأشياء كلها مفصلة في القرآن فهذا يكون قد رفع راية ونصب علمًا يُنادي على نفسه بالجهل، فإذا قال: هذا في السنة، عندها يُقال له: إذًا أقررت على نفسك أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [سورة البقرة:85] كيف تنتقي وتأخذ من السنة ما يوافق هواك وتترك الباقي؟! وتقول: لا حاجة إليه! وهكذا.

فالمقصود أن هذا القرآن جاء مُعجزًا، وقد تحدى الله -تبارك وتعالى- هؤلاء العرب وغير العرب، وهو تحدٍ قائم إلى قيام الساعة أن يؤتى بمثل هذا القرآن، هذا القرآن مُركب من هذه الحروف التي تركبون منها كلامكم فركبوا منه ما يُضاهي القرآن، فلما عجزوا وانقطعوا تبين أنه حق من عند الله -تبارك وتعالى- ولذلك لم يأت أحد في التاريخ يُحاكي القرآن أبدًا، وكل الذين حاولوا انقطعوا لم يستطيعوا، وكان بعضهم يكتب ثم يُمزق لا يُخرجه للناس، واقرأوا في أخبار هؤلاء، لم يجترئ أحد أن يتفوه إلا مُسيلمة الذي إذا ذُكر ذكر الكذب معه مُسيلمة الكذاب، نحن لا نعرف نسبه إلا أننا نعرف مُسيلمة الكذاب، يُنسب إلى الكذب، لا أحد يعرف نسب مُسيلمة من هو أبوه وجده إلى آخره، هو من بني حنيفة؛ لأنهم قتلوا في حروب الردة، بينما نسب النبي ﷺ يحفظه صغار التلاميذ لكن نسب مُسيلمة من يحفظه، إنما يُعرف نسبه إلى الكذب فقط: "والطاحنات طحنا، فالعاجنات عجنا، فالخابزات خبزا، فاللاقمات لقما"[1].

"الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل وذيل قصير"[2].

"يا ضفدع نقي كما تنقين نصفك في الماء ونصفك في الطين"[3] هذه سورة الضفدع، والتي قبلها سورة الفيل، والتي قبلها سورة الطاحنات، طحنه الله في النار.

فهذا مُسيلمة الكذاب إذا ذُكرت هذه الأشياء تضاحك الناس، ومن لا يضحك فإنه يُداري ذلك ويدفعه عن نفسه، بينما إذا قُرئ القرآن خشعت له النفوس، وأذعنت، واطمأنت، وهكذا.

فهذه الحروف ذُكرت في افتتاح السور، ولهذا لا تكاد تُذكر إلا ويُذكر معها القرآن بعدها أو الوحي إلا في مواضع يسيرة قد حملها بعض أهل العلم على محامل لتكون جارية على هذا المهيع، يعني انظروا في الحروف المقطعة في سورة البقرة:الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:1، 2] وفي سورة آل عمران: الم ۝ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ۝ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [سورة آل عمران:1- 4] وقل مثل ذلك في سائر السور: الم ۝ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة السجدة:1، 2] لكن في مثل سورة نون مثلاً: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ۝ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [سورة القلم:1، 2] هنا لم يُصرح بذكر الكتاب، لكنه أشار إليه بذكر النِعمة وهي الوحي والنبوة، وهكذا.

يقول الله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] ذلك الكتاب وهو القرآن العظيم الذي لا شك أنه من عند الله، فلا يصح أن يرتاب فيه أحد، وليس هو أيضًا بمبعث للريب فهو في غاية الوضوح والإحكام والتناسق والتناسب يُصدق بعضه بعضًا، ويُشبه بعضه بعضًا في بلاغته وفصاحته فهذا ينتفع به أهل التقوى المتقون الذين رزقهم الله العلم النافع والعمل الصالح فهؤلاء هم الذين يجعلون بينهم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى.

تأملوا هذه الآية: ذَلِكَ الْكِتَابُ [سورة البقرة:2] الإشارة بذلك معروف أنها للبعيد، يقولون: هذا للقريب، ذاك للمتوسط، ذلك للبعيد ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] فهنا الإشارة بالبُعد تفيد علو مرتبته، هذا البُعد ليس ببُعد حسي ولكنه بُعد معنوي ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] رفيع القدر والمنزلة والمكانة، فهو ذو مرتبة عظيمة عالية، وما كان كذلك فينبغي أن يُعظم في النفوس، وأن يُجل وأن يُقدس ويُحترم فلا يُبتذل ولا يُمتهن، ولذلك العلماء يذكرون في آدابه:

  • ألا يمس المصحف إلا طاهر.
  • ولا يتوسد المصحف ولا يُتكأ عليه.
  • ولا يوضع فوقه شيء، حتى كتب العلم يوضع فوقها.
  • ولا تُمد الرجل نحوه.
  • ولا يحصل شيء من المزاولات التي يكون فيها ابتذال حسي أو معنوي للقرآن.

يعني: مثل التمثل بالقرآن، الاستشهاد في بعض المواضع بعض المناسبات بجملة من القرآن، الراجح أن هذا يجوز ما لم يكن ذلك في مقام لا يليق أو مما يضحك منه الناس أو نحو هذا؛ لأنه يؤدي إلى ابتذال القرآن وامتهانه، فهنا أشار بهذه الإشارة إشارة إلى البعيد لعلو مرتبته.

وإذا كان بهذه المثابة عالي المرتبة فلابد أن يعود ذلك على مُلابسه ومُلازمه، فمن لازم هذا القرآن علا قدره وعُظمت مهابته وارتفعت منزلته ودرجته، المُقاربة والمُلابسة لمثل هذه، ولذلك انظروا إلى الأشياء الحسية التي يُلابسها الناس من الِمهن والصنائع، العرب معروف عندهم أن أهل الخيل فيهم من الشجاعة والإقدام ما ليس في غيرهم، أهل الغنم فيهم السكينة، أهل الإبل فيهم رعونة، وشدة، وغِلظة الذين يُكثرون من مخالطتها، أهل الزرع فيهم ضعف.

وهكذا كل صاحب صنعة أو مهنة فإنه يتأثر بصنعته ومهنته ولابد، تكلموا عن أشياء كثيرة، تكلموا عن من يُعلم الصبيان، تكلموا عن من يُزاول التعليم عمومًا، وأصحاب الفِراسة يذكرون من هذا أشياء يرى رجلاً يجلس في مكان وهو لا يعرفه فيقول: هذا مُعلم صبيان، فيُسأل الرجل أين تعمل؟

يقول: أُعلم الصبيان، فيُسأل هذا القاضي صاحب الفراسة كيف عرفت؟ فيقول: جلس جلسة الملوك وليس بملك، يعني: هيئته ليست بهيئة ملك، ونظرت إليه فإذا مر به صبي سلم عليه، مُعتاد على الصبيان، فهو مُعلم في الكتاتيب، يجلس جلسة الملوك لكنه مصروف النظر إلى الصبيان، فعرف أنه مُعلم ومُعلم صبيان، فكثرة المزاولات والمُلابسات لا شك أنها تؤثر في طبيعة الإنسان، وفي حاله يعرف ذلك أهل الفراسة، وقد يظهر ذلك لكل أحد، فهذا المتُمسك بالقرآن المُلازم له بتلاوته والعمل به الذي يشتغل بتدبر هذا القرآن، ويتمثل ما جاء فيه من الهدايات هذا تعلو مرتبته، فهذا القرآن رفيع الجناب.

وهكذا ما وصف به القرآن من الكرم القرآن كريم عزيز عظيم، المُشتغل بهذا الكتاب له نصيب من هذا.

كذلك لما وصف بأنه كتاب مُبارك كما قال بعض أهل العلم: "اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات"[4] وهذا أمر مُشاهد في أهل القرآن الذين يعملون به، ويتدبرونه، ويتلونه آناء الليل وأطراف النهار.

هذه الإشارة إلى البعيد: ذَلِكَ الْكِتَابُ [سورة البقرة:2] التي تدل على شرفه وعلو مرتبته هي أيضًا إشارة إلى ما سيؤول إليه أمر هذا القرآن من كونه مكتوبًا ومجموعًا في كتاب واحد ذَلِكَ الْكِتَابُ [سورة البقرة:2] سماه كتابًا، وحينما نزلت هذه الآية لم يكن القرآن قد جُمع في مصاحف، فدل على أن ذلك إشارة -والله تعالى أعلم- إلى ما سيؤول إليه أمره، ولهذا قال بعض أهل العلم: "إن جمع عثمان وقبله كتابة أبي بكر القرآن في صُحف، ثم عُثمان جمعه في مصاحف أن هذا ليس من قبيل المصالح المُرسلة"، والأصوليون عادة يُمثلون على المصالح المُرسلة بجمع عثمان للمصاحف، لم يفعله رسول الله ﷺ دعت الحاجة إليه فجمعه فحُمد له ذلك، لكن من أهل العلم من يقول: لا، هذا ليس من المصالح المُرسلة بل هذا مأخوذ من النص بطريق من طُرق الدلالة الصحيحة أن الله سماه كتابًا فدل على أن ذلك مما سيؤول إليه أمره، بل قالوا: فيه مُعجزة للنبي ﷺ بأن الله -تبارك وتعالى- أوحى إليه ما سيكون من أمر المصاحف، وهذا كما قال الله -تبارك وتعالى- أيضًا: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سورة الأنعام:92] سماه كتابًا.

وقال: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [سورة الأنبياء:50] وغير ذلك، فالنبي ﷺ مُنذ أن أوحى الله إليه كان له من أصحابه من كان يكتب الوحي، ولما جُمعت هذه المصاحف كُتبت في صُحف أولاً، كُتب القرآن في صُحف، ثم في مصاحف في عهد عثمان فالذي كُتب في عهد أبي بكر وكُتب في عثمان لم يكن يُكتب، أو يُقبل شيء إلا أن يشهد عليه شهيدان، قالوا: المراد الحفظ والكتابة، لابد أن يكون محفوظًا، وأن يكون مما كُتب بين يدي رسول الله ﷺ.

وبعضهم يقول: شهيدان يشهدان على أن هذه الرقِاع مما كُتب بين يدي رسول الله ﷺ فكانوا يطلبون الكتابة والحفظ، زيادة في التوثق.

هذا بعض ما يتعلق بهذه الآية من الهدايات.

ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] ذلك الكتاب، دخلت "أل" على الكتاب وذلك -والله تعالى أعلم- لبيان منزلة هذا الكتاب، لتفخيم أمره، لبيان علو مرتبته، كما قلنا: في الإشارة إليه بالبعيد ذلك فإن هذا يدل على ارتفاع مرتبته، فكذلك دخول "أل" على الكتاب.

ذَلِكَ الْكِتَابُ [سورة البقرة:2] الذي هو بهذه المثابة، وبهذه المنزلة لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] فنفى عنه الريب، بعضهم يقف على قوله: لا رَيْبَ يعني: هذا الكتاب لا شك، يعني: أنه من عند الله -تبارك وتعالى- وأنه وحي أوحاه إلى رسوله ﷺ.

ثم قال: فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] ولكن الذي عليه عامة أهل العلم أن ذلك يوصل بما بعده ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] فيكون الوقف هنا هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] وهذا لا شك أنه أبلغ، ومواضع الوقف والابتداء في القرآن كثير منها يرجع إلى جهة النظر في المعنى، فيجتهد أهل العلم بحسب ما يلوح لهم من المعنى، قد يختلفون في مواضع الوقف والوصل والابتداء، فالمشهور عند أهل العلم وهو الأقرب والأوفى في المعنى أن يكون الوقف على قوله: لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] ثم يكون بعد ذلك هذا الكتاب موصوفًا بأنه هدى هذا أبلغ من قولك: فيه هدى، فحينما يكون هذا الكتاب محكومًا عليه بأنه هدى بهذا الإطلاق فذلك أبلغ من قولك فيه هدى، وهذا ظاهر.

ونفي الريب عن هذا القرآن ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] فهذا يؤخذ منه هنا في النفي باعتبار أن النفي المتوجه لما يتصل بصفات الله أو بما يتصل بملائكته، أو ما يتصف برسله -عليهم الصلاة والسلام- أو ما يتصل بكتابه، هذه أربعة أشياء فإنه يتضمن ثبوت كمال ضده، يعني: لا يكون نفيًا مُجردًا فإن النفي المُجرد لا يكون مدحًا، فحينما يُقال مثلاً: بأن هذه السارية لا تجهل فليس ذلك فيه إثبات العلم لها، لكن حينما يقول ربنا -تبارك وتعالى- عن نفسه: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [سورة البقرة:255] هذا ليس مجرد نفي السِنة والنوم عن الله وإنما فيه إثبات كمال ضده، إثبات كمال حياته وقيوميته، وهكذا إذا نفى عن نفسه الظلم فهذا يدل على ثبوت كمال عدله، فإذا نفى عن ملائكته -عليهم السلام- بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، فهذا يدل على ثبوت كمال طاعتهم.

وإذا نفى عن النبي ﷺ قال: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [سورة التكوير:24] في القراءة الأخرى: (بظنين)، يعني: ليس ببخيل فهو لا يترك شيئًا مما أوحي إليه إلا بلغه، وكذلك بظنين من الظن يعني ليس بمُتهم، يتكلم بالظنون إنما هو علم مُحقق ووحي ثابت، فعلى القراءة الأولى بظنين هذا يدل على كمال بذله ونُصحه وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [سورة التكوير:24] هذا يدل على كمال تثبته وتيقنه، وعلى كمال صدقه -عليه الصلاة والسلام.

وهكذا: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [سورة التكوير:22] يدل على كمال عقله -عليه الصلاة والسلام- وهكذا في القرآن، فإذا نفى الله عن كتابه وصفًا من الأوصاف الناقصة فإن ذلك يدل على ثبوت كمال ضده، فإذا قال عن القرآن: لا رَيْبَ فِيهِ فهذا يتضمن يدل على أنه مُضمن كمال اليقينيات، يعني: في مضامينه الأمور اليقينية المُحققة الثابتة، ليست بظنون ولا تخمينات، وليست أشياء من قبيل المحتملات للحق وضده، أو للصواب والخطأ، من جهة أخرى لا ريب فيه، فهذا أيضًا يتضمن أنه يورث كمال اليقين للناظر فيه ولمُلابسه وللقارئ؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قد ضمنه الحُجج الواضحات والبراهين الساطعات التي لا تدع في الحق لبسا.

لا رَيْبَ فِيهِ والريب معروف هو شك خاص، هو نوع من الشك، الشك المُقلق يُقال له: لا رَيْبَ شك مع قلق، تقول: أنا في ريب من أمر فلان، مداخل الريب فلان مُرتاب في كذا، شك مع قلق، لكن يمكن أن تقول: أنا أشك هل مثلاً صليت الراتبة أو لم أُصليها، أنا أشك هل دخل الوقت، أو لم يدخل الوقت من غير قلق، لكن الشك المُقلق يُقال له: ريب، فلما كانت هذه القضايا التي تتصل بالاعتقاد والوحي والحقائق الكُبرى وهذا المُبلغ عن الله -تبارك وتعالى- فإن هذا الكلام الذي يُنسب إلى الله حينما يقع الشك فيه، أو في أخباره ومضامينه فهذا يوجب قلقًا لدى هذا الشاك، لكن الله -تبارك وتعالى- نفى ذلك عنه فهو يورث كمال اليقين لما تضمنه من البراهين والدلائل والحُجج التي تُجلي الحق وتوضحه وتكشف الباطل، فهذا معنى يُستخرج من هذا الموضع وهداية تؤخذ من هذه الجُملة في النفي ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2].

وهذا يقتضي أن من نظر في كتاب الله وتدبره فإنه يحصل له من كمال اليقين ما لا يحصل لغيره، يعني: من أراد العلوم الثابتة واليقين المُحقق، والاعتقاد الراسخ بعيدًا عن الاعتقادات المُضطربة التي يتردد فيها ونحو ذلك فعليه أن يُكثر من تدبر هذا القرآن فإنه يورثه كمال اليقين، بخلاف النظر في غيره، النظر في كتب الشبهات، كتب علم الكلام، والجدل، فإن هذا يورث أصحابه الشك، ولذلك نجد أن هؤلاء كما ذكرت في بعض المناسبات في غير هذه المجالس علماء كِبار درسوا العلوم الفلسفية والكلامية وتبحروا فيها ثم بعد ذلك ماذا كانت نهايتهم؟

هذا يقول: أموت على دين عجائز نيسابور، يقول: "لقد خضت البحر الخِضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت فيما نهوني عنه، وها أنا أرجع إلى دين العجائز"[5] يعني الفطرة، هذا بعد دراسة الفلسفة دراسة موسعة مطولة.

وتجد أن بعضهم يذكر آلاف الكتب التي تدرسها مما تُرجم من كُتب اليونان، ثم بعد ذلك يرجع بالحيرة ما كان أحدهم يقول: "أضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين أقوال هؤلاء وهؤلاء ولا أرجع بشيء"[6] يسأل صاحبه ما تعتقد؟ وهو في مرض الموت فيذكر له اعتقاده، ويقول: وأنت مطمئن القلب بهذا، يقول: نعم، ثم يبكي هذا الذي في حال الاحتضار يقول: "والله ما أدري ما أعتقد، الله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد"[7] هذا عالم كبير من علماء الكلام.

والآخر كان يتمثل بالأبيات المشهورة:

نهاية إقدام العقول عِقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من جبال على شُرفتها رجال فزالوا والجبال جبال[8]

ويُمثل الحيرة التي كان فيها، فهذا الذي انتهوا إليه، وذلك قالوا عن الغزالي الذي قال عنه تلميذه المُعجب به جدًا وهو أبو بكر ابن العربي قال: "بأنه دخل في جوف الفلسفة ولم يستطع الخروج منها، انتهى وصحيح البخاري على صدره"[9] هذه هي النهاية بعد مشوار طويل ورحلة طويلة مع الفلسفة وعلوم الكلام.

وكذلك الرازي في وصيته من نظر في هذه الوصية فإنه يستبين له أن الرجل قد رجع عن ذلك كله، وهو رأس من رؤوس هؤلاء، وكذلك الجويني، وكذلك الشهرستاني، بل قالوا عن ابن سيناء لما حضرته الوفاة: أعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ذكروا أشياء عنه فالله أعلم بحاله[10] لكن مثل هؤلاء الذين دخلوا في هذه العلوم التي تورث الشكوك وتحيروا بها لم تورثهم يقينًا، وكانوا يبحثون عن اليقين، كانوا يعتقدون أنها نظريات عقلية تورث اليقين وكانوا يعتقدون أن النصوص لا تورث يقينًا؛ لأنها تفيد الظنون، وأن العقائد يجب أن تُبنى على اليقينيات، كانوا يظنون أن اليقين يحصل بالنظر العقلي، ولكنهم مع عقولهم ومع نظرهم في هذه المقررات التي يعتقدون أنها قواعد وأصول عقلية صحيحة إلا أنهم اختلفوا غاية الاختلاف فكانوا أكثر الناس تفرقًا، وريبًا، وشكًا.

وانظروا إلى الفكرة وما يُقابلها لما مر الرازي مع كوكبة من تلامذته على امرأة عجوز فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا الذي يعرف على وجود الله ألف دليل، هو وجود الله يحتاج إلى ألف دليل!

وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل[11].

فقالت: لو لم يكن في قلبه ألف شك لما عرف ألف دليل، بالفطرة، لو لم يكن في قلبه ألف شك لما عرف ألف دليل؛ لأن هذه قضية مُسلمة، قضية وجود الله .

فالله -تبارك وتعالى- قال عن هذا الكتاب: لا رَيْبَ فِيهِ ولذلك أولئك الذين يبحثون عن الحقيقة في كتب مُترجمة من الفلسفات العصرية، أو يبحثون عنها بالنظر العقلي مع أن عقولهم لا تُقارن ولا تُقاس بعقول أولئك الأصاطين من علماء الكلام، وإنما الغاية عند الواحد منهم أنه قرأ بضع تغريدات، أو لربما بعض الكتيبات المترجمة ثم بعد ذلك اعتقد أنه مثقف، وأنه يحمل عقلاً يستطيع معه أن يُميز، وأن يعرض نصوص الوحي على عقله فما قبله عقله قبله، وما رده عقله رده، فهو في غِنى عن فهم علماء الأمة من أولهم إلى آخرهم من لدن الصحابة  إلى يومنا هذا لا ينظر في أقوالهم ولا يعرفها ولا يعرف مواطن الإجماع، ولا الخلاف، ولا يعرف الأصول ولا المبادئ التي يُبنى عليها الفهم، والعلم، وإنما يقول بعقله هذا أنه يعرض عليه النصوص فما قبله هذا العقل قبله، وماذا عسى أن يفهم ويُدرك هذا العقل الذي اتخذه إلهًا وطاغوتًا يرد به النصوص من الكتاب والسنة؟!

فهؤلاء من علماء الكلام الكِبار الذين درسوا هذه العلوم ما كان لهم بصر في علوم الوحي في الكتاب والسنة، ولذلك ذكرت في بعض المناسبات ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- عن واحد منهم يُقال له: الأصبهاني جيء له بالمصحف فأراد أن يقرأ في سورة الأعراف المص [سورة الأعراف:1][12] فقرأ المص، يقرأها هكذا المص، هو لا يعرف لا يُحسن قراءة القرآن أصلاً.

وكما قال شيخ الإسلام عن أحد كِبارهم لما نظر في كتاب من كُتبه لم يجد له إلا ثلاثة أحاديث، ويذكرها في سياق الرد حديث موضوع، وحديث ضعيف، يعني: يوردها ليرد أيضًا عليها، وإذا قرأت في كتبهم في العقائد كأنك تقرأ في كتاب من كتب المنطق تمامًا، وعندهم القاعدة والأصل أن كل "نص يُخالف العقل فهو مؤول"[13] بل قال بعضهم علماء الكلام كما ذكرت في الكلام على الاختلاف وعلى أسباب الاختلاف بأن هؤلاء لربما قال الواحد منهم من علماء المعتزلة: "بأن الحجة العقلية تنسخ النص"[14].

وقال: بأن اليقين والاعتبار إنما هو بالحُجج العقلية وأما النقل فهو تُهمة[15] يعني: العبرة والحجة بالمقاييس العقلية، والنقل تُهمة، النقل هو الكتاب والسنة تُهمة! والحجة في المقاييس العقلية.

فهؤلاء لا يعرفون الوحي ولم يشتغلوا به، ولم يدرسوه، فإذا كان هذا يُقال في أولئك، وهذه حالهم، وهذا ما انتهى إليه أمرهم فلا ينبغي لأحد أن يُغرر بنفسه، ويخطو بعض خطوات لا يبلغ بها شأوهم، ثم بعد ذلك يضيع ويضل، فلا حصل العلوم العقلية ولا أبقى على نفسه وعرف ما جاء في الكتاب والسنة.

وماذا عسى أن تنفعه كلمة مُثقف أن يوصف بها؟! ولربما كان أبعد ما يكون عن حقيقة العلم الصحيح الذي جاء به الرسول ﷺ فمن أراد كمال اليقين عليه بهذا، وما يشرحه من سنة رسول الله ﷺ على فهم السلف الصالح .

لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] هذ الذي يورث اليقين وليس اليقين يُطلب فيه غيره، فمن تطلب ذلك في كتب الشرق أو الغرب، أو بفكره ونتائج فكره فإنه سيظل: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:38] فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۝ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [سورة طه:123- 126] العمى والجزاء من جنس العمل، لما عمي في الدنيا عن آيات الله -تبارك وتعالى- حُشر يوم القيامة في حال من العمى.

ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] حكم عليه بأنه هدى، هو بكامله من أوله إلى آخره بتفاصيله وجُمله وآياته وسوره هدى، وقد أطلق الله -تبارك وتعالى- ذلك فهو هدى في كل الشؤون والأبواب، لا يختص ذلك بباب دون باب، وسيأتي مزيدًا من الإيضاح لهذه القضية، لكن الله -تبارك وتعالى- أضاف هذا الهدى هنا للمتقين، فالذين يهتدون به هم من يكون الواحد منهم قابلاً للاهتداء، يعني يوجد عنده المحل القابل القلب الحي الذي عُمر بالتقوى وليس كل أحد، كما قال الله -تبارك وتعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت:44] -نسأل الله العافية- عمى على هؤلاء بمقابل كونه هدًى للذين آمنوا وشفاء يشفي صدورهم من الشكوك، والريب، والحيرة، والجهل، والشرك، والشك، والكفر، وهو شفاء أيضًا لأبدانهم؛ لأن الله أطلق الشفاء وقال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [سورة الإسراء:82].

فأهل الإيمان هم الذين ينتفعون به ويكون هدى لهم وشفاء ورحمة يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس:57].

وهذه الآية في هذه السورة الكريمة هُدًى لِلْمُتَّقِينَ هو هدى للجميع يُرشدهم إلى ما فيه نفعهم وصلاحهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة، لكن لما كان المُنتفع به هم أهل الإيمان خصهم بذلك.

ثم أيضًا هذا القلب إذا عُمر بتقوى الله -تبارك وتعالى- فإنه يكون قابلاً كما أسلفت لهذا الهدى كالمطر الذي ينزل على الأرض فإن كانت الأرض قابلةً أرض طيبة أنبتت وأمرعت واهتزت وربت، وأما إذا كانت الأرض سبخة فإنها لا تنبت شيئًا، ولا يظهر أثر ذلك المطر عليها.

وبهذا القيد الذي ذكره الله هنا: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] يظهر لنا السر والجواب في كون الكثيرين لا ينتفعون به، ثم إن هذا الحكم بأنه هدى للمتقين ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] حكم بأنه هدى وعلق ذلك بوصف وهو التقوى، والقاعدة أن "الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه"، فهو هدى للمتقين، وعليه فبقدر التقوى التي تعمر القلب بقدر ما يوجد منها في القلب يكون الاهتداء بالقرآن، والانتفاع بالقرآن، ننتفع بالقرآن بقدر ما في قلوبنا من التقوى هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] فإذا ضعُفت التقوى ضعف الانتفاع بالقرآن، وإذا عظُمت التقوى في القلب وعمُر بها عظُم الانتفاع بالقرآن، فالناس يتفاوتون، فمن أراد الانتفاع بالقرآن فعليه أولاً أن يجعل المحل قابلاً، يُصلح هذا القلب فيكون أرضًا طيبة للإنبات والزرع، يكون قلبه زكيًا طاهرًا لا يتعلق بغير الله، ولا يشتغل بمساخطه، هذا بالإضافة إلى أمور أخرى تُطلب في ذلك من الإقبال على القرآن، والإنصات له عند القراءة والاستماع، وكذلك التدبر له، وكذلك أيضًا إحضار القلب عند سماعه، أو قراءته.

ثم أيضًا هنا لما كان هذا القرآن بهذه المنزلة وهو أحسن الكلام وأعظم الكلام هدى فإنه لا يصلح له إلا القلوب النقية القلوب التقية، القلوب الصافية: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] وذكر صفة هؤلاء: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ۝ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:3، 5] هدى للمتقين، من هم؟

أول صفة الذين يؤمنون بالغيب، فهذا الذي عنده توقف عنده تردد هذه قضية لا يقبلها العقل كيف تصدقون بمثل هذه الأشياء، الحديث في البخاري، قال: وإذا كان في البخاري! فمثل هذا لا يحصل له مثل الاهتداء بالقرآن، تورد عليه الآيات والنصوص ثم بعد ذلك يتعامل معها بطريقة غير لائقة، وهؤلاء يجدون من يقول لهم ومن يُربيهم على مثل هذه الأشياء، يجدون من يقول لهم كل شيء عندنا قابل للنقاش، والأخذ والرد بلا استثناء، هؤلاء عندما يُقال لهم في دورة أو في قناة فضائية أو نحو ذلك كل شيء قابل للنقاش، هؤلاء مساكين يظنون أنها طرح له بريق وكل شيء قابل للنقاش، وأن هذا من التجرد، وأنك تترك كل ما كان لك من خلفيات، ثم بعد ذلك تبقى على سطح جاف خاوٍ تتخلى عن مُعتقداتك، وعن إيمانك، ثم بعد ذلك يريد هذا الإنسان أن يصل إلى الصواب وإلى الحق، يترك إيمانه الذي هداه الله إليه، ويتخلى عنه ويجعل إيمانه خلف ظهره يقول من أجل أن أصل إلى الحقيقة.

ويقول: الكل عنده شيء من الحق، الكل!!، يعني: حتى البوذي والمجوسي واليهودي والنصراني عندهم جزء من الحق، إذًا لا يوجد أحد يحتكر -هكذا يزعمون- الحق والحقيقة، فعلينا أن نتجرد لنأخذ أحسن ما عند هؤلاء، أومتهوكون فيها يا ابن الخطاب [16] كما قال النبي ﷺ لمجرد أنه رأى معه صحيفة من التوراة، غضب -عليه الصلاة والسلام- فكيف لو سمع النبي ﷺ هذا المُبطل الذي يقول: الحقيقة موجودة موزعة، فينبغي أن نأخذ أحسن ما عند هؤلاء.

لم يعلم أن أحسن ما عند هؤلاء موجود في هذا الدين مع أشياء أخرى لا توجد عندهم ولا يعرفونها، سواء عند أصحاب الديانات المحرفة، أو أولئك الذين يعيشون في ضياع كامل من الوثنية، أو الإلحاد أو نحو هذا، ثم نقول: كل ما عند غير المسلمين من حق فيوجد عن المسلمين مثل أضعافه من الحق، لكن هؤلاء لا يعلمون حقائق ما جاء به الرسول ﷺ ويظنون أنهم يطرحون طرحًا متجردًا وأنهم يبحثون عن الحقيقة، هؤلاء لم يعرفوا قدر ما عندهم من الوحي، فأوقعهم ذلك في مثل هذا: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] لم يقل ويؤدونها، وسيأتي الكلام على هذا، هذه أوصاف الذين ينتفعون بالقرآن ويهتدون به، هؤلاء الذين يتفاعلون مع هداياته هدى.

وهنا هُدًى مصدر وضعه موضع اسم الفاعل هادي للمتقين، للتأكيد على دوام هدايته واستمرارها، وجاء مُنكرًا هُدًى للتعظيم، وأن هذه الهداية هداية مُطلقة في كل ما يحتاج إليه الخلق للوصول إلى السعادة في الدارين في الدنيا والآخرة، هدى في جميع الأبواب، ماذا تريد؟ تريد المنشأ والبداية الغاية التي من أجلها وجِدنا، تريد المصير والمُنتهى، تريد شرح السبيل والطريق الموصل إلى الله، تريد ما وقع فيه أولئك من المتهوكين الشاكين الضالين المحرفين، أو من أهل الغضب وما وقع لهم من أمور اختلفوا فيها واضطربوا، فيأتي هذا القرآن ليُجلي ذلك كله.

وكذلك أيضًا إذا كان الإنسان يريد الهدى في الأبواب المتصلة بصفات المعبود بوحدانيته بربوبيته إذا كان يريد الهدى في ما يتعلق بأمر الأسرة، أو الاجتماع أو ما يتعلق بقضايا التعبد ونحو ذلك كل هذا هو هُدى، من اتبعه ضمن الله له فلا يضل ولا يشقى، لا يحصل له ضلال لا يضيع، ولا يحصل له شقاء، لا يحصل شقاء لا في الدنيا ولا في الآخرة.

هذا الذي يُعاني ويقول: عندي مشكلة، عندي ضيق، عندي غم، عندي هم، عندي كآبة، فلا يضل ولا يشقى، هذا وعد من الله فإذا أعرض عنه حصل له الشقاء بكل صوره وأنواعه، وانظروا إلى الشقاء الذي يلوح على وجوه هؤلاء الكفار الضُلال، ترى الشقاء في وجوههم، يراه كل أحد لكن كثير من أبناء المسلمين لا يعرفون قدر هذه النعمة التي حباهم الله بها، فهنا لم يُقيده بقيد لم يقل هدى للمصلحة الفلانية، وذلك من قبيل حذف المُتعلق، وحذف المتعلق يفيد العموم، حذف المتعلق يعني حذف المُقدر، لم يقل هدى في كذا، هدى للمتقين في موضوع الاقتصاد، هدى للمتقين في موضوع السياسة، هدى للمتقين في موضوع الأسرة والمجتمع، هدى للمتقين في موضوع العبادات أو الأحوال الشخصية، أو نحو ذلك، لا، هدى للمتقين في كل شأن من شؤون حياتهم، فهو يُبين لهم كل ما يحتاجون إليه في قضايا الأصول والفروع، يُبين يُميز الحق من الباطل، والهدى من الضلال، ويُبين لهم كيف يسلكون الطريق الموصل إلى النجاة والسعادة.

ثم أيضًا أختم بهذه وذلك أن هذه الجُمل الأربع: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:1، 2] فيها تناسق وقد جاء بها من غير عطف، فكانت بهذا التناسق والترابط والتآخي آخذ بعضها بحُجز بعض، لم يُحتاج إلى الوصل بينها بحرف عطف، كل جملة فيها من الهدايات والمعاني الجزلة على قِصر ألفاظها فهذا الذي يُسميه البلاغيون بالفصل وهو عدم عطف الجُمل بالواو؛ لكمال الاتصال بينها.

فقوله: الم [سورة البقرة:1] يُشير إلى إعجاز هذا القرآن، هذا القرآن المُعجز لا ريب ذلك الكتاب صاحب المنزلة العالية لا ريب فيه، وهذا الكتاب الذي بهذه المثابة، ولا ريب فيه هو هدى للمتقين. 

  1. منهاج السنة النبوية (4/ 490). 
  2.  غاية المرام في علم الكلام، للثعلبي (ص:344). 
  3.  منهاج السنة النبوية (4/ 491).
  4.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/ 7).
  5.  انظر: مجموع الفتاوى (4/ 73)، وشرح الطحاوية ت الأرناؤوط (1/ 245).
  6.  انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 165)، وشرح الطحاوية ت الأرناؤوط (1/ 247). 
  7.  مجموع الفتاوى (9/ 228)، وشرح الطحاوية ت الأرناؤوط (1/ 246). 
  8.  وفيات الأعيان (4/ 250)، وشرح الطحاوية ت الأرناؤوط (1/ 244). 
  9.  انظر: شرح فتح المجيد للغنيمان (52/ 9، بترقيم الشاملة آليا). 
  10.  انظر: وفيات الأعيان (2/ 160). 
  11.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 82). 
  12.  انظر: مجموع الفتاوى (4/ 96). 
  13.  نقل عن الكرخي نحوه كما في إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد (ص:17). 
  14.  تأويل مختلف الحديث (ص:94)، والثبات والشمول في الشريعة الإسلامية (ص:187)، ونص العبارة: "وذكر أن حجة العقل قد تنسخ الأخبار". 
  15.  نُقل عن أبي الحسن الكرخي الحنفي أنه قال: "كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة وحديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ". انظر: إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد (ص:17). 
  16.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (15156)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف مجالد: وهو ابن سعيد"، وحسنه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (6/ 34)، برقم (1589).