الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا۟ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْا۟ مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُوا۟ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ۗ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة:214].
يقول تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة قبل أن تُبتلوا، وتختبروا، وتمتحنوا"
أم: المشهور أنها بمعنى بل في هذا الموضع من القرآن.
وبعض أهل العلم يقول: إن أم تأتي بمعنى همزة الاستفهام الاستنكاري "أحسبتم؟"، والمقصود أنه أنكر عليهم هذا الظن الذي قد يساور نفوسهم بأنهم يمكنهم السلامة والعافية من الابتلاء في الحياة الدنيا، ثم يعقبه النجاة لهم في الآخرة.
"كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم، ولهذا قال: وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء [سورة البقرة:214] وهي الأمراض، والأسقام، والآلام، والمصائب، والنوائب.
قال ابن مسعود وابن عباس ، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومرة الهمداني، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، والسدي، ومقاتل بن حيان: البأساء: الفقر.
وقال ابن عباس - ا -: والضراء: السقم"
من أهل العلم من خص كلاً من السراء والضراء بمعنى خاص فجعل البأساء: بمعنى الحاجة، والفقر، والجوع، والمسغبة، والضراء: بمعنى ما يعتور الأبدان مما يختل به مزاجه من المرض وما أشبه ذلك، فتطلق البأساء على ما يتعلق بجانب الفقر، والضراء على ما يتعلق بجانب المرض، وهذا التفريق لا يكون من قبيل التوارد على معنى واحد، إذ الأصل أن التأسيس مقدم على التوكيد، والله أعلم.
"وزلزلوا خوفاً من الأعداء زلزالاً شديداً، وامتحنوا امتحاناً عظيماً كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب ابن الأرت قال: قلنا يا رسول الله ﷺ ألا تستنصر لنا، ألا تدعوا الله لنا، فقال: إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه، ثم قال: والله ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون[1]"أصل الزلزلة: التحريك بشدة، وحروفها تدل على ذلك لما فيها من التكرار، ومن مثيلتها الصلصلة، والجلجلة؛ وما أشبه ذلك، فحركة الأرض، واضطرابها؛ يقال لها: زلزال وزلزلة.
والزلزلة في الآية باعتبار أنهم امتحنوا امتحاناً شديداً، فقد وقع عليهم ألوان من الأذى والإرجاف، وأنواع المخاوف التي تحرك النفوس تحريكاً شديداً للوقوع في الفتنة، فلا يكاد يثبت فيها إلا أصحاب الإيمان الراسخ كما قال الله في وقعة الأحزاب: إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [سورة الأحزاب:10-11] هذه الزلزلة كشفت المنافقين، وعرّت الذين في قلونهم مرض حتى إنهم قالوا كما قص القرآن خبرهم: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12].
"وقال الله تعالى: الم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۝ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [سورة العنكبوت:1-3]، وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة في يوم الأحزاب كما قال الله تعالى: إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ۝ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ۝ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:10-12]، الآيات.
ولما سأل هرقل أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سجالاً، يدال علينا وندال عليه، قال: كذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لها العاقبة[2].
وقوله: مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم [سورة البقرة:214] أي سنتهم كما قال تعالى: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ [سورة الزخرف:8]، وقوله: وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أي: يستفتحون على أعدائهم، ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال، والشدة قال الله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ كما قال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [سورة الشرح:5-6]، وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها، ولهذا قال تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ"
أُثر عن خالد بن الوليد قوله: "على قدر المئونة تنزل المعونة" وهذا شيء مشاهد، فإن الله ينزل من ألطافه على الناس في أوقات الشدائد ما يبعث على الاستغراب، والدهشة، ولا يخطر لهم على بال من تحملهم ألوائها العظام التي نزلت بهم!، وما يدرون أن اللطيف هو الله .
وقوله سبحانه: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ من أهل العلم من استشكل هذا، إذ كيف يقول الرسول: متى نصر الله؟! لما فيه من الكناية عن استبطائه النصر، وهو أعظم الناس ثقةً ويقيناً، وعلماً بالطريق الموصل إلى الله، وبالله  الذي لا يخذل أولياءه، وجعل الابتلاء سنة على الموحدين من عباده، وما أشبه ذلك.
فحملوا المراد على وجوه من التفسير لا يدل عليها ظاهر القرآن، فمنهم من يرى أن في الآية تقديماً وتأخيراً، والمعنى: حتى يقول الذين آمنوا: متى نصر الله؟، ويقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، ولا يخفي ما في هذا التفسير من تغيير للمعنى الظاهر من الآية؛ لأن قوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ، جواب من الله  يدل عليه قول النبي ﷺ: ولكنكم تستعجلون[3]، فهذا الذي وقع من هؤلاء الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ومن أقوامهم ممن صبر، وثبت معهم، ما قالوه إلا لشدة ما نزل بهم، بل قال الله : حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [سورة يوسف:110] وهي أوضح من آية البقرة، فمتى ينزل النصر؟ لما يبلغ الحال في الشدة غايته، عندها ينزل النصر، فيسقط كل منافق، وينكشف زيف كل صاحب مرض، ويُعرف على رؤوس الأشهاد، وتتبين الأمور على حقائقها، فمن الناس من يسقط في أول الطريق، ومنهم يسقط في أثنائه، ومنهم من يطول نفَسُه ثم ما يدري إلا وقد زلت به قدمه، فيسقط الجميع، ولا يبقى إلا أصحاب الإيمان الصحيح.
وبعض أهل العلم يختار القراءة الأخرى: أنهم قد كُذّبوا يعني أن أقوامهم قد كذبوهم؛ لأنهم وعدوهم بالنصر، وقد تأخر مجيئه، فخافوا من تكذيب أقوامهم لهم، لكن القراءة المشهورة تدل على معنى لا إشكال فيه إطلاقاً، وعليه فنخلص من هذا أنه لا يُسلَّم بأنه كلما خطر في بال المفسر من إشكال يدعي التقديم والتأخير في الآية، إذ الأصل عدم ذلك.
ومن أحسن ما تفسر به هذه الجملة من الآية أن يقال: إن هذا من الخواطر التي تقع وترد على القلب من غير أن تستقر فيه فيجب دفعها مباشرةً دون تريث، وهذه الخواطر لا يلام الإنسان فيها، وهي شبيهة بتفسير الهم فيما حكاه الله عن يوسف مع امرأة العزيز يقول الله : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [سورة يوسف:24]، فمن تأمل أقوال المفسرين يجد الكثير من التعسفات والتكلفات في تفسير الآية، وحملها على المحامل البعيدة، ومن أحسن ما ورد في تفسيرها ما قاله بعض السلف وهو اختيار الإمام أحمد - رحمه الله - أن ثَمّة فرقاً بين الهمين، همُّ يوسف - عليه الصلاة والسلام -، وهمُّ امرأة العزيز، إذ همُّ امرأة العزيز كان من قبيل العزم، وأما همُّ يوسف - عليه الصلاة والسلام - فهو من قبيل الخطرات، فدفع ذلك، ولم يتحول إلى فكرة فضلاً عن أن يتحول إلى عزيمة، أو عمل، وهكذا ما قاله الرسول قد يرد على القلب في أوقات الشدة، ولكن ما يلبث أن يدفعه، ولا يثبت فيه، فلا يضر الإنسان، وهذا المعنى من أحسن من تكلم عليه الشيخ: عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في كتابه: "القواعد الحسان"، إذ أورد أمثلة وجهها بهذا التوجيه، ومن أهل العلم من يوجهها بتوجه آخر، إلا أن هذا التوجيه جيد وليس فيه أي تكلف.
  1. رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب ما لقي النبي ﷺ وأصحابه من المشركين بمكة برقم (3639) (3/1398).
  2. رواه البخاري في كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ برقم (7) (1/7) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام برقم (1773) (3/1393).
  3. رواه البخاري في كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام برقم (3416) (3/1322).

مرات الإستماع: 0

"أَمْ حَسِبْتُمْ خطاب للمؤمنين على وجه التشجيع لهم، والأمر بالصبر على الشدائد."

أم هذه منقطعة بمعنى بل، بعض أهل اللغة يقولون: هي بمعنى همزة الاستفهام. خطاب للمؤمنين على وجه التشجيع، والأمر بالصبر يعني يوطن نفوسهم، ويهيئوها لتلقي الابتلاء، والشدة فإن ذلك من رحمته - تبارك، وتعالى - بهم أن أخبرهم عن وقوع ذلك قبل حصوله فتكون النفوس مستعدة له بهذا الاعتبار.

"وَلَمَّا يَأْتِكُمْ أي: لا تدخلوا الجنة حتى يصيبكم مثل ما أصاب من كان قبلكم.

 مَثَلُ الَّذِينَ أي: حالهم، وعبّر عنه بالمثل؛ لأنه في شدته يضرب به المثل."

يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي: سنة من كان قبلنا[1].

وذلك هي الحال المستمرة المعهودة، وهو وقوع الابتلاء في الأمم، فهذا أمر لا بد منه، والمثل في أصله كما ذكرنا في الكلام على الأمثال في القرآن أرجعه كثير من أهل العلم، أكثر أهل العلم يقولون: إن أصله يرجع إلى معنى الشبه. وهذا ذكرت أنه في بعض المواضع قد لا يتأتى بشيء من التكلف، لكن هنا مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ المثل إذا فسر بالشبه، أو أعدنا معناه إلى الشبه يعني الحال الشبيهة، المشابه لهم، ويأتي في مواضع قليلة بمعنى الصفة، وإن أنكره بعض أهل العلم يعني بهذا المعنى الصفة مَثَلُ الْجَنَّةِ [الرعد: 35] [محمد: 15] أي: صفة الجنة، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي: الصفة، وهي الابتلاء.

"وَزُلْزِلُوا بالتخويف، والشدائد."

الزلزلة عرفنا أن أصلها يرجع إلى معنى التحريك الشديد.

"ألا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يحتمل أن يكون جوابًا للذين قالوا: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ وأن يكون إخبارًا مستأنفًا، وقيل: إن الرسول قال ذلك لما قال الذين معه: متى نصر الله."

في حديث خباب المشهور لما قال للنبي ﷺ : ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟. هذا في مكة بعد أن لقوا من المشركين ما لقوا، فقال النبي ﷺ : كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم، أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون[2].

وهذا كقول الله : أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 2، 3] فهذا أمر لا بد من وقوعه، وكما في قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142] وكذلك في قوله: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 186] يعني كأنه يقول: والله لتبلون في أموالكم، وأنفسكم. 

  1. تفسير ابن كثير (1/572).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم: (3612).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة:214].

أَمْ حَسِبْتُمْ بل أظننتم -أيها المؤمنون- أن تدخلوا الجنة، ولما يصيبكم من الابتلاء والامتحان، مثل ما أصاب أهل الإيمان الذين مضوا من قبلكم مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وهي الفقر، وشدة العيش وَالضَّرَّاءُ وهي الأمراض وَزُلْزِلُوا بالخوف وأنواع المخاوف، حتى بلغ الأمر بهم أن يقول الرسول وأهل الإيمان حينما بلغت الشدة غايتها مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.

فهذه الآية -أيها الأحبة- تضمنت جملة من الهدايات، فقوله -تبارك وتعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ (أم) هذه التي يقولون: إنها المنقطعة، بمعنى (بل) والهمزة، وهمزة الاستفهام فيها للتقرير، وهو تقرير مع توبيخ، فهو إنكار لهذا الحسبان، واستبعاد له، يقول لهم على طريق الالتفات: أَمْ حَسِبْتُمْ بل أحسبتم، فهو يخاطب المؤمنين بمثل هذا، وذلك من باب التحفيز، وتهيئة النفوس للصبر والاحتمال لما قد يقع لهم من الشدائد، ولما يأتكم يعني لا سبيل إلى دخول الجنة أَمْ حَسِبْتُمْ على سبيل الاستبعاد، حتى يقع لكم مثل ذلك من ألوان الشدائد التي تكون في الأبدان من العلل، والأمراض، والأوصاب، فهذا أمر لا بد منه، فقد يقع ذلك للإنسان نفسه، وقد يقع لمن يحتف به ممن يحبهم من الأهل والقرابات، ونحو ذلك.

وكذلك أيضًا الفقر والشدة، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، كما في الآية التي مضى الكلام عليها من هذه السورة، حيث أخبر بالابتلاء بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [سورة البقرة:155] قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:155-157] وهنا جاء السياق على سبيل إنكار الظن بأن أحدًا يدخل الجنة من غير ابتلاء، فلا بد من الابتلاء؛ لأن هذه الدار هي دار الابتلاء والتمحيص والاختبار.

فالراحة -أيها الأحبة- في الجنة، ومن كان يظن أن الراحة في هذه الحياة الدنيا فهو مخطئ، وعليه أن يغير هذا التصور، إن من يظن أن الراحة في هذه الحياة الدنيا سيتعب وسيعاني ويكابد ولكن إذا وطَّن الإنسان نفسه على أن الراحة لا يمكن أن تتحقق إلا في الجنة، فإن ذلك يجعله متهيئًا لما يناله، ويقع له من المكروه، ويكون أيضًا متأهلاً للصبر، وقد يترقى من الصبر إلى الرضا بما قدر الله ، وقد يرتقي من الرضا إلى مرتبة الشكر، وهو أن يشكر الله على ما أصابه من المكروه؛ لأن الله ساق له ذلك عن علم وحكمة، واختار ذلك له؛ ليمحصه وليرفعه لا ليكسره، عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له[1].

وكما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: بأن المؤمن مثل الغنمة، حيثما انقلبت فعلى صوف، فالسراء لها عبودية، والضراء لها عبودية.

ويُؤخذ من هذه الآية رحمة الله -تبارك وتعالى- بهذه الأمة، حيث أخبرهم بما سينالهم، من أجل أن يوطنوا نفوسهم على ذلك، فلا يفجأهم الابتلاء، فيكون وقعه شديدًا عليهم، فوصف لهم الطريق كما هو، أعني طريق الابتلاء الذي يتطلب الصبر والثبات، والتوجه إلى الله -تبارك وتعالى- وحده، حتى تأتي ألطافه ومدده، ومن الخطأ -أيها الأحبة- أن يعتقد الإنسان أن ما هو عليه من الصلاح والاستقامة يجعله بمنأى عن الابتلاء، وقد سئل النبي ﷺ: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة[2]، يعني إذا كان في دينه صلابة شُدد عليه، وإذا كان في دينه رقة خُفف عنه، فهذا أمر لا بد من وقوعه.

ومن الناس من ينظر إلى حاله، وما هو عليه في ظنه من الاستقامة والطاعة والصدقات، ونحو ذلك، ويرى ما يقع له من الابتلاء في بدنه وولده وماله، ونحو ذلك، وينظر إلى حال من حوله من قرابات، ونحو ذلك مع ما هم فيه من التفريط، إلا أنهم في دنياهم في حالٍ أفضل من حاله، فيجزع وينكسر ويتسخط، ويسوء ظنه بربه ، وهذا غلط، ولو علم هذه الحقيقة وهي: أن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فالله -تبارك وتعالى- ابتلاه بحسب حاله وإيمانه ليرفعه الابتلاء، المكروه حينما يقع بالإنسان ليس ذلك لأن الله -تبارك وتعالى- لا يحبه إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع[3].

فهذا الابتلاء لا يعني أن الإنسان بعيد، وأن الإنسان مصغى الإناء، كما يقال، وأنه مُضيَّع، ونحو ذلك، لا، المهم أن يفتش الإنسان عن حاله ونفسه، وينظر في علاقته بربه -تبارك وتعالى، ويتوب من التقصير والإساءة والذنوب، فهذا هو الطريق، فطريق الجنة يكون بهذا الاعتبار حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات[4]، فطريق الجنة محفوف بأنواع المكاره والمشقات، وسواء كانت هذه المكاره مما يتعلق بالعبادة نفسها، كأن يستيقظ من فراشه للصلاة، ويكابد الصلاة في الليل، ويتردد على المسجد خمس مرات في اليوم والليلة، وهكذا أنواع العبادات، والطهارة في أوقات البرد، أو شدة الحر، والمشي في الظلم إلى المساجد، ونحو ذلك، فهذا كله من المكاره، وحينما يترك الإنسان ما حرم الله ولو كان ذلك فيه تضحيات بشيء من المال، أو الوظيفة، أو نحو ذلك، إذا كان يقارف ما حرّم الله -تبارك وتعالى.

وهكذا أيضًا الصبر على الابتلاء وهو من أسباب دخول الجنة، كما تدل عليه هذه الآية: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ فحينما يأتي مثل هؤلاء -يعني صفة هؤلاء- والحال التي وقعت لهم، فإن ذلك يتطلب الصبر؛ لأنه بهذا الابتلاء يتميز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، والمؤمن من المنافق، فالنفس كذلك لا تصلح ولا تزكو ولا يحصل لها التمحيص إلا بالابتلاء، كالذهب يُخلَّص جيده من رديئه حينما يُفتن في كير الامتحان، فبذلك يحصل الميز، فإذا كانت النفس مقصرة ظالمة جاهلة، فهي بحاجة إلى هذا التمحيص، وإلى هذا التطهير، وكم من محنة جلبت منحًا، وكم من علة أدت بصاحبها إلى إفاقة، ومراجعة، وحال مع الله -تبارك وتعالى- ما كان العبد ليصل إليها من غير الامتحان والابتلاء.

ولاحظ هنا قال: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا فهذه أنواع المكاره: البأساء والضراء، البؤس: وهو الفقر، بحيث لا يجد الإنسان شيئًا يقيم صلبه، أو يسد جوعة أولاده، أو يواريه من البرد والحر، وكذلك أيضًا الضراء بالأمراض بأنواعها، الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا وهذا بالخوف في الحروب، وما أشبه ذلك، وهذا كله يتطلب الصبر والثبات، والأعداء لا يعرفون إلا الأمة القوية التي تدافع عن حقوقها بالقوة، هذه لغة يفهمها البشر قديمًا وحديثًا، وشواهدها قائمة إلى ساعتنا هذه، والحروب مكروهة، ولكن لا بد من مقارعة الأعداء، ولا بد من الدفاع عن الحقوق المسلوبة للأمة، ولا بد أن يعرف الأعداء أن الحق له من يدافع عنه، فنسأل الله أن ينصر دينه وكتابه وأولياءه، وأن يخذل أعداء الدين، وأن يشتت شملهم، ويمزق جمعهم، وأن يجعلهم عبرة للعالمين.

وحينما يصل الابتلاء غايته وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ يتساءلون لشدة ما وقع لهم من الابتلاء، فعندها يتنزل النصر أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ولما جاء خباب إلى النبي ﷺ، وهو متوسد بردًا في ظل الكعبة، فقال: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فجلس ﷺ وهو مُحمر الوجه، وقال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون[5]، وتحقق هذا لهؤلاء الذين خوطبوا بذلك، ووقع وشاهدوه، فهذا وعده الذي لا يتخلف، ولكن في مثل هذا الابتلاء يتحقق أن الإيمان ليس بمجرد الدعوى والتحلي والتمني، بل لا بد فيه من التحمل والصبر والثبات.

كذلك تحمل هذه الآية في طياتها من بشرى النصر للمؤمنين أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ونصر الله -تبارك وتعالى- في قربه لا يقاس بالمدد التي نقيسها بنظرنا القاصر، ولا يقاس بأسبوع، أو شهر، أو سنة، أو سنوات معدودات، لكن العبرة بكمال النهايات، وليس بنقص البدايات، فالنصر وُعدت به الأمة، والله قال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [سورة غافر:51]، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [سورة المجادلة:21]كتْب، فهذا أمر متحقق لا محالة، ولكن على الأمة أن تكون على حال من الإيمان والطاعة والتقوى؛ ليتحقق لها موعود الله -تبارك وتعالى- بالنصر.

والأمر كما قيل: "إذا ضاق اتسع"، "إذا بلغت الشدة غايتها جاء الفرج" حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة:214] وكذلك ينبغي على أهل الإيمان أن يسألوا النصر من الله وحده؛ لأنه هو الذي يملكه وحده فقط؛ ولما أنزل الملائكة في بدر قال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [سورة آل عمران:126] بأقوى صيغة من صيغ الحصر، نزول ألف من ملائكة مردفين، يتبعهم غيرهم وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى فقط بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة آل عمران:126] بأقوى صيغة من صيغ الحصر، ألف من الملائكة، مع أن واحد من هؤلاء الملائكة يكفي لنفخ -مجرد نفخ- هذا الجيش الذي جاء من قريش، فيصيرون هباءً هم وما معهم من الإبل والخيل والبغال والحمير، يقال: إن جبريل في قرى قوم لوط وهي قرى خمس، وليست واحدة، يقال: حملها بطرف جناحه، أو بريشة من جناحه، حتى بلغ بها السماء، ثم قلبها.

وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [سورة النجم:53] المؤتفكة يعني المنقلبة، وهي قرى قوم لوط وَالْمُؤْتَفِكَاتُ في بعض المواضع المؤتفكة وهي جنس، والمؤتفكات بالجمع باعتبار أنها عدة قرى، أَهْوَى أي: حملها إلى الأعلى، ثم قلبها، ثم أتبعها بالحجارة بعد ذلك، فأهلكهم جميعًا، وحمل الأرض من تحتهم، ثم بعد ذلك رفعت إلى السماء حتى قيل: بأن الملائكة سمعت نباح كلابهم، ثم قلبت عليهم.

فكم عدد المشركين في غزوة بدر؟ يقربون من الألف؟! ألف من الملائكة نزلوا، وبعض أصحاب النبي ﷺ سمع من يقول: أقدم حيزوم[6]، يقول ذلك لفرسه، فهذا من مدد الملائكة، كما قال النبي ﷺ، فلاحظ ألف غير جيش المسلمين، ومع ذلك قال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة آل عمران:126] وقال ربنا -تبارك وتعالى- حينما أخذ النبي ﷺ حفنة من تراب وألقاها في وجوه المشركين في يوم بدر، وقال: شاهت الوجوه[7] فانهزموا ما بقي أحد إلا دخل من ذلك التراب في عينه، فالله يقول: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [سورة الأنفال:17] هو رمى ﷺ بيده، لكن هذه الرمية ماذا كانت يمكن أن تبلغ؟ كيف تصل إلى وجوه هؤلاء وإلا أعينهم مع البعد؟! ولهذا قال: وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ولاحظ هي حفنة من تراب، وبذل سبب بسيط، ألقاها النبي ﷺ هكذا، لكن الله -تبارك وتعالى- أوصلها إلى أعينهم، فاشتغلوا بها، يعالجون أثر ذلك.

وأيضًا هذه الآية فيها إعلام بأن الله -تبارك وتعالى- يفرج عن أنبيائه وأوليائه بعد انقطاع الأسباب، فلا يبقى إلا سببه ، تنقطع كل العلائق فهنا يتنزل النصر. 

  1. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير برقم: (2999).
  2. أخرجه الترمذي في أبواب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء برقم: (2398) وابن ماجه في كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء برقم: (4023) وقال الألباني: "حسن صحيح".
  3. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (23633) وقال محققو المسند: "حديث صحيح، وهذا إسناد منقطع".
  4.  أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم: (2822).
  5. أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام برقم: (3612).
  6. أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم برقم: (1763).
  7. أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين برقم: (1777).