الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱدْخُلُوا۟ فِى ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ ۚ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ۝ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:208-209].
"يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله ﷺ أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام، وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك.
قال العوفي عن ابن عباس - ا -، ومجاهد، وطاوس والضحاك، وعكرمة وقتادة، والسدي وابن زيد في قوله: ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ: يعني الإسلام"
قوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً تفسير ابن كثير للآية بأن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا، هو المعنى المتبادر، وهو من أحسن ما تفسر به الآية.
والخطاب في الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ موجه لأهل الإيمان كما يدل عليه ظاهر النص، وإليه ذهب ابن كثير.
ومن أهل العلم من يرى أن الخطاب موجه لأهل الكتاب الذين لم يدخلوا في الإسلام باعتبار أن السلم هو الإسلام، والمراد بكافة أي: ادخلوا فيه جميعاً بجميع شرائعه، لا تتركوا شيئاً من العمل أو الاعتقاد الذي شرعه الله ، وبيَّنه في كتابه، فهم مطالبون جميعاً بالدخول فيه باعتبار مجموع الأفراد مسلمين كانوا أو غير مسلمين.
وقال جماعة من السلف: إنها خطاب لبعض من أسلم من أهل الكتاب ممن بقي عنده نوع شائبة من دينه الذي كان عليه كأن يعظم يوم السبت، أو يتعبد لله ببعض ما كان عليه من العم، والعبادة، مما لم يشرعه الله في دين الإسلام، فهذا التردد والتلكؤ هو المقصود بقوله - تبارك وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً يعني من غير أن تبقوا على شيء مما كنتم عليه في دينكم السابق، ولكن ما عليه عامة أهل العلم، ويدل عليه ظاهر القرآن؛ أنها خطاب لأهل الإيمان جميعاً سواء من أسلم من أهل الكتاب، وتردد، وبقي في رأٍسه اعتقادات من دينه السابق، أو من يأخذ ببعض الدين، ويترك بعضاً لهواه، فيتخير من دين الله أموراً تناسبه، ويترك ما سواه، فأهل الإيمان جميعاً مطالبون بالدخول في الإسلام، ولذا لما خاطب الله نبيه يحيى قال: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [سورة مريم:12] يقول أهل العلم: فمِن أخْذِه بقوة ألا يترك شيئاً منه، وألا يتردد أو يتلكأ في الاتّباع والانقياد، والتسليم والعمل، وهذا المعنى اختاره ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
السِّلْمِ يقال: السِّلْم، والسَّلْم، والسَّلَم بمعنى الإسلام، ومن أهل العلم من يفرق بين السِّلم والسَّلم، فيقول: السِّلم هو الإسلام، والسَّلم المقصود به المسالمة بترك الحرب، والاستسلام، والمصالحة مع دفع الجزية، فيكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً يعني مع المصالحة، ودفع الجزية، والله تعالى أعلم.
"وقوله: كَآفَّةً قال ابن عباس - ا - ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان، وقتادة، والضحاك جميعاً.
وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر، خاصة من آمن من أهل الكتاب"
هذا المعنى باعتبار أن المراد من قوله: ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً أي: ادخلوا في جميع شرائع الدين، فيدخل فيه من أسلم من أهل الكتاب وغيرهم، وتكون كَآفَّةً حالاً من السِّلم.
ويمكن أن تكون كَآفَّةً حالاً من ضمير المؤمنين في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ والمعنى: ادخلوا أيها الناس في الإسلام جميعاً.
"كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً كذا قرأها بالنصب يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمور التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم، فقال الله: ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً يقول: ادخلوا في شرائع دين محمد ﷺ ولا تدعوا منها شيئاً، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها.
وقوله: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة البقرة:208] أي اعملوا الطاعات، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:169]، إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة فاطر:6]، ولهذا قال: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة البقرة:208]"
المقصود بالخطوات: طرائق الشيطان ومسالكه، فلا يُتبع في شيء مما يزينه للناس من الباطل، ومن طرائقه ما يتدرج به مع الإنسان ليوقعه بعد ذلك في المهالك، فتجده يبدأ معه شيئاً فشيئاً من التوسع في المباح، ثم يجره إلى الوقوع في المشتبه، فلا يدري إلا وقد أوقعه في الحرام تحت أي مبرر أو حجة، فهذه كلها من خطوات الشيطان.

مرات الإستماع: 0

"السِّلْمِ بفتح السين المسالمة، والمراد بها هنا عقد الذمة بالجزية، والأمر على هذا لأهل الكتاب، وخوطبوا بـ الَّذِينَ آمَنُوا لإيمانهم بأنبيائهم، وكتبهم المتقدمة، وقيل: هو الإسلام، وكذلك هو بكسر السين، فيكون الخطاب لأهل الكتاب على معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام، وقيل: إنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا، وأرادوا أن يعظموا السبت كما كانوا، فالمعنى على هذا: ادخلوا في الإسلام، واتركوا سواه، ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين على معنى الأمر بالثبوت عليه، أو الدخول في جميع شرائعه من الأوامر، والنواهي."

قوله: السِّلْمِ بفتح السين المسالمة. يعني ترك الحرب، وإعطاء الجزية، والصلح، وبعضهم يقول: بأنه بالفتح السَّلْم و السِّلْم كل ذلك بمعنى واحد.

يقال أيضًا: السَّلَم بمعنى الإسلام. فهنا في قوله بأنه بالفتح المسالمة، والمراد بها عقد الذمة بالجزية. ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً يعني: في المسالمة خطاب لأهل الكتاب، بأي اعتبار؟ باعتبار أنهم آمنوا بأنبيائهم، وكتبهم السابقة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لكن هذا بعيد؛ لأن الخطاب بمثل هذا في كتاب الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يقصد به أهل الإيمان ممن آمن بالنبي - صلى الله عليه، وآله وسلم - وإن كان السياق في بني إسرائيل، الآيات قبلها، وبعدها لها نوع اتصال بهم، ولكن مثل هذا الخطاب إنما يخاطب به المؤمنون من هذه الأمة؛ ولهذا ذكر القول الآخر بأنه الإسلام ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (في السَّلم كافة) وكذلك يقول: هو بكسر السين، فيكون الخطاب لأهل الكتاب على المعنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً باعتبار أنه الإسلام، لكن لا حاجه لحمله على أهل الكتاب، لكن كأن هؤلاء استشكلوا الأمر بالدخول في الإسلام بالنسبة للمسلمين، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن الآية حينما أمرت بذلك جاء الأمر به مقيدًا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً بهذا الوصف. يقول: وقيل: إنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا، وأرادوا أن يعظموا السبت كما كانوا. يعني بقيت عندهم رواسب من دينهم الأول يعني من اليهودية، لم يتخلوا عنها، فالمعنى على هذا: ادخلوا في الإسلام، واتركوا ما سواه. لكن هذا لا يصح، الرواية التي جاءت في هذا عن عكرمة قال: نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام، وابن يامين، وأسد، وأسيد ابني كعب، وشعبة بن عمرو، وقيس بن زيد، كلهم من اليهود، قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل، فنزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [1] هذه الرواية لا تصح، وهي مرسلة.

ومن، ثم فإن المعنى لا يُحمل على ذلك يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يكون من قبيل العام المراد به الخصوص على هذا التفسير أنه بعض المؤمنين، وهم ممن أسلم من اليهود ممن قال ذلك، وهذا خلاف الظاهر، يقول: ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين على معنى الأمر بالثبوت عليه.

يعني: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً من كان داخلًا في الإسلام أصلًا فيكون هذا أمر بالثبات كما يقولون في قوله - تبارك، وتعالى - في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] بعضهم يقول: ثبتنا. باعتبار أن الصراط المستقيم هو الإسلام، وقد دخلوا في الإسلام، فما معنى هذا السؤال؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: ثبتنا، وقد ذكرت في الكلام على سورة الفاتحة، وفي مناسبات أخرى أن هذا السؤال اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لا يختص بهذا المعنى ثبتنا، وإنما يشمل معان كثيرة كلها داخل في طلب، وسؤال الهداية، فكذلك هنا في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي: الإسلام، فهذا خطاب لأهل الإيمان، ويكون ذلك باعتبار ما ذُكر من هذا الوصف يعني من قوله: كَافَّةً بمعنى: الدخول في جميع شرائعه من الأوامر، والنواهي، وعلى كل حال هذا هو الأقرب، وأن القراءتين بمعنى واحد - والله تعالى أعلم -.

وأصل السِّلم كما مضى في الكلام على الغريب يأتي بمعنى الصلح، وضد الحرب يعني من المسالمة، وكذلك أيضًا التعري من الآفات يعني من السلامة، التعري من الآفات الظاهرة، والباطنة، وكذلك الاستسلام، والانقياد، فالخطاب في ظاهره للمؤمنين يأمرهم الله - تبارك، وتعالى - بالعمل بجميع شرائع الإسلام، وهذا الذي قال به جماعة من السلف كثير: كابن عباس، وعكرمة، والسدي، والضحاك، وطاوس، وابن زيد، وهو أحد القولين لقتادة، وكذلك أيضًا هو مروي عن مجاهد، وهو اختيار أبي جعفر ابن جرير[2] والحافظ ابن كثير[3]: أنه خطاب للمؤمنين يأمرهم بالدخول في جميع شرائع الدين، وعلى القول بأنه خطاب لأهل الكتاب لما بقي عندهم من دينهم، وتمسكوا به من شريعتهم، فيكون المعنى: ادخلوا في شرائع دين الإسلام الذي أنزله الله على نبيه ﷺ ولا تدعوا منها شيئًا، لكن على كل حال المعنى الأقرب هو ما ذكرت، وبهذا الاعتبار هذا المعنى: أنه خطاب لأهل الإيمان فإن ذلك يشمل من دخل فيه من أهل الكتاب فهم مأمورون في جملة أهل الإيمان بالدخول في جميع شرائع الدين دون تفريق، أو تخل عن بعضها، أو استصحاب لشيء من الشرائع المنسوخة، أو المحرفة.

 كَافَّةً عموم في المخاطبين، أو في شرائع الإسلام.

كافة هذا يحتمل من جهة الإعراب أن يكون حالًا من السِّلم ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أو من ضمير المؤمنين يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً يعني جميعًا، يأمرهم جميعًا، وعلى الأول أنه حال من السِّلم يعني ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً يعني في جميع شرائع الإسلام، وقوله هنا: كافة عموم في المخاطبين. يعني جميعًا فهذا باعتبار أنه حال من ضمير المؤمنين، وبنحو هذا فسره ابن عباس - ا - ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل، وقتادة، والضحاك[4] وقوله: أو في شرائع الإسلام.

يعني: بجميع الأعمال، ووجوه البر التي شرعها الله - تبارك، وتعالى - كما جاء عن مجاهد - رحمه الله - في رواية عنه - والله أعلم -. 

  1.  تفسير الطبري (4/255)
  2.  تفسير الطبري (4/251 - 252).
  3.  تفسير ابن كثير (1/565).
  4.  تفسير ابن كثير (1/565).

مرات الإستماع: 0

بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- صنفين من الناس، ممن ليس له مطلوب سوى الدنيا، وحاله وعمله هو الفساد والإفساد، والصنف الآخر: الذي يريد الآخرة يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [سورة البقرة:207] وجَّه الخطاب لأهل الإيمان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:208، 209].

فالله -تبارك وتعالى- يخاطب أهل الإيمان، وهم الذين صدقوا بقلوبهم، وأقروا وأذعنوا وانقادوا بجوارحهم، فيقول لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً السلم: هو الإسلام، ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام، عاملين بجميع أحكامه، من غير تذوق، ولا انتقاء، ولا تخير، فيكون الحال كأولئك الذين ذمهم الله -تبارك وتعالى- بقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85].

ثم نهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي طرائقه ومسالكه، التي يضل بها العباد، ويُدرجهم خطوة خطوة، حتى يصل بهم إلى مبتغاه من الكفر، والبعد عن الله -تبارك وتعالى- وعبادته وطاعته، والإيمان به إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فهو عدو ظاهر العداوة، لا خفاء في عداوته.

فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي: فإن انحرفتم عن طريق الحق، من بعد ما جاءتكم الحجج الواضحات، والبينات التي لا تدع في الحق لبسًا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ في ملكه، لا يُغالب، وهو -تبارك وتعالى- لا يفوته منكم أحد، فهو قادر على أخذكم ومعاقبتكم ومجازاتكم، وهو حَكِيمٌ في أمره ونهيه وجزائه وأقداره، يضع كل شيء في موضعه ويوقعه في موقعه -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

ويُؤخذ من هاتين الآيتين من الهدايات في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا حيث خاطبهم باسم الإيمان؛ لأن ذلك هو الذي يؤهلهم للقبول، فإن هذا الإيمان يقتضي الاستجابة، وأن يقولوا: سمعنا وأطعنا، فإن إيمانهم يستلزم ويستدعي القبول عن الله -تبارك وتعالى، حيث آمنوا فأذعنوا، وأقروا وانقادوا بقلوبهم وجوارحهم، فليس لهم أن يتأخروا عن هذه الاستجابة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهذا خطاب خاص يخاطبهم به، وهو اللطيف بعباده.

ويدل أيضًا على أن الإيمان له مقتضيات، فليس هو مجرد دعوى يقولها الإنسان بلسانه، دون أن يكون لها رصيد من الواقع، وحظ من العمل والتطبيق والامتثال، فهذا الوصف يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يشعر بنوع علة أو تعليل، حيث يستدعي ذلك ما ذكر من الاستجابة، فأهل الإيمان هم الذين يناقدون في كل صغير وكبير، مما خاطبهم الشارع به، والإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان [1] فذلك من إيمانهم الذي دخلوا فيه، فليس لهم أن يتخلوا عن شيء من ذلك ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فهذا يقتضي الاستسلام الكامل، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [سورة النور:51] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36] فلا يكون له اختيار، فكيف يتعرض ويقول: أنا حر آخذ ما أريد، وأترك ما أشاء؟! فهذا لا يتفق مع الإيمان.

وقوله: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ينتظم أعمال القلوب كلها، وأعمال الجوارح كلها، وما يتعلق باللسان، فتُسلم القلوب، والجوارح، واللسان، فيكون العبد مسلمًا حقًا، وهذه حقيقة دين الإسلام، وهو الاستسلام لله -تبارك وتعالى- بالطاعة، أن يستسلم لربه ومليكه ومولاه، فينأى عن الشرك، ويكون موحدًا مؤمنًا، ويكون عبدًا مطيعًا لربه ومولاه، فهذا هو الواجب على العباد، فيكون مطبقًا وممتثلاً ومستجيبًا ومؤتمرًا بأمر الله ، أما الذي يتمرد على شرع الله فليس مستسلمًا، فحينما يُؤمر بتقوى الله تأخذه العزة بالإثم، كما في الآيات السابقة، فهذا لا يصح بحال من الأحوال.

فإذا تحقق ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً تحققت حقيقة دين الإسلام، وانتفت الآفات والشرور عن النفس، فإن النفس تشقى حيث يُنتقص الإيمان وشرائعه، فهذه النفس لا يمكن لها أن تطمئن وتستقر، ويحصل لها الراحة إلا بأن تكون على وفق ما شرَّع الله، وأراده لها، فهذا الذي يحصل به نعيمها وصلاحها وفلاحها في الدنيا، وهو الذي يحصل به النعيم في الآخرة، وإلا فالنفس إذا ابتعدت عن هذا يحصل لها من اللأواء والشقاء والمعاناة بقدر هذا البعد.

ولذلك لا حاجة للسؤال: لماذا يجد الإنسان في قلبه وحشة؟ ولماذا يجد ألمًا؟ ولماذا يجد غمًا؟ ولماذا يشقى؟ ولماذا يجد حزنًا متطاولاً يُنقِّله معه حيث حل؟ وذلك مع ما يتعاطاه من ألوان اللذات من المطعوم والمشروب والمنكوح، ومع ما يشاهده من الصور حيث يذهب هنا وهناك، فهو يُمتِّع ناظره، يطلب متعة لنفسه وقلبه، ولكنه لا يجدها، إنما يحصل ذلك -أيها الأحبة- بلزوم الإيمان بشرائعه وشموله، فإذا نقص ذلك نقصت طمأنينة العبد وراحته وسعادته، ولو كان يغرق في اللذات الجسمانية والشهوات، ولو كان معافىً في بدنه، بخلاف من كان متحققًا بالإيمان، فلو كان فقيرًا لا يجد بلغة من الطعام والشراب، ولو كان عليلاً، فإنه يجد في قلبه من الراحة والنعيم، كما كان شيخ الإسلام كما وصفه الحافظ ابن القيم، مع كان فيه من المعاناة والشدة، كان يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة [2] ولما حُبس ومات في محبسه -رحمه الله- كان يقول: لو ملأت لهم هذه القلعة -قلعة دمشق- ذهبًا ما كافأتهم على ما تسببوا به [3] يعني: من هذا الخير والنعيم الذي هو فيه.

وابن القيم يقول: كان إذا أرجف بنا المرجفون، وساءت بنا الظنون أتيناه، فما أن نرى وجهه حتى يذهب ذلك جميعًا [4]  يعني: قبل أن يتكلم؛ لما يرون من نضرة النعيم على وجهه -رحمه الله، فهذا من أين جاء؟ فهل كان شيخ الإسلام كان يُكثر من المتع واللذات والذهاب هنا وهناك؟ ومن فيضة إلى فيضة، ومن نزهة إلى نزهة، ومن بلد جميل ذي خضرة إلى آخر يتمتع هنا وهناك؟ أبدًا، هو أبعد ما يكون عن هذا، لكن كانت جنته بارتباطه واتصاله بذكر ربه -تبارك وتعالى.

فهذا ما يتعلق بالنفس، أما ما يتعلق بالمجتمعات والأمة، فإن هذا هو السبيل إلى استقامة أمورها، وصلاح أحوالها، بحيث تبقى مجتمعة قوية متماسكة، أما أن يأخذ بعض الدين طائفة، ويأخذ بعض الدين طائفة، ثم بعد ذلك يتنازع الناس أمرهم بينهم كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [سورة المؤمنون:53] فهذا سبب للبلاء كبير، وهو موجود في طوائف الأمة منذ القدم، وهو أن يُؤخذ بعض الدين، وهؤلاء يأخذون بعض الدين، فيحصل بسبب ذلك التفرق والاختلاف، فلا بد أن يُؤخذ الدين بكامله، كما جاء عن الله -تبارك وتعالى، وكما سن رسول الله ﷺ.

ولما كان أخذ الدين على هذا النهج والسبيل لا يتأتى إلا بمخالفة طرائق ومسالكه، وعدم الاستجابة لها، نهى عن اتباع خطوات الشيطان، فهذا المطلوب ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً الذي ينازعكم فيه هو الشيطان وحزبه وأولياؤه، فهم يصرفون الناس عن صراط الله المستقيم، فقد لا يأتون لهم لأول وهلة، فيطالبونهم بالكفر والإلحاد، ولكنها خطوات، تبدأ بنظرة، وخاطرة، ثم فكرة، ثم بعد ذلك تكون همًا، ثم تتحول إلى عزيمة، ثم يصير ذلك في عمل واقعي في الخارج، فيتدرج معه الشيطان من المعصية إلى الكبيرة، إلى البدعة، إلى الشرك بالله ؛ ولهذا قال: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ.

ولفظ الخطوات يدل على هذا التدريج خطوة، ثم خطوة، والقضية تبدأ بنظرة للاطلاع والمعرفة، ويزين الشيطان ذلك لكل أحد بحسبه، فيقول له: هي نظرة، وماذا عسى أن تؤثر؟ وماذا عسى أن تفعل؟ لكنها نظرة يتلوها نظرة، ثم يتلوها نظرات، ثم بعد ذلك يصير الإنسان عبدًا لهواه، لا يستطيع الانفكاك منه، فيحاول أن يتوب، ولا يستطيع، فيكون صريعًا لعدوه إبليس يقوده حيث شاء، ويتلاعب به تلاعب الصبيان بالكرة، فهذا نهي من الله عن اتباع هذه الخطوات، إذن اقطع الطريق من أوله، ولا تقل: أجرب، أو أنظر أو أكتشف أو أتعرف كما يقال، لا تتعرف، ولا تفتح بابًا من أبواب جهنم، ثم بعد ذلك لا تستطيع أن تغلقه، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24] قالها الله بعد قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24] فقد يريد الإيمان ولا يستطيع، ويريد التوبة ولا يستطيع؛ لأنه أصبح لا يملك قلبه.

ثم لاحظ أيضًا أنه قال: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة البقرة:168] فـ(إن) هذه تدل على التعليل لماذا لا نتبع خطوات الشيطان؟ لأنه عدو لنا، بيِّن العداوة، فإذا كان كذلك فكيف يطاع؟ وكيف يقبل ما يمليه ويُدرج به العبد؟ وهكذا من ابتلي بالوسوسة فهو يعيد الصلاة، أو يعيد الطهارة مرة بعد مرة، فكيف يستجيب لنصائح عدوه الشيطان، وهو يلعب به بهذه الطريقة، حتى يفوت عليه خير كثير، وتفوته صلاة الجماعة، وربما يفوته الوقت، فهو يعيد الصلاة حتى يخرج الوقت، وتتحول الصلاة إلى عبء ثقيل، يشقى معه، كل ذلك لاستجابته وقبوله لما يشير به الشيطان، ويدعو إليه، فلا حاجة لأن تفتش وتبحث فيما يتعلق بالطهارة عند وجود الشك، والقاعدة: أن الشكوك إذا كثرت طرحت، يعني لا يُلتفت إليها، ولا يحتاج مع ذلك إلى سجود سهو، ولا إعادة، وكذلك فيما يتعلق بالطهارة، فالأصل أن اليقين -وهي الطهارة- لا يزول بالشك، وكذلك بعد الفراغ من العبادة فإن الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يُؤثر، ولا قيمة له، فإذا انتهى الإنسان من الطواف وشك، وانتهى من الوضوء وشك، وانتهى من الصلاة وشك، هل سجد سجدة واحدة أو سجد سجدتين؟ فالشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يُؤثر، فإذا انتهى فلا داعي لهذه الوساوس.

وهذا كما ذكر الله -تبارك وتعالى- في سورة الأعراف لما ذكر قصة إبليس مع آدم، وإخراج آدم من الجنة، قال: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [سورة الأعراف:27] فهذا الذي غر وغرر بأبيكم آدم حتى أخرجه من الجنة، هو عدو لكم، والمؤمن لا يلدغ من جُحر واحد مرتين، فهذا يقتضي أن يعامل معاملة العدو، فكيف تستجيب له، هو يريد أن تسمع المعازف، وتشرب المسكر، وأن تعصي الله -تبارك وتعالى، وتنظر إلى الحرام، وتترك الصلاة، وتتأخر، وهذا الذي يريد، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [سورة البقرة:268] فكيف يُطاع؟

فهذا الذي يأمر به، وهذا الذي يعد به، فبئس الوعد، وبئس الأمر، فكيف تُترك طاعة الله الذي لعن إبليس وأخرجه من رحمته، وطرده، من أجل أنه امتنع عن السجود لأبينا آدم، ثم بعد ذلك أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [سورة الكهف:50] ما هذه المقابلة؟! يقول: أخرجته من رحمتي من أجل أنه امتنع عن السجود لأبيكم آدم، ثم بعد ذلك تعقدون الولاية معه، وتصطلحون معه، وتستجيبون له، وتعرضون عن عبادتي وطاعتي؟! بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً

 

 

لما أمر الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان بالدخول في دين الإسلام كافة بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان بقوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة البقرة:208] قال بعد ذلك: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:209] أي: إن انحرفتم وخرجتم عن طريق الحق من بعد ما جاءتكم الحجج الواضحات، فاعلموا أن الله عزيز لا يُغالب، ولا يفوته شيء، قادر على أخذكم ومعاقبتكم، وهو حكيم في أمره ونهيه، وحكيم في جزائه، يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها.

فيُؤخذ من هذه الآية فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ أن من زلَّ وانحرف بعد أن تبيَّن له الحق، فهو متوعد بالعقوبة، وهنا لم يذكر عقوبة خاصة، فلم يقل: فإن زللتم من بعدما جاءتكم البينات عذبناكم في الدنيا أو في الآخرة، وإنما قال: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فكان ذكر هذين الاسمين الكريمين يدل على المؤاخذة والمعاقبة والجزاء، فإن العزيز هو الذي لا يُغالب، فهو قادر على أخذ هذا المسيء الذي قد أعرض عن الحق وتركه بعد وضوحه، وظهور دلائله، فلم يكن ذلك عن جهل وخفاء للحق.

فيُؤخذ من ذلك أن من ينحرف من أهل العلم فإنه يكون أعظم جرمًا من غيره؛ ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63] فسمَّى تركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صنعًا، والصنع أخص وأدق من مطلق الفعل، لكن في قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة المائدة:78] فلعن الذين كفروا من بني إسرائيل من اليهود والنصارى، على لسان أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام، وكبار الأنبياء، والسبب كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون [سورة المائدة:79] فسمَّى ذلك فعلاً، وفي ترك الأحبار والرهبان سماه صنعًا.

وفي قوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:209] الصيغة صيغة خبر، لكنه ليس مجرد خبر، بل في طياته الوعيد، كقول من يتوعد غيره: إن خالفتني أو عصيتني فأنت تعرفني، فذلك وعيد أكيد، وكذلك في الآية دليل على أن الأسماء الحسنى التي تذكر في خواتيم الآيات لها مناسبة بمضمون وموضوع الآية، كما ذكرنا ذلك سابقًا، وهذا نوع من أنواع المناسبة، فإن المناسبات أنواع، وجه التعلق والارتباط بين الآية والتي بعدها والتي قبلها، وكذلك أيضًا بين الآية وخاتمتها، وبين فاتحة السورة وخاتمتها، وبين المقاطع، وبين الجمل: الجملة والجملة، فهذا كله من المناسبات.

وهنا لم يقل: فاعلموا أن الله غفور رحيم مثلاً، وقد ذكر بعضهم أن أعرابيًا سمع قارئًا يقرأ: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم) فأنكر ذلك عليه، ولم يكن هذا الأعرابي قارئًا، ولكن قال: الحكيم لا يقول كذا، يعني لا يذكر الغفران عند الزلل؛ لأنه إغراء به، يعني كأنه يقول: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم) إذًا لا حرج عليكم، ولا بأس، ولا غضاضة، فحينما يقع منكم الانحراف، فهذا لا يحفظ، ولكنه فهم ذلك بفطرته، فلما أعادها القارئ أعادها على الوجه الصحيح: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وذكر هذا في قراءة قوله -تبارك وتعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ [سورة المائدة:38] فقرأها قارئٌ: (والله غفور رحيم) فأنكر عليه ذلك؛ لأن ذلك إغراء بالمعصية، والآية كما هو معلوم عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة المائدة:38]. 

  1. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان برقم: (9) ومسلم في كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان برقم: (35) واللفظ لمسلم.
  2. المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 153).
  3. المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 154).
  4. الوابل الصيب (ص:45).