الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ ۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا۟ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا۟ ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ* يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:19-20].
هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم، وكفرهم، وترددهم؛ كصيِّب، والصيب: المطر، قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي، وعطاء الخرساني، والسدي والربيع بن أنس.
وقال الضحاك: هو السحاب، والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك، والكفر، والنفاق.
ورَعْدٌ: وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد، والفزع كما قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [سورة المنافقون:4]، وقال: وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ۝ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحونَ [سورة التوبة:56-57].
والبرق: وهو ما يلمح في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال: يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [سورة البقرة:19] أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً؛ لأن الله محيط بقدرته، وهي تحت مشيئته، وإرادته، كما قال: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ۝ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ۝ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ۝ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ [سورة البروج:17-20]، بهم.
ثم قال: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ: أي لشدته، وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ: يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ: يقول: كلما أصاب المنافقين من عزِّ الإسلام اطمأنوا إليه، وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِه [سورة الحج:11].
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا -: كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [سورة البقرة:20] أي: يعرفون الحق، ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين، وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي بسنده عن الصحابة وهو أصح وأظهر، والله أعلم.
وهكذا يكونوا يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب  إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك، وأقل من ذلك، ومنهم من يطفأ نوره تارة، ويضيء أخرى، فيمشي على الصراط تارة، ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [سورة الحديد:13].
وقال في حق المؤمنين: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [سورة الحديد:12] الآية، وقال تعالى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة التحريم:8].
ذكر الحديث الوارد في ذلك:
روى ابن أبي حاتم أيضاً عن ابن عباس - ا - قال: "ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا".
وقال الضحاك بن مزاحم: "يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نوراً، فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون، أشفقوا فقالوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا".

هذا المثل الثاني كما يقول ابن كثير: هذا مثل آخر ضربه الله لضرب آخر: بمعنى أن المثل الأول لطائفة من المنافقين، والمثل الثاني لطائفة أخرى من المنافقين.
بطبيعة الحال فإن المثل الثاني على قول ابن كثير ومن وافقه لحال المنافقين أحسن من أصحاب المثل الأول؛ لأن صاحب المثل الأول استوقد ناراً استفاد منها فترة، ثم بعد ذلك انطفأ النور، وانتهى كل شيء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18].
أما صاحب المثل الثاني فنوره يتقطع أي: يضيء له تارة ثم ينطفئ، ثم يضيء ثم ينطفئ وهكذا، فصاحبه يسير سيراً متعثراً.
وعلى كل حال فإن منشأ ذلك الكلام في "أو"  أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء إضافة إلى ما تضمنه هذا المثل من الفروقات عن المثل الأول.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فـ "أو" كما هو معلوم، تأتي لمعان متعددة، فتأتي للشك - وهذا غير مراد هنا - فأنت تقول: سافر زيد الليلة أو قبلها، فهنا أتت "أو" للشك، وتأتي للتخيير فتقول: خذ هذا أو هذا، كما أنها تأتي أيضاً للتسوية بين الأمرين، تقول مثلاً صاحب زيداً أو عمراً فهذه تفيد التسوية، بمعنى أنك لا تشك في هذا، وتأتي عاطفة بمعنى الواو تماماً كما قال القائل:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر   نفسي تقاها أو عليها فجورها
يعني وعليها فجورهاً.
ومثل ذلك قول القائل:
نال الخلافةَ أو كانت له قَدَراً   كما أَتَى ربَّه موسى على قَدَر
فـ"أو" بمعنى الواو، أي: نال الخلافةَ وكانت له قدراً، كما أتى ربه موسى على قدر.
فهذا المثل الذي ذكره الله تعالى - الأقرب والله تعالى أعلم - أن ذلك جميعاً في صفة المنافقين، وليس في طائفة أخرى منهم، فضرب الله لهم المثل الأول بالذي استوقد ناراً ثم انطفأت، فهم انتفعوا بعض الانتفاع مدة مؤقتة في الدنيا ثم ذهب ذلك جميعاً عنهم، وأبصروا الحقائق، وعرفوا ما هم فيه، ولم ينفعهم ذلك الإيمان.
والمثل الثاني لحالهم مع حجج القرآن، وبراهينه، وبيِّناته قال تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء الصيب: المطر، من صاب يصوب إذا نزل، والله مثل القرآن، والوحي بالمطر النازل من السماء، ويسمى ذلك بالمثل المائي قال تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [سورة الرعد:17]، وذلك مثل لقلوب العباد يأخذ منهم، وينتفع كل بحسبه.
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا: سالت أودية بقدرها هذا وادٍ كبير، وهذا وادٍ صغير، وهذا إخاذ، وهذا لا يجتمع فيه الماء إطلاقاً، هذه أرض سبخة، وهذه غيرها، فهكذا قلوب العباد أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا [سورة الرعد:17] وهذا هو الغثاء.
ثم ذكر بعد المثلِ المائي المثلَ الناري فقال تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ [سورة الرعد:17] فالذهب مثلاً الذي يدخل في النار، يذهب شوبه، ويبقى خالصه، وهكذا الأمر في هذه الحياة الدنيا الله يقلب العباد، وينقيهم، ويصفيهم؛ فلا يبقى إلا الصحيح الخالص، ويذهب الغثاء والشوائب كالزبد الذي يحمله الماء، فالله - جل وعلا - في مواضع كثيرة يشبه الوحي بالمطر النازل من السماء، فهنا قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء أي: المطر، فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [سورة البقرة:19]: الرعد زواجر القرآن، والبرق: حجج القرآن، وبراهينه؛ تكاد تخطف أبصار هؤلاء المنافقين العمي، فهي حجج بيِّنة واضحة، وساطعة وباهرة لا خفاء فيها.
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [سورة البقرة:20]": كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ": هذا هو حال المنافق، فإذا جاءت الأمور على وئام، وسعة، وغنائم، وانتصارات؛ فخذ من هذا الكلام الجميل، حيث يقوم عبد الله بن أبي عند المنبر يوم الجمعة، أيها الناس: لقد منَّ الله عليكم بهذا النبي، فاتبعوه، وأطيعوه، يقول هذا قبل أن يصعد النبي ﷺ المنبر، وذلك كل جمعة، وفي السفر، وفي وقت الشدة يقول: أوَقد فعلوها، والله ما مثلنا ومثل هؤلاء كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وقال: لقد أبلغتكم، وأنذرتكم؛ أنتم آويتموه، وأطعمتموه، فكاثروكم في بلادكم - يعني المهاجرين كانوا أكثر من الأنصار -، فلو تركتموهم لطلبوا بلاداً أخرى، قاطعوهم لا تعطوهم لا تسكنوهم، لا تعطوهم شيء، دعوهم يبحثون عن بلد آخر ينتقلون إليها، ويشهد لهذا فضح القرآن لهم مقولتهم: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7] يعني من أجل أن ينفضوا عنه، فهذا حل طرحه لهم وهو أن يتخلصوا من هؤلاء المهاجرين، لكن وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة المنافقون:7] فهو كان يظن بهذا أنه سينهي الإسلام والدعوة.
فنحن حينما نريد أن نعرف صورة هذا وأمثاله نأتي بمقاطع السور جميعاً من هنا وهناك، ونركبها مع بعض فيتضح لنا من هو عبد الله بن أبي بن سلول وأتباعه.
فهذا مثل لطائفة واحدة وهي طائفة المنافقين، هناك ذكر ما يحصل لهم الانتفاع في الدنيا بادعاء الإسلام، وهنا ذكر حالهم في سيرهم في هذه الحياة، فحينما يسمعون القرآن، وما فيه من الزواجر؛ فهذه كالصواعق، إذا بالتصرف الأحمق يصدر منهم بأن يجعلوا أصابعهم في آذانهم كالإنسان الذي يخاف من الصاعقة أو من صوت الرعد، فيجعل إصبعه في أذنه، فيا ترى هل إذا وضع أصبعه في أذنه ترد الصاعقة عنه إذا جاءت؟ لا تردها، لكنه يتصرف مثل هذا التصرف الأحمق ليخفف عن نفسه.
في الأمس القريب حدثني ولدي الذي هو في ثاني ابتدائي عن زميل له - أكرمكم الله - تبول على نفسه، فجلس زملاؤه تعلو أصواتهم يعيرونه، ويعيبونه؛ فماذا صنع المسكين؟
وضع أصابعه في أذنيه، وجلس يصدر أصوات من فمه من أجل أن لا يسمع!! يا ترى هل هذا سيغير من الحال شيئاً؟
مثل هذا بعض العجائز إذا ركبت في السيارة، وشعرت أن السيارة مسرعة؛ فهي طول الوقت متمسكة بها بقوة، وتهدد أنه إذا ما خففتم السرعة فإني سأتركها!! يا ترى هل إمساكها لها ينهي شيئاً من الموضوع؟
كذلك هؤلاء يجعلون أصابعهم في آذانهم - والمقصود رؤوس الأصابع - من أجل خوفهم من السماع.
فهذه زواجر القرآن، والبرق: هو حجج القرآن، وبراهين الحق، تكاد تخطف أبصار هؤلاء حذر الموت، واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [سورة البقرة:19].
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [سورة البقرة:20]: إذا جاءت الأمور السهلة فهم ما شاء الله، و إذا جاءت الشدة انتكسوا كما حصل في الأحزاب، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ۝ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ۝ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [سورة الأحزاب:12-14]: لو دخل الأحزاب المدينة، وطُلِبَ منهم أن يكفروا مباشرة سيرتدون، وسيتسابقون إلى ذلك، وهكذا هم إذا غلبوا تهافتوا على الكفر.
فتبصروا لمعرفة مثل هذه الأمور؛ فإن ذلك يخفف على الإنسان كثيراً من الهم مما يراه من تساقط، وتسارع، وضلال؛ إذا غَلب الكفار، وهذا ليس بشيء جديد بل هذا أمر قديم، ولله في هذا حكمة.
فالحاصل أن المثَلين - والله تعالى أعلم - كلاهما في المنافقين، وليس هذا في طائفة، وهذا في طائفة.
أقسام القلوب:
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، فسراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص أعرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه وهذا إسناد جيد حسن.

فإن وجه إيراد الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لهذا الحديث عند تفسير هذه الآية هو أن المثَلين المضروبين للمنافق في قوله سبحانه: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17-18].
والثاني في قوله سبحانه: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19]، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [سورة البقرة:20].
فالأول: هو حال المنافق الخالص بحيث أنه لا رجاء فيه، ولا رجعة له، وقد أغلق منافذه جميعاً فهو لا ينتفع بموعظة، ولا بوحي، ولا بغير ذلك.
والثاني: يبين أن هؤلاء إذا أضاء لهم يكاد البرق يخطف أبصارهم، كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا.
فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرى أن كلَّ مثل من هذين المثلين لطائفة غير الطائفة الأخرى، فالمثل الأول كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً: هو مثل للمنافق الخالص الذي طبع على قلبه، فوصفهم الله بالصمم، والبكم، والعمى.
والمثل الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ: كالمطر، فهو يقول: هؤلاء كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا، فهذا مثل لطائفة أخرى من المنافقين - عند الحافظ ابن كثير -، والمراد بهم من تستقيم حالهم تارة، وتنتكس أخرى، فإذا أصابتهم النعمة، والأمن، والرخاء؛ صلح حالهم، وسكنوا إلى الإسلام، واطمأنوا إليه، وإذا أصابتهم شدة، ونكبة؛ نجم النفاق، وانتكسوا كالذي يعبد الله على حرف، فمثل هؤلاء تارة هكذا، وتارة هكذا بحسب الحال، وهذا على قول الحافظ ابن كثير أن كل مثل لطائفة مغايرة من المنافقين؛ فالأول أشد، والثاني من كان تارة وتارة.
وطائفة من أهل العلم كما سبق يرون أن المثلين المائي: أَوْ كَصَيِّبٍ [سورة البقرة:19]، والناري: الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] كلاهما في طائفة واحدة، وهم أهل النفاق، وسبق الكلام على معنى المثلين.
وعلى كل حال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أورد هذا الحديث ليدلل به على ما قال من أن المنافقين على نوعين:
النوع الأول: هذا الذي وصفه النبي ﷺ بأن قلبه منكوس، وهو قلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، ثم ذكر القلب المصفح وهو القلب الذي فيه إيمان ونفاق، وهذا للمثل الثاني على قول ابن كثير، فهو من أجل هذا أورد هذا الحديث.
ولا شك أن النفاق كالكفر ليس على مرتبة واحدة، وإنما هو على مراتب، فالنفاق في الشخص الواحد المعين، تارة يزداد وينقص، كما أنه يتفاوت من شخص إلى آخر، فمن الناس من يكون مغموصاً عليه بالنفاق، ومنهم من يكون بين بين، ومنهم من يكون من ضعفاء الإيمان الذي يحصل له شيء من التردد، والتشكك في بعض الأوقات كما قال الله في سورة الأحزاب لما ذكر أحوالهم قال: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12]، فالذين في قلوبهم مرض هنا عطفوا على المنافقين، فبعض أهل العلم يقول: هذا من أوصاف المنافقين، حيث تتابع الأوصاف كما  في قول الشاعر:
هو الملك القرم وابن الهمام   وليث الكتيبة في المزدحم
يعني هي أوصاف متعددة لشخص واحد، فالمنافقون والذين في قلوبهم مرض هم طائفة واحدة عند بعض أهل العلم، وعند بعضهم أن الأمر يختلف، فالمنافقون هم المنافقون، والذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان، لما حصلت الشدة والحصار حصل لهم تزلزل، وتشكك بوعد الله .
فعلى كل حال هذا تحتمله الآية، ولا شك أن النفاق يتفاوت، ومن قال بأن المثلين لطائفة واحدة هي طائفة المنافقين فهو يصور أحوالهم، وهذا لربما يكون هو المتبادر، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:20] روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قال: لما تركوا من الحق بعد معرفته.
إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال ابن عباس: أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير.
أي أن قوله تعالى: إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ متعلقة بما قبلها، وهنا عمم المعنى تعميماً ليس مطلقاً وإنما متوسطاً، بحيث إنه ما قال: إن الله على كل شيء قدير أي بإذهاب سمعهم، وأبصارهم، هذا هو ربط خاتمة الآية بما ذكر فيها، وما تضمنته من ذهاب سمعهم، وأبصارهم، فهنا قال: على ما أراد بعباده من نقمة، أو نعمة، ومن ذلك: إذهاب السمع والأبصار، وإذا عممتها تعميماً مطلقاً تقول: إن الله على كل شيء قدير كما هو ظاهر اللفظ من حيث هو، أي: على كل شيء قدير فيما يتعلق بالخلق، والتدبير، وما يتعلق بالعذاب، والإنعام وغير ذلك، فهو كذلك.
على كل حال إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: لا شك أن مما يدخل بذلك دخولاً أولياً هو الذهاب بسمعهم وأبصارهم.
وقال ابن جرير إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع؛ لأنه حذر المنافقين بأسه، وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير.
هذا الذي يسمونه بالمناسبة علم المناسبات من أنواعه ما يكون في الربط بين خاتمة الآية وبين موضوعها.
لماذا قال في خاتمة الآية هنا: إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟
يقال: هذا نوع من علم المناسبات، إذ أنه  لما ذكر وعيده بالذهاب بسمعهم، وأبصارهم؛ ذكر قدرته الكاملة، وأن ذلك لا يعجزه، فهذا لون من المناسبات.
كذلك ختم الآيات كما هو معلوم بالأسماء الحسنى كما في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة المائدة:38] فهذا في غاية المناسبة.
وهناك أشياء قد تشكل ولربما عرضنا لبعضها في بعض المناسبات مثل قوله تعالى: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118] والجواب عنها معروف، ذكرته في المرات السابقة، أو في بعض الدروس.
وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين، وتكون "أو" في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء بمعنى الواو، كقوله تعالى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [سورة الإنسان:24].
يعني لا تطع منهم آثماً أو كفوراً، لا تطع منهم آثماً ولا كفوراً، نعم، لا تطع لا هذا، ولا هذا؛ لأن "أو" تارة تكون للتخيير والإباحة، وتارة تكون للتقسيم، وتارة تكون بمعنى الواو.
تارة تكون للتقسيم مثل قول الله : وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:135] فليس هذا للتخيير قطعاً؛ لأن اليهود لا يمكن أن يقولوا: كونوا نصارى تهتدوا، والنصارى لا يمكن أن يقولوا: كونوا على دين اليهود تهتدوا؛ لما بينهم من الخلاف، والشر، والعداوة، ولكن هذه للتقسيم، وقالت اليهود كونوا هوداً تهتدوا، وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا، فهي للتقسيم.
وَقَالُواْ: يعني اليهود، والنصارى، كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى: أي كل طائفة قالت: كونوا كذا تهتدوا، أي على دينها، فإذن "أو" هذه للتقسيم.
وهنا "أو" في قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء ليست للتقسيم على قول ابن جرير، فتكون هنا بمعنى الواو،  يعني أن المثلين لطائفة واحدة، وهي حال أهل النفاق من غير تنويع لهم.
وعلى قول ابن كثير لا تكون "أو" بمعنى الواو هنا، وإنما يمكن أن تكون بمعنى التقسيم، أي أن المثل الأول لطائفة، والمثل الثاني لطائفة أخرى.
أو تكون للتخيير، أي اضرب لهم مثلاً بهذا، وإن شئت بهذا، قال القرطبي: أو للتساوي، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري أن كلاً منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.

أقسام القلوب
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، فسراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص أعرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه وهذا إسناد جيد حسن.
فإن وجه إيراد الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لهذا الحديث عند تفسير هذه الآية هو أن المثَلين المضروبين للمنافق في قوله سبحانه: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17-18].
والثاني في قوله سبحانه: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19]، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [سورة البقرة:20].
فالأول: هو حال المنافق الخالص بحيث أنه لا رجاء فيه، ولا رجعة له، وقد أغلق منافذه جميعاً فهو لا ينتفع بموعظة، ولا بوحي، ولا بغير ذلك.
والثاني: يبين أن هؤلاء إذا أضاء لهم يكاد البرق يخطف أبصارهم، كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا.
فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرى أن كلَّ مثل من هذين المثلين لطائفة غير الطائفة الأخرى، فالمثل الأول كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً: هو مثل للمنافق الخالص الذي طبع على قلبه، فوصفهم الله بالصمم، والبكم، والعمى.
والمثل الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ: كالمطر، فهو يقول: هؤلاء كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا، فهذا مثل لطائفة أخرى من المنافقين - عند الحافظ ابن كثير -، والمراد بهم من تستقيم حالهم تارة، وتنتكس أخرى، فإذا أصابتهم النعمة، والأمن، والرخاء؛ صلح حالهم، وسكنوا إلى الإسلام، واطمأنوا إليه، وإذا أصابتهم شدة، ونكبة؛ نجم النفاق، وانتكسوا كالذي يعبد الله على حرف، فمثل هؤلاء تارة هكذا، وتارة هكذا بحسب الحال، وهذا على قول الحافظ ابن كثير أن كل مثل لطائفة مغايرة من المنافقين؛ فالأول أشد، والثاني من كان تارة وتارة.
وطائفة من أهل العلم كما سبق يرون أن المثلين المائي: أَوْ كَصَيِّبٍ [سورة البقرة:19]، والناري: الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] كلاهما في طائفة واحدة، وهم أهل النفاق، وسبق الكلام على معنى المثلين.
وعلى كل حال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أورد هذا الحديث ليدلل به على ما قال من أن المنافقين على نوعين:
النوع الأول: هذا الذي وصفه النبي ﷺ بأن قلبه منكوس، وهو قلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، ثم ذكر القلب المصفح وهو القلب الذي فيه إيمان ونفاق، وهذا للمثل الثاني على قول ابن كثير، فهو من أجل هذا أورد هذا الحديث. ولا شك أن النفاق كالكفر ليس على مرتبة واحدة، وإنما هو على مراتب، فالنفاق في الشخص الواحد المعين، تارة يزداد وينقص، كما أنه يتفاوت من شخص إلى آخر، فمن الناس من يكون مغموصاً عليه بالنفاق، ومنهم من يكون بين بين، ومنهم من يكون من ضعفاء الإيمان الذي يحصل له شيء من التردد، والتشكك في بعض الأوقات كما قال الله في سورة الأحزاب لما ذكر أحوالهم قال: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12]، فالذين في قلوبهم مرض هنا عطفوا على المنافقين، فبعض أهل العلم يقول: هذا من أوصاف المنافقين، حيث تتابع الأوصاف كما في قول الشاعر:
هو الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
يعني هي أوصاف متعددة لشخص واحد، فالمنافقون والذين في قلوبهم مرض هم طائفة واحدة عند بعض أهل العلم، وعند بعضهم أن الأمر يختلف، فالمنافقون هم المنافقون، والذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان، لما حصلت الشدة والحصار حصل لهم تزلزل، وتشكك بوعد الله .
فعلى كل حال هذا تحتمله الآية، ولا شك أن النفاق يتفاوت، ومن قال بأن المثلين لطائفة واحدة هي طائفة المنافقين فهو يصور أحوالهم، وهذا لربما يكون هو المتبادر، والله تعالى أعلم.
مرات الإستماع: 0

"يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] الخطف: أخذ الشيء بسرعة، واختلاسه بسرعة يقال له: خطف.

"كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة:20]، إن رجع إلى أصحاب المطر، فالمعنى أنهم يشمون بضوء البرق، [وفي نُسخة في ضوء البرق] إذ لاح لهم، وإن رجع إلى المنافقين، فالمعنى: أنه يلوح لهم، [وفي نُسخة فالمعنى أنهم يلوح لهم] من الحق ما يقربون به من الإيمان".

بالنسبة لصاحب البرق هذا الذي يمشي في المطر، وشبه المنافقين بصاحب الصيب الذي يمشي بهذه الحال، كلما أضاء لهم مشوا فيه، هذا الذي يمشي في الظلام، فإذا أضاء له البرق مشى خطوات، ثم توقف مُتحيراً، بالنسبة لهؤلاء الذين ضُرب لهم المثل، يعني إذا ظهر لهم نور الحق في قلوبهم مشوا على ضوئه، وخطوا خطوات، لكنها خطوات يسيرة، لا يستقر في قلوبهم ذلك، هذه القلوب المُظلمة بالكفر، والنفاق، والشكوك، والشبهات، فلا يلبث أن ينطفأ فيقفوا حائرين، فيكون البرق كلما أضاء لهم مشوا فيه، كلما حصل لهم شيء من الإفاقة عرفوا الحق، وحصل شيء من الاطمئنان، وبعض أهل العلم يقولون: كلما أضاء لهم، كل ما حصل لهم شيء من الخير، يعني: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج: 11] فهؤلاء إذا حصل لهم غنيمة حصل لهم أشياء محبوبة، قالوا: هذا دين خير، وهذا دين ميمون مُبارك، وإذا حصل لهم قحط، أو نكبة، أو ما إلى ذلك من المكاره، داهمهم العدو، أو نحو ذلك، أو وقع عليه قتل، وجراح، قالوا: هذا دين مشؤوم، وأين النصر الذي وعدنا به؟ وأين خيرات الدنيا، والآخرة؟ وأين كنوز كسرى، وقيصر؟ كما قال المنافقون في يوم الأحزاب مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12] فهم بهذه الحال يُكذبون بالوعد لما ضرب النبي ﷺ الصخرة في الحديث المعروف، وبشرهم بالبشارات الثلاث، وهي قصور كسرى، وقيصر، وصنعاء اليمن، فكانوا يقولون: الواحد لا يستطيع أن يذهب لقضاء حاجته من الخوف[1] وهذا يعدكم بفتح هذه الممالك العِظام!

فهذا إن حصل لهم خير اطمئنوا، وإن حصل لهم مكروه انحسر هذا الخير في قلوبهم، والتصديق، أو نحو ذلك، وعادوا إلى شر حال.

فبعضهم يقول: أضاء لهم مشوا فيه، إن حصل لهم ما يُحبون أقبلوا، وإذا وقع ما يكرهون تراجعوا، وبعضهم يقول: يحصل لهم شيء من الإيمان، وبعضهم يقول: إذا تكلموا بالإيمان، فهذا كلما أضاء لهم مشوا فيه، فإذا رجعوا إلى حالهم من الكفر، أو الشك، إذا أظلم عليهم قاموا، فهذا تجدها عبارات لابن عباس - ا - وغيره، وهذا محملها، وهي عبارات متقاربة، نطقوا بالإيمان، أو أضاء الإيمان في قلوبهم، أو عرفوا من الحق، أو، وقع لهم ما يطمئنون به من المحاب، فكل هذا فُسر به كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة:20] وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ [البقرة:20] انقشع ذلك، وارتفع، سواء كانت هذه المحاب، أو المعرفة التي حصلت، أو النطق بالحق، والإيمان، ثم بعد ذلك يعقبه الشك، والكفر.

"وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم إذا زال عنهم الضوء، وقفوا متحيرين لا يعرفون الطريق، وإن رجع إلى المنافقين فالمعنى أنه إذا ذهب عنهم ما لاح لهم من الإيمان ثبتوا على كفرهم، وإن قيل: إن المعنى كلما صلحت أحوالهم في الدنيا، قالوا: هذا دين مُبارك، فهذا مثل الضوء، وإذا أصابتهم شدة، أو مُصيبة عابوا الدين، وسخطوا، [وفي نُسخة، وسخطوه] فهذا مثل الظُلمة".

سخطوه هذه أدق، وإن كانت الأولى أيضاً لا إشكال فيها.

"فإن قيل: لم قال مع الإضاءة (كلما)، ومع الظلام (إذا)؟

فالجواب: أنهم لما كانوا حِراصاً على المشي ذكر معهم (كلما) لأنها تقتضي التكرار، والكثرة".

هذا ملحظ بلاغي، يعني كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] فهم لحرصهم على المشي جاء بما يدل على التكرار، وهي (كلما).

ومن الأخطاء الشائعة تكرار كلمة (كُلما) فكثيراً ما نقول مثلاً: كلما كنت مُجداً كلما كنت مُدركاً لأسباب الفلاح، أو مُحصلاً لأسباب الفلاح، أو: كلما كنت يقظاً كلما كنت أقرب إلى النجاة، وهذا غير صحيح، والصواب: أن تقول: كلما كنت يقظاً كنت أقرب إلى النجاة، وتقول: كلما كنت مُجداً كنت أقرب إلى الفلاح، يعني: لا تُعد كلمة (كُلما) في الجواب، فالأشياء التي نُرددها، والخطباء يقولونها كثيراً: كلما أمعنا في هذا الأمر كلما ازددنا فيه تحيراً، والصواب: كلما أمعنا في هذا الأمر ازددنا فيه تحيراً.

"وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ [البقرة:20]... الآية، إن رجع إلى أصحاب المطر، فالمعنى: لو شاء الله لأذهب سمعهم بالرعد، وأبصارهم بالبرق، وإن رجع إلى المنافقين، فالمعنى: لو شاء الله لأوقع بهم العذاب، والفضيحة، وجاءت العبارة عن ذلك بإذهاب سمعهم، وأبصارهم، والباء للتعدية، كما هي في قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]".

 

هذا تهديد، ووعيد من الله - تبارك، وتعالى - بإذهاب سمعهم، وأبصارهم عقوبة لهم على نفاقهم، يقول: "إن رجع إلى أصحاب المطر، فالمعنى: لو شاء الله لأذهب سمعهم بالرعد، والبرق"... إلى آخره، أي الذين يتخوفون، ويضعون الأصابع في الآذان، "وإن رجع إلى المنافقين، فالمعنى: لو شاء الله لأوقع بهم العذاب، والفضيحة".

وبعضهم يقول: لو شاء الله لذهب بسمعهم، وأبصارهم حقيقة، عقوبة لهم، يعني: كما أنهم لم ينتفعوا بها، فإن ذلك أيضاً يُسلب منهم حقيقة، يعني: في الحاسة نفسها، يقول: "جاءت العبارة عن ذلك بإذهاب سمعهم، وأبصارهم، والباء للتعدية، كما هي في قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]" يعني: ذهب به، ذهب يُعدى بالباء، ذهب بسمعهم يعني كأنه سلبه، أو أخذه. 

  1.  بنحوه أخرجه أحمد ط الرسالة (30/625 - 18694)، والطبراني في المعجم الكبير (11/376 - 12052).

مرات الإستماع: 0

الله -تبارك وتعالى- يذكر فيها أوصاف المنافقين، وبعد أن تم ذكر تلك الأوصاف، بين الله -تبارك وتعالى- حقيقة الحال التي اختاروها لأنفسهم، وأن هؤلاء الذين كانوا يعتقدون أنهم على شيء من الحصافة والفِطنة، وأن أهل الإيمان هم السفهاء أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:13] فالله -تبارك وتعالى- يقول عنهم هنا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16] هؤلاء أهل النفاق باعوا أنفسهم في صفقة خاسرة، فاختاروا الكفر، وتركوا الإيمان، فكانت صفقتهم في غاية الخسارة والغبن، وهذا هو الخُسران الحقيقي، وهؤلاء أبعد ما يكون الواحد منهم عن الاهتداء، وهذه حاله.

تأمل قول الله -تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16] جاء هنا بالإشارة إلى البعيد؛ لبُعد حال هؤلاء عن الهدى؛ لأنهم في منزلة من السفول والانحطاط سحيقة، فجاءت الإشارة بذلك، كما يقول بعض أهل العلم، والعلم عند الله تعالى.

ثم تأمل كيف عبّر عن هذه الحال بأنهم اشتروا، فالله -تبارك وتعالى- قد سمى المُعاملة معه تجارة فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [سورة البقرة:16] هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الصف:10] وسمى ذلك بيعًا فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [سورة التوبة:111] وسماه تجارة، وسماه شراء اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [سورة البقرة:16] اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ [سورة آل عمران:177].

وكذلك أيضًا سمى الخسارة في هذه المعاملة سماها خسارة، وسمى يوم الجزاء والحساب: بيوم التغابن، والغبن في الأصل إنما يكون في البيع والشراء ونحوهما.

فهؤلاء كانوا في غاية الغبن؛ وذلك أن ربنا -تبارك وتعالى- أعطى كل واحد رأس مال، هذه الأنفاس، هذا العمر ليتجر مع ربه -تبارك وتعالى- بالأعمال الصالحة، فهؤلاء جدوا واجتهدوا في تحصيل المنازل، في الدرك الأسفل من النار، وأهل الإيمان جدوا واجتهدوا في تحصيل المنازل العالية في الجنة، فدخل أهل الإيمان الجنة، وأيضًا أورثهم الله -تبارك وتعالى- منازل أهل النار التي في الجنة، وأولئك أدخلهم الله النار، وأورثهم أيضًا منازل أهل الجنة التي في النار.

فهذا لا شك أنه غاية في الغبن، فهؤلاء أهل النفاق رغبوا في الضلالة رغبة المشتري للسلعة، الذي يكون من رغبته فيها أنه يبذل فيها الأثمان والأموال، وهذا تصوير لشدة إقبالهم على الضلال والكفر والانحراف، فجعل الضلالة التي هي غاية الشر كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [سورة البقرة:16].

مع أن هؤلاء لم يكونوا على هدى، فبذلوه مُقابل أخذ الضلالة، ولكن من أهل العلم من يقول: إن ذلك بتركهم نور الفطرة، فكل مولود يولد على الفطرة، وأحسن من هذا -والله تعالى أعلم- أن يُقال: إن إيثارهم الضلالة على الهدى هو بهذه المثابة اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فهذا الاختيار منهم والإيثار للضلالة هو بمنزلة الاشتراء، وإنما يشتري الإنسان ما يرغب فيه، فهؤلاء لما كانت فِطرهم قد تدنست، وفسدت، صارت نفوسهم تُقبل على القبائح والرذائل، كالجُعلان تدفع بآنافها النتن، فهذا حيث تنتكس الفِطر.

كما أن هذه الآية أيضًا تدل على الإنسان قد يتصور أنه على حال من التمام والكمال، والاستقامة في الحال والعمل، ولا يشعر بما هو فيه من الإساءة والضياع، فانظر إلى هؤلاء، كيف اشتروا بالضلالة بالهدى؟ ظنًا منهم أنهم على صواب، وأنهم رابحون؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [سورة البقرة:16].

ومثل هذا التركيب يدل على العموم، ما ربحت بحال من الأحوال، وبصورة من الصور، فهم خاسرون خاسرة مُحققة من كل وجه حتى في الدنيا، حيث ظنوا أنهم قد أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم، فهم ينغمسون في الضلالة، وهم مُتحققون بالخسارة، وكذلك أيضًا: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ يعني: بحال من الأحوال.

فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فهم لم يكونوا على شيء من الاهتداء، لا في هذا الاختيار، ولا فيما هم عليه من الاعتقاد، ومع ذلك يرون أنهم أهل معرفة، وحُسن نظر في الأمور، ويصفون أهل الإيمان بالسفهاء.

فهكذا إذا طُمست البصائر يختار الإنسان ما يضره، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر:19] وإذا أنسى الله -تبارك وتعالى- العبد نفسه صار إقباله على ما يضره، فيبذل الأموال فيما يكون فيه ضرره المُحقق، ويكون عمله على غير اهتداء، وسعيه في غي، وانظر فيما تراه، وما تُشاهده في هذه الأوقات، وفي غيرها من الأوقات، كيف تعمى البصائر؟ فيُقدم الإنسان على أعمال وأحوال لا يمكن أن يُقبل عليها من فتح الله بصيرته، وأنار الله قلبه، فقد يبذل مُهجته ونفسه، ويكون في حال من كراهة المنظر، وسوء المُنقلب -نسأل الله العافية- وهو يظن أنه على حق، وعلى اهتداء، وفعله هذا في غاية الفساد والإفساد والشر، وقد يكون ذلك سببًا لفتنة نائمة فيوقظها، والنبي ﷺ يقول: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها [1].

ويظن أنه على خير، وعلى هدى، فتسمع بالعجائب والغرائب، والله -تبارك وتعالى- يهدي من يشاء، ويوفق من يشاء، ويُضل من يشاء، لكن انظروا إلى أثر طمس البصائر، كيف يصنع بأهله وأصحابه؟

ثم بعد ذلك هو لا يتردد في كونه على صواب وهدى وحق، ويرى أهل الحق والإيمان أنهم في غاية السفه.

ثم ضرب لهم المثل، وقد تكلمنا على هذا المثل تفصيلاً في ألفاظه، ومضامينه، ومراميه، ولكن في مثل هذه المجالس إنما يُشار إلى بعض الفوائد والهدايات التي تُستخرج من الآيات.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] هذا مثل ضربه الله لهؤلاء المنافقين بعد أن بين حالهم، وما هم فيه من الخسارة المُحققة، وما هم فيه من مُجانبة الاهتداء.

والمثل تكلمنا عليه تفصيلاً في مجالس، وأن عامة موارد هذه المادة ترجع إلى معنى الشبه، بل إن بعض أهل العلم أعاد ذلك في جميع موارده إلى معنى الشبه، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وخلق من أهل العلم قبله وبعده، ولكن على كل حال ليس هذا محل اتفاق إلا إنه الغالب في الاستعمال.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وهذا من الأمثال الصريحة في القرآن، فإن الأمثال في القرآن منها ما هو صريح مُصرح فيه بلفظ المثل، ومنه ما يُذكر فيه أداة التشبيه، ومنه ما لا يُذكر فيه هذا.

فهنا صرح الله -تبارك وتعالى- بأن ذلك من قبيل المثل، وهذا المثل هو أحد المثلين الناريين في كتاب الله -تبارك وتعالى- فهذا الذي في سورة البقرة مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا والمثل المائي هو الذي بعده أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [سورة البقرة:19] إلى آخر ما ذكر الله .

وذكر المثلين أيضًا المائي والناري في قوله: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ثم ذكر المثل الناري بعده وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ [سورة الرعد:17] فهذا في ضرب الحق والباطل، وما هنا في سورة البقرة هو في بيان حال هؤلاء المنافقين على خلافًا بين المُفسرين، هل هذان المثلان لطائفة واحدة في أحوال مختلفة، أو أن ذلك لنوعين وفئتين من المنافقين.

فالله -تبارك وتعالى- يقول: مَثَلُهُمْ حال هؤلاء الذين أظهروا الإيمان، ولم يكن ذلك في قلوبهم بأنهم بهذه المثابة كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا هذا إنسان في مكان مُظلم، فاستعار نارًا استوقدها، ثم بعد ذلك فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ وانتفع بهذه الإضاءة ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] فبقوا في الظلام بعد أن انتفعوا بهذا النور شيئًا من الوقت.

تأمل في هذا المثل المضروب لهؤلاء مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا "استوقد" السين والتاء للطلب، يعني: كأن هذا قد استعاره من غيره فهو لا يكون نابعًا من داخله وإنما هو شيء اجتلبه اسْتَوْقَدَ نَارًا فهؤلاء أهل النفاق هم لا يملكون الإيمان، ولم يتحققوا به، وإنما هو شيء ادعوه فهو خارج عن ذواتهم،  اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لاحظ ما أضاءت قلوبهم، ونفوسهم، ودواخلهم، وإنما أضاءت ما حوله، فجعل هذا خارجًا عنهم مُنفصلاً عن ذواتهم، ولو اتصل الضوء بهم ولابسهم؛ فإنه يبقى، ويستنير به القلب، ويتحقق بذلك الإيمان، ولكنه ضوء مجاورة لا مُلابسة ومُخالطة، فهو ضوء عارض، والظُلمة أصلية ثابتة في نفوس هؤلاء وقلوبهم.

فلما انكشفت الحقائق رجع الضوء إلى معدنه، والظلمة إلى معدنها، فـذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ [سورة البقرة:17] بقوا على الأصل، انتفعوا بعض الوقت بهذه الدعوى -دعوى الإيمان- فحصل لهم من حقن الدماء وإحراز الأموال، فذهب ذلك النور، وبقيت الظلمة.

وتأمل التنكير في قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا قد يُفهم من هذا التنكير التعظيم استوقد نارًا عظيمة فانتفع بها، فدعوى الإيمان هذه التي ادعوها هي دعوة كبيرة، لكنها لا تُمثل حقيقة في نفوس هؤلاء.

ثم إن ذلك أيضًا يدل على أن الإيمان له نور، لكن هذا النور لم يكن في نفوس هؤلاء، وإنما كان من حولهم، فإن الإيمان يحصل به استنارة القلب، ويحصل به من المنافع في الحياة الدنيا، وفي البرزخ، وفي القيامة وفي الجنة، ويكفي ما جاء في ذلك من أنه: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان [2] وفي رواية: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه [3] هذا الإيمان الصحيح المُنجي.

فهؤلاء ليس في قلوبهم شيء من الإيمان فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ إذًا لم يكن ذلك في قلوبهم ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لاحظ "استوقد نارا"، ثم لم يقل ذهب الله بنارهم قال: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ لم يقل ذهب بضوئهم، وإنما قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فهذه ثلاثة أشياء: النار التي استوقدوها، فالنار فيها الإحراق وفيها أيضًا الضياء، فهذا النور الذي يكون معه حرارة يُقال له ضوء هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [سورة يونس:5] فهذا النور الذي يكون من الشمس يُقال له ضياء؛ لأن معه حرارة، ولهذا قال النبي ﷺ: الصلاة نور. .. والصبر ضياء [4] الصبر لما فيه من الحرارة، وأما الصلاة فهي نور، ليس فيها حرارة وجُعلت قُرة عيني في الصلاة [5] قُرة العين، القُرة البرودة، قرت عينه كما ذكرنا في بعض المُناسبات أنه حينما يفرح الإنسان يحصل له بسبب ذلك شيء من برودة القلب، والجوف، وتكون دموع الفرح باردة، وأما إذا كان الإنسان في حال من الحُزن فإنه يشعر بحرارة في جوفه، وتكون دموع الحُزن ساخنة، بل إنه يجد مع الحُزن السخونة في نفس العين، يجد فيها حرارة.

فهنا اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ أثر هذه النار هو الضوء؛ لأن فيه حرارة، ما الذي ذهب؟ لم تذهب النار، ولم يذهب الضوء، وإنما ذهب النور فقط، فالنور من غير حرارة ولا إحراق، فذهب النور، وبقيت الحرارة والإحراق -نسأل الله العافية- انظر إلى حال هؤلاء، وهذا من استهزاء الله -تبارك وتعالى- بهم، يذهب النور، وتبقى الحرارة، لو قال: ذهب الله بضوئهم، فإنه يذهب الحرارة وكذلك أيضًا النور، لو قال: ذهب الله بنارهم تذهب الحرارة ويذهب النور، ولكنه قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ.

إذًا: ما الذي بقي حينما ذهب النور؟ بقي الإحراق والحرارة.

هكذا كل من تمتع بشيء يبذل في سبيله دينه، ولكنه يكون من سخط الله -تبارك وتعالى- ومُحادته وحرب أوليائه، فإنه يتمتع به قليلاً بمال أو وظيفة أو جاه، أو نحو ذلك، لكن سُرعان ما يذهب هذا النور، ثم بعد ذلك تبقى الحرارة والإحراق، يبقى عليه ذلك سُبة في الدنيا وعذابًا في الآخرة، إن لم يغفر الله له.

ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] ولاحظ هنا أن الله -تبارك وتعالى- قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فوحد النور لكن الظلمات وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ تركهم في ظلمات جمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والضلالات كثيرة جدًا، ومن أزاغ الله -تبارك وتعالى- قلبه لم يُبال به بأي وادٍ هلك، فقد يركب أي ملة، أو نِحلة أو ضلالة، لكنه في النهاية سالك طريق الغواية، والشر والضلال، والانحراف الذي يؤدي به إلى سخط الله ومقته وعذابه، فطُرق الضلال كثير وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ.

وبهذا نعرف أن الطريق الموصل إلى الله واحد، ومن أراده فعليه أن يتبع، ويلزم الصراط المستقيم الذي رسمه الله لعباده من أجل سلوكه.

وتأمل في قوله -تبارك وتعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [سورة البقرة:257].

ثم أيضًا تأمل ما ذكره الله -تبارك وتعالى- هنا: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] قد يكون الإنسان في ظُلمة لكنه يُبصر معها إبصارًا ضعيفًا أما هؤلاء في عمى تام، نفى عنهم الإبصار بالكلية؛ لئلا يتوهم أن هذه الظلمات يكون معها شيء من الإبصار، وهذا يُبين حال هؤلاء أهل النفاق، وكذلك أيضًا حال أهل الكفر فهم يتخبطون في ظلمات.

وقد ضرب الله المثل لهذه الظلمات كما في سورة النور أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [سورة النور:40] هذه ظلمة القلب، وظلمة الكفر، وظلمة الطبع، وظلمة المعاصي، هي ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17].

تأمل قوله -تبارك وتعالى: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [سورة البقرة:17] فهذه الإضاءة التي حصلت هي كما أشرنا في مضامين الكلام في الليلة السابقة هو هذا الانتفاع المؤقت الذي حصل لهم بسبب إظهارهم الإيمان، والإتيان بحرف الجر الباء ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يُشعر أن هؤلاء لم يبق لهم شيء من ذلك النور، ولا مطمع لهم فيه بحال من الأحوال، ذهب الله بنورهم، ذهب به بالكلية، لم يُبق لهم شيئًا، ولذلك انظروا إلى هذا التعقيب بعده وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] والجزاء من جنس العمل، لما اختار هؤلاء طرائق الظلام، وسلوك المسالك المُنحرفة والمعوجة عاقبهم الله -تبارك وتعالى- بتركهم في ظلمات لا يُبصرون، فسلب عنهم النور، وهذا يقتضي سلب الهداية بالكلية.

فهذه الهداية منحة ربانية، ولها أسباب تكون من العبد، فمن أقبل على أسباب الهداية بصدق ورغبة، وعامل الله -تبارك وتعالى- مُعاملة صادقة لا التواء فيها، ولا اعوجاج؛ فإن مثل هذا يُرجى له أن يُسدد ويوفق ويُهدى، وأما من حاد عن الطريق، واختار مسالك الانحراف والضلال؛ فإن هذا يكون عاقبته سلب النور، والبقاء في حالة من الضلالة يتردد فيها حيث ما توجه.

ثم إن هذا أيضًا فيه إشارة إلى سر انقطاع تلك المعية الخاصة التي تكون لأهل الإيمان، المعية بالحفظ والكلاءة والرعاية، والتسديد، والنصر والتأييد، وما إلى ذلك، فالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، الله مع الصابرين.

فذهاب هذا النور مؤذن بانقطاع معيته؛ لأن الله لا يكون مع هؤلاء من أهل الضلال والظلام، بل هم أعداؤه، والله -تبارك وتعالى- يُنزل بهم بأسه ورجزه وعذابه، فقطع ذلك عن المنافقين، فليس لهم نصيب من قوله -تبارك وتعالى: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [سورة التوبة:40] ولا من قوله: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الشعراء:62].

وإذا انقطع العبد عن ربه -تبارك وتعالى- وانقطع عنه ذلك المدد من النور والهدى فلا تسأل عن حاله بعد ذلك، ولذلك ينبغي على العبد أن يخاف من الزيغ، وأن يتباعد من أسباب الغي والضلال جاهدًا؛ وذلك بالبُعد عن أصول الشر التي ترجع إلى أصلين معروفين: الشبهات، والشهوات، ولهذا قالوا: من عرض نفسه للفتنة أولا، لم ينجُ منها آخرا، الذي يُعرض نفسه للفتنة فتنة الشبهات، فيتتبع هنا وهناك، ويقرأ ويُتابع حسابات في وسائل الاتصال هذه، التي اُبتلي بها الناس في مثل هذه الأوقات، أو يتتبع المواقع والمدونات التي تُثير الشبهات وتُشكك في الإيمان، وتُزعزعه في النفوس، أو تدعوا إلى أنواع الضلالات وتُزينها؛ فإن مثل هذا لا يؤمن عليه من أن يزيغ قلبه، قد يكون في البداية يُريد النظر، ويكون ذلك من غلبة الفضول، فيكون كالعابث، لكنه ما يفتأ أن يتسلل ذلك إلى قلبه، ثم بعد ذلك لا يستطيع الخروج والخلاص منه، قد يقع في الإلحاد، قد يشك في ثوابت الإيمان، قد يقع في بدعة وضلالة من الضلالات.

وكذلك أيضًا أبواب الشهوات، حينما يُعرض نفسه لهذه الشهوات فينظر إلى هذه الصورة، أو يدخل في مواقع سيئة؛ فإن قلبه قد يُقلب، فيضل ويُريد أن يرجع ويتوب، ولكنه لا يستطيع، من عرض نفسه للفتنة أولا لم ينجُ منها آخرا، فيبتعد الإنسان عن الشر، وأسباب الشر، وأسباب الغي، وأسباب الضلال، ويسأل ربه أن يُثبت قلبه على الحق، وأن يهديه، وأن يدله على مرضاته، وأن يسلك به صراطه المستقيم، فإن الموفق من وفقه الله .

ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة:17] قد يظن الظآن، أو يتوهم المتوهم أن هؤلاء من المنافقين قد تُركوا فسلموا في الدنيا، ولكن الواقع أنهم لم يسلموا، يكفي في مُصابهم أن الله -تبارك وتعالى- سلب عنهم النور، نور الهداية، وأن الله -تبارك وتعالى- قد تركهم في ظلمات لا يُبصرون، فهذا الترك يعني أن الله -تبارك وتعالى- قد تخلى عنهم، تخلى عنه هداية هؤلاء، وعن إنزال ألطافه بهم، فصاروا في حال من الضياع والتيه، فلم يرجع هؤلاء إلى حق ولم يشعروا بما هم فيه من الباطل.

فإذا ترك الله العبد ونفسه، فلا تسأل عن حاله بعد ذلك، الغي، والضلالة، والانحراف، والضياع بكل ما تحمل هذه العبارة من معنى ودلالة، الضياع بجميع صوره وأحواله.

هذا التشبيه بصاحب النار الذي استوقدها، يكون باعتبار أن انتفاع هؤلاء في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وأن عذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده، هذا ذكره بعض أهل العلم وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ.

وذكر بعضهم: أن استخفاء كفرهم كالنور، وأن فضيحتهم كالظلمة، وذكر آخرون: أن ذلك فيمن آمن منهم ثم كفر فإيمانه نور، وكفره بعده ظلمة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [سورة المنافقون:3] والذي يظهر والله أعلم، أو ما يُمكن أن يُقال: لو قاله قائل أنه قريب أن هؤلاء -كما سبق- إنما ادعوا دعوى لا حقيقة لها، وهذا الإيمان لم يصل إلى قلوبهم، فذلك كالذي استعار هذه النار فأضاءت ما حوله وما أضاءت نفسه، وما استنار قلبه وباطنه، ثم بعد ذلك انتفع فيها بعض الانتفاع، حقن دمه، وأحرز ماله، ثم بعد ذلك سُلب هذا النور، فبقي الإحراق، وذهب الإشراق، ذهب النور، وبقيت الظلمة والحرارة والنار، حرارة النار، والظلام وذهب عنه النور الذي يُبصر به الأشياء، فدل ذلك على عمى هؤلاء المنافقين، فإن الضلال يكون عمى -كما هو معلوم- وقد وصف الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الضُلال في كتابه بأنهم عُمي صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [سورة البقرة:18] فهذه الأبصار إنما يُبصرون بها المُتشخصات، لكنهم لا يُبصرون بها الحقائق، والبصر الحقيقي هو بصر القلب.

إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهن نور
عقلي ذكي وقلب غير ذي دغل وفي فمي صارم كالسيف مشهور
إذا رزق الله المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير

فالعمى عمى القلب، وليس عمى البصر، ولهذا عقب الله ذلك بهذه الآية: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18].

هؤلاء وصلوا إلى حال من الغي والضلال فطبع على قلوبهم، فصاروا بهذه المثابة، فهم صُم عن سماع الحق، لا ينتفعون به، بُكم عن النُطق به، عُمي عن إبصار الهُدى، مهما كان ظهور أعلامه، وبراهينه وشواهده، فهم يعمون عن ذلك كله، ومن كان بهذه المثابة لا يرجع إلى الإيمان، ولهذا قال: فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18] لا يرجعون إلى الحق، فإذا خوطبوا، إذا وجه إليهم الخطاب، فإن هذا الخطاب يطرق أسماعًا قد صُمت، وحينما تظهر دلائل الحق وشواهده، فإن هؤلاء لا يرونها، خفافيش أعماها النهار بضوئه، فهؤلاء أصحاب بصائر خُفاشية يُعشيها النهار بضوئه، فلا يرون الحق الذي يراه أهل الإيمان، ومهما يُقدم لهم من الدلائل والبراهين؛ فإن ذلك لا يُحرك فيهم شعره، فمن استحكمت ضلالته فلا سبيل إلى هدايته، ومن أضله الله -تبارك وتعالى- فلا هداي له، وهذه حقيقة ينبغي أن نُدركها؛ ولذلك فإن بعض الخطاب حينما يوجه إلى من زاغ قلبه، واتبع هواه، فإن ذلك يكون من قبيل العبث، كالذي يصيح في واد، وينفخ في رماد، إلا أن ذلك يكون فيه ما فيه من إقامة الحجة على هؤلاء، ولكنهم لا ينتفعون به؛ لهذه الأمور الصمم والبكم الذي فيهم، فهذا الأبكم هو لا ينطق بالحق، ولا يتكلم به ولذلك لا يُستغرب حينما يلهج بالباطل صباح مساء، ويفيض هذا الباطل على قلمه وكتاباته، إنما الذي يُستغرب لو أنه تكلم بالحق أو كتبه.

فمن رُزق الهداية فينبغي أن يتمسك بأهدابها، ويخاف أن يُسلب ذلك منه، وأن يشتغل بإصلاح نفسه، ولا يكون شغله بغيره ويغفل عن قلبه وحاله، وتفقد عمله وخطراته، ونياته ومقاصده.

هكذا يفعل الضلال بأهله، لاسيما من ترك الحق عن معرفة، بخلاف من ترك الحق عن جهل به؛ فإنه قريب المأخذ يمكن أن يُبين له ويرجع، ولكن الانحراف إنما يرجع إلى أصلين، أو ثلاثة:

الأول: سوء القصد، فهذا سيء القصد مهما رأى من الدلائل والشواهد والبراهين، هو يأبى الحق، لسوء قصده، فهو لا يقبله.

الثاني: سوء الفهم، قد يبحث ويقرأ ويُطالع، ولكنه يخرج بنتائج مقلوبه، الدليل الواضح الظاهر يفهم منه خلاف المقصود، عكس المقصود، فهذا لا طب فيه.

الثالث: الجهل، وهذا أمر قريب، يمكن أن يُعالج بالعلم، لكن صاحب القصد الفاسد، والفهم الفاسد هذا يُجادل، فإذا تكلم أهل العلم سخر منهم، وسخر من فهومهم وعلومهم ومعارفهم وأقوالهم وفتاواهم؛ لسوء قصده، أو لسوء فهمه، وقد يجتمع في العبد وهذا يجتمع في العبد هذا وهذا، نسأل الله العافية، يعني: يجتمع فيه سوء القصد وسوء الفهم معًا، فمثل هذا يطير في الضلالة، ويكون قُحمة في الفِتن، فلا يُبالِ الله به في أي واد هلك رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران:8].

هذا هو المثل الثاني الذي ضربه الله -تبارك وتعالى- للمنافقين، وهو المثل المائي في هذه السورة الكريمة سورة البقرة، والمثل الذي قبله وهو المثل الناري وهو قوله -تبارك وتعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17، 18].

ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ۝ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:19، 20] فهذا المثل الذي صُدر بهذا الحرف "أو" فإن "أو" هذه يحتمل أن تكون للتنويع بمعنى أن المثل الأول الناري قد ضُرب لفئة من المنافقين لنوع من المنافقين، وهذا المثل المائي يكون قد ضُرب لفئة أخرى وطائفة أخرى من المنافقين، فحال هؤلاء المنافقين منهم من يكون كذاك الذي: اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ الآية، ويكون حال طائفة أخرى كأولئك الذين ذكر الله وصفهم هنا في هذا المثل وضربه لهم: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ وعلى هذا مشى جمع من المفسرين سلفًا وخلفًا، وممن قال بأن "أو" للتنويع شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله [6] والحافظ ابن كثير[7] وجماعة.

وأما الذين قالوا: بأن "أو" هنا هي بمعنى "الواو"، وأن هذين المثلين مضروبان للمنافقين فحالهم تكون كذاك الذي استوقد نارا، وإن شئت فمثل حالهم بذاك الصيب الذي يسير فيه هؤلاء في هذه الظلمات مع البرق والرعد إلى آخر ما ذكره الله -تبارك وتعالى- في هذا المثل المضروب بمعنى أن "أو" هنا بمعنى الواو، أن تكون "أو" هذه للتخيير، كما يقول: صاحب الحسن أو ابن سيرين، يعني: أنت مُخير بين هذا وهذا، فيكون ذلك كله مما ضربه الله -تبارك وتعالى- للمنافقين.

وهذا كأنه هو الأقرب -والله أعلم- فيكون المعنى في المثل الأول أن مثل حال هؤلاء في دعوى الإيمان وما حصل لهم من الانتفاع المؤقت بذلك كذاك الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله، انتفع بهذه الدعوى فحقن دمه، وأحرز ماله وحصل له ما حصل من المكاسب القريبة العاجلة المُتقضية، وحال هؤلاء مع القرآن ومع براهينه ووعده ووعيده كمثل حال هذا الصيب الذي ينزل ويصوب بشدة وقوة مع ما يحتف بذلك من الرعد والبرق، وهؤلاء يسيرون بهذه الصفة من التردد في سيرهم والخوف، وما إلى ذلك.

وقد مضى الكلام مُفصلاً على هذين المثلين في الكلام على الأمثال في القرآن، وليس هذا موضع الحديث عن التفسير والمعاني، ولكن لابد من كلمة تُقرب المُراد من أجل أن يحصل التدبر والتفهم لكتاب الله -تبارك وتعالى.

فهذا يصور حالهم حينما يظهر لهم الحق تارة ويشكون فيه تارة حينما تظهر لهم براهين الحق: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [سورة البقرة:19] فهذه الظلمات ظلمات الكفر، ظلمات الجهل، ظلمات المعاصي، ظلمات النفاق، كظلمة الليل، وظلمة المطر، وظلمة السحاب فهي ظلمة مُستحكمة يسيرون في هذه الظلمات التي يكون بعضها فوق بعض، إنسان يسير في طريق يكون فوقه يكون في ليل بهيم وفوقه سحاب مع مطر يصوب والبرق صوته يملأ المكان والبرق يبهر الأبصار فيكاد أن يخطفها، هذا يكون في حال من التردد في هذا السير، فهم كما قال الله -تبارك وتعالى: فِيهِ ظُلُمَاتٌ هذه الظلمات الحسية هي ظلمة السحاب والليل وكذلك أيضًا المطر، والمعنوية الكفر، والنفاق، والمعاصي، والجهل فهي ظلمة قلوب نفوس، وأعمال، وأحوال من تلون، وتقلب.

فهنا: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ وهذا الرعد المقصود به زواجر القرآن، فإذا سمعوا هذه الزواجر والوعيد فإنه لا تتمالك نفوسهم من الخوف والهلع، وأما بالبرق فتلك براهينه وحُججه القوية التي تكاد أن تخطف أبصارهم وتذهب بها فهم أصحاب بصائر خُفاشية ضعيفة لا تحتمل هذه الحُجج القوية الباهرة التي تكاد أن تأتي على تلك البصائر أو الأبصار الضعيفة التي لا تحتمل هذا النور الشديد، وهؤلاء المساكين في هذه الحال يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19].

فهم يجعلون رؤوس الأصابع في الآذان فكأنهم لشدة خوفهم، كأنهم جعلوا الأصابع بأكملها في الآذان لشدة ما ينتابهم من الخوف والهلع فهذا يصور ما هم فيه يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ ثم انظر إلى هذا الفعل الذي لا غناء فيه، ولا دفع، فهذا الذي يحذر الصواعق فيكون غاية ما هنالك من الجُهد والدفع والامتناع والتحصن هو أن يضع أُصبعيه في أُذنيه فهذه الأصابع لا ترد الصاعقة، لا ترد عنه المكروه.

هذا مثل الإنسان الذي يركب في سيارة في مركبة ثم بعد ذلك إذا كان في حال من الشعور بالخوف، وأنه أمام مُفاجأة وهو لا يقود هذه المركبة وإنما يركب فيها فتجد أنه يضرب برجله وليس تحت رجله شيء، يعني: ليس هو الذي يقودها، ودفعه برجله بقوة لن يدفع عنه شيئًا ولن يُغير من الأمر شيئًا، ولن يوقف هذه المركبة، ولن يدفع تلك التي قد أقبلت مُندفعة إليها، وهكذا حينما يكون خائفًا فإنه يقبض على ما استطاع من مقابضها بقوة حتى إن يديه تكادان تجفان وتيبسان في هذه الحال من القبض، مع أن قبضه هو يشعر هو لو أنه أطلقها لانفلتت وذهبت كل مذهب ولهلكت ولهلك من فيها، مع أن قبضه عليها لا يُغير من الأمر شيئًا، ولذلك تجد الإنسان أحيانًا حينما يفجأه ما يخاف منه لربما اتقى بيديه، مع أن الاتقى بيديه لا يُغير من الأمر شيئًا، ولكن تلك المشاعر المُختزنة في نفس الإنسان يُفرغها بحركاته لا غناء فيها ولا دفع، لو أنه تبصر وتفكر.

فهؤلاء يخافون من الصواعق فيكون غاية الجهد في التحصن منها أن يضع الواحد أُصبعيه في أُذنيه محتميًا بذلك، وذلك لا يُغني عنه شيئًا، ولا يدفع عنه الهلاك: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19] فوضع الأصابع في الأذان خوفًا من الهلاك يخشون أن تنزل الصاعقة، والصاعقة ذكر المفسرون فيها معانٍ من أقربها أنها ما قد عُلم مما ينزل من السماء يكون كما يقول المعاصرون بأنها شُحنة كهربائية قوية، والسابقون كانوا يُعبرون عنها بنار مُحرقة، الواقع أن ذلك تفسير بأثرها -والله أعلم؛ لأن من أصابته هذه الصاعقة فإنه يحترق، ففسروها بأثرها وإلا فإن أصلها حينما تنزل هذه الصاعقة هي لا تُرى نار في السماء وإنما هي شُحنة فإذا نزلت وفُرغت لقوتها فإن ما وقعت عليه يحترق من إنسان أو بهيمة، أو غير ذلك.

يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [سورة البقرة:19] محيط بهم علمًا وقدرة فهم لا يستطيعون أن ينفذوا من أقطار السماوات والأرض ولا أن يردوا عنهم من قدر الله -تبارك وتعالى- شيئًا وهم لا يُعجزونه ولا يفوتونه.

تأمل في هذه الآية: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:19] حيث نُكر الصيب هنا وهذا التنكير قد يُشعر بالتعظيم، هناك: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [سورة البقرة:17] فنُكرت النار قال بعض أهل العلم هذا يدل على التعظيم، دعوى الإيمان هذه الكبيرة التي ادعوها هي بمنزلة هذه النار التي استضاءوا بها استضاءة مؤقتة، هنا: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:19] الشيء النازل يُقال له: صيب، فقيل: للمطر صيب كما ذكرنا في الكلام على تفسير ابن جُزي في الجزء المتصل بالغريب منه أن ذلك باعتبار النزول فما ينزل من أعلى إلى أسفل يُقال: صاب يصوب فهو صيب، وذلك يُقال للمطر الكثير الشديد: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:19] فنكره هنا وذلك يُشعر بالتعظيم؛ لأن المطر الخفيف لا يتأذى منه الناس ولا ينزعجون، ولا يحصل معه عادة مثل هذه المخاوف، فهذا مطر شديد هائل.

ثم أيضًا تأملوا: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [سورة البقرة:19] يصوب من السماء، ينزل من السماء فِيهِ ظُلُمَاتٌ هنا جُمعت الظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ أُفرد الرعد والبرق، فبعض أهل العلم يقول: ذلك باعتبار أن المُقتضي للرعد والبرق واحد وهو السحاب، وأما المُقتضي للظلمة فهو مُتعدد فهناك الليل، وهناك السحاب، وهناك المطر فهذه الظلمة قد اجتمعت من هذه الأمور جميعًا فجُمعت أَوْ كَظُلُمَاتٍ كما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة النور لما ذكر الظلمات أيضًا: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [سورة النور:40].

فهنا يقول الله -تبارك وتعالى: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ۝ يَكَادُ الْبَرْقُ [سورة البقرة:19، 20] يعني: يُقارب، من شدة لمعانه وبريقه أن يسلب أبصار هؤلاء من ذوي البصائر الخُفاشية، ومع ذلك: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [سورة البقرة:20] يمشون في ضوئه، وإذا ذهب وقفوا قاموا، قام بمعنى وقف هنا، الماشي إذا قام يُقال ذلك بمعنى الوقوف، يقومون في أماكنهم، ولولا إمهال الله لهم لسلب سمعهم وأبصارهم وهو قادر على ذلك كله فهو على كل شيء قدير.

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [سورة البقرة:20] هذه حُجج القرآن لقوتها، براهين القرآن، تكاد تخطف أبصار هؤلاء لشدتها كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [سورة البقرة:20] أضاء لهم اتضح لهم الطريق، استنارت نفوسهم وبصائرهم استنارة محدودة مؤقتة لشدة بريقه ولمعانه فإنهم يمشون، على قول بعض المفسرين.

والقول الآخر: أنه كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [سورة البقرة:20] إذا وجدوا فيه ما يُلائهم ويُناسبهم فإنهم يسلكون وينقادون ويستجيبون ويُقبلون، وإذا جاء وهو الغالب ما يكون على خلاف نفوسهم المُظلمة فإنهم يتوقفون ويتحيرون فهم ليسوا على سير مُتحد، وسلوك للصراط المُستقيم وإنما ذلك يصور أحوالهم مع الوحي المُنزل وما فيه من الحُجج والبراهين والوعد والوعيد وما أشبه ذلك، فإذا جاء الوعد انتظمت نفوسهم معه، واستروحت له، وإذا جاء الوعيد أو جاءت حُجج القرآن حصل لهم الانقباض والانكماش والخوف والتحير.

وهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:20] هذا يؤخذ منه أن العبد ينبغي له أن يسأل ربه -تبارك وتعالى- أن يُمتعه بسمعه وبصره، وأن يجعل ذلك هو الوارث منه، ثم أيضًا قد خص الله -تبارك وتعالى- هنا ذكر السمع والبصر أنه لو شاء لأذهبها مع أن الله لو شاء لأهلكهم، لكنه خص السمع والبصر دون سائر المنافع والأعضاء والأبعاض وذلك أنه ذكر ما يرتبط قال: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19] وقال: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [سورة البقرة:20] فذكر ما يتعلق بالسمع وما يتعلق بالبصر، ولهذا قال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [سورة البقرة:20] وإلا فإن الله قادر على إذهابهم مع سمعهم وأبصارهم.

ثم أيضًا تأمل وصف الله -تبارك وتعالى- نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضوع، وذلك لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم بأنه مُحيط بهم، وأنه قادر على إذهاب سمعهم وأبصارهم إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:20] فمن متعه الله -تبارك وتعالى- بالسمع والبصر فهذه نعمة تستوجب الشكر، ومن متعه الله -تبارك وتعالى- بالبصيرة فإن ذلك أعظم النِعم فبها يعرف مراد الله -تبارك وتعالى- وبها يُميز بين الحق والباطل، وبها ينكشف له معدن الحق من معدن الشبهات فلا يكون الحق مُلتبسًا عليه فيضل.

هذه البصيرة إذا رُزقها العبد فإنه ينتفع بالوحي ومواعظ القرآن، والأمثال المضروبة في ذلك، وما يتبع ذلك من الهداية والعمل والإيمان والاستقامة على أمر الله ، وتقدست أسمائه. 

  1.  أخرجه الرافعي في تاريخ قزوين (1/ 291)، قال عنه الألباني: منكر. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (7/ 255). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، رقم: (22)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، رقم: (184). 
  3.  أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌࣱ رقم: (7439). 
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، رقم: (223). 
  5.  أخرجه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، رقم: (3940). 
  6.  مجموع الفتاوى (7/ 276). 
  7.  تفسير ابن كثير (1/ 189، 190).