الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُۥ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [سورة البقرة:206] أي: إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله، وفعاله، وقيل له: اتق الله، وانزع عن قولك، وفعلك، وارجع إلى الحق، امتنع وأبى، وأخذته الحمية، والغضب بالإثم أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام"الباء في قوله: بِالإِثْمِ للسببية، واختلفوا في معنى الآية فقيل: إنها بمعنى مع، أي: أخذته العزة مع الإثم، وهذا فيه بعد.
وقيل: إنها بمعنى اللام، أي: أخذته العزة للإثم، والمراد أنها حملته على ذلك.
وقيل: إنها بمعنى على أي حملته العزة على الإثم، وقريب منه القول بأن العزة أخذته، وحملته بما يؤثمه، والله أعلم بالصواب.
"وهذه الآية شبيهه بقوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة الحج:72]، ولهذا قال في هذه الآية: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة البقرة:206] أي: هي كافيته عقوبة في ذلك".

مرات الإستماع: 0

قوله تعالى: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ المعنى: أنه لا يطيع من أمره بالتقوى تكبرًا، وطغيانًا، والباء يحتمل أن تكون سببية، أو بمعنى مع.  وقال الزمخشري: هي كقولك: أخذ الأمير الناس بكذا، أي: ألزمهم إياه، فالمعنى: حملته العزة على الإثم."

يقول: والباء يحتمل أن تكون سببية. يعني كما قال ابن كثير - رحمه الله -: أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ يعني بسبب الإثم، بسبب ما هو عليه من الآثام تأخذه العزة، فيرد الحق، ويستنكف حينما يؤمر بتقوى الله - تبارك، وتعالى - بسبب ما يجترمه من الآثام، هذا إذا كانت الباء سببية، أو بمعنى مع: أخذته العزة مع الإثم، أو حملته العزة على الإثم فيصدر عنه ما يوجب الإثم من أذى هذا الآمر له بتقوى الله بالقول، أو الفعل يعني كما قال بعضهم: أخذته العزة بما يُأثمُه.

وبعضهم يقول: بأن الباء بمعنى اللام: أخذته العزة للإثم.  وهذا قريب من بعض ما سبق يعني تحمله العزة على فعل الإثم، فهذا الإثم رد الحق، واستنكاف، والتكبر على من أمر بالتقوى، أذى هذا، شتم هذا الآمر بالتقوى، إلحاق الضرر به، ونحو ذلك. 

مرات الإستماع: 0

وإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة البقرة:206] ففي هذه الليلة نتحدث عن هذا الوصف الأخير لهذا المنافق، فهو يأنف ويستنكف حينما يُؤمر بتقوى الله -تبارك وتعالى- من أجل أن يرعوي، ويكف عن الفساد والإفساد، فهو إذا نصح، وقيل له: اتقِ الله، واحذر عقابه، وكف عن هذا الإفساد في الأرض لم يقبل النصيحة، بل يحمله الكبر والتيه والحمية الجاهلية على مزيد من الآثام أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ تحمله العزة على ارتكاب الإثم، والرد السيئ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ حملته العزة على ارتكاب القبائح، ورد نصح الناصحين، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ فهذا يكفيه جهنم، ويكفيه عذاب الله -تبارك وتعالى- في النار، وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ أي: لبئس الفراش، والمهاد ما يوطأ للصبي -كما هو معلوم- فهؤلاء تكون النار لهم -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها- كالمهاد للطفل، يعذبون بها.

فيُؤخذ من هذه الآية من الهدايات: أن عزة النفس والمكابرة قد تحمل الإنسان على ركوب العظائم، ورد الحق، والنفور من نصح الناصحين، فيكون ذلك مانعًا من التوفيق والهداية، والرجوع والتوبة، فيبقى الإنسان سادرًا في غيه، لا يلوي على شيء، ولا ينتفع بنصيحة ناصح، فإن الإنسان قد يتذكر من قبل نفسه إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201] تذكروا عظمة الله، وعذابه، ووعده ووعيده، وحدوده، وما رُكز في نفوسهم من الفطر السليمة، وما علموه من الحلال والحرام، وما إلى ذلك، فيرجعون.

وَإِخْوَانُهُمْ [سورة الأعراف:202] إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ تمدهم الشياطين فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202] لا يرجعون عن غيهم؛ لأن الشياطين تزيدهم غيًّا، وكذلك لا يحصل لهؤلاء الشياطين انكفاف عنهم ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي: الشياطين أيضًا، فهي مستمرة في الإغواء والإمداد بالغي، فيبقى الإنسان إلى أن يوافي إلى الممات، وهو على حال غير مرضية، فإذا لم يتذكر الإنسان من قبل نفسه، فإنه قد يهيأ له من يذكره ويبصره ويدعوه إلى لزوم الحق، واتباعه، والكف عن الشر والمنكر والباطل، فينبغي أن يستجيب، ويفرح، ويقبل، ولكن المنافق الذي وصفه الله بهذه الصفة يستنكف، فتأخذه العزة بالإثم وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ومن هنا ينبغي على المؤمن أن يحذر من مشابهة هؤلاء، فهذا وصف مذموم لا يصح بحال من الأحوال لأهل الإيمان، فإن المؤمن إذا ذُكر بالله تذكر واستجاب وأناب، ورجع عما هو فيه من الغي والباطل.

ولاحظوا هنا التعبير بالفعل المبني للمجهول وَإِذَا قِيلَ لَهُ ولم يقل: وإذا قال له الرسول ﷺ: اتق الله أخذته العزة بالإثم؛ لأن القائل لا تهم معرفته، فهو يكره الحق، ويجفوه، ويستنكف من قبوله، واتباعه، بصرف النظر عمن أمره باتباع هذا الحق، والرجوع إليه، فليست قضيته مع زيد، أو عمر، أو هو لا يريد أن يستجيب لأن فلانًا بعينه الذي يكرهه هو الذي أمره، أو نصحه، لا، وإنما وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أيًا كان هذا القائل، ومهما كانت مرتبته، أو الأسلوب الذي خاطبه به، أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فهذا يشمل كل قائل، وكل ناصح، ويدل على كراهة هذا المستنكف للحق نفسه.

وفي قوله: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ جاء بهذا التتميم بهذه العبارة: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ أخذته العزة بماذا؟ أخذته العزة بالإثم، وركوب الإثم، وبالرد الآثم، وبالتعلق بالباطل؛ وذلك لإزالة اللبس، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] فالطائر يطير بجناحيه، لكن لئلا يُفهم أن ذلك يُقصد به السرعة، فيقال: جاء طيران، يعني على وجه السرعة، وتقول: طاروا إليه زرافات ووحدانًا، يعني: مسرعين، لكن المراد هنا وَلا طَائِرٍ الطائر الحقيقي الذي يطير بجناحيه، وهنا قال: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ لئلا يلتبس ذلك بغيره، ويُفهم منه أن الأنفة قد تحمل الإنسان على الإثم، فقد يحلف على قطيعة الرحم، ويحلف على ترك المعروف والخير ألا يفعله، وقد يحلف الإنسان على باطل يصر عليه، ويقيم عليه، ولا يفارقه بحال من الأحوال، وكل ذلك على سبيل المكابرة والعناد.

إن الكثيرين -أيها الأحبة- يغضبون إذا قيل له: هداك الله، أو: اتق الله، وقد قال النبي ﷺ لما رأى ذلك الرجل قد انتفخت أوداجه، واحمر وجهه من الغضب في مخاصمة: إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان، ذهب عنه ما يجد فقالوا له: إن النبي ﷺ قال: تعوذ بالله من الشيطان، فقال: وهل بي جنون؟[1]، يعني: هل أنا مجنون حتى يقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟ فانظروا كيف يحمل الغضب ودواعيه على رد ما فيه مصلحة للإنسان، وخير، ودفع أسباب الشر.

وكثير من الناس في مثل هذه الأحوال عند شدة الغضب يتصرفون بتصرفات، ويتفوهون بكلمات يندمون عليها بعد ذلك، لكن مثل هذا لم يكن في حال غضب، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ لأنه يمارس أفعالاً سيئة من الفساد والإفساد أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فهذا يدل على أن هذا الإنسان لا يريد حقًا، ولا صلاحًا، ولا إصلاحًا، إنما هو مع الباطل حيث دار، فإذا ذُكِّر ونُصح استنكف.

  1. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده برقم: (3282) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب برقم: (2610).