الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْا۟ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها، واطمأنوا إليها، وجمعوا الأموال، ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها مما يُ، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها"قوله - تبارك وتعالى -: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ جملة حالية، والمراد حال كونهم ساخرين من الذين آمنوا.
"وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوا ابتغاء وجه الله، فلهذا فازوا بالمقام الأسعد، والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم، ومنشرهم، ومسيرهم، ومأواهم، فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين، وخلد أولئك في الدركات في أسفل سافلين"جاء في المراد بالفوقية في قوله: وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنه العلو في الدرجة؛ لأنهم في الجنة، والكفار في النار، ويحتمل أن يراد بالفوق المكان؛ لأن الجنة في السماء، والنار في أسفل سافلين، أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا كما وقع ذلك من ظهور الإسلام، وسقوط الكفر، وقتل أهله، وأسرهم، وتشريدهم، وضرب الجزية عليهم، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة، ومن تأمل تفسير ابن كثير - رحمه الله - للآية يجده من أجمع ما يقال في معنى الآية، فأهل الإيمان في درجات الجنة في مراتب علية، ومقامات سمية، وأهل الكفر في دركات النار، يتجرعون غصصها، ويكتوون بنارها، ولا تسأل عما يغشاهم من ألوان الذل، وصنوف المهانة.
أما ترى أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
"ولهذا قال تعالى: وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة البقرة:212] أي: يرزق من يشاء من خلقه، ويعطيه عطاء كثيراً جزيلاً بلا حصر، ولا تعداد في الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث: ابن آدم أَنفِقْ، أُنفقْ عليك[1]، وقال النبي ﷺ: أَنفِقْ بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً[2]، وقال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سورة سبأ:39]، وفي الصحيح: أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم، فيقول أحدهم: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً[3]قوله سبحانه: وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ قيل المراد: أنه عطاء متتابع كثير، بلا عد ولا حساب، وجاء بهذا اللفظ ليعبر به عن الكثرة، والغاية في التوسعة عليهم.
وبعض أهل العلم يقول: يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ يعني من غير محاسبة لهم على هذا العطاء، فرزْقُهم هنيء مليء مما أعده الله لهم في جناته، لا يلحقهم فيه تبعة، وليس وراءه مطالبة، أو محاسبة، ولكن المعنى الظاهر المتبادر أنه عطاء كثير؛ لأن الذي يُحسب، ويُعد من العطاء إنما هو القليل، وأما الكثير فلا حصر له، ولا حد، والله أعلم.
"وفي الصحيح: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس[4]، وفي مسند الإمام أحمد عن النبي ﷺ أنه قال: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له[5].
  1. رواه البخاري في كتاب النفقات - باب فضل النفقة على الأهل بلفظ أنفق يا ابن آدم أنفق عليك برقم (5352) (13/384)، ورواه مسلم في كتاب الزكاة - باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف برقم (993) (2/690).
  2. رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (1018) (1/442)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (1885).
  3. رواه البخاري في كتاب الزكاة - باب قول الله تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:5-10] اللهم أعط منفق مال خلفاً برقم (1374) (2/522)، ومسلم في كتاب الزكاة - باب في المنفق والممسك برقم (1010) (2/700)
  4. رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق - باب حدثنا قتيبة بن سعيد برقم (2958) (4/2273).
  5. رواه أحمد في مسنده برقم (24464) (6/71)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (6757).

مرات الإستماع: 0

"وَالَّذِينَ اتَّقَوْا هم المؤمنون الذين سخر الكفار منهم."

الذين سخر الكفار منهم، أو الذين لم يسخروا منهم، يعني هو ذكر الضعفاء: كصهيب، وبلال - ا - لكن وَالَّذِينَ اتَّقَوْا كل الذين اتقوا حتى من الأقوياء من أهل الإيمان فإن هؤلاء فوق الكفار يوم القيامة، وغاير بين الوصفين هنا قال: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا وذلك أن التقوى هي المعيار الذي يتفاضل فيه أهل الإيمان، ويتفاوتون فكان هذا الوصف مقصودًا ليس مجرد دعوى الإيمان، أو الدخول في الإيمان وحده، وإنما لا بد من التقوى، وتحقيق التقوى.

فَوْقَهُمْ أي: أحسن حالًا منهم، ويحتمل فوقية المكان؛ لأن الجنة في السماء."

بعضهم يقول: بأن النار تحت الجنة. وبعضهم يقول: في الأرض السابعة.

ولكن هذا لا دليل عليه، بعضهم فهم ذلك من قوله - تبارك، وتعالى -: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ [الأعراف: 50] قالوا: الإفاضة تكون من أعلى إلى أسفل.

وعلى كل حال وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يعني أعلى منزلة، ومرتبة، ودرجة من الكفار.

 "يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ إن أراد في الآخرة، فـ (مَنْ) كناية عن المؤمنين، والمعنى رد على الكفار أي: إن رزق الله الكفار في الدنيا، فإن المؤمنين يرزقون في الآخرة، وإن أراد في الدنيا فيحتمل أن يكون (من) كناية عن المؤمنين أي: سيرزقهم، ففيه، وعد لهم، وأن تكون كناية عن الكافرين أي: أن رزقهم في الدنيا بمشيئة الله، لا على وجه الكرامة لهم."

على كل حال السياق هو في ذكر ما يكون لأهل الإيمان الذين سَخِر منهم الكفار، فحكم لهم بعلو المرتبة، وأنهم فوق الكفار يوم القيامة، قال: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ففضل أهل الإيمان، ورفعهم فذلك من أعظم ما يكون لهم من العطاء، والرزق، وإن كان ظاهر اللفظ العموم وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وذلك في الدنيا، والآخرة، لكن السياق هو في هذا يعني فيما أعطاه الله لأهل الإيمان برفع درجتهم، وجعلهم فوق الكفار يوم القيامة، فعقب بهذا التعقيب جاء هذا التذييل كما يقال.

"بِغَيْرِ حِسابٍ إن كان للمؤمنين فيحتمل أن يريد بغير تضييق، أو من حيث لا يحتسبون، أو لا يحاسبون عليه، وإن كان للكفار فمن غير تضييق."

 وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هذا يدل على الكثرة يعني يعطي عطاء كثيرًا فإن الذي يُحسب، ويُحصى هو القليل، جاء هذا في العطاء الدنيوي يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ أو العطاء الأخروي باعتبار أن ذلك في الآخرة، وكذلك في الأجر، والثواب، كما جاء في أهل الصبر إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] يعني: يُعطون أجرًا كثيرًا لا يُحسب، ولا يُعد لقلته، وإنما يكون من غير حساب، هذا معروف في كلام العرب، الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يقول في نونيته:

فالبهت عندكم رخيص سعره حثوًا بلا كيل، ولا ميزان[1]

يعني: الشيء القليل يُكال، أو يوزن، ولكن الكثير يحثى.

  1. نونية ابن القيم = الكافية الشافية (ص: 108).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة البقرة:212] حُسِّن لهؤلاء الكفار هذه الدار العاجلة المتقضية، وما فيها من اللذات والشهوات في الوقت الذي يسخرون ويستهزئون بأهل الإيمان الذين يرجون ما عند الله، ويعملون للآخرة، وهؤلاء -أعني أهل الإيمان والتقوى- فوق هؤلاء الكفار يوم القيامة، في الدنيا يسخرون منهم لضعفهم، وربما لقلة اهتمامهم واشتغالهم بالدنيا وحطامها ومتاعها، ثم يوم القيامة يكون أهل الإيمان في أعلى الدرجات في الجنة، ويكون الكفار في أحط الدركات في النار وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ  يعطي العطاء الكثير الواسع من غير عدٍ، ولا إحصاء، يعطيه في الدنيا، ويعطيه أيضًا في الآخرة.

فيُؤخذ من هذه الآية الكريمة: السبب والعلة الباعثة على انكباب الكفار على هذه الحياة الدنيا، والإعراض عن الآخرة؛ وذلك أنها زُيّنت لهم، فتعلقت قلوبهم بها، وانعقدت آمالهم عليها، فصارت هي الغاية التي من أجلها يعملون، فهي المطلوب الأكبر، ومن ثَم فهم يتهالكون عليها؛ لأن ذلك التزيين صار مركوزًا في نفوسهم.

ويُؤخذ من هذا: أن العبد إذا ازداد تعلقه في هذه الحياة، فإن ذلك يكون على حساب العمل للآخرة، والاستعداد لها، فالتعلق بهذه الدنيا، والإكباب عليها، وعلى ما فيها من اللذات والشهوات، واشتغال القلب بذلك، هذا وصف ذميم، له آثار سيئة من الاشتغال بالدنيا، والإعراض عن الآخرة.

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا  هكذا بهذا الإطلاق، فيعني: أن كل ما فيها يُزين للإنسان، والله -تبارك وتعالى- يقول: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ [سورة القيامة:20] وهي هذه الحياة الدنيا، فهذه المحبة للدنيا يشترك فيها كثير من الناس، ولكن الكفار هي غايتهم، فتعلقهم فيها تعلق أكبر وأعظم، كما هو مشاهد فهم يعيشون من أجلها، والله يقول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا متاع الدنيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [سورة آل عمران:14] والمتاع هو الشيء الذي يُتمتع به، لكنه لا يدوم، ولا يبقى؛ ولهذا سمى الله هذه الدار بالمتاع، مَتَاعُ الْغُرُورِ [سورة آل عمران:185] يغتر بها من لا بصر له، فتأسره بما فيها من البهرج والزينة، وقد مثَّل الله -تبارك وتعالى- ذلك بالماء الذي ينزل من السماء، ثم بعد ذلك يختلط به نبات الأرض، ثم بعد ذلك يتحول إلى هشيم، وهذا الربيع الذي نشاهده، ويستهوي الكثيرين فيه عبرة وآية، فهو ما يلبث أن يضمحل ويتلاشى، ثم بعد ذلك يكون هشيمًا، تذروه الرياح.

ثم تأمَّل أيضًا قوله -تبارك وتعالى: زُيِّنَ هكذا بالفعل الماضي لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فهذا يدل على أن ذلك قد رُكز في نفوسهم، وثبت واستقر، فهو شيء متحقق؛ لأن التعبير عنه بالماضي يدل على رسوخه وتحققه، وفي السخرية عبر بالمضارع وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا  والفعل المضارع يدل على التجدد والحدوث، فالسخرية مستمرة في وقت نزول القرآن، وقبل نزول القرآن، والأنبياء قبل النبي ﷺ كانوا يواجهون بالسخرية والاستهزاء، ونوح ومن بعده من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كان قومهم يسخرون منهم، يقولون لنوح : كنت نبيًّا، ثم أصبحتَ نجارًا، وسخروا من هود وشعيب وصالح ولوط وإبراهيم -عليهم السلام، لكن ذلك لم ينفعهم، ولم يغن عنهم شيئًا، وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فأهل الإيمان حينما يواجهون بالسخرية من قبل الكفار، فإن هذا أمر لا يُستغرب، بل هو ديدنهم وعادتهم وسجيتهم، وهو الفعل المتوقع منهم، هذا بناءً على أن الدنيا قد زُينت لهؤلاء الكفار، وحببت إلى نفوسهم، والعاقل لا يسخر من الناس، وموسى لما قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67] فكما سبق في موضعه من هذه السورة: أن الذي يسخر من الناس، ويستهزئ بهم أنه من الجاهلين، فليس ذلك من أفعال العقلاء.

ثم إن في هذا الإخبار عن هؤلاء الكفار أنهم يسخرون من الذين آمنوا: تلطف بأهل الإيمان، حيث إن الله -تبارك وتعالى- أخبرهم عما يكون من هؤلاء الكفار، من أجل ألا يثقل ذلك عليهم، وألا تشتد وطأته على نفوسهم، فتكون نفوسهم قد تهيأت لمثل هذا الأذى، فهو شيء قد عرفوه وتوقعوه، فهم ينتظرونه، وصارت نفوسهم مستعدة لتلقيه.

ويُؤخذ منه أن هؤلاء الكفار قد جعلوا شغلهم الوقيعة في أهل الإيمان، يسخرون منهم وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [سورة المطففين:30] فهم يسخرون منهم بحركات، وإشارات، وعبارات، كل ذلك لما يجدونه في نفوسهم، والناس أسرى لأفكارهم وعقائدهم، فهذه المخالفة في الأهداف والغايات والاهتمامات والعقائد تجعل من هؤلاء حربًا على أهل الإيمان، فهم لا يكتفون بالإعراض والاشتغال بدنياهم، بل إن ذلك يحركهم إلى السخرية من المؤمنين، كيف يصدقون بيوم آخر وبالجزاء والحساب، ويطوعون أنفسهم للعمل في مرضاة الله وعبادته؟!

وقوله: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة البقرة:212] جاء بهذه النتيجة؛ لأن العبرة بكمال النهايات، قد يكون أهل الإيمان في حال من الضعف والاستضعاف، ولكن في النهاية هم فوق الكفار يوم القيامة، مهما كان هذا الكافر في عتوه وجبروته وثرائه وقوته، فإن أهل الإيمان فوقه، أضعف أهل الإيمان في الدنيا فوق أقوى أهل الكفر في الآخرة، والمعيار في الآخرة ليس كما هو الحال في هذه الحياة الدنيا.

ولاحظ هنا المغايرة في العبارة وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فلم يقل: وهم فوقهم يوم القيامة، ولم يقل: والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة، فأظهر في موضع يصح فيه الإضمار؛ لفائدة مضافة، وهو أن وصف التقوى هو الذي يعلو به الإنسان ويرتفع، فهؤلاء من أهل الإيمان متحققون بتقوى الله -تبارك وتعالى، فالتقوى هي التي ينال بها العبد الدرجات العالية، فتعلو مرتبته، ويسمو، ويكون له من العزة في الدنيا، والرفعة في الآخرة، والدرجات العلى من الجنة، فالناس إنما يتفاضلون بهذا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  فالنجاة والخلاص والسعادة لا تحصل إلا بالإيمان والتقوى، والتقوى عرفنا أنها فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، فبحسب مراعاة العبد لهذا، وقيامه به ظاهرًا وباطنًا يكون تحققه بالتقوى.

ولاحظ أن التعبير جاء هنا بالجملة الاسمية وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وهناك في التزيين بالفعل الماضي وبالسخرية وَيَسْخَرُونَ كل ذلك عُبّر عنه بالفعل، لكن هنا عبر بالاسم، فالفعل يدل على الحدوث، والاسم يدل على الثبوت وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فهذا أمر ثابت لا يتبدل ولا يتغير، أما السخرية فهي في الدنيا، وهذا التزيين الذي يحصل لهم فيحصل على أبصارهم وبصائرهم من الغشاوة، بحيث يكون لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [سورة الأعراف:179] هذا يكون في الدنيا، لكن حينما تحق الحقائق فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [سورة ق:22] تنجلي عنهم تلك الغشاوة، ثم بعد ذلك يكون النعيم المقيم الثابت، والسعادة الأبدية لأهل الإيمان وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

ويكفي في بيان حقارة هذه الحياة الدنيا أنها سميت بـ(الدنيا) لدنو مرتبتها وانحطاطها، فهي لا تستحق أن تكون غاية المطالب، وأن تكون هي الهدف الأسمى للإنسان، لكنه يعمر هذه الحياة على وفق شرع الله -تبارك وتعالى، دون أن يتهافت عليها، ويحول هذه الحياة إلى غاية من أجلها، فهذا غير صحيح، وإنما هي قنطرة وبلغة يتوصل بها إلى الآخرة، وإلا فالهدف هناك، والعمل لتلك الدار، والمدخرات يرسلها إلى آخرته، فمتى ما رحل وجد ذلك عند الله -تبارك وتعالى، هذا مَن فتح الله بصيرته، وعرف الأمور على حقيقتها كما هي.

وهذا يُبيّن لنا -أيها الأحبة- خطورة التزيين، قد يزين للإنسان شهوة، أو معصية، وقد يزين له النفاق، أو اشتغال يلهيه عن طاعة الله ويصرفه عن مرضاته، فتتحول بصيرته فلا يرى ما في ذلك من العيب والنقص والانحراف والضلال، وقد يراه أكمل ما يكون، ويرى أن المعرضين عنه والمشتغلين بغيره أنهم مخطئون، وضالون عن الصواب، هكذا يزين للإنسان، تزين له أمور ثم بعد ذلك تستهويه، فلا يسمع، ولا يبصر، وهذا في غاية الخطورة، وقد يقع للإنسان هذا بصورة متدرجة دون أن يشعر، إذا نقص من إيمانه، وأكب على الشهوات والمعاصي، وقلت عبادته وطاعته، صار بعد ذلك التحول التدريجي كالضعف في البصر يكون ضعفًا في البصيرة، فلم تعد تلك البصيرة ترى الأشياء على حقائقها، فتتغير وتتبدل وتتحول، فهذا الذي كان ربما في غاية الإقبال والحرص على طاعة الله والغيرة على دينه، يتحول إلى شيء آخر، فتتحول اهتماماته، ويتغير منطقه، وتتغير نظرته للأمور، وقياسه للأشياء، فهذا خطير، فلم يعد ذلك الإنسان الذي تعرفه، وكنت تسمع كلامه وتستحسن رأيه -نسأل الله العافية- فهكذا يكون الانحراف غالبًا.