يقول تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة قبل أن تُبتلوا، وتختبروا، وتمتحنوا"أم: المشهور أنها بمعنى بل في هذا الموضع من القرآن.
وبعض أهل العلم يقول: إن أم تأتي بمعنى همزة الاستفهام الاستنكاري "أحسبتم؟"، والمقصود أنه أنكر عليهم هذا الظن الذي قد يساور نفوسهم بأنهم يمكنهم السلامة والعافية من الابتلاء في الحياة الدنيا، ثم يعقبه النجاة لهم في الآخرة.
"كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم، ولهذا قال: وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء [سورة البقرة:214] وهي الأمراض، والأسقام، والآلام، والمصائب، والنوائب.
قال ابن مسعود وابن عباس ، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومرة الهمداني، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، والسدي، ومقاتل بن حيان: البأساء: الفقر.
وقال ابن عباس - ا -: والضراء: السقم"من أهل العلم من خص كلاً من السراء والضراء بمعنى خاص فجعل البأساء: بمعنى الحاجة، والفقر، والجوع، والمسغبة، والضراء: بمعنى ما يعتور الأبدان مما يختل به مزاجه من المرض وما أشبه ذلك، فتطلق البأساء على ما يتعلق بجانب الفقر، والضراء على ما يتعلق بجانب المرض، وهذا التفريق لا يكون من قبيل التوارد على معنى واحد، إذ الأصل أن التأسيس مقدم على التوكيد، والله أعلم.
"وزلزلوا خوفاً من الأعداء زلزالاً شديداً، وامتحنوا امتحاناً عظيماً كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب ابن الأرت قال: قلنا يا رسول الله ﷺ ألا تستنصر لنا، ألا تدعوا الله لنا، فقال: إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه، ثم قال: والله ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون[1]"أصل الزلزلة: التحريك بشدة، وحروفها تدل على ذلك لما فيها من التكرار، ومن مثيلتها الصلصلة، والجلجلة؛ وما أشبه ذلك، فحركة الأرض، واضطرابها؛ يقال لها: زلزال وزلزلة.
والزلزلة في الآية باعتبار أنهم امتحنوا امتحاناً شديداً، فقد وقع عليهم ألوان من الأذى والإرجاف، وأنواع المخاوف التي تحرك النفوس تحريكاً شديداً للوقوع في الفتنة، فلا يكاد يثبت فيها إلا أصحاب الإيمان الراسخ كما قال الله في وقعة الأحزاب: إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [سورة الأحزاب:10-11] هذه الزلزلة كشفت المنافقين، وعرّت الذين في قلونهم مرض حتى إنهم قالوا كما قص القرآن خبرهم: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12].
"وقال الله تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [سورة العنكبوت:1-3]، وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة في يوم الأحزاب كما قال الله تعالى: إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:10-12]، الآيات.
ولما سأل هرقل أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سجالاً، يدال علينا وندال عليه، قال: كذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لها العاقبة[2].
وقوله: مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم [سورة البقرة:214] أي سنتهم كما قال تعالى: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ [سورة الزخرف:8]، وقوله: وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أي: يستفتحون على أعدائهم، ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال، والشدة قال الله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ كما قال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [سورة الشرح:5-6]، وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها، ولهذا قال تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ"أُثر عن خالد بن الوليد قوله: "على قدر المئونة تنزل المعونة" وهذا شيء مشاهد، فإن الله ينزل من ألطافه على الناس في أوقات الشدائد ما يبعث على الاستغراب، والدهشة، ولا يخطر لهم على بال من تحملهم ألوائها العظام التي نزلت بهم!، وما يدرون أن اللطيف هو الله .
وقوله سبحانه: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ من أهل العلم من استشكل هذا، إذ كيف يقول الرسول: متى نصر الله؟! لما فيه من الكناية عن استبطائه النصر، وهو أعظم الناس ثقةً ويقيناً، وعلماً بالطريق الموصل إلى الله، وبالله الذي لا يخذل أولياءه، وجعل الابتلاء سنة على الموحدين من عباده، وما أشبه ذلك.
فحملوا المراد على وجوه من التفسير لا يدل عليها ظاهر القرآن، فمنهم من يرى أن في الآية تقديماً وتأخيراً، والمعنى: حتى يقول الذين آمنوا: متى نصر الله؟، ويقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، ولا يخفي ما في هذا التفسير من تغيير للمعنى الظاهر من الآية؛ لأن قوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ، جواب من الله يدل عليه قول النبي ﷺ: ولكنكم تستعجلون[3]، فهذا الذي وقع من هؤلاء الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ومن أقوامهم ممن صبر، وثبت معهم، ما قالوه إلا لشدة ما نزل بهم، بل قال الله : حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [سورة يوسف:110] وهي أوضح من آية البقرة، فمتى ينزل النصر؟ لما يبلغ الحال في الشدة غايته، عندها ينزل النصر، فيسقط كل منافق، وينكشف زيف كل صاحب مرض، ويُعرف على رؤوس الأشهاد، وتتبين الأمور على حقائقها، فمن الناس من يسقط في أول الطريق، ومنهم يسقط في أثنائه، ومنهم من يطول نفَسُه ثم ما يدري إلا وقد زلت به قدمه، فيسقط الجميع، ولا يبقى إلا أصحاب الإيمان الصحيح.
وبعض أهل العلم يختار القراءة الأخرى: أنهم قد كُذّبوا يعني أن أقوامهم قد كذبوهم؛ لأنهم وعدوهم بالنصر، وقد تأخر مجيئه، فخافوا من تكذيب أقوامهم لهم، لكن القراءة المشهورة تدل على معنى لا إشكال فيه إطلاقاً، وعليه فنخلص من هذا أنه لا يُسلَّم بأنه كلما خطر في بال المفسر من إشكال يدعي التقديم والتأخير في الآية، إذ الأصل عدم ذلك.
ومن أحسن ما تفسر به هذه الجملة من الآية أن يقال: إن هذا من الخواطر التي تقع وترد على القلب من غير أن تستقر فيه فيجب دفعها مباشرةً دون تريث، وهذه الخواطر لا يلام الإنسان فيها، وهي شبيهة بتفسير الهم فيما حكاه الله عن يوسف مع امرأة العزيز يقول الله : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [سورة يوسف:24]، فمن تأمل أقوال المفسرين يجد الكثير من التعسفات والتكلفات في تفسير الآية، وحملها على المحامل البعيدة، ومن أحسن ما ورد في تفسيرها ما قاله بعض السلف وهو اختيار الإمام أحمد - رحمه الله - أن ثَمّة فرقاً بين الهمين، همُّ يوسف - عليه الصلاة والسلام -، وهمُّ امرأة العزيز، إذ همُّ امرأة العزيز كان من قبيل العزم، وأما همُّ يوسف - عليه الصلاة والسلام - فهو من قبيل الخطرات، فدفع ذلك، ولم يتحول إلى فكرة فضلاً عن أن يتحول إلى عزيمة، أو عمل، وهكذا ما قاله الرسول قد يرد على القلب في أوقات الشدة، ولكن ما يلبث أن يدفعه، ولا يثبت فيه، فلا يضر الإنسان، وهذا المعنى من أحسن من تكلم عليه الشيخ: عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في كتابه: "القواعد الحسان"، إذ أورد أمثلة وجهها بهذا التوجيه، ومن أهل العلم من يوجهها بتوجه آخر، إلا أن هذا التوجيه جيد وليس فيه أي تكلف.
- رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب ما لقي النبي ﷺ وأصحابه من المشركين بمكة برقم (3639) (3/1398).
- رواه البخاري في كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ برقم (7) (1/7) ومسلم في كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام برقم (1773) (3/1393).
- رواه البخاري في كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام برقم (3416) (3/1322).