"الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:3] قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: "الإيمان التصديق"، وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس - ا -: "يُؤْمِنُونَ: يصدقون"، وقال معمر عن الزهري: "الإيمان العمل"، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: "يُؤْمِنُونَ: يخشون".هذه ثلاثة أقوال في تفسير الإيمان، الأول فسره بالتصديق، وهذا تجده في كثير من عبارات السلف، ومقصودهم بذلك هو بيان معنى الإيمان إذا ذكر مع العمل، أو إذا ربط بأمر يتعلق بالاعتقاد فقط.
فمثلاً قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ: هل يتأتى فيها العمل هنا؟ يعني هل يعمل بالغيب؟ وبمعنى آخر: هل الإيمان بالغيب هنا يكون عملاً؟ لا يكون عملاً، وإنما يكون مجرد التصديق.
نحن ذكرنا من قبل أن السلف في التفسير يقربون المعنى، أي يذكر عبارة قريبة تقرب لك المعنى، فإذا جئت على طريقة التدقيق في التفسير، وأردت أن تبين المعاني التكميلية في كل لفظة، وأنه لا يوجد ترادف فستقول: لا يصح تفسير الإيمان بالتصديق كما يقول بعض أهل العلم من أهل اللغة ومن بعض المتأخرين، ومنهم شيخ الإسلام - رحمه الله - كما في كتابه الإيمان الكبير حيث ذكر سبعة فروق بين الإيمان والتصديق، ومثل ما قال ابن القيم في الريب والشك حيث ذكر سبعة فروق بينهما في اللغة، وقال: لا يصح تفسير الإيمان بالتصديق، مع أن المقصود هنا تعريفه لغة لا شرعاً.
المهم أن السلف يقربون المعنى فيعبرون بعبارة قريبة، كما فسروا الريب بالشك، وهنا الإيمان لغة هو التصديق، فلا يشكل عليكم هذا مع كلام شيخ الإسلام فليس بينها تعارض، وهكذا من فهم طريقة السلف يقول: ليس هناك تعارض؛ لأنهم لا يعمدون إلى هذه التدقيقات في التفسير بمراعاة المعاني التكميلية، وإنما يقرب لك المعنى فقط.
على كل حال الإيمان إذا ذكر معناه في اللغة فإنهم يفسرونه في بعض الأحيان بالتصديق، وإذا أردت أن تدقق أكثر يمكن أن تقول: هو الإقرار أو هو التصديق الانقيادي، وهذا ما يتعلق بالقلب، فإنه إذا قيل: الإيمان هو تصديق الجنان، فتصديق الجنان معناه إقرار القلب، وانقياده، وإلا فمجرد التصديق لا يكفي، بل لا بد من الإضافة إلى ذلك الإيمان في حقيقته الشرعية، وأنه قول وعمل، فهنا القضية تعلقت بالغيب، فـ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يعني يصدقون به.
المعنى الثاني: فسر الإيمان بالعمل، ويكون ذلك من تفسيره ببعض ما تركب منه الإيمان وهو العمل، ولا شك أن العمل ركن من أركان الإيمان، فهو يتركب من تصديق اللسان، والجنان، والعمل بالجوارح، وكونه فسره بذكر أحد أركانه منها فلا بأس أن يعبر عن الشيء بأحد أركانه كما سبق في الصلاة أنها قراءة، والحج عرفة؛ وما أشبه ذلك، فهذا لا إشكال.
وفسر بعض السلف الإيمان بالغيب بأنه الخشية، لكن المعنى المتبادر والمشهور، والذي قاله عامة أهل العلم من السلف والخلف في قوله: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يؤمنون بالأمور الغيبية من الإيمان بالله، والملائكة، والجن، وغير ذلك سواءً كان من الغيب المطلق، أو الغيب النسبي.
النبي ﷺ بالنسبة لنا غيب؛ فنحن لم نر النبي ﷺ لكنه بالنسبة للصحابة ليس من أمور الغيب، فالمؤمن بالغيب هو الذي يؤمن بهذه الحقائق التي لم يشاهدها، وهذا هو المعنى المشهور ابتداءً من الإيمان بالله.
والمعنى الثاني لـ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أن ذلك يراد به الذي يؤمن في حال الغيب أي في حال خلوته، وانفراده، كما أنه أظهر الإيمان جلوة أمام الناس، فهو في الظاهر مؤمن، فكذلك أيضاً في حال الغيب مؤمن، وليس ممن قال الله عنهم: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ [سورة البقرة:14]، فهؤلاء ليسوا على الإيمان في حال الخفاء حينما يغيبون على الأنظار، فيكون على هذا التفسير يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي: في حال غيابهم عن أنظار الناس، وهذا المعنى كما قلنا ذكره بعض السلف، لكن الأول أرجح وهو المتبادر، وسواءً فسرناه بهذا أو بالمعنى الأول المشهور فإن الإيمان بالغيب كالإيمان بالله، واليوم يورث الخشية؛ لأن من مقتضياته ولوازمه الخشية، وإذا فسرناه بالمعنى الآخر فهو يستحضر رقابة الله عليه، وأن الله يراه ويشاهده، ويطلع على أحواله، فهذا يورث الخشية، ويكون هذا من قبيل التفسير باللازم، والسلف قد يفسرون باللازم، وهذا مثال عليه، فالتفسير هذا ليس بخطأ، وإنما يقال: هو من قبيل التفسير باللازم، والكلام قد يفسر بالمطابق، أو بالتضمن، أو باللازم، أو بالإشارة التي هي من أنواع الدلالة المعروفة.
إذن: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ كما قال ابن مسعود : "العلم الخشية" فهو فسر العلم بالخشية، مع أن العلم هو إدراك المعلوم على ما هو به على حقيقته؛ لأن العلم ما أورث الخشية، وكفى بخشية الله علماً.
قال ابن جرير: "ولولا أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً، وعملاً، واعتقاداً، وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل". توجيه ابن كثير هنا يختلف عما ذكرت بعض الشيء، فلا شك أن الخشية هي جزء من عمل القلب؛ لأن الإيمان قول القلب، وهو تصديقه، وانقياده، وإقراره، وعمل القلب مثل: الخشية، والتوكل، والمحبة، والرجاء؛ وما أشبه ذلك، فهي جزء من الإيمان، فهو هنا فسر الإيمان بجزء منه.
والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله، وكتبه، ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل، قلت: أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك كما قال تعالى: يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة التوبة:61]. يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ: على هذا التفسير يُؤْمِنُ بِاللّهِ يعني يصدق بالله، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: يصدقهم، وعداه باللام هنا تقول: صدق له، ويعدى بنفسه فتقول: صدقه، وهل آمن يعدى بنفسه فتقول: آمنه؟
لا، بل تقول: آمن له كما قال تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [سورة يوسف:17]، فتقول: آمن به، وصدق به، وصدقه، فهذه من الفروقات في الاستعمال بين الإيمان والتصديق.
ومن الفروقات أن الإيمان فيه معنى الأمن، ولا يوجد هذا في معنى التصديق، والإيمان لا يستعمل في كل حال كما يستعمل به التصديق، فلا تقول مثلاً: أنا مؤمن الآن أن الشمس طالعة، لكن تقول: أنا مصدق أن الشمس طالعة؛ والسبب في ذك أن الإيمان يكون في الأمور التي من شأنها أن تخفى، وتكون غائبة.
وكما قال إخوة يوسف لأبيهم - عليهم السلام -: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [سورة يوسف:17] وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال كقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة الإنشقاق:25]، فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً، وقولاً، وعملاً.هذا هو الصواب، وأما من يفسرون الإيمان بأنه مجرد الإقرار أو التصديق كالجهمية فإن مثل هذا لم يقل به أحد من السلف إطلاقاً، وإنما غاية ما قالوا في معناه اللغوي، أو حينما يذكر معه العمل، فيكون الإيمان المقصود به ما يرجع إلى القلب من الإقرار، والتصديق، فأما تفسير الإيمان الشرعي بأنه الإقرار، أو التصديق أو نحو هذا فهذا لم يقل به أحد من السلف.
وهو يزيد وينقص، وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.
ومنهم من فسره بالخشية كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ [سورة الملك:12] وقوله: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [سورة ق:33]، والخشية خلاصة الإيمان والعلم كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [سورة فاطر:28]، وأما الغيب المراد ها هنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد.
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، قال: يؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت، وبالبعث فهذا غيب كله وكذا قال قتادة بن دعامة، وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فذكرنا أصحاب النبي ﷺ وما سبقونا به فقال عبد الله: "إن أمر محمد ﷺ كان بيِّناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب".
يقصد ابن مسعود أن الذين جاؤوا من بعد يكون النبي ﷺ بالنسبة لهم من أمور الغيب، فيدخل في قوله بالنسبة لنا: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الإيمان بالنبي ﷺ، ولذلك الغيب فيه غيب ماض، وفيه غيب حاضر مما لم نطلع عليه، وهناك غيب مستقبل، فلو قلت لك الآن في هذه اللحظة: ما الذي يدور خارج هذا المكان، أو ماذا يوجد خلف هذا المبنى؛ ستقول: لا أدري؛ لأن هذه من أمور الغيب، وكذلك لو قيل لك: ما الذي يجري في البلد الفلاني؟ ستقول: الله أعلم، وبالنسبة للغيب المطلق فهو المستقبل.
ثم قرأ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.. [سورة البقرة:1-3] إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5]، وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.الرواية هذه ثابتة معروفة مشهورة عن ابن مسعود وجاء في هذا المعنى أيضاً بعض المرويات عن غير ابن مسعود.
"وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد عن ابن محيريز قال: قلت لأبي جمعة حدثنا حديثاً سمعتَه من رسول الله ﷺ قال: نعم، أحدثك حديثاً جيداً: تغدينا مع رسول الله ﷺ ومعنا أبو عبيدة بن الجراح قال: يا رسول الله! هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك قال: نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني[1]".
أبو جمعة من الصحابة اسمه حبيب بن سباع، وهذا الحديث جاء من حديث أبي جمعة وجاء أيضاً عن غيره، وهو ثابت عن النبي ﷺ سواءً كان ذلك في حديث أبي جمعة هذا الذي أقل أحواله أنه حسن، أو في غيره مما هو أصح منه، وهذا الحديث مع حديث: إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم[2]، فيهما سؤال معروف وهو: هل هذا يدل على أن أحداً بعد أصحاب النبي ﷺ يمكن أن يكون فوقهم؟
هذه مسألة معروفة، الجمهور على أن هذا لا يمكن، ولا يتأتى، ويحتجون بأدلة منها: قوله ﷺ: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نصيفه[3]، ومنها قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [سورة التوبة:100].
وبعض أهل العلم يرى أن ذلك ممكن في غير أهل السبق، والفضل من الصحابة كأهل بدر، وبيعة الرضوان، لكن مثل بعض مسلمة الفتح، ومن جاء بعضهم، أو الأعراب، أو غيرهم ممن أسلم في زمن النبي ﷺ يقولون: هذا يمكن، وهذا قول معروف لابن عبد البر، ويحتجون لهذا القول بأدلة منها هذان الحديثان.
وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: بأن كبار الصحابة، وأهل بدر، وبيعة الرضوان؛ لا يبلغ أحد مرتبتهم، وأما من عدا هؤلاء فيمكن أن يأتي بعض الأفراد ممن بعدهم من هو أفضل منهم، لكنه يبقى شيء واحد لا يبلغهم فيه وهو مرتبة شرف الصحبة، فهذا لا يمكن أن يدرك، وأما القرب من الله ، أو العلم، أو العبادة، والبذل، والنصح لله، ولرسوله ﷺ وما أشبه ذلك فيرى أنه يمكن أن يأتي بعض الأفراد ممن جاء بعدهم ممن يفوق آحاد الصحابة من مسلمة الفتح، أو الأعراب، أو غيرهم.
وهذا كله فيه قاعدة معروفة ذكرها القرافي في الفروق، وذكرها غيره تحل شيئاً من الإشكال في هذا الباب، وفي غيره من الأبواب، وهي أن المزية لا تقتضي الأفضلية، إلا أن هذه القاعدة يستعملها كل طرف هنا في المسألة فالذين يقولون: يمكن أن يأتي بعض الأفراد أفضل، يقولون: الصحابة لهم شرف الصحبة، والمزية لا تقتضي الأفضلية يعني بإطلاق، فهذا لا يلحقهم أحد فيها، لكن يمكن يكون أفضل منهم في الأشياء الأخرى، فالمزية لا تقتضي الأفضلية.
والذين يقولون: لا يمكن أن يلحقهم أحد مطلقاً فقد حصلوا هذا الشرف العظيم، ولا يمكن أن يكون أحد بعدهم أفضل منهم بحال من الأحوال، وإن جاء بعض الناس بعدهم وهو في غاية الاجتهاد، أو العبادة ممن قال النبي ﷺ أن لهم أجر خمسين، أو كما ورد هنا في حديث أبي جمعة يقولون: هذه مزية للمتأخرين، والمزية لا تقتضي الأفضلية.
ولا شك أن ذكر الأجرين لا يقتضي الأفضلية مطلقاً، وذلك مثل حديث: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجران[4]، فالذي يتتعتع فيه، وهو عليه شاق؛ له أجر على القراءة، وأجر على التتعتع؛ لكنه ليس أفضل من الماهر الذي مع السفرة الكرام البررة، مع أن ذاك لم يذكر له أجران.
كذلك ما ورد من الذين يؤتون أجرهم مرتين في قوله ﷺ: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي ﷺ فآمن به، واتبعه، وصدقه؛ فله أجران..[5] الحديث، فالرجل الذي كان على دين أهل الكتاب، ثم أسلم؛ له أجران، لكن لا يمكن أن يكون أفضل من أبي بكر الصديق الذي لم يكن على دين أهل الكتاب أبداً، فالمزية لا تقتضي الأفضلية، ولا تقتضي الفضل مطلقاً، فأجر أبي بكر الصديق أعظم منه، فقد يكون الشيء أعظم، وقد يكون الشيء كما سبق على أجرين، أو ثلاثة أو نحو هذا.
ومثل هذا أيضاً الرجل الذي أدى حق الله، وحق سيده، وأشباه ذلك، فهؤلاء يقال أنهم يؤتون أجرهم مضاعفاً، أو نحو هذا؛ لكن لا يعني ذلك أنهم أفضل من غيرهم مطلقاً؛ فالمزية لا تقتضي الأفضلية.
كذلك نقول: إنّ عليَّ بن أبي طالب هو زوج فاطمة الزهراء - ا -، وقال فيه النبي ﷺ: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي؟[6]، وقال عنه النبي ﷺ يوم خيبر: لأعطين الراية غدا أو ليأخذن الراية غدا رجل يحبه الله ورسوله[7] إلى غير ذلك من مزاياه لكن مع ذلك هو ليس أفضل من أبي بكر، وعمر - أجمعين -؛ فالمزية لا تقتضي الأفضلية، وهكذا في أبواب كثيرة، والله أعلم.
قال المفسر - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ "قال ابن عباس - ا -: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي: يقيمون الصلاة بفروضها، وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: إقامة الصلاة إتمام الركوع، والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإقبال عليها فيها، وقال قتادة: "إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها، ووضوئها، وركوعها، وسجودها"، وقال مقاتل بن حيان: "إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور بها، وتمام ركوعها، وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد، والصلاة على النبي ﷺ، فهذا إقامتها."
فهذه الأقوال التي ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وغيرها مما قاله السلف في معنى إقامة الصلاة كلها صحيحة، وهي داخلة في معناها، والمراد أنهم يأتون بها مقيمين لأركانها كما في قول ابن عباس هنا: أي يقيمون الصلاة بفروضها: يعني يأتون بما افترض عليهم فيها من أركان، وواجبات، وهكذا أيضاً الأقوال الأخرى يحافظون على الأوقات، ويحققون ما شرط لصحتها كالطهارة، واستقبال القبلة؛ وما أشبه هذا، كل هذه الأمور هي من إقامة الصلاة.
وعلى كل حال فالصلاة لم يأمر الله بها في القرآن إلا بلفظ الإقامة كقوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ [سورة العنكبوت:45]، وكذلك نجد ذلك غالباً حينما يذكرها الله في القرآن كقوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ [سورة النساء:162]، ولم يرد ذكر المصلين من غير إقامة إلا في ثلاثة مواضع.
الموضع الأول قوله تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [سورة المدثر:43]، وليس هذا على سبيل الأمر، ولا على سبيل المدح، وإنما الإخبار عن حال أهل النار، وما أوجب لهم من الدخول فيها.
والموضع الثاني قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ [سورة الماعون:4]، وهذا أيضاً في مقام الوعيد.
الموضع الثالث قوله تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:22].
هذه هي المواضع الثلاثة التي لم تذكر الإقامة مع ذكر الصلاة، وأما ما سوى ذلك فإنه يقول: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ [سورة النساء:162]، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ [سورة هود:114]، وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [سورة البقرة:43]، وما أشبه ذلك، ويدل ذلك على أن المراد هو إقامة الصلاة وليس مجرد أداء الصلاة، وأما في الزكاة فيقول: وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43]، فالصلاة التي تقام هي التي تؤثر في الإنسان.
والنبي ﷺ قد أخبر أن المصلي ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، فقد صح ذلك عنه أنه قال: إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها[8] فهي تسقط عنه التبعة إن لم تكن كما ينبغي من الخشوع، واستحضار القلب بما يقوله ويفعله الإنسان في هذه الصلاة، فيخرج ليس له من صلاته إلا كما أخبر النبي ﷺ أي: بحسب ما عقل منها.
ولذلك لما قال الله : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [سورة العنكبوت:45]، فإنه قد علق هذا الحكم بوصف، فنهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر هو حكم مترتب على وصف وهو الإقامة، ومعلوم أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فعلى قدر إقامتك للصلاة تؤثر في انتهائك عن الفحشاء والمنكر، وهذا جواب للسؤال الذي يطرح دائماً وهو: لماذا لا تؤثر الصلاة في كثير من المصلين، وربما تسمع إجابات كثيرة عن هذا السؤال منها ما هو متكلف، لكن هذا هو الجواب الصحيح.
"وقال علي بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عباس - ا -: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ قال: زكاة أموالهم، وقال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ و وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ قال: نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة."
القول الأول بأن قوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ قال: زكاة أموالهم، قالوا: هذا بناءً على القول بأن هذه السورة هي أول سورة نزلت في المدينة، ولم تفرض الزكاة بعد، وإنما فرضت بعد ذلك.
ويوجد خلاف معروف في الزكاة متى فرضت، والأقرب أن أصل الزكاة فرض في مكة كما قال الله في سورة الأنعام: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141]، وسورة الأنعام سورة مكية قطعاً، فكانت الزكاة مفروضة بمكة لكن الأنصباء، والأموال الزكوية؛ لم تفصل إلا في المدينة.
ومن أهل العلم من يقول: إن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، ونزل أول سورة البقرة قبل فرض الزكاة، فبعضهم يقول: هي النفقة على الأقارب، وبعضهم يقول: هي الزكاة بناءً على التفسير بجزء المعنى، وعلى هذا يمثلون على العام بأحد الأفراد، ولا يقصدون بذلك الحصر، فهنا قال: يؤتون زكاة أموالهم وهو أعم.
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ النفقة أعم، وهذا من باب البيان، والإيضاح بجزء المعنى، وإلا فالنفقة أوسع من هذا، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ من الزكاة، ومن غير الزكاة.
"وقال جُوَيْبر عن الضحاك: "كانت النفقات قرباناً يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم، وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات، سبعُ آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات، هن الناسخات المثبِتات." بعض أهل العلم يقول: إن في المال حقاً غير الزكاة، وعلى كل حال آية الأنعام كانت قبل فرض التقادير، والأنصباء، وبيان الأنواع التي تجب فيها الزكاة، فكان قدراً غير محدد يخرجه الإنسان عند الحصاد يعطيه من حضره من الفقراء.
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ "من" هنا تبعيضية، ووجه دخولها هنا أنك لست مطالباً بأن تخرج كل المال، وإنما المطلوب منك أن تخرج بعض المال فقط، فهي دخلت على هذا الأساس.
وبعض العلماء يقول: لأن المقصود إنما هو إخراج الأموال الطيبة، وبالتالي وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ أي من المكاسب الصحيحة؛ لأن الرزق يشمل الحلال والحرام، وهذه عقيدة أهل السنة؛ خلافاً للمعتزلة.
فكل ما حصله الإنسان فهو من الرزق، لكن منه ما يكون حلالاً، ومنه ما يكون حراماً، وبالتالي فقوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يستدلون بها على أن الإنسان يتحرى بصدقته، وأنه لا يخرجها إلا من كسب طيب، لكن على كل حال ليس المراد إخراج الكل.
"قلت: كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال؛ فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده، والثناء عليه، وتمجيده، والابتهال إليه، ودعائه، والتوكل عليه؛ والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات، والأهلون، والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة، والزكاة المفروضة؛ داخل في قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ." هذا أحد الأجوبة في سبب الاقتران بين الصلاة والزكاة، وهو أمر يتكرر كثيراً كقوله تعالى: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة البقرة:83]، وكقوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [سورة النساء:162]، فلماذا يحصل هذا الاقتران؟
الجواب الأول: أن الصلاة هي صلة بين العبد وبين ربه، والزكاة هي إحسان إلى المخلوقين، فسعادة العبد دائرة بين الأمرين.
ويمكن أن يقال: إن الصلاة هي رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية؛ لأنه ما تقرب المتقربون إلى الله بشيء أحب إليه مما افترض عليهم، فالزكاة مفروضة، وهي أفضل من الصدقة المستحبة، ومن أهل العلم من يقول: إن الصلاة هي طهارة للنفس، والبدن، بسبب الطهارة التي هي من شروطها، وأما الزكاة فهي طهارة للمال، فجمع له بين الأمرين.
"ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر - ا - أن رسول الله ﷺ قال: بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت[9]، والأحاديث في هذا كثيرة، وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود، والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة، بشروطها المعروفة، وصفاتها، وأنواعها المشهورة."
الصلاة معناها اللغوي عموماً هو الدعاء، ثم صارت في الشرع الصلاة المعروفة، والعلماء يتكلمون في هذا هل هي باقية على أصلها اللغوي، ثم زيد عليها؟ هذه مسألة معروفة عند الأصوليين، وهل ما يسمى بالحقائق الشرعية، والمصطلحات الشرعية - مثل: الصلاة، والصوم، والجهاد، والحج، والعمرة، وما أشبه هذا - هل هذه باقية على أصلها اللغوي ثم زيد عليها أشياء، أو أن الشارع استعملها في شيء آخر غير المعنى اللغوي، بمعنى هل هي مرتجلة من قبل الشارع؟ ما معنى مرتجلة؟ أي: أن الشارع جاء باستعمال جديد غير المعهود عند العرب، يعني أنها أشياء غير معهودة وغير معروفة قبل خطاب الشارع، فالعرب قبل خطاب الشرع إذا قيل لهم: ما هي الصلاة؟ يكون الجواب هي الدعاء في لغتهم إلا ما عرفوا عن حقيقة الصلاة عند الأنبياء السابقين.
كذلك الصيام كان معروفاً عند العرب، وكان أهل الجاهلية يصومون يوم عاشوراء قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183]، فهذا المعنى جاء به الشارع لكن أصل كلام أهل اللغة في الصيام هو الإمساك.
وكذلك العمرة في اللغة هي الزيارة، والحج هو القصد، مع أنه كان معروفاً عندهم بمعناه الشرعي الذي عرف من قبل الشارع، وهذه مسألة مشهورة وهي أن الشارع يأتي بمصطلحات جديدة - الحقيقة الشرعية -، أو أنها هي المعنى اللغوي ثم زاد عليها بعض الأشياء، فالعلماء يتكلمون على هذا، فمنهم من يقول: هي المعنى اللغوي، وزيد عليها، وبعضهم ينكر هذا، ويقول: كيف تكون الزيادات أصولاً وأركاناً، بمعنى أن الدعاء - مثلاً - واجب في الصلاة مثل: "اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم" أين هو من الركوع، والسجود، وتكبيرة الإحرام، والقيام، وما أشبه ذلك من هيئات الصلاة التي هي أركان فيها؟ فيقولون: كيف تكون هذه الزيادات العظيمة الكثيرة غير الدعاء من الأقوال، والأفعال في الصلاة، ثم تكون الصلاة هي الدعاء، وزيد عليها؟
المقصود أن هذه حقائق شرعية سواء كانت مرتجلة من قبل الشارع، أو منقولة، فالشارع إذا ذكر الصلاة فالأصل أنها ذات الركوع، والسجود إلا لقرينة، كقوله: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [سورة التوبة:103]، واللهم صلِّ على آل أبي أوفى[10]، فهنا المقصود بالصلاة الدعاء لهم، أما إذا قال: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ [سورة البقرة:43] فلا يحمل على المعنى اللغوي، والقاعدة هي أن ألفاظ الشارع تحمل على المعنى الشرعي، فإن لم يوجد فالعرفي - يعني عرف المخاطبين -، ثم المعنى اللغوي.
- أخرجه أحمد (17017) (ج 4 / ص 106)، والدارمي (2744) (ج 2 / ص 398)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (6282).
- أخرجه أبو داود في كتاب: الملاحم- باب: الأمر والنهي (4341) (ج 2 / ص 526)، والترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ (3058) (ج 5 / ص 257)، وابن ماجه في كتاب: الفتن – باب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [سورة المائدة:105] (4014) (ج 2 / ص 1330)، والطبراني في الكبير (289) (ج 17/117)، وفي الأوسط (3121) (ج 3 / ص 272)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (494)
- أخرجه أبو داود في كتاب: السنة- باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله ﷺ (4658) (ج 2 / ص 626)، والطبراني في الأوسط (687) (ج 1 / ص 212)، وصححه الألباني في ظلال الجنة برقم (988).
- أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب: تفسير سورة عبس (4653) (ج 4 / ص 1882)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها – باب: فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه (798) (ج 1 / ص549) واللفظ لمسلم.
- أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير- باب: فضل من أسلم من أهل الكتابين (2849) (ج 3 / ص 1096)، ومسلم في كتاب: الإيمان – باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (154) (ج 1 / ص 134)، واللفظ لمسلم.
- أخرجه البخاري في كتاب: المغازي- باب: غزوة تبوك وهي غزوة العسرة (4154) (ج 4 / ص 1602)، ومسلم في كتاب: فضائل الصحابة - باب: من فضائل علي بن أبي طالب (2404) (ج 4 / ص 1870).
- أخرجه البخاري في كتاب: المغازي- باب: باب غزوة خيبر (3972) (ج 4 / ص 1542)، ومسلم في كتاب: فضائل الصحابة - باب: من فضائل علي بن أبي طالب (2407) (ج 4 / ص 1872)، وهذا لفظ البخاري.
- أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة - باب: ما جاء في نقصان الصلاة (796) (ج 1 / ص 271)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم (714).
- كتاب الإيمان - باب: الإيمان وقول النبي ﷺ: (بني الإسلام على خمس) (8) (ج 1 / ص 12)، ومسلم في كتاب: الإيمان - باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16) (ج 1 / ص 45).
- أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات- باب: هل يصلي على غير النبي ﷺ (5998) (ج 5 / ص 2339)، ومسلم في كتاب: الزكاة- باب: الدعاء لمن أتى بصد قة (1078) (ج 2 / ص 756).