روى ابن جرير عن ابن عباس - ا - قال: كان بين نوح وآدم - عليهما السلام - عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين، ومنذرين.
قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله كان الناس أمة واحدة فاختلفوا.
ورواه الحاكم في مستدركه ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، كذا رواه أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"قوله - سبحانه -: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً اختلف أهل التأويل في المراد بالناس المذكورين في هذه الآية فبعضهم يقول: آدم، وبعضهم يقول: آدم وحواء، وبعضهم يقول: حينما استخرجهم الله من ذرية آدم - عليه الصلاة والسلام -، وبعضهم يقول غير هذا، والمعنى الذي ذكره ابن كثير هو أرجح أقاويل المفسرين، وهذه الآية كقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ [سورة يونس:19]، فكانوا كذلك من بعد آدم - عليه الصلاة والسلام - إلى عهد نوح - عليه الصلاة والسلام - ثم وقع الشرك، وهو أول ما وقع في الأرض كما دل عليه أثر ابن عباس، وعليه عامة السلف، وهو قول المحققين كابن جرير الطبري، وابن القيم، وجماعة غيرهم.
فَاخْتَلَفُواْ هذا المقدر تدل عليه قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود - ا -، واقتُبس من لفظ الآية، وهذا ما يسمى بدلالة الاقتضاء من قسم المنطوق غير الصريح عند الأصوليين، والاقتضاء تارةً يكون اقتضاء لغوياً، وتارة عقلياً، وتارة شرعياً، ولا منافاة بين العقل والشرع، فحينما يقول الله : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [سورة النساء:23]، فقول الشرع لا يدل على أن التحريم يتعلق بالذوات، فلا بد من مقدر، هل حرم عليكم أكل أمهاتكم، أو ضرب أمهاتكم، فدلالة الاقتضاء تقتضي أنه حرم عليكم الاستمتاع بأمهاتكم.
وفي آية الصيام أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة:184] دلالة الاقتضاء الشرعي: فأفطر، فعندها يجب عليه عدة من أيام أخر، والعرب تترك من الكلام ما كان مدرَكاً للسامع لا يخفى عليه اختصاراً، وهذا من الفصاحة، والبلاغة، ولذا يقول ابن مالك:
وحذف ما يعلم جائز | ....................... |
وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ [سورة البقرة:213] (أل) تحتمل أن تكون للجنس، جنس الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء.
وتحتمل أن تكون (أل) العهد، ويكون المراد بالكتاب التوراة، وهذا المعنى اختاره بعض السلف، واختاره ابن جرير الطبري - رحمه الله -، ولكن ظاهر القرآن أن (أل) للجنس في لفظ الكتاب؛ لأنه ذكر النبيين ولم يذكر بعضاً منهم.
وابن جرير - رحمه الله - كلامه يتراوح في هذه الآيات فيحملها على بني إسرائيل تارة، ويجعلها عامة تارة أخرى، ولا شك أن بني إسرائيل ممن يدخلون في هؤلاء الذين وقع بينهم هذا التفاوت، والاختلاف، والافتراق، لأجل ذلك بعث الله النبيين بحيث إن أكثر الأنبياء في بني إسرائيل.
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ يحتمل أن يكون المراد أن الله يحكم بين الناس، ويحتمل أن يكون الذي يحكم هو الكتاب المذكور وهذا هو الأقرب، ولا إشكال أن يضاف الحكم إلى الكتاب والمقصود به من بعث بالكتاب، أو من يقوم على الحكم به كما قال الله : إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [سورة المائدة:44]، والله قال: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ [سورة الجاثية:29] فعبر بنطق الكتاب، وقصد أن الأنبياء ينطقون عنا بالحق من هذا الكتاب المنزل.
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ في عود الضمير احتمالات:
أنه يعود إلى الكتاب المذكور، وهذا المتبادر.
أنه يعود إلى الحق، وهذا معنى قريب ومحتمل.
أنه يعود إلى من أُنزل عليه الكتاب وهو محمد ﷺ باعتبار أن الذي أنزل عليه الكتاب هو محمد - عليه الصلاة والسلام -، وهذا بعيد، لأن الكتاب كما سبق جنس يصدق على كل الكتب المنزلة، والقاعدة في هذا الباب: أنه إذا أمكن اتحاد مرجع الضمائر فإنه لا يصار إلى تفريقها، والعلم عند الله - تبارك وتعالى -.
إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ يعني أوتوا الكتاب، وأعطوا علمه، وهم الأمم الذين أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب بعدما وقع الشرك، والخلاف، والكفر في الناس، وابن جرير - رحمه الله - يحملها على معنى خاص، يحملها على اليهود، وعلى كتابهم وهو التوراة.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة البقرة:213] قال: كانوا على الهدى جميعاً، فبعث الله النبيين، فكان أول من بعث نوحاً .
وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله: فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ... الآية.
قال: قال النبي ﷺ: نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغداً لليهود، وبعد غد للنصارى[1].
وقال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله: فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ... فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد ﷺ ليوم الجمعة، واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد ﷺ للقبلة، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد ﷺ للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد ﷺ للحق من ذلك، واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود كان يهودياً، وقالت النصارى كان نصرانياً، وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد ﷺ للحق من ذلك"فقوله سبحانه: مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [سورة البقرة:213] يعني الحجج الواضحات، والبراهين الساطعات.
بَغْيًا بَيْنَهُمْ أي: ما وقع الخلاف والشر بين الناس إلا بسبب تجاوزهم للحد، وعدوانهم، وغالب الاختلاف بين الناس نتيجة للبغي، أو الجهل بمسائل العلم والدين، ولو أنصف الناس من أنفسهم، واتقوا الله ، وجعلوا العلم مطيتهم قاصدين منه الحق ليس غير؛ لاستراحوا من كثير من هذا الشر الملموس فيما بينهم.
فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذا المقطع معنى جامع لجميع أقوال المفسرين من السلف ، وهذا الأحسن في التفسير ألا يقتصر على جزء من المعنى، أو على مثال مما ذكره السلف، فالهداية لما اختلفوا فيه من الحق شملت كل الأبواب، هداهم إلى الدين الحق وهو الإسلام، وهداهم إلى الحق من أنبيائهم كعيسى ﷺ، وهداهم إلى الحق فيما يتعلق بالأزمان والأوقات كرمضان، ويوم الجمعة وما أشبه ذلك، وهداهم إلى الحق في عباداتهم، وفي معاملاتهم، وفي كل شئونهم، فلا يختص بمعنى دون آخر.
قوله - تبارك وتعالى -: فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ هنا قد يرد سؤال، هداهم لما اختلفوا فيه، أو هداهم للحق الذي اختلفوا فيه؟ أو للحق فيما اختلف الناس فيه ممن قبلهم، ما هو المراد؟ بعض أهل العلم كابن كثير يرى أن الآية على ظاهرها، ولذا أورد النصوص بأن هذه الأمة مرحومة، وأن الله قد هداها في الأمور المذكورة وفي غيرها مما اختلف فيه الناس.
ومن أهل العلم من يقول: إن في الآية تقديماً وتأخيراً، والمعنى فهدى الله الذين آمنوا بالحق لما اختلف فيه اليهود، والنصارى؛ في الكتاب الذي أوتوه، وهو قول جماعة من أهل اللغة، واختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، والمعنى في هذا القول ظاهر، لكن الأصل أن الآية إذا احتملت القول بالقلب - كالتقديم والتأخير - فالأصل الترتيب إذا أمكن حملها على معنى صحيح، فلا حاجة للقول بالتقديم والتأخير، والله أعلم.
"هم اختلفوا في عيسى ، فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد ﷺ للحق من ذلك.
وقوله: بِإِذْنِهِ أي: بعلمه بهم، وبما هداهم له؛ قاله ابن جرير"فأهل الإسلام إنما صاروا مهتدين بعلم الله في تلك الأمور التي اختلف فيها من اختلف، ويحتمل أن يكون هداهم بعلمه يعني بحالهم، حين غرس الله فيهم من الصفات الخيرة ما يؤهلهم ليكونوا بها أمة وسطاً.
وبعض أهل العلم يقول: فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي: بأمره، ومنهم من صرح بخطأ المعنى الأول، والحقيقة أن المعنى الأول ليس ببعيد، بل هو مستلزم للمعنى الثاني، فإن الهداية تقع بإذن الله الكوني، هداهم كوناً، وهداهم ديناً، فكلا المعنيين قريب، وتفسر بهما هذه اللفظة من الآية، ولا شطط في ذلك، والله أعلم.
"وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء أي: من خلقه، إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أي: وله الحكم، والحجة البالغة.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة - ا - أن رسول الله ﷺ كان إذا قام من الليل يصلي يقول: اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم[2]"لما اختلف فيه من الحق بإذنك كما جاء في تأويل الآية أي: بعلمك أو بأمرك.
"وفي الدعاء المأثور: اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً[3].
- رواه مسلم في كتاب الجمعة - باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة برقم (855) (2/585).
- رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم (770) (1/534).
- ذكره البهوتي في شرح منتهى الإرادات وعزاه إلى عمر بن الخطاب .