الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۦنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُوا۟ فِيهِ ۚ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لِمَا ٱخْتَلَفُوا۟ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:213].
روى ابن جرير عن ابن عباس - ا - قال: كان بين نوح وآدم - عليهما السلام - عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين، ومنذرين.
قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله كان الناس أمة واحدة فاختلفوا.
ورواه الحاكم في مستدركه ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، كذا رواه أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"
قوله - سبحانه -: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً اختلف أهل التأويل في المراد بالناس المذكورين في هذه الآية فبعضهم يقول: آدم، وبعضهم يقول: آدم وحواء، وبعضهم يقول: حينما استخرجهم الله من ذرية آدم - عليه الصلاة والسلام -، وبعضهم يقول غير هذا، والمعنى الذي ذكره ابن كثير هو أرجح أقاويل المفسرين، وهذه الآية كقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ [سورة يونس:19]، فكانوا كذلك من بعد آدم - عليه الصلاة والسلام - إلى عهد نوح - عليه الصلاة والسلام - ثم وقع الشرك، وهو أول ما وقع في الأرض كما دل عليه أثر ابن عباس، وعليه عامة السلف، وهو قول المحققين كابن جرير الطبري، وابن القيم، وجماعة غيرهم.
فَاخْتَلَفُواْ هذا المقدر تدل عليه قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود - ا -، واقتُبس من لفظ الآية، وهذا ما يسمى بدلالة الاقتضاء من قسم المنطوق غير الصريح عند الأصوليين، والاقتضاء تارةً يكون اقتضاء لغوياً، وتارة عقلياً، وتارة شرعياً، ولا منافاة بين العقل والشرع، فحينما يقول الله : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [سورة النساء:23]، فقول الشرع لا يدل على أن التحريم يتعلق بالذوات، فلا بد من مقدر، هل حرم عليكم أكل أمهاتكم، أو ضرب أمهاتكم، فدلالة الاقتضاء تقتضي أنه حرم عليكم الاستمتاع بأمهاتكم.
وفي آية الصيام أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184] دلالة الاقتضاء الشرعي: فأفطر، فعندها يجب عليه عدة من أيام أخر، والعرب تترك من الكلام ما كان مدرَكاً للسامع لا يخفى عليه اختصاراً، وهذا من الفصاحة، والبلاغة، ولذا يقول ابن مالك:
وحذف ما يعلم جائز .......................
والله تعالى أعلم.
وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ [سورة البقرة:213] (أل) تحتمل أن تكون للجنس، جنس الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء.
وتحتمل أن تكون (أل) العهد، ويكون المراد بالكتاب التوراة، وهذا المعنى اختاره بعض السلف، واختاره ابن جرير الطبري - رحمه الله -، ولكن ظاهر القرآن أن (أل) للجنس في لفظ الكتاب؛ لأنه ذكر النبيين ولم يذكر بعضاً منهم.
وابن جرير - رحمه الله - كلامه يتراوح في هذه الآيات فيحملها على بني إسرائيل تارة، ويجعلها عامة تارة أخرى، ولا شك أن بني إسرائيل ممن يدخلون في هؤلاء الذين وقع بينهم هذا التفاوت، والاختلاف، والافتراق، لأجل ذلك بعث الله النبيين بحيث إن أكثر الأنبياء في بني إسرائيل.
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ يحتمل أن يكون المراد أن الله يحكم بين الناس، ويحتمل أن يكون الذي يحكم هو الكتاب المذكور وهذا هو الأقرب، ولا إشكال أن يضاف الحكم إلى الكتاب والمقصود به من بعث بالكتاب، أو من يقوم على الحكم به كما قال الله : إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [سورة المائدة:44]، والله قال: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ [سورة الجاثية:29] فعبر بنطق الكتاب، وقصد أن الأنبياء ينطقون عنا بالحق من هذا الكتاب المنزل.
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ في عود الضمير احتمالات:
أنه يعود إلى الكتاب المذكور، وهذا المتبادر.
أنه يعود إلى الحق، وهذا معنى قريب ومحتمل.
أنه يعود إلى من أُنزل عليه الكتاب وهو محمد ﷺ باعتبار أن الذي أنزل عليه الكتاب هو محمد - عليه الصلاة والسلام -، وهذا بعيد، لأن الكتاب كما سبق جنس يصدق على كل الكتب المنزلة، والقاعدة في هذا الباب: أنه إذا أمكن اتحاد مرجع الضمائر فإنه لا يصار إلى تفريقها، والعلم عند الله - تبارك وتعالى -.
إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ يعني أوتوا الكتاب، وأعطوا علمه، وهم الأمم الذين أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب بعدما وقع الشرك، والخلاف، والكفر في الناس، وابن جرير - رحمه الله - يحملها على معنى خاص، يحملها على اليهود، وعلى كتابهم وهو التوراة.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة البقرة:213] قال: كانوا على الهدى جميعاً، فبعث الله النبيين، فكان أول من بعث نوحاً .
وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله: فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ... الآية.
قال: قال النبي ﷺ: نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغداً لليهود، وبعد غد للنصارى[1].
وقال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله: فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ... فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد ﷺ ليوم الجمعة، واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد ﷺ للقبلة، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد ﷺ للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد ﷺ للحق من ذلك، واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود كان يهودياً، وقالت النصارى كان نصرانياً، وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد ﷺ للحق من ذلك"
فقوله سبحانه: مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [سورة البقرة:213] يعني الحجج الواضحات، والبراهين الساطعات.
بَغْيًا بَيْنَهُمْ أي: ما وقع الخلاف والشر بين الناس إلا بسبب تجاوزهم للحد، وعدوانهم، وغالب الاختلاف بين الناس نتيجة للبغي، أو الجهل بمسائل العلم والدين، ولو أنصف الناس من أنفسهم، واتقوا الله ، وجعلوا العلم مطيتهم قاصدين منه الحق ليس غير؛ لاستراحوا من كثير من هذا الشر الملموس فيما بينهم.
فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذا المقطع معنى جامع لجميع أقوال المفسرين من السلف ، وهذا الأحسن في التفسير ألا يقتصر على جزء من المعنى، أو على مثال مما ذكره السلف، فالهداية لما اختلفوا فيه من الحق شملت كل الأبواب، هداهم إلى الدين الحق وهو الإسلام، وهداهم إلى الحق من أنبيائهم كعيسى ﷺ، وهداهم إلى الحق فيما يتعلق بالأزمان والأوقات كرمضان، ويوم الجمعة وما أشبه ذلك، وهداهم إلى الحق في عباداتهم، وفي معاملاتهم، وفي كل شئونهم، فلا يختص بمعنى دون آخر.
قوله - تبارك وتعالى -: فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ هنا قد يرد سؤال، هداهم لما اختلفوا فيه، أو هداهم للحق الذي اختلفوا فيه؟ أو للحق فيما اختلف الناس فيه ممن قبلهم، ما هو المراد؟ بعض أهل العلم كابن كثير يرى أن الآية على ظاهرها، ولذا أورد النصوص بأن هذه الأمة مرحومة، وأن الله قد هداها في الأمور المذكورة وفي غيرها مما اختلف فيه الناس.
ومن أهل العلم من يقول: إن في الآية تقديماً وتأخيراً، والمعنى فهدى الله الذين آمنوا بالحق لما اختلف فيه اليهود، والنصارى؛ في الكتاب الذي أوتوه، وهو قول جماعة من أهل اللغة، واختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، والمعنى في هذا القول ظاهر، لكن الأصل أن الآية إذا احتملت القول بالقلب - كالتقديم والتأخير - فالأصل الترتيب إذا أمكن حملها على معنى صحيح، فلا حاجة للقول بالتقديم والتأخير، والله أعلم.
"هم اختلفوا في عيسى ، فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد ﷺ للحق من ذلك.
وقوله: بِإِذْنِهِ أي: بعلمه بهم، وبما هداهم له؛ قاله ابن جرير"
فأهل الإسلام إنما صاروا مهتدين بعلم الله في تلك الأمور التي اختلف فيها من اختلف، ويحتمل أن يكون هداهم بعلمه يعني بحالهم، حين غرس الله فيهم من الصفات الخيرة ما يؤهلهم ليكونوا بها أمة وسطاً.
وبعض أهل العلم يقول: فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي: بأمره، ومنهم من صرح بخطأ المعنى الأول، والحقيقة أن المعنى الأول ليس ببعيد، بل هو مستلزم للمعنى الثاني، فإن الهداية تقع بإذن الله الكوني، هداهم كوناً، وهداهم ديناً، فكلا المعنيين قريب، وتفسر بهما هذه اللفظة من الآية، ولا شطط في ذلك، والله أعلم.
"وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء أي: من خلقه، إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أي: وله الحكم، والحجة البالغة.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة - ا - أن رسول الله ﷺ كان إذا قام من الليل يصلي يقول: اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم[2]"
لما اختلف فيه من الحق بإذنك كما جاء في تأويل الآية أي: بعلمك أو بأمرك.
"وفي الدعاء المأثور: اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً[3].
  1. رواه مسلم في كتاب الجمعة - باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة برقم (855) (2/585).
  2. رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم (770) (1/534).
  3. ذكره البهوتي في شرح منتهى الإرادات وعزاه إلى عمر بن الخطاب .

مرات الإستماع: 0

"أُمَّةً واحِدَةً أي: متفقين في الدين، وقيل: كفار في زمن نوح وقيل: مؤمنون ما بين آدم، ونوح، أو من كان مع نوح في السفينة، وعلى ذلك يقدر: فاختلفوا بعد اتفاقهم، ويدل عليه قوله: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا."

قوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً قال: أي متفقين في الدين. أي دين؟ ثم فرع عليه الأقوال، قيل: كفار. يعني كان الناس على الكفر، الذين قالوا هذا، فهموه من قوله: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ قالوا: بعث الرسل الذي استدعاه هو وجود الكفر فإن الفاء تدل على التعليل هذه التي يسميها الأصوليون بدلالة الإيماء، والتنبيه: أن يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان ذلك معيبًا عند العقلاء، فهنا كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ قالوا: هذا يشعر بأنهم كانوا على الكفر. هذا توجيه هذا القول. قال: في زمن نوح وقيل: مؤمنون ما بين آدم، ونوح. كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يعني: فاختلفوا، يعني وقع فيهم الكفر، وهذا القول بأن ذلك ما بين آدم، ونوح - عليه الصلاة، والسلام - هو الراجح - والله تعالى أعلم - وبه قال كثير من السلف: كابن عباس، وقتادة، وابن جريج[1] كما في قوله - تبارك، وتعالى -: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يونس: 19] كانوا على الإيمان فوقع بيهم الاختلاف، قال: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 19] هذا يدل على هذا المعنى - والله أعلم - والأثر المشهور عن ابن عباس - ا - وقد يقال: بأن له حكم الرفع، قال: كان بين نوح، وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق - يعني كلهم على التوحيد - فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين، ومنذرين[2].

وفي قراءة ابن مسعود وهي قراءة غير متواترة: (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا) [3].

وكذلك أيضًا في قراءة أُبَي[4] إذن كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً على التوحيد، فوقع بينهم الاختلاف، وذكر ابن جرير - رحمه الله - بعض الأقوال من أن ذلك يُراد به آدم، أو ذريته من صلبه، يعني آدم كان على التوحيد، وهو نبي - عليه الصلاة، والسلام - أول نبي هو آدم ﷺ وأول رسول هو نوح - عليه الصلاة، والسلام - فبعضهم يقول هو آدم، وبعضهم يقول: ذرية آدم من صلبه. يعني من أولاده، أو إلى زمن نوح، ابن جرير - رحمه الله - يقول: بأن ذلك جائز[5]. يعني أن يُراد به كَانَ النَّاسُ آدم ﷺ أو أولاد آدم من صلبه، أو الذرية إلى زمن نوح - عليه الصلاة، والسلام - يقول: لا دليل على تحديده.

باعتبار أن هؤلاء جميعًا يصدق عليهم أنهم كانوا على التوحيد، لكن ما ذكره ابن عباس يشمل هذا: ما بين آدم إلى نوح عشرة قرون على التوحيد، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: أن ذلك ما بين آدم إلى نوح - عليه الصلاة، والسلام - حيث وقع الشرك في قومه[6].

الْكِتابَ هنا جنس، أو مع كل نبيّ كتابه."

الكتاب يعني أن الله تبارك، وتعالى أنزل معهم الكتاب، مع الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - الذين بعثهم، أنزل معهم جنس الكتاب، أو مع كل نبي كتاب، يعني باعتبار أن (أل) الكتاب يحتمل أن تكون للجنس، ويحتمل أن يكون المراد التوراة، واللام للعهد، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -: أن اللام (أل) الكتاب عهدية، وليست للجنس، ليست للعموم، ويشمل ذلك جميع الكتب[7].

بأي اعتبار ابن جرير - رحمه الله - اختار أنها للعهد، وأن ذلك يُراد به التوراة؟ لاحظ السياق كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ هو يقول: إن هذا في بني إسرائيل. هم الذين اختلفوا فيه بغيًا بينهم كما ذكر الله - تبارك، وتعالى - عنهم في مواضع أخرى، هذه قرينة عند ابن جرير - رحمه الله - على أن المراد بالكتاب هنا التوراة، وأن المقصود بذلك أهل الكتاب من بني إسرائيل، وكأن الأول - والله أعلم - أقرب: أن ذلك في جنس الكتاب، ولا يختص ذلك بالتوراة، أو ببني إسرائيل فذلك من جملة الكتب.

وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ الضمير المجرور يعود على (الكتاب) أو على الضمير المجرور المتقدم، وقال الزمخشري: يعود على (الحق)[8] وأما الضمير في (أوتوه) فيعود على (الكتاب) والمعنى: تقبيح الاختلاف بين الذين أوتوا الكتاب بعد أن جاءتهم البينات."

 المقصود بالضمير المجرور (فيه) وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ يعود على الكتاب وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ يعني في الكتاب، أو إلى من أُنزل عليه، وهو محمد ﷺ بعضهم يقول هذا اخْتَلَفَ فِيهِ يعني في من أُنزل عليه الكتاب، لكن هذا فيه بُعد، وهكذا قال بعضهم: بأن المقصود بذلك وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي: الحق وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فبعضهم يقول: هذا يرجع إلى الحق اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحق. وذلك إذا تأملت السياق وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ اختلفوا في ماذا؟ اختلفوا في الحق، أو اختلفوا في الكتاب، أو اختلفوا فيمن جاء معه بالكتاب، وأنزل عليه، أو على الضمير المجرور المتقدم لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ يعني فيكون عائدًا إليه ذاك الذي وقع بينهم الاختلاف، لكن ما هذا الذي وقع بينهم الاختلاف فيه؟ اختلفوا في دينهم، قال: الزمخشري: يعود على الحق. اخْتَلَفَ فِيهِ أي: الحق، وأما الضمير في أُوتُوهُ فيعود على الكتاب. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي: أوتوا الكتاب، القاعدة أن الأصل توحيد مرجع الضمائر، القاعدة الترجيحية: أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، يعني عندنا ضمائر متتابعة فإذا أمكن حمل المعنى باعتبار أنها ترجع إلى شيء واحد فهذا أولى من القول بأن هذا الضمير يرجع إلى كذا، وهذا الضمير يرجع إلى كذا، وهكذا، فهذه قاعدة مرجحة في هذا الموضع توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، وهذا ذكرنا له أمثلة في بعض المناسبات في غير هذه المجالس: كقوله - تبارك، وتعالى -: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح: 9] هل يعود ذلك إلى النبي ﷺ أو يعود إلى الله، أو بعض ذلك يعود إلى الله، وبعض ذلك يعود إلى النبي ﷺ؟ وهكذا في شواهد، وأمثلة أخرى.

يقول: والمعنى تقبيح الاختلاف بين الذين أوتوا الكتاب بعد أن جاءتهم البينات. وهذا كما قال الله عز، وجل: وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الجاثية: 17] وقال: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [يونس: 93] وقال بعد ذلك: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 93] وهكذا في قوله: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 4].

وعلى كل حال كما سبق في قوله: أما الضمير في أُوتُوهُ فيعود على الكتاب. لكن ليس هذا محل اتفاق، مع أنه هو ظاهر السياق، فبعضهم أيضًا يقول: إن ذلك يرجع إلى الحق. إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي: الحق، أو النبي ﷺ أي: أُعطوا علمه بصفته - عليه الصلاة، والسلام - في كتبهم، ابن جرير يحمل ذلك على اليهود، وعلى كتابهم التوراة.

بَغْيًا أي: حسدًا، أو عدوانًا، وهو مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال."

أصل البغي كما سبق هو طلب الشيء، يبغي، يبتغي، ويقال ذلك لجنس من الفساد، الظلم، والترفع، والعلو بغير الحق، ومنه قيل: للحسد بغي بهذا الاعتبار؛ لأن الباغي طالب الظلم، والحاسد يظلم المحسود جهده طلبًا لإزالة النعمة، وهو بمعنى الطغيان، والتعدي، والظلم، وهذا نتيجة للحسد، فهؤلاء حسدوا أهل الإيمان باعتبار أن ذلك في أهل الكتاب، أو في اليهود على قول ابن جرير بَغْيًا بَيْنَهُمْ وإذا قيل ذلك باعتبار أن (أل) في الكتاب للجنس فيكون ذلك الاختلاف وقع في كتب الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -فآمن من آمن، وكفر من كفر بغيًا بينهم، فالبغي هو الذي حملهم على الكفر، والضلال، والانحراف، وترك ما أنزل الله - تبارك، وتعالى - على رسله - عليهم الصلاة، والسلام - وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [هود: 27] هكذا كانوا يستنكفون عن قبول دعوة الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - بهذا النظر، يقول: وهو مفعول من أجله. يعني يكون باعتبار لأجل البغي، أو مصدر في موضع الحال: بغيًا.

"فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: أمة محمد ﷺ"

 

لا شك أن الله هدى أهل الإيمان لما اختلفوا فيه، لكن يدخل فيه أيضًا باعتبار أن الكتاب للجنس يدخل فيه كل من آمن من تلك الأمم، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ.

"لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي: للحق فيما اختلفوا فيه فـ (ما) بمعنى الذي، وقبلها مضاف محذوف، والضمير في (اختلفوا) لجميع الناس، يريد اختلافهم في الأديان، فهدى الله المؤمنين لدين الحق، وتقدير الكلام: فهدى الله الذين آمنوا لإصابة ما اختلف فيه الناس من الحق، و(من) في قوله: (من الحق) لبيان الجنس، أي: جنس ما وقع فيه الخلاف."

وذهب ابن جرير - رحمه الله - وكذلك قبله الفرّاء[9] إلى أن في الآية قلبًا، والتقدير: فهدى الله الذين آمنوا بالحق لما اختلفوا فيه من كتاب الله الذي أوتوه، فكفر بعضهم بتبديله، وثبت آخرون، ولكن هذا خلاف الأصل، والقاعدة: أن الكلام إذا دار بين الترتيب على النسق الذي ذكره الله  أو القول بالتقديم، والتأخير، والقلب فإن الأصل في ذلك المقدم هو الترتيب كما ذكر الله تعالى.

"بِإِذْنِهِ قيل: بعلمه، وقيل بأمره."

قيل: بعلمه. هذا الذي اختاره ابن جرير أي: بعلمه بهم، وبما هداهم له فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ يعني بعلمه بحالهم، وبما هداهم له، وهذا المعنى بعلمه ما ارتضاه آخرون مثل النحاس، اعتبر أنه غلط، وأن المعنى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي: بأمره.

وعلى كل حال بِإِذْنِهِ أي: بعلمه، وإرادته، وتيسيره - والله تعالى أعلم - في حديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ : نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، هدانا الله له - قال: يوم الجمعة - فاليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى[10].

فهذا من جملة ما هدى الله إليه هذه الأمة بالنظر لما كان عليه من قبلها من بني إسرائيل حيث ضلوا في جملة من الأمور، هدى الله هذه الأمة إليها، كمسألة القبلة، والجمعة، وأشياء ذكر العلماء جملة منها، لكن على كل حال إذا قيل: بأن الآية عامة، وأن ذلك يرجع إلى الأمم عمومًا فإن هذه الأمة لا شك أنه حصل لها من الهدايات ما هو أعظم، وأكمل مما وقع لمن قبلها، فهي داخلة في ذلك دخولًا أوليًا.

  1.  تفسير ابن كثير (1/569).
  2.  المصدر السابق.
  3.  تفسير الطبري (4/275).
  4.  المصدر السابق (4/278).
  5.  المصدر السابق (4 277)
  6. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/204).
  7.  تفسير الطبري (4/280).
  8.  تفسير الزمخشري (1/256)
  9.  تفسير القرطبي (3/33)
  10.  أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، رقم: (855).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:213].

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يعني: على الإيمان والتوحيد والحق؛ وذلك منذ عهد آدم إلى عهد نوح ، كما صحَّ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وذلك عشرة قرون على التوحيد، ثم وقع الشرك بعد ذلك في قوم نوح[1]، وهذا أصح الأقوال في هذا الموضع من كتاب الله -تبارك وتعالى، وللمفسرين أقوال أخرى.

ولما اختلف الناس صار فريق من أهل الإيمان، وفريق من أهل الضلال والكفر، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فبعث الله النبيين دعاة إلى الحق، يبشرون من أطاع الله -تبارك وتعالى- وآمن، ويحذرون من كفر وعصى.

وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ يعني: جنس الكتب التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- على رسله -عليهم الصلاة والسلام، وهذه الكتب أنزلها بالحق، أي: أن الله -تبارك وتعالى- أنزلها مشتملة على الحق، ودالة عليه، تهدي الناس إلى الحق الذي وقع بينهم الاختلاف فيه، وتكون هادية لهم لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ليحكم الكتاب، أو ليحكم الله، أو ليحكم الرسل -عليهم الصلاة والسلام، أقوال للمفسرين، وبين هذه الأقوال من الملازمة ما لا يخفى.

وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي: الحق، وبعضهم يقول: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي: في أمر محمد -صلى الله عليه وآله وسلم، لكن كان الكلام في الحق، وأمر محمد ﷺ هو من جملة ذلك، وهو مما وقع فيه الافتراق، فكذَّب به من كذَّب، وآمن من آمن، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ يعني الذين أوتوا الكتاب والحق، ونزل عليهم الهدى، فكان اختلافهم ذلك ليس عن جهل، وإنما كان بسبب أمور أخرى من الحسد والبغي، وما شابه ذلك، وإلا فقد جاءهم من الهدى ما لا يدع في الحق لبسًا، فكان ذلك بعدما جاءت البينات، والحجج الواضحات.

بَغْيًا بَيْنَهُمْ يعني: أن ذلك على وجه الحسد والعدوان، والاستنكاف عن قبول دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام، فوفق الله أهل الإيمان بفضله ورحمته فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ هدى الله الذين آمنوا من جميع أمم الرسل -عليهم الصلاة والسلام، هدى الله من شاء إلى الحق، فعرفه ولزمه واعتقده.

وبعض أهل العلم يقول: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ الذين اختلفوا هم أهل الكتاب، وهدى الله أهل الإيمان لما وقع بينهم من الاختلاف، وهذا بعض المعنى الذي دلت عليه الآية، والله تعالى أعلم، ولا شك أن الله هدى هذه الأمة إلى ما اختلف فيه أهل الكتاب، كما جاء عن النبي ﷺ: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا، والنصارى بعد غد[2]، فذكر أنهم أوتوا الكتاب قبلنا، وهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، ومن هذا الهدى أن الله هدانا ليوم الجمعة، وأضل عنها من قبلنا من اليهود، فلهم السبت، والنصارى لهم يوم الأحد، فهذا من جملة الهدى وإلا فإن الهدى أعم من ذلك، وقد هدى الله هذه الأمة بلا شك في القبلة، وأضل عنها أولئك، وهداهم أيضًا فيما يتعلق فيما اختلفوا فيه كالمسيح -عليه الصلاة والسلام، فاليهود رموه بالعظائم، وأما النصارى فغلوا وألهوه، وقالوا: ثالث ثلاثة، فهدى الله هذه الأمة لما اختلف فيه هؤلاء من الحق.

فقوله: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي: بعلمه، بعلمه بهم هداهم، وقيل: أي: بأمره.

وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:213] لما ذكر أنه هدى أهل الإيمان ذكر أن له المشيئة المطلقة، فيهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فيسأل العبد ربه الهدى والتوفيق إلى معرفة الحق، واتباعه.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ إذن الحق هو الأصل، والناس خلقوا على الفطرة كل مولود يولد على الفطرة لكن تحصل الانتكاسة كما قال النبي ﷺ: فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه[3]، فالحق هو الأصل الثابت الراسخ الذي كان الناس عليه، ولكن الكفر والضلال والانحراف هو الذي طرأ عليهم، وفي تاريخ البشرية كان الناس على التوحيد، ولم يكن الناس على الشرك، فالحق أثبت وأسبق، وينبغي أن يُدعى الناس إلى مقتضى الفطر، وما كان عليه أباهم آدم إلى عهد نوح، فعلى الآباء والذرية، أن يرجعوا إلى هذا الأصل، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله:

فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فيا ترى نرد إلى أوطاننا ونسلم[4]

يعني سبانا العدو إبليس، وجاء بنا إلى هذه الأرض، فيا ترى هل نرجع إلى الدار الأولى، وهي الجنة، ونسلم من كيد الشيطان وشركه ورجسه، ونسلم من النار.

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً هذا يدفع أهل الحق إلى نشره وإعلانه وإذاعته، وأن يكون ذلك أثبت لقلوبهم، وأرسخ لأقدامهم، فهم الأصل، والحق هو الأصل، وهو الثابت، وهو مقتضى الفطرة، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وهذا يُؤخذ منه رحمة الله -تبارك وتعالى- بالخلق، حيث أنه حينما وقع الانحراف والضلال جاء الرسل فكان أول الرسل هو نوح ، فدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- وإلى الإيمان به وتوحيده.

ثم يقول: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ قدَّم البشارة في مهام الأنبياء، وأعمالهم، فينبغي العناية بمثل هذا، وألا يُغفل ويُطَّرح، فإن الكثيرين ربما يغلب جانب النذارة أو الوعيد أو الترهيب، أو ربما في حاله وملابساته ومع من يخالطهم لا يذكر إلا الأمور التي تنقبض منها النفوس، فأين التبشير لأهل الإيمان؟! والنبي ﷺ يقول: بشروا ولا تنفروا[5]، فمثل هذا ينبغي ألا يغفل، ويعتدل الإنسان في وعظه وتعليمه وخطابه للناس، وفيما يبعث إليهم من رسائل، ونحو ذلك، وأن يكون في ذلك مبشرات، وأن يبشر الناس، والأخيار، وأهل الاستقامة والصلاح بما يسرهم.

فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ أنزل معهم الكتب توضح الحق، وتجليه، فهذا أيضًا من رحمته -تبارك وتعالى- بخلقه، ولم يتركهم في عماهم وغيهم وكفرهم وضلاله.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فخصَّ بالذكر الذين أوتوه، فهذا لشناعة فعلهم، أوتوا الحق والهدى والكتاب الذي يوضح الحق ويجليه، ومع ذلك وقع منهم الاختلاف، وهذا يدل أيضًا على أن أولئك المكذبين للرسل -عليهم الصلاة والسلام- لم يكن التكذيب ناشئًا عن جهل ونقص في براهين الحق، وإنما كان ذلك بسبب البغي، وهكذا ما يقع بين طوائف الأمة من الاختلاف المذموم، فإن ذلك يرجع غالبًا إلى البغي، فإن الاختلاف الذي يكون بين أهل العلم لا يصير إلى حال من البغي، ولكن إذا وجد حظ النفوس، ووقعت العداوات بين الناس، فإنه قد يُرد الحق، أو يرُد بعض الحق بسبب أهوائهم، وما إلى ذلك.

ولاحظ هنا أنه جاء بلفظ (من) الدالة على ابتداء الغاية، يعني: أن ذلك بمجرد ما جاءهم مباشرة، فلم تكن هناك مهلة للنظر والتفكير، ثم بعد ذلك يتوافقون على أمر تجاه الحق، وإنما مباشرة ردوه بمجرد أن طرق أسماعهم، وهذا يدل على شدة عتوهم ومكابرتهم.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا أنه لا تقوم الحجة على الناس، ولا يستحقون العقوبة إلا بعد قيام البينات، والحجج الواضحات مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فالله -تبارك وتعالى- لا يُؤاخذ الناس حتى يأتي من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من يُبيِّن لهم الحق ويجليه، وعندئذٍ تنقطع أعذارهم، فالله -تبارك وتعالى- بعث الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة.

وقدَّم الاختلاف في قوله -تبارك وتعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فلم يقل: فهدى الله الذين آمنوا إلى الحق الذي اختلفوا فيه، وإنما قال: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وهذا للاهتمام به؛ لأن هذا الاختلاف هو الذي جعلهم يفترقون، وكان ذلك سببًا لبعث الرسل -عليهم الصلاة والسلام.

ويُؤخذ أيضًا من هذا رحمة الله -تبارك وتعالى- بأهل الإيمان، حيث هداهم إلى الحق الذي وقع فيه الاختلاف، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ثم إن تعليق ذلك بوصف الإيمان فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يدل على أنه بحسب ما يكون عند العبد من الإيمان يكون له من الهداية؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فأهل الإيمان يهديهم ربهم -تبارك وتعالى- في الدنيا، ويهديهم أيضًا في الآخرة، يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ [سورة يونس:9] فهداياته لهم -تبارك وتعالى- تكون في العاجل والآجل، فهذا يدل على أن العبد كلما تكامل إيمانه كان ذلك أدعى إلى إصابة الحق.

وأيضًا قوله: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ يُؤخذ منه أيضًا رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده، حيث لم يكلهم إلى عقولهم، بل أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [سورة المؤمنون:71] فأصحاب العقول -كما يدعون- من أهل الكلام، حينما رجعوا إلى عقولهم، وتركوا المنقول من الكتاب والسنة، صاروا فرقًا متناحرة، وكثر بينهم الشر والحيرة والبدع والأهواء، نسأل الله العافية.

ويُؤخذ من قوله: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أن الهداية من الله -تبارك وتعالى، ومن ثم فإن العبد بحاجة إلى أن يسأل الله ذلك دائمًا، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ كان إذا قام يصلي من الليل يقول: اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم[6]، وهذا يبعث العبد على التواضع لربه -تبارك وتعالى، وألا يلتفت إلى نفسه، ولا يقول: أنا اهتديت، أو أنا منذ نشأتي وأنا مستقيم على الحق، أو أنا كنت في بيئة منحرفة فاخترت طريق الهداية، ولم استجب لدواعي الانحراف، ونشأت في طاعة الله ، وكانت المغريات حولي كثيرة، أو أني كنت في بلاد فيها كثير من الفساد والشر والمغريات، ومع ذلك كنت ألزم الحق، ولم أتابع هؤلاء الذين ينحرفون عنه، ولم أتأثر بالرفقة السيئة، ونحو ذلك، فهذا كله التفات إلى النفس، وإنما الذي هداك ورحمك هو الله -تبارك وتعالى، فهذا الشعور يدفع عن العبد العجب، ورؤية النفس، ويجعله يسأل ربه دائمًا الثبات على الحق، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة:213]. 

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (4/ 275).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة برقم: (876) ومسلم في الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة برقم: (855).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام برقم: (1358) ومسلم في القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، برقم: (2658).
  4. انظر: شرح القصيدة الميمية (ص:22) وحادي الأرواح (ص:19-34).
  5. أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ما كان النبي ﷺ يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا برقم: (69) ومسلم في الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم: (1734).
  6. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم: (770).