هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم، وكفرهم، وترددهم؛ كصيِّب، والصيب: المطر، قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي، وعطاء الخرساني، والسدي والربيع بن أنس.
وقال الضحاك: هو السحاب، والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك، والكفر، والنفاق.
ورَعْدٌ: وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد، والفزع كما قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [سورة المنافقون:4]، وقال: وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحونَ [سورة التوبة:56-57].
والبرق: وهو ما يلمح في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال: يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [سورة البقرة:19] أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً؛ لأن الله محيط بقدرته، وهي تحت مشيئته، وإرادته، كما قال: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ [سورة البروج:17-20]، بهم.
ثم قال: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ: أي لشدته، وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ: يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ: يقول: كلما أصاب المنافقين من عزِّ الإسلام اطمأنوا إليه، وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِه [سورة الحج:11].
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا -: كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [سورة البقرة:20] أي: يعرفون الحق، ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين، وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي بسنده عن الصحابة وهو أصح وأظهر، والله أعلم.
وهكذا يكونوا يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك، وأقل من ذلك، ومنهم من يطفأ نوره تارة، ويضيء أخرى، فيمشي على الصراط تارة، ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [سورة الحديد:13].
وقال في حق المؤمنين: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [سورة الحديد:12] الآية، وقال تعالى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة التحريم:8].
ذكر الحديث الوارد في ذلك:
روى ابن أبي حاتم أيضاً عن ابن عباس - ا - قال: "ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا".
وقال الضحاك بن مزاحم: "يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نوراً، فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون، أشفقوا فقالوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا".
هذا المثل الثاني كما يقول ابن كثير: هذا مثل آخر ضربه الله لضرب آخر: بمعنى أن المثل الأول لطائفة من المنافقين، والمثل الثاني لطائفة أخرى من المنافقين.
بطبيعة الحال فإن المثل الثاني على قول ابن كثير ومن وافقه لحال المنافقين أحسن من أصحاب المثل الأول؛ لأن صاحب المثل الأول استوقد ناراً استفاد منها فترة، ثم بعد ذلك انطفأ النور، وانتهى كل شيء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18].
أما صاحب المثل الثاني فنوره يتقطع أي: يضيء له تارة ثم ينطفئ، ثم يضيء ثم ينطفئ وهكذا، فصاحبه يسير سيراً متعثراً.
وعلى كل حال فإن منشأ ذلك الكلام في "أو" أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء إضافة إلى ما تضمنه هذا المثل من الفروقات عن المثل الأول.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فـ "أو" كما هو معلوم، تأتي لمعان متعددة، فتأتي للشك - وهذا غير مراد هنا - فأنت تقول: سافر زيد الليلة أو قبلها، فهنا أتت "أو" للشك، وتأتي للتخيير فتقول: خذ هذا أو هذا، كما أنها تأتي أيضاً للتسوية بين الأمرين، تقول مثلاً صاحب زيداً أو عمراً فهذه تفيد التسوية، بمعنى أنك لا تشك في هذا، وتأتي عاطفة بمعنى الواو تماماً كما قال القائل:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر | نفسي تقاها أو عليها فجورها |
ومثل ذلك قول القائل:
نال الخلافةَ أو كانت له قَدَراً | كما أَتَى ربَّه موسى على قَدَر |
فهذا المثل الذي ذكره الله تعالى - الأقرب والله تعالى أعلم - أن ذلك جميعاً في صفة المنافقين، وليس في طائفة أخرى منهم، فضرب الله لهم المثل الأول بالذي استوقد ناراً ثم انطفأت، فهم انتفعوا بعض الانتفاع مدة مؤقتة في الدنيا ثم ذهب ذلك جميعاً عنهم، وأبصروا الحقائق، وعرفوا ما هم فيه، ولم ينفعهم ذلك الإيمان.
والمثل الثاني لحالهم مع حجج القرآن، وبراهينه، وبيِّناته قال تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء الصيب: المطر، من صاب يصوب إذا نزل، والله مثل القرآن، والوحي بالمطر النازل من السماء، ويسمى ذلك بالمثل المائي قال تعالى: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [سورة الرعد:17]، وذلك مثل لقلوب العباد يأخذ منهم، وينتفع كل بحسبه.
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا: سالت أودية بقدرها هذا وادٍ كبير، وهذا وادٍ صغير، وهذا إخاذ، وهذا لا يجتمع فيه الماء إطلاقاً، هذه أرض سبخة، وهذه غيرها، فهكذا قلوب العباد أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا [سورة الرعد:17] وهذا هو الغثاء.
ثم ذكر بعد المثلِ المائي المثلَ الناري فقال تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ [سورة الرعد:17] فالذهب مثلاً الذي يدخل في النار، يذهب شوبه، ويبقى خالصه، وهكذا الأمر في هذه الحياة الدنيا الله يقلب العباد، وينقيهم، ويصفيهم؛ فلا يبقى إلا الصحيح الخالص، ويذهب الغثاء والشوائب كالزبد الذي يحمله الماء، فالله - جل وعلا - في مواضع كثيرة يشبه الوحي بالمطر النازل من السماء، فهنا قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء أي: المطر، فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [سورة البقرة:19]: الرعد زواجر القرآن، والبرق: حجج القرآن، وبراهينه؛ تكاد تخطف أبصار هؤلاء المنافقين العمي، فهي حجج بيِّنة واضحة، وساطعة وباهرة لا خفاء فيها.
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [سورة البقرة:20]": كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ": هذا هو حال المنافق، فإذا جاءت الأمور على وئام، وسعة، وغنائم، وانتصارات؛ فخذ من هذا الكلام الجميل، حيث يقوم عبد الله بن أبي عند المنبر يوم الجمعة، أيها الناس: لقد منَّ الله عليكم بهذا النبي، فاتبعوه، وأطيعوه، يقول هذا قبل أن يصعد النبي ﷺ المنبر، وذلك كل جمعة، وفي السفر، وفي وقت الشدة يقول: أوَقد فعلوها، والله ما مثلنا ومثل هؤلاء كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وقال: لقد أبلغتكم، وأنذرتكم؛ أنتم آويتموه، وأطعمتموه، فكاثروكم في بلادكم - يعني المهاجرين كانوا أكثر من الأنصار -، فلو تركتموهم لطلبوا بلاداً أخرى، قاطعوهم لا تعطوهم لا تسكنوهم، لا تعطوهم شيء، دعوهم يبحثون عن بلد آخر ينتقلون إليها، ويشهد لهذا فضح القرآن لهم مقولتهم: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7] يعني من أجل أن ينفضوا عنه، فهذا حل طرحه لهم وهو أن يتخلصوا من هؤلاء المهاجرين، لكن وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة المنافقون:7] فهو كان يظن بهذا أنه سينهي الإسلام والدعوة.
فنحن حينما نريد أن نعرف صورة هذا وأمثاله نأتي بمقاطع السور جميعاً من هنا وهناك، ونركبها مع بعض فيتضح لنا من هو عبد الله بن أبي بن سلول وأتباعه.
فهذا مثل لطائفة واحدة وهي طائفة المنافقين، هناك ذكر ما يحصل لهم الانتفاع في الدنيا بادعاء الإسلام، وهنا ذكر حالهم في سيرهم في هذه الحياة، فحينما يسمعون القرآن، وما فيه من الزواجر؛ فهذه كالصواعق، إذا بالتصرف الأحمق يصدر منهم بأن يجعلوا أصابعهم في آذانهم كالإنسان الذي يخاف من الصاعقة أو من صوت الرعد، فيجعل إصبعه في أذنه، فيا ترى هل إذا وضع أصبعه في أذنه ترد الصاعقة عنه إذا جاءت؟ لا تردها، لكنه يتصرف مثل هذا التصرف الأحمق ليخفف عن نفسه.
في الأمس القريب حدثني ولدي الذي هو في ثاني ابتدائي عن زميل له - أكرمكم الله - تبول على نفسه، فجلس زملاؤه تعلو أصواتهم يعيرونه، ويعيبونه؛ فماذا صنع المسكين؟
وضع أصابعه في أذنيه، وجلس يصدر أصوات من فمه من أجل أن لا يسمع!! يا ترى هل هذا سيغير من الحال شيئاً؟
مثل هذا بعض العجائز إذا ركبت في السيارة، وشعرت أن السيارة مسرعة؛ فهي طول الوقت متمسكة بها بقوة، وتهدد أنه إذا ما خففتم السرعة فإني سأتركها!! يا ترى هل إمساكها لها ينهي شيئاً من الموضوع؟
كذلك هؤلاء يجعلون أصابعهم في آذانهم - والمقصود رؤوس الأصابع - من أجل خوفهم من السماع.
فهذه زواجر القرآن، والبرق: هو حجج القرآن، وبراهين الحق، تكاد تخطف أبصار هؤلاء حذر الموت، واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [سورة البقرة:19].
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [سورة البقرة:20]: إذا جاءت الأمور السهلة فهم ما شاء الله، و إذا جاءت الشدة انتكسوا كما حصل في الأحزاب، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [سورة الأحزاب:12-14]: لو دخل الأحزاب المدينة، وطُلِبَ منهم أن يكفروا مباشرة سيرتدون، وسيتسابقون إلى ذلك، وهكذا هم إذا غلبوا تهافتوا على الكفر.
فتبصروا لمعرفة مثل هذه الأمور؛ فإن ذلك يخفف على الإنسان كثيراً من الهم مما يراه من تساقط، وتسارع، وضلال؛ إذا غَلب الكفار، وهذا ليس بشيء جديد بل هذا أمر قديم، ولله في هذا حكمة.
فالحاصل أن المثَلين - والله تعالى أعلم - كلاهما في المنافقين، وليس هذا في طائفة، وهذا في طائفة.
أقسام القلوب:
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، فسراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص أعرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه وهذا إسناد جيد حسن.
فإن وجه إيراد الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لهذا الحديث عند تفسير هذه الآية هو أن المثَلين المضروبين للمنافق في قوله سبحانه: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17-18].
والثاني في قوله سبحانه: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19]، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [سورة البقرة:20].
فالأول: هو حال المنافق الخالص بحيث أنه لا رجاء فيه، ولا رجعة له، وقد أغلق منافذه جميعاً فهو لا ينتفع بموعظة، ولا بوحي، ولا بغير ذلك.
والثاني: يبين أن هؤلاء إذا أضاء لهم يكاد البرق يخطف أبصارهم، كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا.
فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرى أن كلَّ مثل من هذين المثلين لطائفة غير الطائفة الأخرى، فالمثل الأول كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً: هو مثل للمنافق الخالص الذي طبع على قلبه، فوصفهم الله بالصمم، والبكم، والعمى.
والمثل الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ: كالمطر، فهو يقول: هؤلاء كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا، فهذا مثل لطائفة أخرى من المنافقين - عند الحافظ ابن كثير -، والمراد بهم من تستقيم حالهم تارة، وتنتكس أخرى، فإذا أصابتهم النعمة، والأمن، والرخاء؛ صلح حالهم، وسكنوا إلى الإسلام، واطمأنوا إليه، وإذا أصابتهم شدة، ونكبة؛ نجم النفاق، وانتكسوا كالذي يعبد الله على حرف، فمثل هؤلاء تارة هكذا، وتارة هكذا بحسب الحال، وهذا على قول الحافظ ابن كثير أن كل مثل لطائفة مغايرة من المنافقين؛ فالأول أشد، والثاني من كان تارة وتارة.
وطائفة من أهل العلم كما سبق يرون أن المثلين المائي: أَوْ كَصَيِّبٍ [سورة البقرة:19]، والناري: الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] كلاهما في طائفة واحدة، وهم أهل النفاق، وسبق الكلام على معنى المثلين.
وعلى كل حال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أورد هذا الحديث ليدلل به على ما قال من أن المنافقين على نوعين:
النوع الأول: هذا الذي وصفه النبي ﷺ بأن قلبه منكوس، وهو قلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، ثم ذكر القلب المصفح وهو القلب الذي فيه إيمان ونفاق، وهذا للمثل الثاني على قول ابن كثير، فهو من أجل هذا أورد هذا الحديث.
ولا شك أن النفاق كالكفر ليس على مرتبة واحدة، وإنما هو على مراتب، فالنفاق في الشخص الواحد المعين، تارة يزداد وينقص، كما أنه يتفاوت من شخص إلى آخر، فمن الناس من يكون مغموصاً عليه بالنفاق، ومنهم من يكون بين بين، ومنهم من يكون من ضعفاء الإيمان الذي يحصل له شيء من التردد، والتشكك في بعض الأوقات كما قال الله في سورة الأحزاب لما ذكر أحوالهم قال: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12]، فالذين في قلوبهم مرض هنا عطفوا على المنافقين، فبعض أهل العلم يقول: هذا من أوصاف المنافقين، حيث تتابع الأوصاف كما في قول الشاعر:
هو الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
فعلى كل حال هذا تحتمله الآية، ولا شك أن النفاق يتفاوت، ومن قال بأن المثلين لطائفة واحدة هي طائفة المنافقين فهو يصور أحوالهم، وهذا لربما يكون هو المتبادر، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:20] روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قال: لما تركوا من الحق بعد معرفته.
إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال ابن عباس: أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير.أي أن قوله تعالى: إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ متعلقة بما قبلها، وهنا عمم المعنى تعميماً ليس مطلقاً وإنما متوسطاً، بحيث إنه ما قال: إن الله على كل شيء قدير أي بإذهاب سمعهم، وأبصارهم، هذا هو ربط خاتمة الآية بما ذكر فيها، وما تضمنته من ذهاب سمعهم، وأبصارهم، فهنا قال: على ما أراد بعباده من نقمة، أو نعمة، ومن ذلك: إذهاب السمع والأبصار، وإذا عممتها تعميماً مطلقاً تقول: إن الله على كل شيء قدير كما هو ظاهر اللفظ من حيث هو، أي: على كل شيء قدير فيما يتعلق بالخلق، والتدبير، وما يتعلق بالعذاب، والإنعام وغير ذلك، فهو كذلك.
على كل حال إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: لا شك أن مما يدخل بذلك دخولاً أولياً هو الذهاب بسمعهم وأبصارهم.
وقال ابن جرير إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع؛ لأنه حذر المنافقين بأسه، وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير.
هذا الذي يسمونه بالمناسبة علم المناسبات من أنواعه ما يكون في الربط بين خاتمة الآية وبين موضوعها.
لماذا قال في خاتمة الآية هنا: إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟
يقال: هذا نوع من علم المناسبات، إذ أنه لما ذكر وعيده بالذهاب بسمعهم، وأبصارهم؛ ذكر قدرته الكاملة، وأن ذلك لا يعجزه، فهذا لون من المناسبات.
كذلك ختم الآيات كما هو معلوم بالأسماء الحسنى كما في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة المائدة:38] فهذا في غاية المناسبة.
وهناك أشياء قد تشكل ولربما عرضنا لبعضها في بعض المناسبات مثل قوله تعالى: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118] والجواب عنها معروف، ذكرته في المرات السابقة، أو في بعض الدروس.
وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين، وتكون "أو" في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء بمعنى الواو، كقوله تعالى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [سورة الإنسان:24].
يعني لا تطع منهم آثماً أو كفوراً، لا تطع منهم آثماً ولا كفوراً، نعم، لا تطع لا هذا، ولا هذا؛ لأن "أو" تارة تكون للتخيير والإباحة، وتارة تكون للتقسيم، وتارة تكون بمعنى الواو.
تارة تكون للتقسيم مثل قول الله : وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:135] فليس هذا للتخيير قطعاً؛ لأن اليهود لا يمكن أن يقولوا: كونوا نصارى تهتدوا، والنصارى لا يمكن أن يقولوا: كونوا على دين اليهود تهتدوا؛ لما بينهم من الخلاف، والشر، والعداوة، ولكن هذه للتقسيم، وقالت اليهود كونوا هوداً تهتدوا، وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا، فهي للتقسيم.
وَقَالُواْ: يعني اليهود، والنصارى، كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى: أي كل طائفة قالت: كونوا كذا تهتدوا، أي على دينها، فإذن "أو" هذه للتقسيم.
وهنا "أو" في قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء ليست للتقسيم على قول ابن جرير، فتكون هنا بمعنى الواو، يعني أن المثلين لطائفة واحدة، وهي حال أهل النفاق من غير تنويع لهم.
وعلى قول ابن كثير لا تكون "أو" بمعنى الواو هنا، وإنما يمكن أن تكون بمعنى التقسيم، أي أن المثل الأول لطائفة، والمثل الثاني لطائفة أخرى.
أو تكون للتخيير، أي اضرب لهم مثلاً بهذا، وإن شئت بهذا، قال القرطبي: أو للتساوي، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري أن كلاً منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم.
فإن وجه إيراد الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لهذا الحديث عند تفسير هذه الآية هو أن المثَلين المضروبين للمنافق في قوله سبحانه: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17-18].
والثاني في قوله سبحانه: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سورة البقرة:19]، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [سورة البقرة:20].
فالأول: هو حال المنافق الخالص بحيث أنه لا رجاء فيه، ولا رجعة له، وقد أغلق منافذه جميعاً فهو لا ينتفع بموعظة، ولا بوحي، ولا بغير ذلك.
والثاني: يبين أن هؤلاء إذا أضاء لهم يكاد البرق يخطف أبصارهم، كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا.
فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرى أن كلَّ مثل من هذين المثلين لطائفة غير الطائفة الأخرى، فالمثل الأول كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً: هو مثل للمنافق الخالص الذي طبع على قلبه، فوصفهم الله بالصمم، والبكم، والعمى.
والمثل الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ: كالمطر، فهو يقول: هؤلاء كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا، فهذا مثل لطائفة أخرى من المنافقين - عند الحافظ ابن كثير -، والمراد بهم من تستقيم حالهم تارة، وتنتكس أخرى، فإذا أصابتهم النعمة، والأمن، والرخاء؛ صلح حالهم، وسكنوا إلى الإسلام، واطمأنوا إليه، وإذا أصابتهم شدة، ونكبة؛ نجم النفاق، وانتكسوا كالذي يعبد الله على حرف، فمثل هؤلاء تارة هكذا، وتارة هكذا بحسب الحال، وهذا على قول الحافظ ابن كثير أن كل مثل لطائفة مغايرة من المنافقين؛ فالأول أشد، والثاني من كان تارة وتارة.
وطائفة من أهل العلم كما سبق يرون أن المثلين المائي: أَوْ كَصَيِّبٍ [سورة البقرة:19]، والناري: الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] كلاهما في طائفة واحدة، وهم أهل النفاق، وسبق الكلام على معنى المثلين.
وعلى كل حال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أورد هذا الحديث ليدلل به على ما قال من أن المنافقين على نوعين:
النوع الأول: هذا الذي وصفه النبي ﷺ بأن قلبه منكوس، وهو قلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، ثم ذكر القلب المصفح وهو القلب الذي فيه إيمان ونفاق، وهذا للمثل الثاني على قول ابن كثير، فهو من أجل هذا أورد هذا الحديث. ولا شك أن النفاق كالكفر ليس على مرتبة واحدة، وإنما هو على مراتب، فالنفاق في الشخص الواحد المعين، تارة يزداد وينقص، كما أنه يتفاوت من شخص إلى آخر، فمن الناس من يكون مغموصاً عليه بالنفاق، ومنهم من يكون بين بين، ومنهم من يكون من ضعفاء الإيمان الذي يحصل له شيء من التردد، والتشكك في بعض الأوقات كما قال الله في سورة الأحزاب لما ذكر أحوالهم قال: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12]، فالذين في قلوبهم مرض هنا عطفوا على المنافقين، فبعض أهل العلم يقول: هذا من أوصاف المنافقين، حيث تتابع الأوصاف كما في قول الشاعر:
هو الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
فعلى كل حال هذا تحتمله الآية، ولا شك أن النفاق يتفاوت، ومن قال بأن المثلين لطائفة واحدة هي طائفة المنافقين فهو يصور أحوالهم، وهذا لربما يكون هو المتبادر، والله تعالى أعلم.