الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ [سورة البقرة:207]، لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ [سورة البقرة:207]، قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة: نزلت في صهيب بن سنان الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة؛ منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه، ويهاجر فعل، فتخلص منهم، وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة، وقالوا له: "ربح البيع"، فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبره أن الله أنزل فيه هذه الآية، ويروى أن رسول الله ﷺ قال له: ربح البيع صهيب[1].
ومعنى الآية عام يدخل فيه كل مجاهد في سبيل الله كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة:111]، ولما حمل هشام بن عامر  بين الصفين، أنكر عليه بعض الناس، فرد عليهم عمر بن الخطاب، وأبو هريرة - ا - وغيرهما، وتلوا هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ والله رؤوف بالعباد [سورة البقرة:207]"
جرت هذه الآيات على عادة القرآن الكريم في ذكر النقيضين، فإنه يذكر أصحاب النار، ثم يذكر أصحاب الجنة، يأتي على ذكر الوعد، ويثني بذكر الوعيد، يعرج على صفات الأبرار، ويتلوها بصفات الفجار، فالله  لما ذكر حال الأولين وهم أهل النافق الذين:
يعطون من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
ذكر حال الطرف الآخر وهو مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ أي: يبيع نفسه طلباً لمرضاة ربه، فمثلهم أهل لرحمة الله ، ولهذا ختم الله هذه الآية بقوله: وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ أي: لهم أرقّ الرحمة وهي الرأفة، إذ الرأفة نوع من الرحمة، وأما أهل النفاق فقال في صنيعهم: وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ.
  1. رواه الحاكم في مستدركه برقم (5700) (3/450)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في التلخيص برقم (5706).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي: يبيعها، قيل: نزلت في صهيب   وقيل: على العموم.  وبيع النفس في الهجرة، أو الجهاد، وقيل: في تغيير المنكر، وأن الذي قبلها فيمن غُيّر عليه فلم ينزجر."

يعني مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ الشراء هنا بمعنى البيع؛ لأن الشراء يأتي بمعنى البيع، ويأتي بمعنى الشراء المعروف، فهو من الأضداد، قيل: نزلت في صهيب. لكنه لا يصح، والقول بأنها فيه مروي عن جماعة: كابن عباس، وأنس، وابن المسيب، وأبو عثمان النهدي، وعكرمة[1].

وقيل: على العموم. أنها صفة لبعض الناس، والله  يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111] وبيع النفس في الهجرة، أو الجهاد، يعني يبذل نفسه.

وقيل: في تغيير المنكر.  والواقع أن هذا نوع من الجهاد.

يقول: وأن الذي قبلها فيمن غُير عليه فلم ينزجر. يعني جعلهما متقابلين يعني الأول في المغير للمنكر يَشْرِي نَفْسَهُ يبذل نفسه، ويتحمل الأذى ابتغاء مرضات الله؛ لأن القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لا شك أنه قيام بمهمة صعبة، وثقيلة، وكثير من الناس يستثقل من يغير عليه، لا يكون يبذل نفسه، فيتحمل ما يأتيه من الأذى في سبيل الله والموصوف الآخر هو فيمن غُير عليه، هذا الذي تأخذه العزة بالإثم إذا قيل له: اتق الله. لكن الآية أعم من هذا: مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ يعني يبذلها في سبيل الله، وطلب مرضاته بالجهاد، ونحو ذلك، ولا يختص هذا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فهو من الجهاد. 

  1. تفسير ابن كثير (1/ 564).

 

مرات الإستماع: 0

ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- الصنف المقابل لهؤلاء، فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [سورة البقرة:207] فمن الناس من يبيع نفسه فإن يَشْرِي هنا بمعنى (يبيع)، أي: يشري نفسه طلبًا لرضا الله -تبارك وتعالى- ببذل هذه النفس في سبيله، والتزام طاعته، والله -تبارك وتعالى- لا يضيع عمل هؤلاء وبذلهم، فهو رؤوف بالعباد، يرحم عباده المؤمنين رحمة واسعة في عاجلهم وآجلهم، ويجازيهم بأحسن الجزاء.

فيُؤخذ من هذه الآية معرفة هذا الوصف الكامل من أوصاف أهل الإيمان مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ يبيع نفسه ويُرخصها ويبذلها طلبًا لمرضاة الله -تبارك وتعالى، ورجاءً لثوابه، فهذا في مقابل ذاك الذي ليس له هم إلا الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب عند الله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

ولاحظوا أيضًا إخلاص هذا الصنف من الناس مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فليس له مطلوب آخر، فهو لا يفعل ذلك من أجل أن يُمدح، ويُثنى عليه، ويُذكر، ويُنوه به، وإنما يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فهذا هو الذي يكون له الجزاء الأوفى عند الله -تبارك وتعالى، كما قال الله : وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [سورة البقرة:272] فهذا الإخلاص، ومن ثَم فينبغي على العبد أن يكون بذله وسعيه وعمله وإنفاقه كل ذلك لهذا الغرض، وليس ابتغاء الدنيا، أو أن يبتغي مردودًا ماديًا، وعائدًا يعود عليه، أو أن يبتغي ثناء الناس ومديحهم وإطراءهم، أو المنزلة والحظوة في قلوبهم.

وفي قوله: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ هذا فيه إثبات صفة الرضا لله -تبارك وتعالى، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ رؤوف بالعباد، ورؤوف بأهل الإيمان، وبهذا الصنف من الناس، وهنا لم يذكر جزاءه وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [سورة البقرة:207] والصنف الذي قبله قال: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ [سورة البقرة:206]، وهنا لم يقل: فله الجنة، وإنما قال: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [سورة البقرة:207] فذكر هذين الاسمين الكريمين، الرأفة التي هي أرق الرحمة، فهي رحمة خاصة، ذكر ذلك ليدل على جزائه، فإذا كان الله رؤوفًا بالعباد، فمعنى ذلك أنه سيجازيه أحسن الجزاء، وهذا مناسب لما ذكر من صفتهم، فهؤلاء بذلوا أنفسهم لله، وجعلوا أنفسهم معبدة له، فقال: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ وهم الذين قد عبَّدوا أنفسهم لمولاهم ومليكهم -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

ولاحظ هنا يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ولم يقل: والله رؤوف بهم، والأصل أن العرب تختصر الكلام بذكر الضمير، فهذا موضع يصح فيه الإضمار، فأظهر، فقال: بِالْعِبَادِ ولم يقل: بهم، فجاء بالاسم ظاهرًا، وكأنه يشعر بالعلة، يعني: أن رأفته -تبارك وتعالى- تتعلق بأصحاب العبودية لله -جل جلاله، وتقدست أسماؤه.

فاشتملت هذه الآيات على هذين الصنفين، فينبغي على المؤمن أن يكون من الصنف الثاني الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، ويبذل أغلى ما عنده طلبًا لجنته، وطلبًا لثوابه وجزائه، وهذا ينبغي أن يكون مقيدًا بصحة العمل، فقد يبذل الإنسان نفسه ابتغاء مرضاة الله يطلب مرضاة الله، ولكن بعمل فاسد يظن أنه صالحًا، فيودي به ذلك إلى خسارة، على خلاف ما كان يقصده ويطلبه، فالذي يبذل نفسه في مرضاة الله يكون عمله صحيحًا وجهادًا صحيحًا، على الوجه المشروع، لكن كما ذكرنا في صفة الخوارج في الكلام على العبر من التاريخ، كانوا يبذلون أنفسهم بزعمهم طلبًا لمرضاة الله، فيقدمون على الموت، ويتهافتون عليه، ولكن على عمل فاسد، وها هي الشواهد ونظائر ذلك تتكرر في كل عصر إلى عصرنا هذا، فهذا الذي يقدم على الموت بهذه الطريقة التي هي من كراهة المنظر، وسوء المنقلب، وسوء الحال، نسأل الله العافية، فهي خزي في الدنيا، وميتة سوء، وهو قد أقدم على ذلك باختياره وطوعه، وربما أختار أشرف الأوقات في رمضان، أو في عشر ذي الحجة، أو ربما وقت صعود الخطيب على المنبر، ووقت إجابة، ونحو ذلك، يظن أنه يتقرب إلى الله بهذا العمل الفاسد، الذي يهلك فيه الحرث والنسل.

فمثل هذه النصوص تحتاج إلى بيان وإيضاح وشرح، من أجل أن يسترشد أهل الإيمان، فيعرفون كيف يبذلون أنفسهم؟ وما هو السبيل الصحيح في ذلك؟ وإلا فإن مثل هذه النصوص قد يفهمها المبطل، ويحملها على مبتغاه وفهمه الفاسد، ومعروف أن الفِرَق عبر التاريخ، سواء كان الخوارج أو المعتزلة، أو غير ذلك، كانوا يستدلون ويحتجون بنصوص من القرآن، فحينما يُبيَّن محامل هذه الآيات، وكيف تُفهم على الوجه الصحيح، يكون ذلك سبيلاً لرشاد وعمل صالح صحيح يرضاه الله -تبارك وتعالى، فلا يُغرر أحد بنفسه.