الجمعة 23 / ربيع الأوّل / 1446 - 27 / سبتمبر 2024
كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا۟ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّوا۟ شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:216]، هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام"كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ  أي:  فرض عليكم.
"وقال الزهري: الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر"معنى كلام الزهري أن الجهاد واجب على كل أحد قعد أو غزا، باعتبار أنه فرض على مجموع الأمة على الكفاية، وإذا لم يقوموا به على الفرض فإنهم يأثمون جميعاً، ويدخل في الفرضية من كان الناس بحاجته في جانب لا يحسنه غيره، أو انتدب له من قبل الإمام فإنه لا يسعه الجلوس، ويجب عليه أن ينفر، ويعتبر في حقه فرض عين.
وابن جرير الطبري ينقل الإجماع على فرضية الجهاد على الكفاية، والصواب في المسألة أن ذلك ليس محل إجماع، وإن كان ما ذهب إليه ابن جرير هو الراجح من أقوال أهل العلم، لكن ابن جرير - رحمه الله - ينقل الإجماع باعتبار قول الأكثر، وجاء عن بعض السلف القول بأن الجهاد فرض على كل مكلف، في كل وقت، وليس في الحالات التي يذكرها الفقهاء، كحالة إذا دهم العدو بلاد المسلمين، واستدلوا بقول الله تعالى: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً [سورة التوبة:41]، وأن الله توعدهم فقال: إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [سورة التوبة:39] حتى نقل عن بعضهم أنه خرج وقد كف بصره، ومنهم من خرج إلى الجهاد وقد ضعف وشاخ فكان أبناؤه يحملونه، فلما قال له أبناؤه: نحن نكفيك، قال: هذه الآية لم تدع أحداً: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً، وبعضهم كان يحمل الراية وهو أعمى.
لكن الراجح أن الله قد خفف عنهم بعد ذلك كما في سورة برآءة قال: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [سورة التوبة:122] فعلى أحد القولين في معنى الآية أن تنفر طائفة مع النبي ﷺ فتصحبه في أسفاره، وتتفقه مما يرون من حاله - عليه الصلاة والسلام - ومقاله، فيرجعون إلى قومهم يعلمونهم ما تعلموه منه ﷺ.
والقول الآخر: أنها تبقى طائفة تتفقه، وطائفة تجاهد في سبيل الله، قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "لا أعلم شيئاً أفضل من العلم إذا كان له نية، ولا الجهاد في سبيل الله".
فالمقصود أن هذه الآية تدل على فرضية الجهاد باعتبار أصل الفرض على مجموع الأمة، وقال بعض أهل العلم كالإمام أحمد - رحمه الله - وطائفة: إنه يجب على الإمام أن يسير جيشاً في جهاد الطلب، في كل عام مرة، وتكلموا في مسألة الصلح وأنها لا تزيد عن عشر سنين، أما جهاد الدفع فإذا هجم العدو على بلد المسلمين فيجب عليهم وجوباً أكيداً عينياً على كل قادر ممن داهم العدو أرضهم أن يدفعه.
"وإن لم يُحتج إليه قعد قلت: ولهذا ثبت في الصحيح: من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو؛ مات ميتة جاهلية[1].
وقال يوم الفتح: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد، ونية، وإذا استنفرتم فانفروا[2].
وقوله: وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ أي: شديد عليكم ومشقة، وهو كذلك، فإنه إما أن يقتل، أو يجرح؛ مع مشقة السفر، ومجالدة الأعداء.
ثم قال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ أي لأن القتال يعقبه النصر، والظفر، على الأعداء، والاستيلاء على بلادهم، وأموالهم، وذراريهم، وأولا دهم".
  1. رواه مسلم في كتاب الإمارة - باب ذم من مات ولم  يغز ولم يحدث نفسه بالغزو برقم (1910) (3/1517).
  2. رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل الجهاد والسير برقم (2631) (3/1025)، ومسلم في كتاب الإمارة - باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير وبيان معنى ((لا هجرة بعد الفتح)) برقم (1864) (3/1488).

مرات الإستماع: 0

"كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ إن كان فرضًا على الأعيان فنسخه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] فصار القتال فرض كفاية، وإن كان على الكفاية فلا نسخ".

الكَتْب يأتي بمعنى الإلزام، والفرض كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ إن كان على الأعيان فَنَسَخَه وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] فصار على الكفاية، لكن كما سبق أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ومن هنا فالقول بأن هذه الآية منسوخة لا يخلو من إشكال، وقد ذهب ابن جرير - رحمه الله - إلى أن المراد بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أي: على مجموع الأمة[1] باعتبار أنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، يعني ليس بفرض على الأعيان، ونقل على ذلك إجماع الحجة، وعرفنا أن ابن جرير يقصد بذلك قول أكثر أهل العلم.

 "كُرْهٌ مصدر كره للمبالغة، أو اسم مفعول، كالخبز، بمعنى: المخبوز".

يعني، وهو مكروهٌ لكم، وعلى الأول عبّر بالمصدر وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ على سبيل المبالغة.

 "وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا حض على القتال".

يعني كأنه يقول: وما يدريكم بما يكون لذلك من العواقب الحميدة، وإذا كان الإنسان لا يدري عن عاقبة الأمر، والله - تبارك، وتعالى - أمره به، وحث عليه، فذلك لا شك أنه إغراء بفعله.

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 645).

مرات الإستماع: 0

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [سورة البقرة:216]، يعني: فُرض عليكم معاشر المؤمنين قتال الكفار، والقتال مكروه لكم من جهة الطبع لما فيها من التعرض للأخطار وإزهاق النفوس ففيه مشقة عظيمة فهو أشق التكاليف، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:216]، قد تكرهون شيئًا وهو في حقيقته خير لكم، وقد تحبون شيئًا لما فيه من الراحة والدعة ونحو ذلك أو اللذة العاجلة وهو شر لكم، والله -تبارك وتعالى- يعلم ما هو خير لكم في العاجل والآجل والعاقبة وأنتم لا تعلمون ذلك، فما عليكم إلا أن تستسلموا لحُكمه وأمره وأن تستجيبوا لدعوته.

قوله -تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [سورة البقرة:216]، الذي يظهر -والله أعلم- أن المقصود بذلك مجموع الأمة، ومن ثَم فإنه لا حاجة للقول بأن ذلك قد نُسخ بقوله -تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [سورة التوبة:122]، فالذين قالوا إن آية براءة هذه ناسخة لآية البقرة التي نحن بصدد الكلام عليها فهموا من آية البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أنه فُرض على الأعيان، وهذا الفهم فيه نظر، وإنما المقصود مجموع الأمة فهو من فروض الكفايات.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات والفوائد أن الله -تبارك وتعالى- أمر بالقتال قتال الأعداء قتال الكفار لما فيه من المصالح الغالبة الراجحة، فذلك مُترجح على ما فيه من المشقة والألم، فهذا بمنزلة الدواء الكريه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[1] يشربه الإنسان ولابد؛ لتحصل بعده العافية، فمصلحة حصول العافية راجحة على مرارة الدواء وما فيه من الطعم الكريه، وذكر أيضًا التاجر يُسافر من بلده ويتغرب، ويتحمل المشاق، ويسهر فيتحمل هذه المكاره جميعًا من أجل مصلحة راجحة في نظره وهي تحصيل الأرباح.

وقد جاء في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات[2]، فكل العبادات فيها من المشقات ما فيها، الصلاة، الصوم، الحج، النبي ﷺ قال عن النساء: بأن عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة[3]، فسماه جهادًا، فهذه الأمور المكروهة والمشقات التي تحتف بهذه العبادات مُغتفرة بجانب ما يحصل من المصالح، فالقتال في سبيل الله يعقبه النصر والظفر، ويحصل به من قوة الأمة ومناعتها ما لا يخفى فتكون مرهوبة الجانب يحسب لها الأعداء ألف حساب، فلا تكون الأمة ضعيفة خانعة للعدو فيطمع فيها كل أحد ويستطيل عليها خصومها وأعداءها؛ لأنهم يعتقدون أنه لا مُدافع عنها ولا قوة لها، فيحصل بسبب ذلك من الفساد ما الله به عليم، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يستولي الأعداء على بلاد المسلمين وتحصل لهم الغلبة، فهؤلاء لا يقيمون وزنًا للأمة الضعيفة[4].

ونحن نُشاهد في مثل هذه الأوقات أن هؤلاء الأعداء حينما رأوا طرف القوة صاروا يحسبون ألف حساب، وتغيرت تلك العبارات التي كانوا يُعبرون بها ويستطيلون، وتغيرت لهجة هؤلاء الذين يتربصون بالأمة هنا وهناك ويُثيرون عليها أمورًا من الشناعات والتحريض، فلما رأوا شيئًا من الجد أذلهم الله وخيب مساعيهم، وهذا مُشاهد في بعض ما حولنا، انظر إلى عباراتهم في مثل هذه الأيام، ففي هذا العصر وفي غير هذا العصر هؤلاء الأعداء لا يعرفون إلا الأمة القوية التي تدافع عن حقوقها.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:216]، أنت لا تعلم العواقب، فهذا في كل شيء، قد تطمح نفس الإنسان لتحصيل مطالب ومحاب ويدعوا الله طالبًا تحققها، ويفعل الأسباب، ويبذل جهده فإذا لم يحصل له ذلك لربما يجزع ويحزن، ولكن قد لا يعلم أن الله صرفه عن أمر ليس من مصلحته أن يتحقق، لو كُشف له عن الغيب ولو اطلع على جلية الأمر لعرف فضل الله -تبارك وتعالى- عليه، فرحمه الله، وحفظه بصرفه عن هذا الأمر الذي تاقت إليه نفسه.

وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [سورة البقرة:216]، فما يُصيب الإنسان إن كان مما يسره من النِعم فإنه يحمد ربه -تبارك وتعالى- عليه، فإن فاته ذلك فإنه يرضى بما قسم الله وقدر، لكن إذا وقع به ما يكرهه فهذا في حقيقة الأمر نعمة من جهة أن الله يُكفر عنه خطاياه، كما قال النبي ﷺ: عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير[5]، فجاء بأقوى صيغة من صيغ العموم كل إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، فهو على خير في كل حال، يعني: إذا أصابه شدة فإنه يصبر فذلك خير له؛ لأن الله اختار له ذلك؛ ليُمحصه ويُطهره ويُنقيه ويُكفر خطاياه، فهذا كله مبناه على حكمته -تبارك وتعالى- ورحمته فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، هذا الإنسان الصغير الذي لربما يُلح في تحصيل شيء من ملاذه ومحابه ومطالبه ويبكي، وأمه تدفعه عن ذلك رحمة به؛ لما فيه من الضرر العائد عليه، هو لا يشعر بهذا فيبكي ولربما يؤذيها، ولكن لو أنه كان يُبصر حقيقة الإبصار فإنه يعلم أن هذا الذي مُنع منه أنه عين الحكمة والرحمة به.

فالله أرحم بنا من الوالدة بولدها، فينبغي على العبد أن يرضى ويُسلم ولا يجزع ولا ينكسر ولا يسوء ظنه بالله -جل جلاله وتقدست أسماءه، وإذا علم العبد أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه لم يأمن أن توافيه المضرة من جهة المسرة، هو لم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة؛ لعدم علمه بالعواقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:216].

فيعقوب وابنه يوسف ، أخذوه فألقوه في البئر ثم بِيع بَيع المماليك بثمن بخس على قدرته وجلالته ومنزلته الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يُباع بثمن بخس دراهم معدودة، ثم بعد ذلك ينتقل إلى الرق، ثم بعد ذلك يُتهم بتُهمة غير محبوبة لأحد، ثم بعد ذلك يُحبس سنوات كثير من أهل العلم يقولون: بقي سبع سنين، ثم صار هو العزيز في مصر، وجاءه إخوته في لبوس الحاجة والمسكنة والضعف، ثم بعد ذلك ساق الله له أبويه مع إخوته وخروا له سُجدًا، فكانت العاقبة في النهاية محمودة مع ما في البدايات من الألم والنقص، فيعقوب طال حزنه وذهب بصره، لكن لو كُشف لهم عن الغيب لعلموا أن هذا المكروه يقود إلى أمور محبوبة، فهكذا.

والشواهد على هذا كثيرة قديمًا وحديثًا، فما على العبد إلا أن يُحسن الظن بربه ويثق بتدبيره، فتدبير الله أعظم وأحكم من تدبيرنا لأنفسنا، إذا قيل للعبد تُدبر نفسك أو يُدبرك الله؟ لا شك أن كل أحد يقول: أُريد أن يُدبرني ربي لأنه أحسن من تدبيري وأعلم وأحكم، فأنا لا أعرف ما خلف هذا الجدار، لا أُحسن التدبير، فيكل أمره إلى الله ويتوكل عليه، ففي هذا الاستسلام لأمر الله -تبارك وتعالى- الشرعي فيما شرعه وإن لم يُدركه العقل، وكذلك الاستسلام لحكمه القدري فيما لا مُدافعة له، فإنه بذلك يكون مُسلمًا حقيقة، فالحياة لابد فيها من وقوع ألوان المكاره، لكن يكون من وراء ذلك بالنسبة لأهل الإيمان الخير العميم والمصالح الكبيرة، ويندفع عنه من الشرور ما لا يُقادر قدره، فالله -تبارك وتعالى- وحده هو الذي يعلم العواقب.

لكن العبد لا يؤاخذ بما يقع فيه نفسه من كراهية الأمور غير الملائمة له فهذا أمر جُبل عليه، فهو يكره الموت ويكره المرض ويكره الفقر ونحو ذلك لكن فرق بين مجرد الكراهية التي طُبع عليها الإنسان وبين التسخط والجزع والاعتراض على أحكام الله -تبارك وتعالى، وإنما غاية ما هنالك ما يوجد من نفور الطبع فهذا لا يؤاخذ عليه الإنسان وقد عبر القرآن بهذا: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة:216]، فسماه مكروهًا؛ لما فيه من المشقة على النفوس؛ لا أن هؤلاء قد كرهوا حكم الله وأمره، ففرق بين هذا وهذا كما يقول البغوي -رحمه الله[6].

وهذه تسلية من الله لعباده، يُسليهم يقول: أنتم لا تعرفون العواقب فقد تحبون أشياء هي شر لكم، والله يصرفكم عنها، وقد تكرهون أشياء وهي خير لكم في المآل لكن لا تشعرون بذلك، إذا كان الأمر كذلك انفسح الصدر واتسع وطابت النفس ويكون لسان حال العبد أن تدبير الله -تبارك وتعالى- خير من تدبيره.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا ضعف الإنسان فهو لا يعلم العواقب مسكين، فيحزن لأمور تفوته قد تكون هي المصلحة، قد تكون المصلحة في فواتها.

وكذلك قد يحزن لمكاره وقعت فيه وتكون المصلحة في وقوعها، وكم قادت العِلل والآلام للعافية. 

  1. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 14)، ومجموع الفتاوى (24/ 279).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، برقم (6487)، ومسلم، في أوائل كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، برقم (2822).
  3. أخرجه ابن ماجه، أبواب المناسك، باب الحج جهاد النساء، برقم (2901)، وأحمد في المسند، برقم (25322)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين. محمد بن فضيل: هو ابن غزوان الضبي"، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (4/ 151)، برقم (981).
  4. انظر: البداية والنهاية ط إحياء التراث (13/ 76).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم (2999).
  6. تفسير البغوي (1/ 246).