السبت 24 / ربيع الأوّل / 1446 - 28 / سبتمبر 2024
يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَٰعُوا۟ ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُو۟لَٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:217-218].
"روى ابن أبي حاتم عن جندب بن عبد الله أن رسول الله ﷺ بعث رهطاً، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، فلما ذهب ينطلق بكى صبابة إلى رسول الله ﷺ فحبسه، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتاباً، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: لا تكرهن أحداً على السير معك من أصحابك، فلما قرأ الكتاب استرجع، وقال: سمعاً وطاعة لله ولرسوله، فخبرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان وبقي بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ... الآية[1]"
فهذه الآية يحتاج إليها المسلمون كثيراً في هذه الأيام خاصة حينما يهاجمهم الكفار بالدعايات الكاذبة، والأقاويل المغرضة، ويشنعون علي المسلمين نظراً لتصرفات فردية صدرت من بعضهم لا تمثل جمعهم، وإذا بلغك دفاع ورد من المسلمين عليهم فهو في غاية التهافت، فلا يخلو إما أن يكون شناعة على هذا المتصرف دون نظر إلى فعل الكفار، وإما تملصاً من حقائق الدين وشرائع الإسلام، أو أخذاً ببعض النصوص دون التفات إلى النصوص الأخرى في الباب نفسه، فهذه القضية استغلها المشركون استغلالاً شنيعاً، وأرادوا أن يُلحقوا من جرائها النقيصة بالمسلمين، وأن يشوهوا صورتهم، ويسيئوا إلى سمعتهم، كون هذه السرية خرجت في شهر جمادى، والتقوا بتلك القافلة في آخر شهر جمادى الثاني، وكان هؤلاء الكفار يريدون مكة، وليس بينهم وبين حدود أرض الحرم إلا مسافة يسيرة إن دخلوها نجوا، فتردد المسلمون هل دخل الشهر الحرام أو لم يدخل؟، فاجتهدوا في عدم دخوله، عند ذلك أقدموا فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ... القصة، عندئذ رفع الكفار عقيرتهم يبثون الكذب والبهتان ضد المسلمين، فإذا المسلمون الذين كانوا في مكة ولم يهاجروا بعدُ انبروا للدفاع عن إخوانهم لما سمعوا سهام النقد توجه إليهم معتذرين لهم بكونهم لم يعلموا بدخول الشهر.
عندها نزل القرآن الكريم بالحادثة مفصلاً فيها، فأجاب عن الجانب الأول بما يتعلق بالمسلمين بكلمة قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي: هذا أمر عظيم.
وأجاب عن الجانب الآخر - الكفار - فقال: إن فتنتكم الناس عن دينهم، وكفركم بالله العظيم، وإفسادكم في الأرض؛ أعظم، وأشنع، وأشد جرماً مما وقع من هذه الطائفة التي انتهكت حرمة الشهر الحرام، فكيف تشنعون عليهم، وأنتم ترتكبون ما هو أقبح، وأشد، وأنكى جرماً من صنيعهم، هكذا جاء رد القرآن فقطع عليهم الطريق، وألجم أفواههم بهذا الجواب، وهذا فقه في الرد، ومنهج للقرآن في الرد على دعاية الكفار المغرضة، ولذا كان لا بد لمن يتكلم في هذه المسائل أن يبني كلامه على علم، وعدل، وفقه، فيما يجب أن يقال في هذه المقامات لأعداء الله .
وأما سبب استرجاع عبد الله بن جحش فإنه يعود إلى كونه مقدماً على أمر قد تكون النجاة فيه ضعيفة؛ فعدد الذين خرجوا معه قليل لم يتجاوزوا الثمانية، والمكان لا يأمنون فيه على أنفسهم وأرواحهم خاصة بين مكة والطائف - ثقيف، وقريش -، إضافة إلى أن النبي ﷺ فتح باب الخيار لمن أراد أن يرجع منهم، وإن كان الصحيح عند الجمع بين الروايات أنه لم يرجع منهم أحد، وأما ما قيل من رجوع اثنين منهم فإنه لم يكن إلى المدينة بل كان لسبب آخر وهو أن سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان أضلا بعيراً لهما كانا يعتقبانه أي: يركبانه بالتعاقب، والتناوب، فكانا يبحثان عنه، فلم يكن ذلك رجوعاً عن هذه السرية، ويشهد لهذا هذه الرواية.
"وقال عبد الملك بن هشام - راوي السيرة -: عن زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني - رحمه الله - في كتاب السيرة له أنه قال: وبعث رسول الله ﷺ عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتاباً، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً، وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين، ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ومن حلفائهم عبد الله بن جحش، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن أحد بني أسد بن خزيمة، ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان بن جابر حليف لهم، ومن بني زهرة بن كلاب سعد بن أبي وقاص، ومن بني عدي بن كعب بن ربيعة حليف لهم من عنز بن وائل، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع أحد بني تميم حليف لهم، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم، ومن بني الحارث بن فهر سهيل بن بيضاء وأرضاهم أجمعين، فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم، فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله ﷺ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد، فسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بُحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - ا - بعيراً لهما كانا يتعقبانه، فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابة حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارةً من تجارة قريش..."الأدم: يعني الجلود.
"فيها عمرو بن الحضرمي، واسم الحضرمي عبد الله بن عباد أحد الصدف، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريباً منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه؛ فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم"أرادوا أن هؤلاء جاءوا من العمرة.
"وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لأن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم، فليمتنعن منكم، ولأن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام"هذه الرواية باعتبار أنهم يعرفون أنه قد دخل الشهر، وفي رواية أخرى أنهم ترددوا في دخول الشهر الحرام، ويفهم من مجموع الروايات أنه وقع عندهم شيء من التردد والالتباس، وعند من أجرى مقتضى القواعد فإن الأصل بقاء شهر جمادى، فيباح لهم ما أقدموا عليه.
"فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله ﷺ المدينة، قال ابن إسحاق: وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله ﷺ مما غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم، فعزل لرسول الله ﷺ خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه، قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسول الله ﷺ قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فوقف العير، والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال ذلك رسول الله ﷺ أسقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد ﷺ وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان، وقالت اليهود: تفاءلوا بذلك على رسول الله ﷺ، عمرو ابن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمروٌ عَمَرت الحرب، والحضرمي...."اليهود يستنبطون من الأسماء معاني تروق لهم، ويريدون بكلامهم أن الحرب قامت بين قريش وبين النبي ﷺ، فأفرحهم هذا كثيراً، ظناً منهم أن هذه الحادثة ستكون مؤذنة بقيام حرب، وصنيعهم هذا يشبه حال الوَزَغ التي كانت تنفخ في النار على إبراهيم لكن مشيئة الله كما أخبر عنها: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [سورة المائدة:64].
"عمروٌ عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب، فجعل الله عليهم ذلك لا لهم"ولم يقولوا: عمرو عمرت البلاد وما أشبه ذلك، إمعاناً منهم في التأكيد على المعنى الذي يريدون.
"فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسول الله ﷺ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أي: إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله؛ أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم"الأقاويل في تفسير الآية كثيرة وفي بعضها بُعد، إلا أن ما ذكره ابن كثير - رحمه الله - عليه عامة المفسرين من السلف والخلف، وهو من أحسن ما تفسر به الآية، والمقصود أنه رد على المشركين، إذ كيف تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن الكفر بالله، والصد عن المسجد الحرام، ومن إخراج أهل الحرم أكبر جرماً عند الله كما قال الله سبحانه قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي: هذا الأمر عظيم.
قوله سبحانه: وَكُفْرٌ بِهِ راجع إلى آخر مذكور وهو صد عن سبيل الله، وقد جرى على خلاف الأصل، إذ الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور.
ولا يفهم أحد أن المسلمين خرجوا مختارين، أو أنهم أخذوهم وألقوهم خارج مكة أو خارج الحرم، لا، لكن يقال: إنهم فعلوا معهم ما ضَيّق عليهم حتى اضطروهم إلى الخروج لذلك سماه الله إخراجاً، كما قال الله : يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [سورة الممتحنة:1] مع أن الرسول ﷺ والصحابة خرجوا بأنفسهم لكنهم حملوهم على الخروج، فصح نسبة ذلك إليهم، ومثله قوله : الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ [سورة الحج:40] أي: حُملوا على الخروج من ديارهم بما حصل لهم من الأذى والتضييق.
وقوله سبحانه: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ يعني من هذا الفعل الذي حصل.
وقوله سبحانه: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أي: وحمْل الناس على الكفر، وتبديل الدين الذي أنزله الله ، هذا أعظم من القتل في الشهر الحرام.
وأهل العلم مختلفون اختلفاً مشهوراً في مسألة نسخ القتال في الأشهر الحرم، فمنهم من يقول: إن هذه الآية في سورة البقرة منسوخة بقوله: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً [سورة التوبة:36] فيدخل في ذلك قتالهم في كل وقت على هذا المعنى، وآية السيف فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [سورة التوبة:5]، وذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، والقاعدة تقول: إن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
ويستدل القائلون بالنسخ كذلك بوقائع مثل حصار النبي ﷺ لأهل الطائف في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم، ومن تأمل تلك الوقائع يجد أنها لم تكن واقعة ابتداءً من رسول الله ﷺ في قتال المشركين، وإنما غاية ما في الأمر أنهم ابتدءوه، فالنبي ﷺ لما فتح مكة في رمضان اجتمعت هوازن ومن دخل تحتها لقتال النبي ﷺ، وكمنوا له في وادٍ بين مكة والطائف من وراء عرفة يقال له: وادي حنين، فخرج إليهم النبي ﷺ في شهر شوال وهو ليس من الأشهر الحرم، وجعل يتبع فَلّهم - المنهزمين منهم - الذين تحصنوا بحصن الطائف، فهذا من لواحق وتوابع الغزوة، ولم يكن ذلك ابتداءً من رسول الله ﷺ، فما وقع في حنين، وفي أوطاس؛ لم يكن إلا امتداداً لغزوة هوازن، ولا يعلم شيء في سيرة رسول الله ﷺ أنه ابتدأ القتال من غير مبادأة المشركين في شيء من الأشهر الحرم، وبهذا يجاب عن جميع الأمثلة والشواهد التي يستدل بها من يقول بأن الآية منسوخة، وأن القتال في الأشهر الحرم جائز، فَيُخلص من هذا أن الأقرب أن حرمتها باقية، وآية براءة التي يستدلون بها هي آخر ما نزل في القتال، والله يقرر فيها مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً والله أعلم بالصواب.
"وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أي: قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل"كثير من السلف يفسر الفتنة في الآية بالشرك، والمعنى الذي مشى عليه ابن كثير أخص من ذلك إذ المراد بالفتنة عنده: هي حمل الناس على الكفر، وإضلال الناس عن دين الله وهذا أعظم من القتل، وهذا المعنى ذكره ابن القيم - رحمه الله - من معاني الفتنة، وحمل عليه هذه الآية ونظائرها.
وأما الفتنة التي ترد مضافة إلى الله ، فتأتي بمعنى الابتلاء والامتحان كما قال الله - سبحانه -: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [سورة العنكبوت:3] يعني امتحناهم، وبلواهم، وهي خلاف الفتنة التي تقع بين المسلمين من الاقتتال وما أشبه ذلك كتلك التي قال عنها النبي ﷺ فيما رواه عنه أبو هريرة : تكون فتنةٌ النائمُ فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي[2]، فهذه في الشر الذي يقع بين المسلمين والقتال، ويختلف عنها الفتنة التي ذكرها الله في قوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة التغابن:15]، وجاء في أول حديث حذيفة: فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده، وجاره[3] فعدها فتنة وذلك لتعلق القلب بالأموال، والأولاد، مما يستدعي ترك القيام ببعض وظائف العبودية، فالفتنة تأتي بمعانٍ متعددة، لكن المقصود بها هنا هذا المعنى الذي أورده ابن كثير، والله أعلم.
"وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ أي: ثم هم مقيمون على أخبث ذلك، وأعظمه؛ غير تائبين، ولا نازعين"أعداء الله لن ينتهوا عن قتال أهل الإٍسلام حتى يتخلوا عن دينهم، وينكصوا على أعقابهم، ما لم يحدث ذلك فسيستمر قتالهم للمسلمين، وتنكيلهم بهم، وأما رضاهم فـلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120]، فالإنسان أياً كان لن يسلم منهم بحال ما لم يوافقهم على دينهم، وملتهم.
"قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشدة؛ قبض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، فقال رسول الله ﷺ: لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص وعبتة بن غزوان -، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم، فقدم سعد وعتبة، ففداهما رسول الله ﷺ منهم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم، وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله ﷺ حتى قتل يوم بئر معونة شهيداً، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافراً.
قال ابن إسحاق: فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه، حين نزل القرآن طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله ﷺ أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟، فأنزل الله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:218]، فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء[4]"
فمع الإشكال الذي وقعوا فيه من القتال في الأشهر الحرام عُدت لهم غزوة، وفي التطبيق العملي على الواقع ينبغي لنا التفريق عند الحكم على الأمور، ووضع الموازين في نصابها، وأن ندرك حقائق الدين، وكنهها، ونقيم أود الجهاد على معايير صحيحة محكمة بالمصالح والمفاسد، وأن تكون غيرتنا على ديننا مضبوطة بلجام الشرع، ولا نجعل من تبريراتنا منطلقاً للإساءة على الإسلام، وإن أردنا الإحسان إليه، فالخطأ يبقى خطأ، والنية لا تصلح العمل الفاسد.
وأما من يتعلل بأن المسلمين الذين يقاتلون الكفار في الجهاد الشرعي الصحيح قد وقعت منهم أخطاء وتجاوزات كما حصل من خالد بن الوليد في القصة المعروفة، فالجواب أن ذلك الخطأ نادر، وقليل، ولم يكن الأصل، وهذا التصرف إنما وقع منهم بعد اجتهاد، ونظر، وقد جانبوا فيه الصواب، فهو مغفور لهم، ومتجاوز عنه لاجتهادهم، ولا ننسى فإن لهم من الحسنات العظام ما يكفر ذلك.
المهم أن مثل هذه الأمور ينبغي أن تضبط، ويحكم عليها بالعلم والعدل؛ لأن الله  يقول: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [سورة المائدة:8]، ويقول: إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا [سورة النساء:135] فلا يكون الحب أو البغض لأحد دافعاً لمجانبة العدل في الحكم على أفعال الناس، وتصرفاتهم، وإن كانت هذه الأمور كثُر فيها الالتباس لدى الكثير، والله المستعان.
  1. رواه البيهقي في السنن الكبرى برقم (17523) (9/11)، ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (1648) (2/222).
  2. رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب نزول الفتن كمواقع القطر برقم (2886) (4/2211).
  3. رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة - باب الصلاة كفارة برقم (525) (1/536)، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب في الفتنة التي تموج كموج البحر برقم (7450) (8/173).
  4. جاء ذكر القصة في كتاب سيرة ابن هشام (1/188).

مرات الإستماع: 0

"الشَّهْرِ الْحَرامِ جنس، وهي أربعة أشهر: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم".

 يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ يعني عن القتال في الأشهر الحرم.

وبعض أهل العلم يبدؤون برجب باعتبار أن ذلك في الترتيب هو الأول، رجب، ثم بعد ذلك تأتي الأشهر الأخرى بعده، وبعضهم يبدأ بذي القعدة، باعتبار أن الثلاثة متوالية، والأمر في هذا يسير.

 "قِتَالٍ فِيهِ بدل من (الشهر) وهو مقصود السؤال".

 

يعني فهم لا يسألون عن العبادة فيه، أو المعصية، أو ماذا؟ هم يسألون عن القتال، فيكون بدلاً من الشهر الحرام.

 "قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي: ممنوع، ثم نسخه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وذلك بعيد، فإن حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ عموم في الأمكنة، لا في الأزمنة، ويظهر أن ناسخه: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: 36] بعد ذكر الأشهر الحرم، فكان التقدير: قاتلوا فيها، ويدل عليه: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36] ويحتمل أن يكون المراد وقوع القتال في الشهر الحرام، أي: إباحته حسبما استقر في الشرع، فلا تكون الآية منسوخة، بل ناسخة لما كان في أول الإسلام من تحريم القتال في الأشهر الحرم".

قوله: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ سبب النزول ما جاء عن جندب بن عبد الله أن النبي ﷺ بعث رهطًا، وبعث عليهم عبد الله بن جحش إلى نخلة بين مكة، والطائف؛ ليأتوا بخبر قريش، فلقوا ابن الحضرمي، في عير لقريش فقتلوه، ولم يدروا هل هو آخر يوم في جمادى، أو أول يوم في رجب؟ فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام[1] يعيرون المسلمين بذلك، فأنزل الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ فقال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا، وزرًا فليس لهم أجر، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة: 218] فهذه الآية جاءت للرد على هؤلاء الكفار، حينما أرجفوا بالمسلمين، بسبب ما وقع من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، ويقول هنا: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي: ممنوع، يعني أنه شيء عظيم، ثم نسخه فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] والقول بالنسخ قال به جماعة من السلف: كقتادة، والزهري، ومجاهد[2].

وقال بعضهم: إن الناسخ هو قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الآية الخامسة من سورة براءة، آية السيف.

وقال بعضهم: مع قوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] فذلك يعم الأزمنة، هكذا قالوا.

وممن قال بأنها منسوخة أيضًا: ابن عباس، وابن المسيب، وسليمان بن يسار، والأوزاعي[3].

ويقول أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - في كتابه في الناسخ، والمنسوخ: "والناس اليوم بالثغور جميعًا على هذا القول، يرون الغزو مباحًا في الشهور كلها، حلالها، وحرامها، لا فرق بين ذلك عندهم، ثم لم أر أحدًا من علماء الشام، ولا العراق ينكره عليهم، وكذلك أحسب قول أهل الحجاز"[4] وأبو عبيد القاسم بن سلام، متوفي سنة (224هـ) وهو الإمام المعروف، الفقيه المقرئ المحدث اللغوي المفسر.

وممن قال بالنسخ: مكي بن أبي طالب في كتابه (الإيضاح في ناسخ القرآن، ومنسوخه) وكذلك النحاس في كتابه (الناسخ، والمنسوخ)[5] وابن الجوزي في كتابه (نواسخ القرآن)[6] ومن المتأخرين السيوطي[7] والقصد أن أكثر أهل العلم يقولون: بأن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ، وأنه مباح، وأن هذه الآية: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ قد نُسخت.

ولكن هذا لا يخلو من إشكال، فالله - تبارك، وتعالى - يقول في سورة براءة، وهي آخر ما نزل في القتال: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36] لكن الذين قالوا بالنسخ قالوا: إن الله قال في هذه الآية: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36].

أما قوله: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36] فإن ذلك باعتبار أن المعصية أعظم في الأشهر الحرم، وأما القتال فلا يُستثنى من ذلك الأشهر الحرم، لكن على القول بأن ذلك غير منسوخ يكون قوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً باعتبار الجميع، يعني قاتلوهم جميعًا، أما ما يتعلق بالأوقات فذلك إذا قاتلونا في الأشهر الحرم، كما قال الله - تبارك، وتعالى -: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة: 194].

ومن جملة ما يحتج به من يقول: بأن ذلك منسوخ: أن النبي ﷺ غزا عزوة حنين، والطائف، وكان بعض ذلك في شهر ذي القعدة، وهو شهر حرام.

والجواب عن هذا: أن النبي ﷺ ما سار إليهم ابتداء، ولكنه حينما فتح مكة بلغه أن هوازن، ومن تبعها قد اجتمعوا في حنين بين مكة، والطائف، يريدون النبي ﷺ فخرج إليهم، فكان ذلك على سبيل الرد، ومقابلة هؤلاء الذين تجمعوا لقتاله.

فلو قيل: بأن هذه الآية غير منسوخة؛ لكان هذا أقرب - والله أعلم -.

والشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - كان يقرر أن القتال في الأشهر الحرم نُسخ، ثم تراجع عنه.

ويقول: "وذلك بعيد، فإن حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ عموم في الأمكنة لا في الأزمنة، ويظهر أن ناسخه: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً " يعني هي عنده منسوخة، لكن بقوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كما يقول ابن جرير - رحمه الله -[8].

يعنى يقولون: إنها منسوخة، لكن اختلفوا في الناسخ ما هو؟ فبعضهم يقول: بالآيتين، وبعضهم يقول بالأولى، وهي: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وبعضهم يقول بالثانية: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً.

يقول: "بعد ذكر الأشهر الحرم، فكان التقدير: قاتلوا فيها، ويدل عليه: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36] ويحتمل أن يكون المراد وقوع القتال في الشهر الحرام، أي: إباحته حسبما استقر في الشرع، فلا تكون الآية منسوخة، بل ناسخة لما كان في أول الإسلام من تحريم القتال في الأشهر الحرم"، وهذا القول: بأنها ناسخة لما كان في أول الإسلام من تحريم القتال في الأشهر الحرم، بعيد - والله أعلم -.

 "وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ابتداء، وما بعده معطوف عليه".

 

يعني أنه يرد على هؤلاء الذين أرجفوا بالمسلمين، فقالوا: كيف تقتلون في الشهر الحرام؟ فجاء الرد عليهم بهذه الطريقة، يعني قال: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ فاختلفوا في السائل من هو؟ فبعضهم يقول: إن السائل هم الصحابة يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ.

وبعضهم يقول: إن السائل هم المشركون على سبيل التهكم، والسخرية، هل الشهر الحرام فيه قتال حتى تقتلون ابن الحضرمي؟! يعيرونهم بذلك، والأقرب أن الذي يسأل هم المؤمنون، لكن الذين قالوا: إن السؤال كان من الكفار على سبيل التهكم، قالوا: القرينة فيه الرد الذي جاء بعده: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ثم قال: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وهذا رد على الكفار الذين أرجفوا بالمسلمين، فيقول: ما أنتم فيه من الصد عن سبيل الله، والكفر به، والصد عن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه أعظم، وأشد من هذا الذي وقع من بعض المسلمين.

 "أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ خبر الجميع، أي: أن هذه الأفعال القبيحة التي فعلها الكفار أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام، الذي عيّر به الكفار المسلمين في سرية عبد الله بن جحش، حين قاتل في أول يوم من رجب، وقد قيل: إنه ظن أنه آخر يوم من جمادى".

والمعنى عند الجمهور: بأنكم تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، والكفر، والصد عن المسجد الحرام، وإخراج أهل الحرم منه أكبر جُرمًا عند الله - تبارك، وتعالى -.

ويقول: "جناياتكم أعظم من هذا" فهذا رد على هؤلاء الكفار، وقطع للطريق عليهم، حيث استغلوا هذا الحدث للشناعة، والإرجاف بأهل الأيمان، فجاء الرد عليهم بهذه الطريقة، وهي طريقة في غاية الأهمية، حيث لم يُمكِّن هؤلاء من النيل من المسلمين، ومن الوقيعة بهم، وانظر إلى حالنا حينما يرجف الكفار إذا وقع من بعض من ينتسب إلى الإسلام بعض الحماقات، أو الجهالات، أو البغي، فللأسف يتحول كثير من المسلمين إلى معول هدم، يعودون على دينهم، وأئمتهم، ومناهجهم الدراسية بالذم، والسلب، ورميها بكل قبيح، فكان اللائق أن يقال: إن هذا غلط، وهذا لا يُقر، وهذا انحراف، ولكن ما تفعلونه أنتم أيها الكفار في مشارق الأرض، ومغاربها، وأعظم ذلك الكفر بالله  وصد الناس عن الحق، والتلبيس، والإفساد بجميع أنواعه، أعظم من هذا الذي وقع، يُرد عليهم بهذه الطريقة، لا أن يستجاب لدعايتهم، ثم بعد ذلك نقف معهم في هذا العدوان، الذي يوجهونه إلى الإسلام، وأهله، ولا يستثنون من ذلك أحدًا، هذا غلط، والله المستعان.

 "وَالْمَسْجِدِ عطف على سَبِيلِ اللَّهِ".

يعني وصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وعطف قوله: وَكُفْرٌ بِهِ على (صد) قبل أن يستوفي صد ما تعلق به، وهو المسجد، وبعضهم يقول: إنه معطوف على الضمير في (به) في قوله: وَكُفْرٌ بِهِ أي: وكفر به، وكفر بالمسجد الحرام، وهو من باب عطف الاسم الظاهر على الضمير، من غير إعادة حرف الجر.

وبعضهم يقول: معطوف على الشهر الحرام، أي: يسألونك عن الشهر الحرام، وعن المسجد الحرام، لكن هذا لا يخلو من بُعد، فيكون سؤالهم بهذا الاعتبار عن شيئين:

 الأول: القتال في الشهر الحرام.

والثاني: القتال في المسجد الحرام، باعتبار أنهم لم يسألوا عن ذات الشهر، ولا عن ذات المسجد، وإنما سألوا عن القتال فيهما، لكن الذي يظهر أن السؤال كان عن الشهر الحرام هل يقاتَل فيه؟ فجاء الجواب: بأن القتال فيه كبير، ثم بعد ذلك رد على الكفار بقوله: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ فهذا رد على الكفار.

 "حَتَّى يَرُدُّوكُمْ قال الزمخشري: حتى هنا للتعليل".

يعني تقول مثلًا: كافأتك حتى تستمر في الاجتهاد، يعني من أجل أن تستمر، وتقول: عاقبتك حتى لا تعود لهذا الفعل، للتعليل.

فهي للغاية، فالقتال مستمر وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا فالقتال مستمر إلى هذه الغاية، إلى أن يرتد المسلمون عن دينهم، ولكنه أمر بعيد؛ ولهذا جاء بهذا الاحتراز في قوله: إِنِ اسْتَطَاعُوا وجاء بـ(إن) التي تدل على بعد وقوع ذلك، وهم لن يستطيعوا، فهؤلاء الكفار لن يتوقفوا عن قتال المسلمين إلى هذه الغاية، حتى يرتد المسلمون عن دينهم، وأما الرضا فإن هذا لا يتحقق، إلا كما قال الله : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120] فالرضا لا يتحقق إلا باتباع الملة، فإذا اتبع ملة اليهود غضب النصارى، وإذا اتبع ملة النصارى غضب اليهود حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ ولم يقل: إلى دين كذا، وإنما قال: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ فليس المهم أن يتحولوا إلى وثنيين، أو إلى أهل كتاب، وإنما المقصود ترك الحق، والإسلام، والدين بالكلية، إلى أي دين كان.

 "فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ذهب مالك إلى أن المرتد يحبط عمله بنفس الارتداد، سواء رجع إلى الإسلام، أو مات على الارتداد، ومن ذلك انتقاض وضوئه، وبطلان صومه".

ويترتب على هذا أن أعماله الصالحة التي عملها كلها بطلت، فإذا رجع إلى الإسلام يستأنف عملًا جديدًا، فإن كان قد حج قبل ردته فعليه أن يحج حج جديدة؛ لأن حجته الأولى قد بطلت، وهكذا سائر أعماله، والله قال: فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ في الدنيا مثل: انتقاض وضوئه، وبطلان صومه، ومن ذلك الحج إن كان دخل في الإحرام، وحصل له ردة، وكذلك أيضًا عقد النكاح، هذا كله في الدنيا، وفي الآخرة بذهاب الثواب.

"وذهب الشافعي إلى أنه: لا يحبط إلا إن مات كافرًا؛ لقوله: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ".

وهذا هو الراجح، وأن المطلق محمول على المقيد، فحبوط الأعمال مقيد بالموت على الكفر، والآيات، والنصوص المطلقة تُحمل على هذا المقيد فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ومن ثم فإنه لو حج، ثم ارتد، ثم رجع إلى الإسلام، فإنه يكفيه حجه الأول، ولا يحتاج إلى حج جديد، وتكون أعماله الصالحة التي عملها قبل الردة محفوظة، فإذا كان الكافر إذا أسلم قال له النبي ﷺ : أسلمت على ما أسلفت من خير[9]؛ ليعتد له بأعماله الصالحة التي عملها في الجاهلية، فالذي كان على الإسلام، فحصل له ردة أولى بأن تبقى أعماله الصالحة مدخورة لا تحبط.

"وأجاب المالكية: بأن قوله: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ جزاء على الردة، وقوله: أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ جزاء على الموت على الكفر، وفي ذلك نظر".

المالكية يجيبون عن هذا فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ بأن قوله: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ جزاء على الردة، وأن الخلود في النار يكون ذلك باعتبار الموت على الكفر، لكن الآية عامة فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ فالفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، حبطت أعمالهم في الدنيا، والآخرة حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدنيا، فلا تحبط إلا إذا كان قد مات على الكفر، بهذا القيد، والحبوط معروف، وذكرناه في الكلام على الغريب أنه بمعنى البطلان، والألم، وأصله أن تكثر الدابة من الأكل حتى ينتفخ بطنها.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/ 659).
  2.  البحر المحيط في التفسير (2/ 384).
  3.  المصدر السابق، وزاد المسير في علم التفسير (1/ 182).
  4.  الناسخ، والمنسوخ للقاسم بن سلام - محققا (1/ 208).
  5.  الناسخ، والمنسوخ للنحاس (ص: 111).
  6.  نواسخ القرآن = ناسخ القرآن، ومنسوخه ت آل زهوي (ص: 66).
  7.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/ 495).
  8.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (11/ 252).
  9.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده برقم: (123).

مرات الإستماع: 0

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:217].

يسألك أصحابك عن الشهر الحرام قتال فيه، هل يحل فيه القتال؟ وبعضهم يقول إن السائل هم المشركون على سبيل التهكم والسخرية؛ وذلك أن هذه الآية نزلت على سبب وذلك ما جاء في جُندب بن عبد الله  [1]: بأن النبي ﷺ أرسل سرية وأمر عليهم عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابًا وأمره أن ينظر في هذا الكتاب حتى يبلغ موضعًا معينًا، فلما سار وبلغ ذلك فتح الكتاب وقرأه على أصحابه، وخيرهم، كان النبي ﷺ أمره أن يُخيرهم بأن المسير إلى نخلة بين مكة والطائف؛ ليأتوه بخبر قريش، فخيرهم بين المُضي أو الرجوع إلى المدينة فلما بلغوا ذلك الموضع في طريقهم إلى نخلة مرت بهم عير لقريش، وفيها جماعة منهم ابن الحضرمي، وكان أصحاب النبي ﷺ لم يستبينوا الشهر"، كانوا يظنون أنه آخر يوم من جُمادى الثانية وإذا به قد دخل شهر رجب، اليوم الأول من شهر رجب وهو شهر حرام، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [سورة البقرة:217]، الأشهر الحرم هي رجب الفرد، ثم ثلاثة على التوالي وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، هذه أربعة أشهر كما قال الله -تبارك وتعالى: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ[سورة التوبة:36]، "فلما قتلوه وأخذوا العير، وفر أولئك الرجال الذين كانوا يصحبونها، وأسروا منهم رجلين وجاءوا بذلك جميعًا إلى المدينة، فأتوا النبي ﷺ فنزلت هذه الآية".

وقد قال رجال من المسلمين: إنهم إن سلموا من الوزر فليس لهم أجر فأنزل الله الآية الأخرى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [سورة البقرة:218]" [2]

فالمقصود أن هذا السؤال متوجه من قِبل المسلمين على قول أكثر أهل العلم عن الشهر الحرام هل يحل القتال فيه أو لا يحل.

وبعضهم يقول: هذا السؤال كان من قِبل المشركين على سبيل الاستهزاء والسخرية، هل يُقاتل في الشهر الحرام وأنتم تدعون أنكم على ملة إبراهيم ثم تستحلون الأشهر الحُرم، فجاء هذا الجواب القتال في الشهر الحرام كبير عظيم عند الله -تبارك وتعالى، هذا هو الجواب.

المشركون استغلوا هذا الخطأ وأرادوا أن يُرجفوا بأهل الإيمان وأن يُشنعوا عليهم، فجاء هذا الجواب قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، ثم تحول الخطاب إلى المشركين فلما يمنحهم فرصة لاستغلال الحدث من أجل الطعن في الإسلام وأهله، وهذه طريقة القرآن في الرد على المُبطلين، هؤلاء أصحاب باطل ليسوا بأصحاب حق، فحول الخطاب إليهم، قال: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، قال: القتال في الشهر الحرام كبير عظيم، ولكن ما تفعلونه أنتم معاشر المشركين أعظم وأشد وأشنع من الصد عن سبيل الله، منع الناس من الدخول في الإسلام.

وكذلك أيضًا الكفر بالله -تبارك وتعالى: وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، ضيقوا على النبي ﷺ وعلى أصحابه حتى اضطروهم إلى الهجرة، فيقول: هذا الفعل منكم أعظم من هذه الجناية التي حصلت من استحلال الشهر الحرام.

ثم قال: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، الفتنة هنا فُسرت بمعنى الكفر على قول أكثر المفسرين الكفر أعظم من القتل، ما وقع من القتل هذا جُرم ولكن الفتنة الكفر الذي تتلبسون به أعظم من هذا الجرم.

وفسره بعضهم بأن الفتنة أكبر من القتل، أي: فتن الناس عن دينهم أعظم من قتلهم، على الأول: أن كفركم يا معاشر المشركين من قريش أعظم ممن وقع على هذا من القتل.

المعنى الثاني: أن الفتنة فتن الناس عن الدين صد الناس عن الحق امتحان الناس من أجل أن يرجعوا عن دينهم بالأذى الشديد، والنكال هذا أشد من القتل، أشد من القتل الذي وقع عليكم، أو على القول الآخر أيضًا أشد من قتلكم لهم، يعني: أن يُفتن الإنسان في دينه فينحرف ويكفر بالله أعظم من أن يُقتل؛ لأنه إن قُتل وهو على حق وإيمان فإنه يصير إلى الجنة، لكنه إن صُرف عن دينه فإنه يشقى في الدنيا والآخرة.

ثم قال: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، يعني: هم مستمرون على قتالكم لا ينتهون عن هذا أبدا حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا تحقيق ذلك، ومن استجاب لهم وأطاعهم وخضع لهم فترك دينه وارتد عنه فمات على الكفر فقد ذهب عمله وحبط، وبطل، وصار من المُلازمين للنار لا يخرجون منها.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، باعتبار أن السائل هم الصحابة ، فالسؤال متوجه إلى النبي ﷺ لأنه مُشرع فهو لا ينطق عن الهوى بل بوحي الله -تبارك وتعالى- إليه، فهكذا معرفة الحلال من الحرام، معرفة التشريع ونحو ذلك لا يُرجع فيها إلى الأذواق، أو العقول وإنما يُرجع فيها إلى الشرع، إلى كلام الله وكلام رسول الله ﷺ وبفهم السلف الصالح وإنما يستنبط ذلك فيما يحتاج إلى استنباط العلماء الراسخون وليس ذلك لكل أحد.

هنا يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، يسألونك عن القتال فيه، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، الشهر الحرام هل يجوز القتال فيه أو لا يجوز؟

الجمهور على أن ذلك منسوخ، الجمهور من المفسرين والفقهاء وإن اختلفوا في ناسخه هل هو قوله -تبارك وتعالى- في آية براءة وهي الآية الخامسة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة:5]، قد يُشكل هذا لأنه قال: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ، قالوا: المقصود بالأشهر الحُرم هي التي حُددت: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [سورة التوبة:2]، في الحجة التي حجها أبو بكر في السنة التاسعة للهجرة، حدد لهم أربعة أشهر ومن له عهد فإلى عهده: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [سورة التوبة:4]، هؤلاء أصحاب العهد، من لا عهد له أربعة أشهر ثم بعد ذلك تنتهي المُهلة، فهكذا قالوا.

وقال بعضهم: إنها منسوخة بقوله -تبارك وتعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [سورة التوبة:36]، فالعموم قالوا يشمل الأوقات الزمان وغير الزمان، وهذا وإن قال به أكثر أهل العلم أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ كقتال النبي ﷺ في حنين والطائف فإن ذلك كان بعضه في ذي القعدة.

والأقرب -والله أعلم- أن الأشهر الحُرم لم يُنسخ القتال فيها فهو لا يجوز، ولكن إن بدأ المشركون القتال فيها قوتلوا، فالذي وقع في حُنين هو أن النبي ﷺ لما فتح مكة في رمضان تجهز إليه المشركون من هوازن ومن جاء معهم من أهل الطائف، فجاءوا إلى وادي حُنين بين مكة والطائف، واجتمعوا لقتال النبي ﷺ فخرج إليهم، ولم يكن النبي ﷺ هو الذي بدأ ذلك، فهذا لا إشكال فيه، فالأقرب أنها لم تُنسخ -والله تعالى أعلم.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [سورة البقرة:217]، الله يخلق ما يشاء ويختار، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- في مقدمته البديعة لكتابه: "زاد المعاد في هدي خير العباد"، وهو من أنفس كتبه وأنفعها ذكر في مقدمته كلامًا جميلاً جعله مدخلاً للحديث عن النبي ﷺ انطلاقًا من قوله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68]، فهذا الخلق بعده الاختيار، فذكر الاختيار من البِقاع حيث اختار الله مكة وشرفها على سائر البِقاع، وذكر الاختيار في الأزمنة فاختار الأشهر الحُرم على غيرها، واختار يوم الجمعة على أيام الأسبوع، واختار رمضان على سائر الشهور، واختار العشر الأواخر منه، واختار ليلة القدر من بين سائر لياليه، وكذلك تحدث عن الاختيار في الأشخاص، فالله يصطفي من الملائكة رُسلاً ومن الناس.

ثم ذكر الاصطفاء من هؤلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أن الله اصطفى منهم أولي العزم، واصطفى من أولي العزم الخليلين إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام، وأن اصطفى نبيه ﷺ على سائر الأنبياء والمرسلين ثم بدأ يتحدث عن هديه وسيرته وشمائله ونسبه وما إلى ذلك [3]

فالمقصود أن الله -تبارك وتعالى- اختار هذه الأشهر وجعل لها مزية، وذلك أن الأعمال تعظم فيها من الطاعات، وكذلك أيضًا السيئات ولذلك قال الله : مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [سورة التوبة:36].

كذلك أيضًا هنا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لم يقل يسألونك الشهر الحرام، والسؤال هو عن القتال، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، فقدم الشهر الحرام؛ لأن المنع من القتال إنما علته حُرمة الشهر الحرام، الأشهر الحُرم، فقدم ذلك؛ لأنه كالعلة، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، هو علة المنع؛ لأنه شهر حرام فقدمه.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، إلى أن قال: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، هذا يدل على أن الذنوب والجرائم والمعاصي تتفاوت، فهي ليست على مرتبة واحدة.

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إلى آخره، نستفيد منها طريقة المحاجة والرد على المبطلين، يعني: من كان غرضه الطعن في الحق وأهل الحق والثلب في الإسلام وأهله كما يُذيعه أعداء الله -تبارك وتعالى- قديمًا وحديثًا، لكن مع وسائل الإعلام في هذا العصر ازدادت الفتنة بذلك، فهؤلاء الكفار يستغلون ما يقع من انحرافات، أو جرائم، أو جرائر، أو عدوان من بعض المسلمين فيشنعون على الإسلام، وأهل الإسلام ويستغلون ذلك أبشع استغلال.

فالواجب هو قطع الطريق عليهم، فالإسلام لا يُقر هذا يُبين أن هذا باطل هذا الذي وقع لا يُقر ولكن لا نسترسل معهم في هذا فنُخرب بيوتنا بأيدينا، ونعود على أنفسنا باللطم والنقض، والنكث لما بنيناه في عقود متطاولة، وإنما يُرد على هؤلاء بما يليق بهم، يُقال: هذا الذي وقع لا يُقر، هذا خطأ، هذا انحراف، هذا ضلال، يُبين حجمه، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، لكن ما أنتم فيه من الضلال والكفر والإجرام والصد عن سبيل الله -تبارك وتعالى، وما أنتم فيه من الفساد والإفساد في الأرض، وما إلى ذلك أعظم من القتل، فإنما يصدر عن هؤلاء الكفار لا شك أنه بكل المقاييس يُعتبر من الجرائم العظام وهي بمعاييرهم ومقاييسهم لو حوسبوا عليها لكانت جرائم حرب، فيُقطع عليهم الطريق ولا نسترسل معهم.

وللأسف أصبح المسلمون يُعانون من بعض بني جلدتهم فهم يسبقون الكفار في الطعن والثلب في دين الله وفي البلد وأهله، يقولون: للكفار بمجموع كلام هؤلاء الذين هم من جلدتنا بما حاصله أن هذا الذي وقع وهذا الخطأ، وهذا الإجرام وهذا الانحراف الذي حصل ليس مختصًا بهذا الذي فعله بل إن ذلك يرجع إلى البلد برُمتها بمناهجها التعليمة وعلماءها ومفكريها ودعاتها وكل ذلك، وهذا لا شك أنه جريمة في حق الدين وأهله، جريمة في حق البلد بكاملها، سواء كان ذلك على مستوى القيادة، أو على مستوى القيادة الإدارية، أو العلمية الشرعية العلماء، أو كان ذلك لعموم الناس، حينما يُضاف ذلك إليهم يُقال: هذا لا يُختص بذلك الذي فعله، وإنما ذلك يرجع إلى، يعني: كأنهم يقولون لهؤلاء الأعداء: إن هذا يرجع إلى بيئة حاضنة لهذا الانحراف، وهذا خطير أن يُضاف ذلك إلى المسلمين وإلى بلادهم، فهؤلاء الذين يقعون في هذا الخطأ، هؤلاء الذين يقعون، قد يكون هؤلاء أصلاً ممن يحمل فكرًا منحرفًا لا يُمثل الأمة، وإنما هو فكر شاذ نشاز يُمثل فئة منحرفة عبر التاريخ.

الخوارج لا يمثلون أهل السنة والجماعة، ولا يمثلون الإسلام الصحيح، وقد يكون ذلك وقع من غيرهم على سبيل الخطأ والعدوان، فيُرد ذلك على فاعله كائنًا من كان، لكن أن يُضاف ذلك إلى الأمة، أن يُضاف إلى مناهجها، أن يُضاف إلى علماءها، أن يُضاف إلى دينها وليس فقط في الأحياء وإنما حتى في الأموات، حينما يُقال: بأن أول من جاء بهذا هو أبو بكر الصديق ، أو حينما يُقال بأن أول من جاء بهذا هو الإمام أحمد -رحمه الله، أو شيخ الإسلام ابن تيمية، أو الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحم الله الجميع، هؤلاء الأئمة الأعلام كيف يُضاف إليه ذلك، القرآن تشبثت به جميع الفِرق المنحرفة حتى النصارى احتجوا بآيات من القرآن على التثليث على أن الله ثالث ثلاثة، احتجوا بآيات من القرآن، المُبطل لا يكون عادمًا لشيء يتمسك به، لكن ليست العبرة بهذا، فكيف لا يجد المُبطل كلامًا لبعض أهل العلم من المُتشابه ويتشبث به ويحتج به على باطله، فهل معنى ذلك أن هذا العالم الذي احتج هذا المُبطل بكلامه أنه على انحراف؟ ويؤيد هذه الضلالات والانحرافات؟!

فهذا منهج قرآني في الرد، ينبغي: أن يُعتبر وأن يُستفاد منه، وألا تكون الأمة ميدانًا يوجه إليها كل عدو مُتربص في الداخل أو في الخارج سهامه ليهدم ويُصيب في مقتل فهذا لا يسوغ بحال من الأحوال ولا يُقبل، وهؤلاء الذين في كل مرة يصوبون سهامهم إلى الإسلام وأهله وهم من بني جلدتنا ويُسابقون الكفار ليقولوا: نعم نحن مصدر هذه الانحرافات وهذا الغلو ونحو ذلك من العبارات والألقاب التي يلوكونها فهذا الكلام لا يُمكن أن يُقروا عليه، ولا يمكن أن يُقبل سواء كان ذلك في قنوات، أو غير ذلك، أو كان ذلك عبر كتابات فبأي وسيلة كان فإن هذا الاستغلال مرفوض، ومردود عليهم، وينبغي أن لا ننساق أبدًا مع مثل هؤلاء الأعداء من الداخل، أو من الخارج، وإنما نُبين حقائق الدين ثم نرد على هؤلاء بطريقة لا يمكن أن يستغلوا معها هذا الذي وقع -والله المستعان.

وهذا له نظائر في كتاب الله -تبارك وتعالى، اليهود لما شنعوا على المسلمين في الحصار حيث قُطع بعض النخيل فقال الله لما قالوا ما هذا الإفساد وأنتم تتدعون الصلاح والإصلاح: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [سورة الحشر:5]، انظر إلى طريقة الرد.

وهكذا في مسألة الربا لما جاء المشركون يجادلون فيه وكابروا وقلبوا القياس فجعلوا الأصل فرعًا والفرع أصلاً: قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [سورة البقرة:275]، يعني: الأصل في العرض القياس أن يُلحق المختلف فيه بالأصل المتفق عليه، إنما يقول إنما الربا مثل البيع المتفق عليه على جوازه وحله، لكنهم قلبوا لمُكابرتهم وشدة استحلالهم للربا فقالوا: قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [سورة البقرة:275]، ألحقوا البيع المتفق عليه بالربا المختلف بين المسلمين والكفار فيه، فماذا قال الله في الرد؟ لم يأت بطرق وحُجج عقلية وإقناع مرتب على طُرق منطقية أو غير ذلك، لا: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، هذا الرد: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275]، الرد جاء مُلخصًا: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، ثم جاء هذا التذييل والتكميل: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:275].

إذًا هؤلاء لما كانوا يقولون هذا على سبيل المُكابرة جاء الرد موجزًا، الله أحل البيع وحرم الربا، وهو الرب المُشرع الذي يُرجع إليه في ذلك كله، فهذا حُكمه.

هذا -والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

 

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:217].

من الهدايات التي تؤخذ من هذه الآية الكريمة إضافة إلى ما سبق ما في قوله -تبارك وتعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، فقتل النفوس كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "إن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك"[4] فيُدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.

كذلك أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى- في هذا السياق الذي يرد الله -تبارك وتعالى- عليهم: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، أن من كان أقوم بطاعة الله -تبارك وتعالى- فهو أحق بالمسجد الحرام لقوله تعالى: وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، فالمشركون مُقيمون في مكة كما هو معلوم، وقد أخرجوا النبي ﷺ وأصحابه لكنهم ليسوا بأهل المسجد الحرام، وما كانوا أولياءه، كما قال الله -تبارك وتعالى: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [سورة الأنفال:34].

وهكذا أيضًا في تقديم ما حقه التأخير في قوله -تبارك وتعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ، فجُعل معطوفًا على صد وذلك قبل أن يستوفي صد ما تعلق به وهو المسجد الحرام، صد عن المسجد الحرام، ومُقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يُقال: وصد عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، لكنه جاء بهذا الترتيب للاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهم فالأهم، فإن الصد عن سبيل الإسلام يجمع مظالم كثيرة كما قال الطاهر ابن عاشور -رحمه الله[5].

فقوله: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، جاء فيه هذا الترتيب على هذا النحو بناء على الأعظم والأشد.وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، ولا يزالون يُقاتلونكم، هنا عُبر بالمضارع وهذا يدل على الاستمرار، ثم غياه بهذه الغاية: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، أن قتال الكفار للمسلمين أمر مُستمر لن يتوقف إلى غاية ذكرها الله -تبارك وتعالى- وهي: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، هذا بالنسبة للقتال، وأما ما يتعلق بالرضا فذلك في الآية الأخرى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120]، فجعل لتوقف القتال من قِبل هؤلاء الكفار إلى غاية: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، ولكن رضاهم أيضًا حتى مع ردة المسلمين عن دينهم لن يتحقق إلا إذا اتبعت ملتهم، ثم تتبع ملة من؟

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى [سورة البقرة:120]، وجاء بلا النافية قبل كل طائفة؛ لتأكيد النفي: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ، وجاء بأقوى صيغة من صيغ النفي "لن"، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120]، فجعله إلى هذه الغاية اتباع ملة هؤلاء، فإذا اتبعت ملة اليهود لن ترضى النصارى، وإذا اتبعت ملة النصارى لن ترضى اليهود، فهنا أيضًا قال: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، فجاء بالشرط إِنِ اسْتَطَاعُوا على طريق الاحتراز، حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ، وجاء بهذا الحرف "إن" الذي يدل على البُعد، فذلك لن يتحقق ولن يحصل أن المسلمين يرتدون عند دينهم لكن المقصود هنا بيان الغاية أنهم لن يدعوا قتال المسلمين حتى يرجع المسلمون عن دينهم، حتى يردوا المسلمين عن إسلامه إن استطاعوا، ثم هذا الاحتراس بهذه الطريقة والتعليق بـ"إن" يدل على بُعد ذلك وأن هذا لن يتحقق ولن يحصل من المسلمين كما يقول القائل: إن استطعت أو إن ظفرت بي، يقوله لعدوه، إن ظفرت بي فاصنع ما بدا لك، ونحو ذلك، يعني: هو واثق أنه لا يحصل هذا الظفر.

ثم انظر إلى هذا الوعيد المرتب عليه: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فعبر بصيغة المُطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قُدر حصوله لا يكون إلا عن محاولة من المشركين، يرتدد، فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه، ومن عرف الحق لا يرجع عنه كما هو معلوم وقد ذكر هذا المعنى بعض المفسرين.

وهكذا أيضًا في قوله: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، لم يأت هنا مفعول ثاني حيث لم يقل: من يرتدد منكم عن دينه إلى دين كذا، إلى دين اليهود أو إلى دين النصارى؛ لأن القضية ليس الشأن في الدين الذي يتحول إليه إذا ارتد، وإنما الشأن هو في الرجوع عن الإسلام إلى أي دين كان فذلك ارتداد وتحول إلى الباطل على أي ملة كان مآله ومصيره، ولهذا ما جاء بالمفعول الثاني، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، ما قال إلى دين كذا وكذا، فالعبرة هي برجوع المسلمين عن دينهم وأن هذا لا يتحقق، وأن هذا لو حصل فذلك الوعيد حاصل لمن وقع له إلى أي دين كان، سواء كان من الأديان التي تُنسب إلى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وقد دخلها التحريف، أو إلى وثنيات لم تأت في شيء من دين الرُسل -عليهم الصلاة والسلام.

ثم أيضًا وضع الظاهر موضع المُضمر في قوله: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، ما قال ومن يرتدد منكم عنه؛ لأنه قال قبل ذلك: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، فذكر الدين والضمائر للاختصار، فما قال بعده: ومن يرتدد منكم عنه فيمت وهو كافر، وإنما قال: عن دينه، فجاء بالمُظهر في موضع المُضمر؛ ليُشعر بفداحة هذا الأمر وشدة هذا المقام وفظاعة هذا الجُرم، ومن يرتدد منكم عنه، لا، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، هل يرتد عن دينه الحق؟ هذا أمر عظيم كيف يكون.

ثم قال: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ، فجاء بهذا القيد؛ لأن ما بعده مما رُتب عليه من حبوط الأعمال مُعلق بذلك، أن الأعمال أعمال الإنسان تكون حابطة إذا مات على الكفر، فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ، فهذه الآية مُقيدة والآيات المُطلقة تُحمل على هذا المُقيد، وبناء عليه يُقال بأن من ارتد عن الإسلام، ثم رجع إلى الإسلام ثانية فأعماله التي عملها قبل ردته هل تكون حابطة باطلة ذاهبة؟ ومن ذلك ما يذكره الفقهاء -رحمهم الله- يقولون: لو أنه حج ثم ارتد، ثم رجع إلى الإسلام هل يُطالب بحجة أخرى باعتبار أن الأولى قد بطلت أو لا؟ قولان لأهل العلم، والأقرب أخذًا من هذه الآية أن عمله لا يحبط بل يرجع إليه عمله فيكون إسلامه على ما أسلف أسلمت على ما أسلفت من خير [6] هذا في الابتداء حينما يدخل الكافر في الإسلام فيُقال له: أسلمت على ما أسلف، يعني: يُحسب له أعماله الطيبة في الكفر، فمن باب أولى أنه إذا ارتد ثم رجع إلى الإسلام أن أعماله الصالحة التي كانت في حال كونه على الإسلام أنها لا تحبط؛ ولذلك لا يُطالب مثلاً: بقضاء الصلوات حينما كان مُرتدًا أو بإعادة الحج السابق أو بنحو ذلك من الأعمال.

فهذا ظاهر من هذه الآية، فدلت على أن حبوط الأعمال إنما يكون بالموت على الكفر.

وهنا قال: فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، حكم ببُطلان الأعمال في الدنيا والآخرة وكذلك أيضًا بكونهم أصحاب النار، وإذا ذُكر أصحاب النار فإن المقصود من هم مخلدون ومُلازمون لها، أهل الخلود الأبدي السرمدي: وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وجاء بضمير الفصل بين طرفي الكلام؛ لتقوية النسبة: وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، أي: باقون أبدًا بلا انقطاع، هذا جزاء الردة عن الإسلام. 

  1. أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده، برقم (1534)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (17745).
  2. تفسير الطبري (3/ 668)، وتفسير ابن كثير (1/ 577).
  3. انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 53-54).
  4. مجموع الفتاوى (10/ 513).
  5. التحرير والتنوير (2/ 329).
  6. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، برقم (123).