الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا۟ وَلَن تَفْعَلُوا۟ فَٱتَّقُوا۟ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

يقول الله تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:23-24].
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطباً للكافرين وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا: يعني محمداً ﷺ فأتوا بسورة من مثل ما جاء به ...
تحدثنا عن مقاصد القرآن والموضوعات الأساسية التي جاء لتقريرها، وقلنا: من ذلك قضية التوحيد بأنواعه الثلاثة، ومن ذلك قضية الوحي، والرسالة، والنبوة، وذكرناه في موضوعات سورة البقرة، والقضايا التي جاءت لتقريرها.
فهنا ذكر قضية التوحيد: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [سورة البقرة:21]، ثم انتقل منها إلى قضية الوحي، وإثبات نبوة محمد ﷺ بالمعجزة، وهي هذا القرآن.
قال تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ: والريب هنا فسره بالشك، وقلنا: إن هذا التفسير بما يقاربه، وإلا فإن الريب كما مضى في أول السورة هو شك مع قلق وتردد وليس مجرد الشك، يقال له: ريب، وإنما إذا حصل معه شيء من القلق والتردد يقال له: ريب، يعني أنه أخص من الشك.
ثم شرع  تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطباً للكافرين: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَاَ يعني محمداً ﷺ فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارِضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله؛ فإنكم لا تستطيعون ذلك.
قال ابن عباس - ا -: شُهَدَاءكُم: أعوانكم.
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَاَ: لفظ التنزيل نزَّلنا يدل على التدريج، بخلاف ما لو قال: أنزلنا، وهذا مما يستدل به على أن القرآن نزل منجماً؛ فإن التفعيل يدل على التكثير، فهو يدل هنا على التدرج في النزول أي: نزل شيئاً بعد شيء.
فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ: هنا تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة، وقد تحداهم في مواضع من القرآن تارة أن يأتوا بقرآن مثل هذا القرآن، وبكتاب مثل هذا الكتاب، كما تحداهم أن يأتوا بعشر سور كما في سورة هود، وتحداهم أن يأتوا بسورة كما هنا، وكما في سورة يونس.
ولذلك يقال بأن القرآن يحصل إعجازه بأقصر سورة، وأقصر سورة ثلاث آيات كسورة الكوثر.
وذهب جماعة من أهل العلم - وهو قول متجه - إلى أن ذلك يحصل أيضاً بما يعادل أقصر سورة، يعني آية أو جزء من آية مثل آية الدين التي هي أطول من سورة الكوثر بأضعاف، فيحصل الإعجاز بآية أو بجزء من آية تعادل أقصر سورة.
أما الكلمة الواحدة من حيث هي فإنها ليس فيها إعجاز، ولكن وضعها في موضعها لا شك أنه مع التركيب والسياق في غاية الإحكام والدقة بحيث كما قال بعض أهل الإعجاز: لو فتشت القواميس والمعاجم ولغة العرب لم تجد أبداً كلمة تقع موقعها بجرسها، وسياقها، ودلالتها الأصلية، والخادمة؛ أي لا تجد شيئاً يؤدي نفس المعاني، ونفس الإيقاع، والتأثير في السمع، ويمثلون على هذا بأمثلة كقوله - تبارك وتعالى -: إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ [سورة الأنبياء:78].
فكلمة نَفَشَت قد لا تعرف معناها بالضبط، ولكن مجرد ما تسمعها يحصل لك فهم لا يمكن أن تؤديه لفظة أخرى تقوم مقامها، ولذلك لو قلت: إذ انتشرت فيه غنم القوم، فإنها لا تؤدي نفس المعنى الذي تؤديه عبارة إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، والأمثلة على ذلك كثيرة.
يقول تعالى: وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم قال ابن عباس: أعوانكم، وقال السُّدي عن أبي مالك: شركاءكم أي: قوماً آخرين يساعدونكم على ذلك، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم، وينصرونكم.
وقال مجاهد: {وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم}: قال: ناس يشهدون به، يعني حكام الفصحاء.
الشهداء: جمع شهيد، الشهيد والشاهد، شهود وشهداء، وهذه اللفظة الشهود والشاهد تأتي مقولة عمن حضر، تقول: فلان شهد الوقعة يعني من حضر، يقال: وقد شهد بدراً يعني حضر بدراً، فتأتي بمعنى الحضور، وتأتي هذه اللفظة بمعنى الشاهد الذي يؤدي الشهادة، وتأتي بمعنى المعاون.
وهنا قال الله تعالى: وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم المقصود الأعوان، ومن هنا فسره بعض السلف بالآلهة؛ لأنهم عادة يطلبون المدد منهم، أي: هاتوا أعوانكم من أجل أن تأتوا بقرآن مثل هذا.
وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم: أي أعوانكم، ومن هنا يمكن أن يقال آلهتكم كما قال بعض السلف، أي: وادعوا آلهتكم، أو ادعوا من شئتم ليحضر ذلك، أو ادعوا شهداءكم أي: الشهود على أن هذا مثل القرآن، ومن هنا قال من قال: ناس يشهدون به، يعني حكام الفصحاء.
حكام الفصحاء كانوا في السابق في أسواقهم كسوق عكاظ في الجاهلية لهم منتديات أدبية، فيأتي الشعراء، والخطباء، والأدباء، ويلقون القصائد، والخطب، وكان لديهم لجنة ممن برع في هذا الباب أمثال امرئ القيس - وتعرفون أخبار هؤلاء في التاريخ، وكيف يحصل مغاضبات أحياناً في تلك المجالس لما تفضل في تلك الأسواق قصيدة على قصيدة فيغضب، ويهجو الحكم - وهذه اللجنة بمثابة طاقم التحكيم، يسمعون القصيدة ويسمعون، فيحكمون أن هذه أفضل من هذه، وينتقونها، فانتقوا السبع المعلقات، وعلقوها على الكعبة؛ باعتبار أنها من روائع الشعر العربي، فهنا وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم: يعني الشهود الذين يشهدون بأن هذا مثل القرآن.
فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم: أي من يشهدون لكم بذلك، أو ادعوا أعوانكم كآلهتكم التي تستعينون بها، أو ادعوا من يحضر، ادعوا شهداءكم، وادعوا أعوانكم.
يقول الله تعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء:88] يعني لو كان بعضهم لبعض مظاهراً، ومعاوناً، ومؤيداً، ومناصراً، ومقوياً ما يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهنا بسورة واحدة.
وقد تحداهم الله تعالى بهذا فعجزوا وما استطاعوا، حتى الذين حاولوا صاروا أضحوكة في التاريخ؛ لأن العقلاء منهم كفوا، ومزقوا الأوراق التي حاولوا كتابتها، والذين تجرؤوا صاروا سبة وأضحوكة يضحك منهم الناس.
انظر إلى هذه الترهات والنماذج من هذه المحاولات المضحكة لمسيلمة الكذاب الذي كلما ذُكر ذكر الكذب معه، حيث يقول في قرآنه: والليل الأضخم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، وما انتهكت أسيد من مُحرَّم.
ما هذا الكلام، هل هذه فصاحة وبلاغة، هل هذا قرآن، ماذا تحت هذا الكلام من معاني يمكن أن تستنب
؟لا شيء من ذلك، بل هذا كله كذب وزور.
اجتمع مسيلمة الكذاب مع سجاح بنت الحارث وتزوجها، وهي أيضاًً كانت تدعي النبوة، فقالت له: ما أوحي إليك؟
فقال: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، ما بين صفاق وحشا.
فقالت: وماذا بعد ذلك؟
قال: أوحي إليَّ: إن الله خلق النساء أفواجاً، وجعل لهن أزواجاً، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً نتاجاً.
فقالت هذه التي تدعي النبوة: أشهد أنك نبي، فتزوجته، وحق فيهما قول الله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [سورة النور:26]، فلا غرابة من ذلك.
ولما قدم على أبي بكر وفد مسيلمة في حروب الردة، أو لما جيء ببعضهم فقال: أسمعوني ما يقول صاحبكم، فذكروا له: الفيل وما الفيل وما  أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل، وذيل قصير، ومما قالوه عنه: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، واللاقمات لقماً، قال: أشهد أن هذا لم يخرج من إل، ومعنى من إل يعني من إله أو من ربٍّ، كما قال تعالى: لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [سورة التوبة:10]: أي لا يرقبون فيكم الله ولا العهد.
قال لهم أبو بكر: ويحكم، إن هذا الكلام لم يخرج من إل، فأين كان يذهب بكم؟ أي: أين عقولكم؟ ومع ذلك كانوا يقولون: إن كذاب اليمامة أحب إلينا من صادقي مضر، وتصرفهم هذا خلافاً لابن المقفع الأديب المعروف الذي قيل له: "ابن المقفع" لأنه ضرب على ظهر يده حتى تقفعت، وذلك لما ادعى النبوة، أو ادعى أنه يأتيه مثل هذا القرآن، فحاول وكتب أشياء ومزقها، ومر على صبي يقرأ قوله تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة هود:44] فرجع ومحا كل ما كتب، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض وما هو بكلام البشر، ما استطاع.
وكذلك المتنبي لما بلغ ذروة في الشعر اغتر بنفسه فحاول وادعى كما قيل النبوة فترة - ولذلك قيل له المتنبي -، وحاول أن يكتب قرآناً، فكان كلما كتب ورقة مزقها.
وحتى الذي كتبه ابن المقفع أول ما كتبه إنما أخذه من كتابين من حكم فارس وغير ذلك، يقال لأحدهما "الدُّرة"، وللآخر "التليمية"، فهو جاء بالعبارات من هذين الكتابين حيث لفقها، ونمقها، ولم يأت بها من عند نفسه، فاستحيا ولم يظهرها.
وهذا رجل آخر يقال له: يحيى بن حكم الغزال في الأندلس كان من البلغاء توفي سنة 250هـ، حاول فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها وما استطاع، يقول: "اعترتني منه خشية ورقة حملتني على التوبة، والإنابة".
وهكذا كل من حاول فإن محاولته باءت بالفشل، وإذا أردتم أن تعرفوا شيئاً من هذا فانظروا في كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، فقد تكلم فيه على قضايا منها: أنه جاء بقصيدة يضرب بها المثل عند العرب في الإعجاز، وهي قصيدة مطلعها: قفا نبكِ.
هذه مطلع قصيدة بليغة جداً لامرئ القيس، فإذا قيل: قفا نبكِ، فهم يقصدون هذه القصيدة التي هي عندهم من أبلغ أشعار العرب.
أخذها الباقلاني وحللها، حيث جاء بالقضايا البلاغية، والاستعمالات بأنواعها من جناس، ومجاز، وطباق وغير ذلك، وبقي يحللها، ويحلل المعاني التي تضمنتها، ويأتي بأشياء من القرآن ويقول: أنظر هذه، وأنظر هذه، وكان رجلاً يدرك الإعجاز، فجعل هذه القصيدة لا تساوي شيئاً يذكر أمام إعجاز القرآن، ومن أراد الاطلاع على هذه المسألة فعليه بكتابه "إعجاز القرآن".
يقول المهذب لتفسير ابن كثير - رحمه الله -: وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن، فقال في سورة القصص: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة القصص:49]، وقال في سورة الإسراء: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء:88]، وقال في سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة هود:13]، وقال في سورة يونس: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ۝ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة يونس:37-38]، وكل هذه الآيات مكية.
ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة، فقال في هذه الآية: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ أي شك، مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [سورة البقرة:23] يعني محمداً ﷺ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ [سورة البقرة:23] يعني من مثل القرآن، قاله مجاهد، وقتادة واختاره ابن جرير الطبري، والزمخشري، والرازي، ونقله عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن البصري، وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه، من أحسنها: أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين، سواء في ذلك أميهم، وكتابيهم، وذلك أكمل التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم، وبدليل قوله تعالى: فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ [سورة هود:13]، وقوله: لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [سورة الإسراء:88].
فهذا التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة، مع شدة عداوتهم له، وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك.
ولهذا قال تعالى: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ [سورة البقرة:24] و"لن" لنفي التأبيد في المستقبل، أي ولن تفعلوا ذلك أبداً، وهذه أيضاً معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً مقدماً غير خائف، ولا مشفق؛ أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأنَّى يتأتى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله خالق كل شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!.
يقول ابن كثير - رحمه الله - في قول الله : فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ [سورة البقرة:23] يعني من مثل القرآن: هذا القول الذي ذكره الحافظ - رحمه الله -، واقتصر عليه؛ هو القول المشهور الراجح في معنى هذه الآية، بصرف النظر عن تحليل هذه الجملة، وهل في الكلام - كما يعبر بعضهم - زيادة أو ليس فيه زيادة، بصرف النظر عن هذه التحليلات التي لا نخوض فيها عادة في مثل هذه القراءة، لكن هذا هو القول الراجح في معنى الآية من مثل القرآن، خلافاً لمن قال بأن الضمير - الهاء - في مِّن مِّثْلِهِ يرجع إلى غير القرآن وهو التوراة، والإنجيل، حيث قالوا: التوراة، والإنجيل هو كلام الله قبل أن تحرف.
ويكون المعنى على هذا القول أنه تحدى هؤلاء الأميين كما ألمح ابن كثير - رحمه الله - إلى ذلك.
وابن كثير لما رجح الوجه المختار قال؛ لأن ذلك التحدي للجميع: للعرب، ولأهل الكتاب، ولا يختص بهؤلاء الأميين، وذلك أن القول بأن الضمير يرجع إلى التوراة، والإنجيل؛ يؤدي إلى أن يكون المعنى: فأتوا بسورة من كتاب متقدم كالتوراة، والإنجيل؛ تجدونها تشهد بصحة ما في هذا القرآن، وعلى هذا المعنى لا وجه للإعجاز ظاهر، وليس في هذا المعنى تحدٍّ بكونهم لا يستطيعون الإتيان، والاختراع، والابتكار؛ لكلام كهذا القرآن؛ لأنه إنما قال: الجؤوا إلى الكتب السابقة وستجدونها مصدقة لهذا القرآن، وليس المعنى - على هذا القول - أنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثل هذا القرآن، ولذلك فإن هذا القول بعيد جداً؛ مع أنه قال به من قال من السلف.
وقال بعضهم: إن الهاء في قوله: مِّن مِّثْلِهِ عائدة إلى النبي ﷺ، والمعنى على هذا فأتوا بسورة من مثل هذا الرجل الأمي الذي لا يقرأ، ولا يكتب، كيف يصدر عنه مثل هذا الكلام، وهذا القول لا وجه للإعجاز فيه؛ إذ على هذا القول يلزم أن يكون المعنى أنه إذا جاء رجل ماهر بالقراءة، والكتابة، وسائر العلوم؛ فيمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن، وعلى هذا فلا وجه للإعجاز في أن يكون هذا القرآن صدر أو جاء على لسان رجل أمي لا يعرف القراءة.
وخلاصة الأمر أن هذين الوجهين في غاية البعد، والمجافاة لقضية التحدي، فالله يتحداهم أن ينسجوا كلاماً على منواله قال سبحانه: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء:88].
ولذلك لا يمكن أن ترِد مثل هذه الأقوال على هذه الآية وأمثالها، ولذا فإن هذا القول الذي ذكره ابن كثير في تفسير آية البقرة لا يجوز العدول عنه، وهو قوله: أي: من مثل هذا القرآن، ووجه هذا ظاهر، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ [سورة البقرة:24] قال ابن كثير: "ولن لنفي التأبيد في المستقبل": وهذه العبارة يبدو أنها مقلوبة؛ إذ كيف تكون لن لنفي التأبيد في المستقبل؟ وإنما يمكن أن يكون الصواب: ولن لتأبيد النفي، ثم إنها أيضاً لا تكون لتأبيد النفي دائماً وإنما هي في كل مقام بحسبه، أي بحسب ما يفهم من السياق، وحسب المقام، وما يحتف به من القرائن، ولذلك لو وعدتك بالزيارة في هذا اليوم، ثم اتصلت بك اعتذر لك وقلت لك: لن أزورك؛ هل تفهم من هذا أني لن أزورك أبد الآبدين؟
وكذلك لو قلت لك: أنا أريد أن أسافر اليوم، ثم أرسلت لك رسالة عبر الجوال، وقلت لك: لن أسافر، هل تفهم منها أني لن أسافر أبداً أي سفر؟
لا يفهم هذا الفهم أحد، وإنما يُفهم أن المقصود نفي هذه الزيارة المعينة، ونفي هذا السفر المعين.
ولذلك فإن الله لما كلم موسى ﷺ قال موسى: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143] فقال الله له: لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [سورة الأعراف:143]، فقوله: لَن تَرَانِي يعني في هذا المقام؛ لذلك علَّق رؤيته على أمر ممكن وهو ثبات هذا الجبل أمام تجلي الله ، لذلك لا يُفهم من هذا أن موسى لن يرى ربه أبداً لا في الدنيا، ولا في الآخرة، خلافاً لقول المعتزلة الذين ذهبوا إلى أن لن تفيد التأبيد.
ولهذا لا بد أن تعلم أن اللغة العربية كغيرها من العلوم كأصول الفقه، والمصطلح، والتفسير، وشروح السنة دخلها من العلوم الكلامية الفاسدة ما دخلها، ولذلك تجد في كتب المتأخرين - معاجم القواميس اللغوية - من المعاني ما لا تجده في كتب المتقدمين، وما لا يعرفونه، وهذه قضية مهمة، ومثال ذلك لو رجعت إلى كتاب لسان العرب - وهو من كتب المتأخرين -، وبحثت في كلمة استوى ستجد أنهم يذكرون من معانيها "استولى"، مع أن هذا ليس من معاني لفظة استوى في كلام العرب، ولذلك لو بحثت في كتب المتقدمين لن تجد هذا المعنى، فهذا مما دخل في كلام العرب.
ومثل ذلك "لن" يقول فيها المعتزلة: إنها تفيد التأبيد، وهي لا تفيد التأبيد في لغة العرب، والناس بعضهم عن بعض لا يزالون يفهمون عند استعمال مثل هذه اللفظة "لن" أنها في كل مقام بحسبه، فهنا يقول تعالى: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ [سورة البقرة:24] فـ"لن" هنا تفيد التأبيد أي: لن تفعلوا في أي وقت من الأوقات.
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية من حيث اللفظ، ومن جهة المعنى قال الله تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود:1]، فأحكمت ألفاظه، وفصلت معانيه، أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح، لا يحابى، ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [سورة الأنعام:115] أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، فكله حق وصدق، وعدل وهدى، ليس فيه مجازفة، ولا كذب، ولا افتراء؛ كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: "إن أعذبه أكذبه".
وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء، أو الخيل، أو الخمر، أو في مدح شخص معين، أو فرس، أو ناقة، أو حرب، أو كائنة.
أو كائنة: يعني واقعة أو حادثة من الحوادث.أو كائنة، أو مخافة، أو سبُع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاً إلا قدرة المتكلم المعيَّن على الشيء الخفي أو الدقيق، أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيتاً، أو بيتين، أو أكثر؛ هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته.تحدثنا عن قصيدة "قفا نبكِ"، وذكرنا كيف حللها الباقلاني - رحمه الله -، وذكرنا أنه جاء بالقضايا البلاغية، والاستعمالات بأنواعها من جناس، ومجاز، وطباق وغير ذلك، وأنه بقي يحللها، ويحلل المعاني التي تضمنتها، ويأتي بأشياء من القرآن ويقول: انظر هذه، وانظر هذه، فبيَّن وجوه بلاغة القرآن، وكيف لا يدانيه أفضل ما أنتجه العرب من الشعر، فكانت النتيجة أن جعل هذه القصيدة لا تساوي شيئاً يذكر أمام إعجاز القرآن.
ولقد أتى هذا المأفون - أعني سيء الذكر طه حسين - الذي يقول: إن الشعر الجاهلي قد أخفي، وإنما قيلت أشعار نسبت إلى الجاهليين من أجل أن تتطامن أمام  فصاحة القرآن، وبلاغته، وأن القرآن على منوال شعر العرب في الجاهلية.
ونحن نقول لهذا السيء: هاتِ أنت ومن استطعت من شيوخك من المستشرقين من اليهود، والنصارى وغيرهم، هاتوا بلاغتكم وفصاحتكم، فالتحدي لا زال قائماً.
ثم أين محاكاته مع تظاهر الهمم عند العرب على النقل، وتميزهم بالحفظ، فكيف ينسون أشعارهم، والشعر هو الطريق إلى حفظ وقائعهم، وتاريخهم، وكل ما يجري عليهم؟!
ثم لو قام أحد، وعارض أحد من هؤلاء الجاهليين الذين تحداهم، وهم أكثر الناس أنفة، وإباء، وتمنعاً من التحدي؛ لنُقل، فكيف يخفى مثل هذا، ثم كيف يجترئ رجل أمي أن يتحدى الأولين والآخرين من الجن والإنس، ويبقى هذا الأمر قائماً إلى هذه الساعة؟!.
ابن كثير - رحمه الله - هنا يشير إلى وجوه الإعجاز خلافاً لمن قال: إن الإعجاز في القرآن إنما هو من جهة فصاحته، وبلاغته، وتراكيبه اللغوية، وإن كان لا شك أن هذا أحد وجوه الإعجاز، وهو من أبرزها، وذلك أن النبي ﷺ بعث في أهل الفصاحة، وكانت قريش هي أفصح العرب على الإطلاق، فبعث منهم، وتحداهم، وتحدى غيرهم، ولكن وجوه الإعجاز لا تقتصر على هذا؛ فإن منها ما يكون من قبيل الإخبار عن الغيوب بأنواعها - الغيب النسبي، والغيب المطلق - كالإخبار عن غيوب غابرة ماضية ومثال ذلك: أن اليهود لما سألوا النبي ﷺ عن مسائل من الغيوب الماضية لا يعرفها إلا نبي كأخبار أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين، أخبرهم النبي ﷺ عن هذا قال الله تبارك وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا [سورة الكهف:83].
كما أخبر ﷺ عن أمور ستقع فوقعت، ومنها ما ينتظر وقوعه كما في قوله تعالى: الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ ۝ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ۝ فِي بِضْعِ سِنِينَ [سورة الروم:1-4]، فهنا حدد المدة، فمن يستطيع أن يحدد مدة معينة والناس يموجون في خبره، وقد انبرى أكثرهم لعداوته، وحربه، وتكذيبه، ثم بعد ذلك يأتي بمثل هذا؟ هل يعقل هذا؟!.
أضف إلى ذلك كمال هذا التشريع في كل جوانب الحياة بأحكم النظم التي تهذب الإنسان ابتداء من قص أظافره، وأحكام الفطرة، وانتهاء بتدبير أمور الدولة، والسياسة؛ إلى غير ذلك مما يتعلق بقضايا الاعتقاد، والتوحيد، والألوهية وكل ذلك، فكل هذه الأمور فصلها أحسن  تفصيل بطريقة لا يمكن للنظم البشرية أن تأتي بمثلها، فالنظم البشرية قوانين ومواد تضبط حياة الناس بطريقة آثمة ظالمة تضيع حقوقهم، وتهدر كرامتهم، بينما القرآن يهذب النفوس، ويروضها، ويربيها، ويحملها على مكارم الأخلاق، وعلى مراقبة الله في كل الأحوال، فتجد الإنسان تهيأ له الفرص لأخذ ما لا يحق له أخذه، ويتوقف خوفاً من الله ، وهذا لا يوجد إلا في تشريع رب العالمين فقط، فتجد أن هذا الإنسان يقع في يده ما لا يحل له، ثم يسأل عنه كيف يتخلص منه إن كان لا يحل؛ مع أن له فيه ألوان الطمع، ومع ذلك يترك الأمور المحبوبة إلى النفس اتقاءً لله رجاء ما عنده، فيبذل أحب الأشياء إليه، ويضحي بنفسه، وماله، وكل ذلك من أجل الله.
إن هذا القرآن حينما يذكر أحكام الطلاق، والحيض، والقضايا المتعلقة بالرضاع، ونحوها من الأحكام، ويذكر معها: فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:227]، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة النور:18]، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة الحشر:6].
وحينما يتحدث عن عوامل النصر والهزيمة يذكر لهم مقومات وأمور أساسية تربطهم بالله ، وتصلح واقعهم وحالهم، وغير ذلك، لذلك فإن إعجاز هذا القرآن يكون في التشريع كما يكون بفصاحته، وبإخباره عن الأمور الغيبية وغير ذلك.
فوجوه إعجاز القرآن لا تقتصر على لون واحد، بل على ألوان متعددة من الإعجاز، وكلٌّ يعرف من ذلك بحسب ما أعطاه الله ، فالذين يهتمون بقضايا النظم والقوانين لا شك أنهم يعرفون قدر إعجاز القرآن، وقد تحدث كبراؤهم عن هذا، ولا حاجة لنقل شيء منه فهو موجود في مضانِّه.
ونحن حينما نتحدث عن الإعجاز في الفصاحة، والبلاغة؛ نتحدث عنه وقد ضعف هذا الحسّ عندنا، وبالتالي فإننا لا نتذوقه كما ينبغي لضعف هذه الحاسة - إن صح التعبير -، ولو تأملت لوجدت فرقاً بيننا وبين الأعرابي الذي سمع قارئاً يقرأ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [سورة الحجر:94]، فسجد، قيل له: لمَ سجدت؟ قال: سجدت لفصاحته.
تجد الواحد منا يُقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره وقد لا يجد مثل هذا الذي وجده الأعرابي عند هذه الآية؛ وذلك لضعف هذا الحس لدى المسلمين العرب، والعجم، حتى صار الإنسان العربي لربما يحتاج إلى أن يتعلم علوماً كثيرة من أجل أن يصل إلى مثل هذا التذوق، فما مثلنا في هذه الحال إلا كمن يحدث عن شيء لم يجد طعمه أصلاً، بل وكأن الواحد منا اليوم إنسان فاقد حاسة الذوق منذ ولد، فأنت تتكلم معه أن هذا حلو، وهذا حامض، وهذا مر، وهذا مالح، فمهما شرحت له لا يدرك ما يقال له أبداً.
ومثل ذلك أيضاً لو تحدثت مع إنسان عن لون من الذوق لم يجربه كأن تقول له: هذا مُزٌّ أي: حامض حلو، وهو لم يجرب هذا قط؛ فإنه لا يتصور ذلك.
كذلك لما تتكلم مع الطفل عن الحرارة مثلاً وهو لا يعرف عن الحرارة شيء، تقول له: هذا حار، فإنه سيجرب لمْسَه، فإذا لمسه وجد الحرارة والإحراق، فإذا قلت له: هذا حار لكن قصدت بذلك حرارة الفلفل مثلاً؛ فإنه  سيبتعد عنه، ولن يلمسه؛ لأنه يظن أنها مثل النار، والسبب في ذلك أنه لم يدرك معنى الحرارة إلا في النار، وهكذا.
ولذلك نحن قد نحتاج إلى أن نأخذ آيات من القرآن فتفسر بطريقة تفرع فيها المعاني، وتفصل؛ بحيث إن الناس يقفون أمام هذه السورة، أو هذه الآية، أو الآيات؛ فيقولون: كل هذه المعاني في هذه الآيات التي نقرؤها صباح مساء، ونحن عنها غائبون؟! فيدركون عملياً جزءاً كبيراً من قضية الإعجاز بكثرة المعاني، وبعبارات قصيرة، فيكبرون هذا الكلام الذي تضمن هذه المعاني، وهكذا.
نحن حينما نتحدث عن قضية التفسير، وأنه ينبغي أن يتحرز الإنسان فيه، وأنه ليست قضية سهلة، وأن القضية ليست مجرد أن يحضر الشخص درساً من تفسير ابن كثير، ومن تفسير السعدي، ومن تفسير القرطبي، ثم يأتي ويقدمه لطلابه، فالذي لم تكن له معاناة مع العلم النظري، ودراسة جيدة فيه؛ فإنه لا يدرك ما يقول.
لذلك عندما تأتي وتذكر لهم قضايا أصول التفسير، وقواعد التفسير؛ مفصلة، وتفرع عليها، وتأتي بها بطريقة الدراسة التخصصية - كما يقال -؛ فالنتيجة إما إحباط يحصل عند البعض، فيقولون: هذا أمر بعيد المال، وإما أن تجد حماساً لدى البعض الآخر فنجدهم يقولون: نحن أدركنا القضية الآن، وأنها ليست كما كنا نظن!.
وهذا شيء جربته حيث تحدثت عن قضية التفسير، وما يحتاج إليه المفسر، وكيف نقدم درساً في التفسير؛ فوجدت الناس يستروحون لهذا الكلام، ويظنون لأول وهلة أنهم يستطيعون تطبيقه، وتحدثت في دروس كثيرة مع أناس لهم اهتمام بدراسة القرآن، وتدريسه، والتفسير؛ فكانت النتيجة أن بعضهم يقول: أنا الآن أشعر أنني متطفل على كلام الله ، ولا يحق لي أن أقدم لطلابي شيئاً، والآخر يقول: أنا أدركت أن الذي كنت فيه إنما هو لون من العبث، فما هو الحل؟ ...الخ.
كذلك أذكر أحد المشايخ الذين درسونا مسائل الإعجاز في القرآن والبلاغة كان يقول وهو يتكلم بوجه معبر: أحياناً أقرأ القصيدة وأبكي كثيراً، وأحياناً أقرؤها فأضحك كثيراً، فكان بعض الطلاب ينظرون إليه بشيء من الاستهزاء، وكان أحدهم يلتفت على زملائه ويعلق قائلاً: ما رأينا شيئاً يستوجب هذا التأثر الذي يتكلم عنه، والسبب في هذا الاستغراب أن الحس معدوم، وبالتالي ما يتحرك الإنسان وما يتأثر.
وأما القرآن فجمعيه فصيح في غاية نهاية البلاغة، عند من يعرف ذلك تفصيلاً، وإجمالاً؛ ممن فهم كلام العرب، وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة، أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا، لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يملُّ منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصمّ الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات؟قرأتُ تقريراً لأحد اليهود في الجامعة العبرية حيث كلف بوضع ترجمة للقرآن باللغة العبرية الحديثة حيث أرادوا تكليف هذا الأستاذ بوضع ترجمة باللغة العبرية الحديثة، فترجم نصف القرآن، فكتب تقريراً ونُشر، وكان مما ذكر في مضامين هذا التقرير أن هذا القرآن لا يمكن أن يترجم، وقال: تبقى قدراتنا عاجزة عن التعبير عن معانيه، وعن الأوصاف الدقيقة فيه، فتجد وصفاً للجنة، ووصفاً للنار، وتجد تفاصيل لا يمكن أن يعبر عنها المتاح من الكلام.
ويقول: هذا فقط تقريب ومحاولة، ولكن إيصال معاني القرآن كما هي لا يمكن أبداً لأحد أن يفعله، وهكذا وقف عاجزاً عن تحقيق هذه الرغبة.
ولو قرأنا في كتب الإعجاز فإننا سنجد كثيراً من هذه الأمور والقضايا التي أشار إليها ابن كثير كقضية القصص مع أنها تتكرر في أكثر من موضع، وتأمل كيف يأتي بها في كل موضع بحسب المناسبة، فإذا كان في مكان قصم الظالمين جاء بها بطريقة تتناسب مع المقام، وإذا كانت في مقام بيان مناقب الرسل، وصبرهم، ودعوتهم، وما أشبه ذلك؛ جاء بها بأسلوب يناسب هذا المقام وهكذا، فمن قرأ طريقة هذه الأشياء، وما كتب فيها من كتب الإعجاز؛ تنفتح له أبواب من هذه الأمور.
وإن وعد أتى بما يفتح القلوب، والآذان، ويشوق إلى دار السلام، ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة السجدة:17]، وقال : وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة الزخرف:71]، وقال في الترهيب: أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ [سورة الإسراء:68]، وقال: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ* أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [سورة الملك:16-17]، وقال في الزجر: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ [سورة العنكبوت:40]، وقال في الوعظ: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ۝ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ۝ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [سورة الشعراء:205-207] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة، والبلاغة، والحلاوة.
وإن جاءت الآيات في الأحكام، والأوامر، والنواهي؛ اشتملت على الأمر بكل معروف حسن، نافع طيب، محبوب، والنهي عن كل قبيح، رديء، دنيء كما قال ابن مسعود وغيره من السلف - رحمهم الله -: إذا سمعت الله يقول في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ فأرعها سمعك، فإنها خير يأمر، أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى: يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [سورة الأعراف:157] الآية.
وإن جاءت الآيات في وصف المعاد، وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار، وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم، والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به، وحذرت وأنذرت، ودعت إلى فعل الخيرات، واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا، ورغبت في الآخرة، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم، وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم.
الجهل والغفلة هي حجاب كثيف غليظ يغلف الإنسان، والعلم يزيح عنه ذلك، ويذيبه عنه، كما تزول الأقذار والأوساخ أو الطبقات المتراكمة على الجلد بكثرة الغسل، والفرك، والمعالجة، فكلما ازداد الإنسان في العلم كلما اتسع نظره، واتسع أفقه، وصار يدرك من الكلام ما لا يدركه غيره، وينفتح له من أبواب الفهم ما لا ينفتح لغيره، ولذلك تجد ابن عباس يتمنى أن كل أحد يفهم من كل آية ما يفهمه هو، من كثرة المعاني التي يفهمها، ويتمنى أن الآخرين يصلون إليها، ولذلك أقول: كلما استطعت أن  تهذب الطبع، وأن ترقق النفس، وأن تجلو حجاب الغفلة عنك بكثرة المعالجة؛ فستجد أثر ذلك، لا سيما من يتعاطون التعليم أقصد الذين يدرِّسون.
فلا يصلح أن يكون هذا الإنسان تغلفه هذه الطبقة الكثيفة من الجهل، بل ينبغي أن نجاهد النفس، وهذا يحتاج إلى شيء من المعاناة، والتعب؛ في البداية، ثم يتحول إلى تلذذ بالعلم، فكلما ازداد الإنسان تبصراً في العلم كلما ارتفع، وأشرقت نفسه، فالنفس تشرق، وتحلق، وترتفع إلى الأعلى، وحينئذ لا يكون همها في معافسة الملاذ الحسية من المأكول، والمشروب، وغيره مما يجد الناس فيه غاية لذتهم ممن هم دون صاحب هذه النفس، فهو لذته في المعارف، وتحصيل العلوم، واكتشاف الاستنباطات، والعمل بالعلم لمن وفقه الله، والله يوفق من شاء إلى ما شاء، لكن النفس تحتاج إلى شيء من المعالجة، فالرجل البعيد أمامه حجاب غليظ يؤثر في حسه، ويؤثر في عمله، ويؤثر في أخلاقه، ويؤثر في اهتماماته، فإذا هذبه العلم، وفركه؛ ظهر الجوهر، والله أعلم.
قال المفسر - رحمه الله -: ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة[1] [لفظ مسلم]، وقوله ﷺ: وإنما كان الذي أوتيته وحياً أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء، والله أعلم.
وله - عليه الصلاة والسلام - من الآيات الدالة على نبوته، وصدقه؛ فيما جاء به؛ ما لا يدخل تحت حصر، ولله الحمد والمنة.
فدلائل النبوة التي يعرف بها صدق النبي ﷺ كثيرة جداً، كما قال الحافظ ابن حجر: تفوق الحصر.
ودلائل النبوة على قسمين:
- قسم منها ما يكون من قبيل المعجزة، أو ما يسميه المتأخرون بالمعجزات.
- وقسم منها ليس بمعجز.
فالمعجز كالقرآن، وكنبع الماء من بين أصابعه ﷺ، وتكثير الطعام، وانقياد الشجر؛ كما في حديث جابر في صحيح مسلم، وغير ذلك مما عرف ونقل في الأدلة الثابتة الصحيحة.
وغير المعجز مثل ما يعرف في وجهه من أنه نبي ﷺ كما في الحديث في قصة عبد الله بن سلام إذ يقول: "فما إن رأيت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب"، فهذه من دلائل النبوة.
ومن ذلك أيضاً ما عرف عنه من الأمانة، والصدق؛ قبل أن يبعث، وبعد أن بعث، إلى غير ذلك من شمائله - عليه الصلاة والسلام - التي هي من دلائل نبوته، فهذه يقال لها: "دلائل النبوة"، ويقال لها: "آيات الأنبياء"، ثم بعد ذلك صار التعبير عن المعجز منها بالمعجزات.
وبالنسبة لما يقع من الخوارق على يد أتباع النبي من الصحابة فمن بعدهم يقال له: "كرامات الأولياء"، وإلا فإن ذلك جميعاً يقال له: "آيات الأنبياء" ويقال له: "دلائل النبوة".
والشاطبي - رحمه الله - ذكر أصلاً وقاعدة، وهي: أن كلَّ ما أعطيه نبي من الأنبياء قبل النبي ﷺ فقد كان للنبي ﷺ مثله، يعني سواء وقع ذلك للنبي ﷺ مباشرة، أو وقع لأحد أتباعه؛ لأنه قرر قاعدة أخرى وهي أن كل آية وقعت لتابع النبي فهي آية للنبي، وهذا صحيح، فإبراهيم ﷺ مثلاً ألقيَ في النار، ولم يحترق، ولم يقع ذلك للنبي ﷺ لكنه وقع لبعض أتباعه وهو أبو مسلم الخولاني في قصة الأسود العنسي؛ كما هو معروف، وقل مثل ذلك في الآيات الأخرى للأنبياء، لكن لكل قاعدة استثناءات، وإنما يقصد بالقواعد بحيث إنه يدخل تحتها معظم الصور، وإلا فإن انفلاق الصخرة عن ناقة فلم تحصل لأحد من أتباع النبي ﷺ.
وكذلك ما وقع لبعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الآيات كقصة موسى ﷺ مع السحرة بالصورة العظيمة التي وقعت؛ فهذه لم تقع للنبي ﷺ، أما إبطال السحر على يد أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في مقام المناظرات؛ فإن ذلك قد وقع.
قول النبي ﷺ هنا: وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ: هذه العبارة على سبيل الحصر؛ لأن "إنما" هي من أقوى صيغ الحصر، وليس ذلك الحصر هنا مقصوداً، وإنما المراد أن ذلك هو أبرز آيات النبي ﷺ كقوله - عليه الصلاة والسلام - مثلاً: الحج عرفة[2]، مع أن من وقف بعرفة فحسب لا يكون حاجَّاً، فلا بد من طواف وسعي وما إلى ذلك، مع أن الصيغة تشبه الحصر في قوله: الحج عرفة وكأنه حصر الحج بعرفة.
فقوله هنا: وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ أي أن هذه أبرز آياته - عليه الصلاة والسلام -، وليس المقصود منها الحصر.
وقوله تعالى: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:24] أما الوَقود - بفتح الواو - فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه.يعني ما تتوقد به، مثلما يقال: الوَضوء؛ فهو الماء الذي يُتوضأ به، والسَّحور: هو الطعام الذي يؤكل، وما أشبه ذلك.
وأما الوُضوء - بضم الواو - فإنه الفعل، والسُّحور هو أكل الإنسان أي فعله في ذلك الوقت، وهنا وَقُودُهَا يعني ما تتوقد به، أي المادة التي تشتعل بها النار هي الناس، والحجارة، وليس الحطب وغيره مما توقد به النار كالزيت وغيره.
كما قال تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [سورة الجن:15]، وقال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ*ْ لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة الأنبياء:98-99]، والمراد بالحجارة ها هنا هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة، المنتنة، وهي أشد الأحجار حراً إذا حميت - أجارنا الله منها -.
وقيل: المراد بها حجارة الأصنام، والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآية.
القول بأن الحجارة المراد بها حجارة الكبريت لم يثبت عن النبي ﷺ، وإنما الذين قالوا ذلك هم طائفة من السلف، وهو قول لا يقال من جهة الرأي، لكن يمكن أن يؤخذ عن بني إسرائيل، والذي حداهم أن يبحثوا عن تفسير لهذه الحجارة هو أن ذكر الحجارة بمجرده لم يعهد في كونه وقوداً؛ ولذلك فإن بعضهم قال: المراد بالحجارة هنا هي الأصنام التي تعبد من دون الله ، وهذا دلّ عليه القرآن قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، فأصنامهم يوقد بها النار كما توقد بهم.
وقول من قال: إنها حجارة الكبريت باعتبار أن ذكرها يؤثر في هذا المقام؛ حيث إنها تزيد النار توقداً، وحرارة، والمقام مقام ترهيب، فلو قال لهم الحجارة العادية هذه هي وقود النار لربما كان ذلك سبباً لإبهام الأمر عليهم، فلا يدركون المراد منه، والعلم عند الله ، المقصود أن هذا هو توجيه تفسير بعض السلف للحجارة بحجارة الكبريت، وأنهم لم يقولوه من عند أنفسهم.
وقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:24] الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل عوده إلى الحجارة، ولا منافاة بين القولين في المعنى؛ لأنهما متلازمان.قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ أي: أُعِدَّتْ هي، والقاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هي الحجارة، بمعنى أن هذه الحجارة أعدت للكافرين لتسجَّر عليهم؛ فيحصل لهم التعذيب، والإحراق.
وقيل: أُعِدَّتْ أي النار، مع أن القاعدة هي عود الضمير إلى أقرب مذكور وهي الحجارة، لكن قالوا: النار؛ لأنها هي المخبر عنها، ثم وصفها بأنها التي وقودها الناس والحجارة، فهو لا يتحدث عن الحجارة، وليس المقام مقام تفصيل وتوضيح للحجارة، وإنما المقام مقام ذكر للنار، وتحذير منها.
فحينما تفهم هذا تدرك لماذا يتخطى التفسير القاعدة أحياناً، ولذلك إذا أردنا أن نرجح بين القولين لا نقول هنا: إن الضمير يرجع إلى آخر مذكور - كما هو مقتضى القاعدة -، وإنما نقول: يرجع إلى النار؛ لأنها هي المحدث عنه والمخبر عنه كما قال أصحاب القول الثاني، فهذا هو الأقرب.
وإذا أردنا أن نجمع بين القولين فلا نحتاج إلى ترجيح، بل نقول: الضمير هنا احتمل أن يعود إلى الموضعين - النار والحجارة -؛ لأن القاعدة تقول: إن الضمير إذا احتمل أن يعود إلى موضعين فأكثر فإنه يحمل على ذلك جميعاً إلا لمعارض.
وابن كثير - رحمه الله - في هذا المثال، يقول: أعدت النار، وأعدت الحجارة؛ وقال بذلك لأن هذا المثال من أجلى صور هذه القاعدة، فالضمير إذا احتمل أن يعود إلى موضعين فأكثر فإنه يحمل على ذلك جميعاً إلا لمعارض، ولو لم تكن بين المعنيين ملازمة، فكيف إذا وجد بينهما ملازمة؟!.
ووجه الملازمة في هذه الصورة أن النار معدة للكافرين، والحجارة مما تسعر به النار، إذن: الحجارة أعدت للكافرين.
فإذا قلت: إن النار معدة للكافرين؛ فإن ما تسعر به أيضاً معد للكافرين، إذن: صار بين القولين ملازمة، أي: يلزم من أحدهما الآخر.
وأعدت أي رصدت، وحصلت؛ للكافرين بالله، ورسوله، كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس - ا - أعدت للكافرين أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر.قوله تعالى: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:24] أي هي للكافرين عموماً، وهؤلاء من الكافرين فهم داخلون تحت هذا العقاب.
ولو أنه قال: التي وقودها الناس، والحجارة؛ أعدت لكم فقد يفهم من هذا أنها مختصة بهم لأمر ما، لكن حينما يذكر العلة في دخولهم النار، أو في إعدادها لهم - وهي الكفر - فهي تصدق عليهم، وتصدق على كل من جاء بعدهم، أو من كان في زمانهم ممن هو متصف بذلك الكفر، وهذا الأسلوب كثير في القرآن، فتجده يذكر العلة للحكم فيقول مثلاً: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ [سورة التوبة:80]، أو يقول: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [سورة محمد:10]، ويقول: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود:83]، ويقول: وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [سورة المائدة:108] وأشباه ذلك كثير، فهو يذكر الأوصاف التي نتجت عنها تلك العقوبات في باب الترهيب، وكذلك في باب الترغيب يذكر الأوصاف التي نتجت عنها تلك الجزاءات من النعيم، أو محبة الله وما أشبه ذلك، فهي مرتبة عليها.
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن بقوله تعالى: أُعِدَّتْ أي: أرصدت وهيِّأت، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها: تحاجت الجنة والنار[3]
قوله تعالى: أُعِدَّتْ التعبير هنا بالماضي، فقد يقول قائل: إنه يعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق الوقوع، وهذه قاعدة صحيحة معروفة، ومن أوضح الأمثلة على ذلك قوله تعالى في صدر سورة النحل: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1]، مع أن هذا الأمر الذي هو يوم القيامة لم يأت بعد، فيقولون: يعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق الوقوع، فأنت تقول: أتاك الربيع، وتقول: أتاك المطر؛ ولم يأت بعد لتحقق الوقوع.
نقول: قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:24] لا يقال فيها أبداً: إن ذلك من باب التعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق الوقوع؛ وذلك لوجود أدلة أخرى صريحة دلت على أن النار موجودة، فيحمل لفظ أُعِدَّت على أن ذلك كان في الماضي، وبالتالي فإن النار موجودة الآن.
والإعداد يدل على عناية بالمعد، وأنها مهيأة لهم، وجاهزة، ومما يدل على أن النار موجودة الأدلة التي سيذكرها الحافظ ابن كثير هنا، وغيرها.
وقد رآها النبي ﷺ، ورأى فيها أقواماً كعمرو بن لحي الخزاعي يجر قُصُبَهُ في النار، وكذلك رأى فيها رجالاً ونساء وغير ذلك.
وكذلك الجنة هي موجودة الآن، وقد رآها النبي ﷺ، وهي كما وصفها الله عرضها السموات والأرض، وهي في السماء كما قال تعالى: وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [سورة الذاريات:22].
وليس هنا مجال للعقل إطلاقاً أن يقول الإنسان: كيف يكون عرضها السموات والأرض، فأين هي؟ أو أين النار؟ أو نحو هذا الكلام؛ فهذه أمور لا دخل للعقل البشري فيها إذ هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
ومنها: استأذنت النار ربها، فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف[4]، وحديث ابن مسعود : "سمعنا وجبة، فقلنا: ما هذه؟ فقال رسول الله ﷺ: هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها[5] [وهو عند مسلم].سمعنا وجبة: الوجبة هي صوت سقوط شيء، قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [سورة الحج:36] يعني سقطت.
وهذا الحديث في احتجاج الجنة والنار، وفيه أن النبي ﷺ أخبر أن أشد ما نجد من الحر فإنه من فيح جهنم، وأشد ما نجد من البرد فإنه من زمهرير جهنم، وحديث صلاة الكسوف، وليلة الإسراء؛ وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى.
رأى النبي ﷺ الجنة والنار في صلاة الكسوف في قبلة جدار المسجد، وكذلك في ليلة الإسراء رأى النار، ورأى الذين يعذبون فيها، ورأى مالك وهو يحش النار.
  1. أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة - قول النبي ﷺ: بعثت بجوامع الكلم (6846) (ج 6 / ص 2654)، ومسلم في كتاب: الإيمان - باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (152) (ج 1 / ص 134).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب: المناسك - باب: من لم يدرك عرفة  (1949) (ج 1 / ص 599)، والترمذي في كتاب: الصوم - باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889) (ج 3 / ص 237)، والنسائي في كتاب: مناسك الحج - باب: فرض الوقوف بعرفة (3016) (ج 5 / ص 256)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3172).
  3. أخرجه البخاري في كتاب: التفسير - باب: تفسير سورة ق (4569) (ج 4 / ص 1836)، ومسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (2846) (ج 4 / ص 2186).
  4. أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق - باب: صفة النار وأنها مخلوقة (3087) (ج 3 / ص 1190)، ومسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة - باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة ويناله الحر في طريقه (617) (ج 1 / ص 431)، ولفظهما: اشتكت النار إلى ربها.
  5. أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب: في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين (2844) (ج 4 / ص 2184)، ولفظه: "كنا مع رسول الله ﷺ إذ سمع وجبة فقال النبي ﷺ: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها).

مرات الإستماع: 0

"وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ الآية، إثبات لنبوّة محمد ﷺ بإقامة الدليل على أن القرآن جاء به من عند الله، فلما قدّم إثبات الألوهية أعقبها بإثبات النبوءة، فإن قيل: كيف قال إن كنتم في ريب، ومعلوم أنهم كانوا في ريب، وفي تكذيب؟

يريد أن يقول: هم في ريب فلا شك فلماذا قال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ؟ هم في ريب فكيف جعله بمنزلة المتوقع بل جاء بـ (إن) وإن هنا لما كان بعيدًا، بخلاف (إذا) ما قال: إذا كنتم في ريب. تقول: إذا جاء زيد أكرمتك.

وتقول: إن جاء زيد أكرمتك. فهذا بعيد المجيء، هذا الفرق بين (إن) و (إذا) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ

فالجواب أنه ذكر حرف (إن) إشارة إلى أن الريب بعيد عند العقلاء في مثل هذا الأمر الساطع البرهان؛ فلذلك وضع حرف التوقع، والاحتمال في الأمر الواقع، لبعد وقوع الريب، وقبحه عند العقلاء، وكما قال تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ ".

قوله: فالجواب أنه ذكر حرف (إن) إشارة إلى أن الريب بعيد عند العقلاء.

تُستعمل (إن) في الشيء البعيد، بعيد الوقوع، إن كنت كذا، وهم في ريب، لم يقل: طالما أنكم في ريب فاعلموا كذا، وكذا. بل قال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ كأنه باعتبار أن الريب أمر مستبعد من العقل فيما يشاهد، ويرى من دلائل نبوته ﷺ وصدقه وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا والريب كما عرفنا في الغريب هو: شك خاص، شك مع قلق، شك مقلق، كنتم في شك مما نزلنا على عبدنا، ولاحظ فيما ذكر هنا قال: الآية إثبات نبوة النبي ﷺ بإقامة الدليل على أن القرآن جاء به من عند الله، فلما قدم إثبات الألوهية. هكذا فيما يتعلق بالإقناع، والحجاج، والدعوة لغير الداخلين في الإسلام، أول ما يُبدأ به هو ما يتعلق بإثبات الوحدانية، فإن كان ملحدًا فيحتاج إلى إثبات، وجود الله  أولًا، لا يخاطب بالوحي، والنبوة، وإنما يُتحدث معه أولًا عن دلائل وجود الله إن كان منكرًا، فإن كان مثبتًا: كما كان المشركون فإنه لا يُشتغل بإثبات وجود الله وإنما يُنتقل من هذا الأمر المسلم به إلى ما بعده، فإذا كان يُقر بأن الله هو الخالق الرازق ... إلخ، كما كان المشركون يقولون، فينتقل منه إلى ما بعده، وهو إثبات توحيد الإلهية، أن الواحد دونما سواه، فيُبدأ أولًا بقضية التوحيد، فإذا أثبت أن الله - تبارك، وتعالى - هو الخالق الرازق المحيي المميت، إذا كانوا لا يثبتوها فبعد ذلك تنتقل إلى أنه هو الواحد الذي يستحق أن يُعبد دونما سواه، فإذا أثبت هذا انتقلت إلى قضية الوحي، فإذا أثبت الوحي بعد ذلك يمكن أن تنتقل منه إلى غيره، فالكلام مع المنكر الجاحد لوجود الله، غير الكلام مع من يثبت وجوده، ولكن يُشرك معه غيره، والكلام مع من ينكر الوحي، والنبوة، ويثبت وجود الله، أو وحدانيته، أو ربوبيته، أو نحو ذلك غير الكلام مع من يُنكر هذا، فلاحظ هنا هذه القضايا كيف جاءت بهذه الطريقة.

"عَلى عَبْدِنا هو النبي ﷺ".

الله - تبارك، وتعالى - أثبت أنه هو الواحد: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فلماذا تصرفون العبادة لغيري؟ والنبوة؟ النبوة يقول لهم: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعني: هذا التحدي قائم إلى اليوم، فهذا الذي يثبت وحدانية الله نقول له: بما يتعلق بالنبوة بيننا، وبينك شيء واحد هات سورة واحدة، ولو أقصر سورة من القرآن، هات مثلها فلن يستطيع.  

"فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فما بقي إلا: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ لا تكن من جملة هذا الوقود، إن كنت تكابر، وتجادل في هذه الحقيقة، وهي النبوة، والوحي فعندنا هذه المعجزة للنبي ﷺ هو هذا القرآن الذي فيه إثبات الوحي، ونبوة النبي ﷺ في آن واحد، هات سورة واحدة فإن لم تستطع فينبغي أن تُقر، وتُذعن، فإذا أثبته، وكان يُنكر بعض الأمور، أو يقول: إنه حُرّف، أو زيد فيه، ونُقص. فيقال: إذا أثبت بأن هذا هو كلام الله  فالله يقول: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42].

إذا قال: أنا أثبت نبوة النبي ﷺ لكن للعرب خاصة. كما يقوله بعض أهل الكتاب. تُذكر له الآيات التي تدل على عموم رسالته من نصوص الكتاب، والسنة، إذا يقال: هو صادق عندك إذن فهذه هي نصوص الدالة على عموم البعثة، وهكذا يكون الجدال، والحجاج مع هؤلاء بحسب حالهم.

"عَلَى عَبْدِنَا هو النبي ﷺ والعبودية على وجهين: عامة، وهي التي بمعنى الملك، وخاصة، وهي التي يراد بها التشريف، والتخصيص.

على كل حال عَلَى عَبْدِنَا هنا العبودية الخاصة، فالإضافة تقتضي التشريف. 

 "وهي من أشرف أوصاف العباد. ولله در القائل

لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي

يعني من حيث جلى هذا المعنى، وأوضحه، من هذه الناحية، أما المضمون، والمعنى فهو ليس بجيد. 

لا تدعني إلا بيا عبدها: هذه العبودية تكون لله ولا يكون عبدًا لامرأة يعشقها، لكن هنا لا يقصد الثناء على المعنى، وإنما يقصد أنه قد جلى المراد، وأوضحه، ولو أنه ترك مثل هذه العبارة في مقام، وكلام قد تضمن معنى باطل لكان أولى.

"فَأْتُوا بِسُورَةٍ أمر يراد به التعجيز مِنْ مِثْلِهِ الضمير عائد على ما نزلنا، وهو القرآن، و (من) لبيان الجنس، وقيل: يعود على النبي ﷺ فمن على هذا: لابتداء الغاية، ومعناه: من بشر مثله."

يلاحظ الآن ابتداء الغاية فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ : الراجح أنه يعود إلى القرآن، وهذا هو المتبادر، المثل جنس القرآن؛ لبيان الجنس من مثله، وإذا كانت لابتداء الغاية مِنْ مِثْلِهِ يعني: من بشر مثله قيل: أي لا يقرأ، ولا يكتب، يعني بعضهم يقول: من بشر مثله. أي بشر: يقرأ، ويكتب أو لا يقرأ، عالم، جاهل، هاتوا من بشر سورة، وهذا أبلغ، وبعضهم يقول: من بشر مثله لا يقرأ، ولا يكتب.

أمي، ويأتي بمثل هذا القرآن، والمعنى الأول أبلغ أنه من بشر، قيل: إنها لابتداء الغاية: من بشر مثله، البشرية وحدها تكفي، أنه يعجز عن هذا، ولو كان أعلم الناس، وأفصح الناس، لكن الأقرب في تفسيرها - والله أعلم - فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: يعني مثل القرآن، وليس مثل النبي ﷺ بشر. 

"والأول أرجح لتعيينه في يونس، وهود".

ذلك في قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: 38]: هنا لا يحتمل أن يرجع ذلك إلى النبي ﷺ وإنما مثل القرآن وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 38] فهذا واضح، والقرآن يُفَسر بالقرآن، وكذلك في هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود: 13] فهذا تفسير للقرآن بالقرآن.

"وبمعنى مثله في فصاحته، وفيما تضمنه من العلوم، والحكم العجيبة، والبراهين الواضحة".

هذا يدخل ضمنًا، لكن فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: 38] هنا في ألفاظه، وتراكبيه، وفصاحته، وبلاغته، ويدخل تبعًا المضامين، ما تضمنه من الهدايات، ونحو ذلك، وبعضهم يقول: إن الضمير فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعود على التوراة، والإنجيل باعتبار أنها تتضمن ما يدل على صدقه، لكن هذا بعيد مِنْ مِثْلِهِ يعني: من مثل القرآن، وهذا بعيد يعني إذا أتيتم بها فإنها تصدق ما فيه، كما قال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ۝ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل: 43، 44] فاسألوا أهل الذكر يعني أهل الكتاب: الذين أُنزل عليهم الذكر، والكتاب، فأُخذ من عموم اللفظ سؤال العلماء عما أشكل، وإلا فسياق الآية في ما هو أخص من هذا. 

"شُهَداءَكُمْ آلهتكم أو أعوانكم أو من يشهد لكم."

الشهداء جمع شهيد، ويقال للحاضر، يقال: فلان شهد الواقعة، ونحو ذلك، شهد هذا الحديث، يقال للحاضر، ويقال أيضًا للقائم بالشهادة، كذلك يقال للمعاون، يقال له ذلك، وعلى هذا تدور عبارات السلف وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ يعني: أعوانكم، أو من يشهد لكم بهذا، الذين يشهدون بذلك فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ من يشهد لكم، أو ادعوا الأعوان قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88].

"مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: غير الله، وقيل: هو من الدني الحقير، فهو مقلوب اللفظ."

يعني كلمة (دون) بمعنى غير، قيل: هو من الدني الحقير فهو مقلوب اللفظ. دون، تقول: فلان دون. يعني أنه لا شأن له مِنْ دُونِ اللَّهِ والأول هو المتبادر - والله أعلم -.

"وَلَنْ تَفْعَلُوا اعتراض بين الشرط، وجوابه فيه مبالغة، وبلاغة، وهو إخبار بغيب ظهر مصداقه في الوجود إذ لم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن، مع فصاحة العرب في زمان نزوله، وتصرفهم في الكلام، وحرصهم على التكذيب، وفي الإخبار بذلك معجزة أخرى."

قوله: وفي الإخبار بذلك معجزة أخرى: يعني معجزة أخرى، الأولى: أنه معجز في نفسه: بفصاحته، وبلاغته.

المعجزة الأخرى: أنه قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا ولم ينبري أحد لكسر هذا الإخبار، حيث قطع أنه لن يحصل ذلك، ولن يفعل أحد، فما قال أحد: أنا أفعل. 

نحن نفعل، لو اجتمعوا جميعًا، فلم يحصل ذلك، فبقوا معلنين عجزهم، وهذا إعجاز آخر باعتبار أنه أخبر عن أمر غيبي فكان كما أخبر، ولو كان من عند غير الله فإنه لا يجترئ من قد حدقه الناس، ورموه عن قوس واحدة بالعداوة، يبحثون عن ذلة، أو شيء يكذبونه به أن يخبرهم عن أمر مستقبل يتعلق بهم، وبإرادتهم، ويقول: وَلَنْ تَفْعَلُوا لن تستطيعوا، هم بعد ذلك يبقون في حال من عجز، والانقطاع فهذا إعجاز، إخبار عن أمور غيبية.

"وقد اختلف في عجز الخلق عنه على قولين:

أحدهما: أنه ليس في قدرتهم الإتيان بمثله، وهو الصحيح.

وهذا هو الذي لا يصح العدول عنه أصلًا، أنه معجز في نفسه.  

"والثاني: أنه كان في قدرتهم، وصرفوا عنه"

الآن يقول: القول الثاني: أنه كان في قدرتهم، وصرفوا عنه. هذا الذي يسمى الصرفة، القول بالصرفة، ما هو القول بالصرفة؟ يعني أن الله صرف همم العرب عن معارضته، وإلا فهو من جنس كلامهم، وهم بقدرتهم أن يأتوا بمثله، ولكن صرف دواعيهم، وهممهم عن معارضته، والإتيان بمثله، هذا قول بعض المعتزلة، وهذا باطل، فالقرآن أبلغ من كلامهم، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولم يكن عجزهم؛ لأن الله صرف دواعيهم؛ بل لأنهم لا يستطيعون أن يرتقوا بكلامهم إلى هذا الحد في الفصاحة، والبلاغة، هذا هو قول السواد الأعظم، وهو قول أهل السنة قاطبة، وأما هؤلاء من المعتزلة فإنه لا عبرة بخلافهم، ولا ينبغي أن يُذكر قولهم في مثل هذا في جملة الخلاف، فلو أنه أعرض عن هذا، ولا يحتاج أن يقول على قولين، فكان هذا هو اللائق، - والله أعلم -.  

"والإعجاز حاصل على الوجهين"، وقد بيّنا سائر، وجوه إعجازه في المقدمة."

يقصد إنه إذا كان في نفسه معجزًا فهذا واضح، وإذا قيل: بأن الله صرف دواعي العرب فهذا الصرف في حد ذاته عن القرآن، ومعارضته فهو معجزة، لاحظ: يعني الكل يقولون: هنا معجزة. لكن أهل العلم من أهل السنة، وغيرهم يقولون: بأنه معجز في نفسه، وهذا هو الذي عليه طوائف أهل الكلام غير هؤلاء كالنّظام من المعتزلة، يعني حتى الأشاعرة، والماتردية يقولون: معجز في نفسه.

والباقلاني في كتابه (الانتصار لنقل القرآن) وهو كتاب فيه أشياء مفيدة كثيرة، يرد على الطاعنين في القرآن، رد على القول بالصرفة برد مفصل أحسن فيه، وأجاد، والكتاب مطبوع، له أكثر من طبعة، وله مختصر أيضًا مطبوع، طبعًا هو من علماء الأشاعرة المتكلمين، فالذي يقرأ ينتبه لهذا.

"فَاتَّقُوا النَّارَ أي فآمنوا لتنجوا من النار، وعبر باللازم عن ملازمه، لأن ذكر النار أبلغ في التفخيم، والتهويل، والتخويف."

 

فَاتَّقُوا النَّارَ يقول: عبر باللازم عن ملازمه. يعني هو كيف يستطيع أن يتقي النار؟ لا يستطيع أن يتقيها، يتقيها بماذا؟ بيده؟ وإنما تُتقى بماذا؟ بالإيمان، والعمل الصالح، يقول: عبر باللازم عن ملازمه.

فإذا آمن، وعمل صالحًا فيحصل من جراء ذلك اتقاء النار، عبر باللازم عن ملازمه، تُتقى بالإيمان، والعمل الصالح، فقال: فَاتَّقُوا النَّارَ ويمكن أن يقال: فاتقوا النار بالإيمان، والعمل الصالح.

"وَقُودُهَا حطبها. الْحِجارَةُ قال ابن مسعود : هي حجارة الكبريت لسرعة اتقادها، وشدّة حرها، وقبح رائحتها[1]."

القول بأن هذه الحجارة هي حجارة الكبريت هو قول أكثر المفسرين من السلف فمن بعدهم كما قال ابن رجب - رحمه الله -[2] وهو الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير[3] والحافظ ابن كثير[4] وممن قال به من السلف: ابن عباس - ا - وابن جريج، والسُّدي[5] وغير هؤلاء كثير، حجارة الكبريت يقولون فيها خمسة أنواع من العذاب لا توجد في غيرها من الأحجار:

الأول: نتن الرائحة. رائحتها سيئة جدًا.

الثاني: سرعة الإيقاد.

الثالث: كثرة الدخان.

الرابع: شدة الالتصاق بالأبدان.

الخامس: قوة حرها إذا أُحميت.

وهنا أشار إلى ثلاثة أشياء: سرعة الاتقاد، وشدة الحر، وقُبح الرائحة.

"وقيل: الحجارة المعبودة".

الحجارة المعبودة من دون الله أي: الأصنام، وهذا يشهد له قوله: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98]، وهذا مروي عن الربيع بن أنس، ولا يبعد أن يقال: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ حجارة الكبريت؛ لشدة العذاب، وينضاف إلى ذلك المعبودات فإن ذلك يكون نكاية بعابديها حينما تُلقى معهم في النار، فيكون ذلك ألمًا لنفوسهم حينما يرى معبوده معه في النار حيث لا يغني عنه شيئًا، فيُخذل بذلك.

"وقيل: الحجارة على الإطلاق".

وهذا بعيد.

"أُعِدَّتْ دليل على أنها قد خلقت، وهو مذهب الجماعة، وأهل السنة، خلافًا لمن قال: إنها تخلق يوم القيامة، وكذلك الجنة."

وهذا غير صحيح، الله قال عن قوم نوح: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25] والنبي ﷺ رأى النار، ورأى أقوامًا يُعذبون كما رأى عمرو بن لحي الخزاعي - وهو أول من غير دين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - يجر قُصْبَه في النار[6].

فالنار موجودة، وقوله: أُعِدَّتْ هذا أبلغ من جعلت؛ لأن الإعداد يدل على عناية بالمعد، كذلك الجنة موجودة، ومخلوقة الآن.

وقال ﷺ: اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير[7].

وهذا يدل على أنها موجودة، وهذا من أثرها.

ولما سمع النبي ﷺ وجبة قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا، فهو يهوي في النار الآن، حتى انتهى إلى قعرها[8].

وقال أبو هريرة : بينا نحن عند رسول الله ﷺ إذ قال: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته فوليت مدبرا، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله[9].

وعنه : أن النبي ﷺ قال لبلال: عند صلاة الفجر يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة قال: ما عملت عملا أرجى عندي: أني لم أتطهر طهورا، في ساعة ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي[10] إلى غير ذلك من الأدلة.

  1.  تفسير الطبري (1/381)، المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/287)، رقم: (3034).
  2.  تفسير ابن رجب الحنبلي (1/101).
  3.  تفسير الطبري (1/380).
  4. تفسير ابن كثير (1/201).
  5.  المصدر السابق.
  6.  صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة، ولا وصيلة ولا حام) [المائدة: 103]، رقم: (4624)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، رقم: (2856).
  7. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار، وأنها مخلوقة، رقم: (3260)، ومسلم، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة، ويناله الحر في طريقه، رقم: (617).
  8.  أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، رقم: (2844).
  9.  أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم: (3242)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر رقم: (2395).
  10.  أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب فضل الطهور بالليل والنهار، وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار، رقم: (1149).