الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا۟ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا۟ هَٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا۟ بِهِۦ مُتَشَٰبِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:25].
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال؛ عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر الإيمان، ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه، وحاصله ذكر الشيء ومقابله، وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه - إن شاء الله -.
قوله: لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به ... إلى آخره؛ هذا ما يسميه المفسرون "علم المناسبة"، وهو وجه الارتباط بين الآية وبين التي قبلها.
فالله لما ذكر النار، ووعيد الكفار؛ ذكر الجنة وما أعد الله لأهل الطاعة من الثواب، وهذا كثير في القرآن، حيث يذكر هذا وهذا ليجمع لهم بين الخوف والرجاء، وهذا كثير جداً، وبهذا أخذ بعض أهل العلم أن مقصود الشارع من المكلفين فيما يتعلق بهذا الباب أن يجمعوا بين الخوف والرجاء، فيكون العبد سائراً بينهما على حد سواء فلا يقنط من رحمة الله إلا القوم الكافرون الخاسرون، فليس ذلك من صفة أهل الإيمان، ولا يكون أيضاً مغلِّباً للرجاء معرضاً عن الخوف إلا من حصل له الاغترار، والأمن من مكر الله فلا يغلب الرجاء، ولا يغلب الخوف، وإنما يجمع بينهما، والكلام في هذه المسألة معروف، وقول من قال: إنه في حال الصحة، والعافية؛ يغلب الخوف، وعند الموت يغلب الرجاء؛ له وجه.
قوله: وهذا معنى تسمية القرآن مثاني: عند ابن كثير وطائفة من أهل العلم أن هذا هو المراد بأن القرآن مثاني كما في قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [سورة الزمر:23]، أي أن الله يذكر الشيء ومقابله، كأن يذكر نعيم أهل الجنة ثم يذكر عذاب أهل النار والوعيد الذي لهم.
وأن التشابه هو أن يذكر الشيء ونظيره مثل: ذكر قصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، كقصة موسى تتكرر في أكثر من موضع.
وبعض أهل العلم يفسرون بما هو أوسع من هذا فيقولون: مثاني: أي تثنى فيه القصص أي تعاد، وتثنى فيه الأخبار، وتثنى فيه المواعظ، وغير ذلك، أي: ما يذكر أكثر من مرة، وهذا هو القول المشهور في تفسير المثاني.
وبالنسبة لذكر الجنة والنار، ونعيم أهل الجنة، ونعيم أهل النار؛ هذا الخلاف فيها كثير، ولو نظرت في كتاب القواعد الحسان للشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - تجد أنه أفرد لهذه المسألة قاعدة، وتكلم عليها، وأتى بأمثلة كثيرة على هذا.
ويؤخذ من هذه الطريقة فائدة تربوية لتربية الناس، والوعظ، وتعليمهم أنه يجمع بين هذا وهذا، بحيث لا يكون الغالب على كلام الداعية هو ذكر ما يحصل به الطمع لهؤلاء الناس من رحمة الله، ومغفرته، ويكون كلامه دائماً مما يستهوي الناس، ويروق لهم؛ من ذكر ما ينتظرهم من النعيم المقيم، وسعة رحمة الله، وأنه غفور؛ لأنه إن اعتاد ذلك فإنه يفسدهم بذلك حيث يفرطون في العمل، وكذلك لا يكون الغالب على حال الواعظ دائماً تخويف الناس، وذكر أمور قد تيئسهم من رحمة الله ، وإنما يجمع لهم بين هذا وبين هذا قال تعالى: اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:98].
فلهذا قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي [سورة البقرة:25]، فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها.
وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف، ولا منافاة بينهما، فطينها المسك الأذفر، ومسكها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم.
أنهارها تجري في غير أخدود: الأخدود هو الشق في الأرض، والنهر معروف، وهو الشق الكبير في الأرض، ودونه الجدول، وأعظم منه البحر، وهو الماء الكثير المستبحر المعروف، فالمعهود في الدنيا أن الأنهار لا تجري على ظهر الأرض المستوية، وإنما تكون في شق من الأرض، أما أنهار الجنة تجري من غير أخدود، والنهر يطلق على نفس الشق، تقول: حفرت النهر، ويطلق على الماء الجاري فيه، فتقول: جرى النهر من باب التعبير بالحال، وإرادة المحل، والعكس، فقوله: "تجري من غير أخدود" هذا غير معهود في الدنيا.
في الكوثر قال: حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف: يعني يحتمل أن يكون المراد بذلك أنه يجري أيضاًَ من غير أخدود، وتكون حوافه التي تحجز الماء هي قباب اللؤلؤ.
وعلى كل حال الله على كل شيء قدير، قادر على أن يجري الماء من غير شق في الأرض، فيجريه بما شاء كيف شاء .
يقول: فطينها المسك الأذفر، ومسكها اللؤلؤ والجوهر: الطين معروف، والحصباء هي الحجارة الصغيرة التي تفرش بها الأرض، وما إلى ذلك.
فإذا كان هذا هو صفة طين الجنة، وحصباؤها؛ فما بالك بالأشياء التي هي أعظم من طينها، وحصبائها؟ ما ظنك بجواهر الجنة، وحلي أهل الجنة؟ وما ظنك بأهل الجنة، وقصورهم، وبأثاثهم، ورياشهم، ونعيمهم؟
قال - عليه الصلاة والسلام - وهو يشير إلى حلة حرير كان الصحابة يمسونها ويعجبون من لينها: والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا[1]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها[2].
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أنهار الجنة تفجر تحت تلال، أو من تحت جبال المسك[3]، وروى أيضاً عن مسروق قال: قال عبد الله : "أنهار الجنة تفجر من جبل المسك".
مشابهة ثمار الجنة بعضها ببعض:
وقوله تعالى: كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ [سورة البقرة:25]، وروى ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي كثير قال: "عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليها الولدان بالفواكه فيأكلونها، ثم يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفاً به، فتقول لهم الولدان: كلوا، فاللون واحد، والطعم مختلف، وهو قول الله تعالى: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً" [سورة البقرة:25]، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً قال: يشبه بعضه بعضاً، ويختلف في الطعم، وقال عكرمة: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً قال: "يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب"، وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ضبيان عن ابن عباس: "لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء" وفي رواية: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء".
لما ذكر الله ما بشر به أهل الجنة: وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة البقرة:25] ذكر هنا وصفاً لنعيم الجنة وهو أنهم كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً.
فقوله: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ هل يقصدون به رزقنا به من قبل في الدنيا، وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً أي يشبه ما في الدنيا من الفواكه والثمار وما أشبه ذلك؟
أو أنهم يقصدون هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ في الجنة بمعنى أنهم في كل مرة يأتيهم من هذا النعيم، والطعام المستلذ من هذه الثمار، يقولون: هذا الذي رزقناه قبل ذلك في الجنة، فهو يشبهه؟
هذان قولان مشهوران للسلف فمن بعدهم في تفسير الآية، هل المراد متشابهاً أي يشبه ما في الدنيا، أو أنه يشبه بعضه بعضاً في الجنة.
فما ذكره يحيى بن أبي كثير هنا من أنهم يقولون ذلك؛ لأنه أشبه ما سبقه في الجنة، مما رزقوا به من الثمار، فيقول لهم هؤلاء الولدان: إن اللون واحد، والطعم مختلف.
وهذا الذي قاله يحيى بن أبي كثير في تفسير الآية هو القول الأول الذي قال به جماعة من السلف كثير، واحتجوا له بعدة أمور، وجعلوه مرجَّحاً على القول الآخر، فبماذا احتجوا لهذا القول من أنه يشبه الذي قبله مما رزقوه في الجنة؟
احتجوا له بأشياء منها: أن نعيم الجنة لا يشبه نعيم الدنيا كما جاء في الأثر عن ابن عباس - ا - بأنه ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء فقط، أما الحقائق فهي مختلفة، فهذا كمثرى، وهذا عنب، فهم عرفوه في الدنيا، لكن حقيقته في الجنة وطعمه يختلف تماماً عما في الدنيا، فهذا التشابه بين ثمار الجنة، وثمار الدنيا؛ إنما هو في اللون فقط، أو في الاسم فقط لا في الحقائق، فالتشابه الواقع بين ثمار الجنة لا يقاس بالتشابه الواقع بين ثمار الجنة، وثمار الدنيا.
فقوله: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً، قالوا: الأولى به أن يكون هذا التشابه بين ما قبله من ثمار الجنة مما رزقوه؛ لأن ذلك هو المتحقق، وهو التشابه بين ثمار الجنة، وأما مشابهته لثمار الدنيا فتشان بينهما، المقصود أنهم نظروا إلى التشابه، فقالوا: هو بين ثمار الجنة أعظم، وهذا هو الوجه الأول.
الوجه الثاني: قالوا: ليس كل ما يرزقونه في الجنة له نظير في الدنيا، وما كان له نظير في الدنيا ليس كل هؤلاء الذين في الجنة قد رزقوه، فثمار الدنيا كثيرة جداً، ولربما كان أكثر أهل الجنة لم يعرفوا كثيراً منها، وما رأوه، وما سمعوا به، ومعلوم أن أكثر أهل الجنة هم الفقراء، وإلى وقت قريب لم تكن تصل كثير من الثمرات التي نراها الآن في أقاصي الدنيا إلى الناس، فكيف يقولون في كل مرة: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وهو لا نظير له، أو يوجد له نظير لكن ما عرفوه، أو ما ذاقوه، أو ما رزقوه في الدنيا؟
فقالوا: هذا يكون بالنسبة لما رزقوه في الجنة، وليس بالنسبة لما رزقوه في الدنيا.
وكذلك قوله: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً كأنه تعليل لقولهم: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ.
وقد وردت بعض الآثار عن بعض السلف أن ثمار الجنة كلما قطف منها شيء رجع مكانه غيره فهو نعيم لا ينقضي، ولا ينفد.
هذه أوجه لترجيح القول بأن هذا التشابه إنما هو بين ثمار الجنة، وليس مع ثمار الدنيا.
القول الآخر: إن التشابه مع ثمار الدنيا، وهذا أشهر من اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري.
وأعظم ما احتجوا به لهذا القول ما صرح به ابن جرير وهو يرد على أصحاب القول الأول حيث قال: هل يقولون هذا الكلام في الجنة لأول وهلة؟ بمعنى هل أول مرة يزرقون من ثمار الجنة يقولون: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ.
من المعلوم أنه على القول الأول أنهم لا يقولون ذلك أول مرة؛ إذ كيف يقولون: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ [سورة البقرة:25] وهم أول مرة يذوقون ثمار الجنة؟
فابن جرير يقول: إذن إذا قلتم: لا، فمعنى ذلك أن هذا يكون من قبيل الكذب، أي أنهم يقولون: هذا الذي رزقنا من قبل؛ ولم يرزقوه في الجنة قبل ذلك، وكيف يكون ذلك من أهل الجنة وهم أهل الصدق، وهي دار الصدق؟ فهذا لا يمكن.
يقول: وظاهر ذلك - بناء على قولكم - فإن قوله: كُلَّمَا رُزِقُواْ هذا أمر يدل على التكرار، والاستمرار، والدوام، فهم يقولونه كلما وجدوا هذه الثمار، مع أنهم لا يقولون ذلك لأول مرة.
والجواب عن هذا: أن هذا مما يفهمه المخاطب فيكون مستثنى يدركه الإنسان بفهمه، وعقله، أي ليس المقصود أنه يقال من أول مرة، وإنما المقصود كلما تكرر عليهم ذلك، فمع أن ظاهر الآية في العموم ولكن ذلك يفهم ضرورة من الخطاب في كلام العرب، وهذا هو ما أظنه أقرب - والله تعالى أعلم -، وهو أن المقصود بالتشابه هو التشابه بين ثمار الجنة، وأن قولهم: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ يعني في الجنة وليس في الدنيا، فشتان ما بين ثمار الدنيا وما بين ثمار الآخرة، فإذا رأوا ثمار الجنة فإنهم يندهشون؛ لأنهم يرون حقائق أخرى تماماً في الكيف والطعم وحقيقتها، وقد لا يخطر في بالهم ما يرونه في الجنة، وإن خطر في بالهم فإن ذلك يكون على سبيل الإقصاء مقارنة بنعيم الجنة، والله تعالى أعلم.
في قوله تعالى: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً بعض أهل العلم يقولون: يعني في الجودة، أي أنه خيار كله، بينما ثمر الدنيا متفاوت، فمنه الجيد، ومنه الرديء من جهة الأنواع، والنوع الواحد أيضاً متفاوت في جودته، والشجرة القديمة ثمرها أجود من ثمر الشجرة اليافعة، وتجد أيضاً أن الأصناف تتفاوت، وإذا مر عليه وقت ذبل، ولذلك تجد الإنسان حينما يريد أن يشتري بين أنواع الثمرة الواحدة فإنه يتخير من النوع الواحد أجوده؛ لأنه في غاية التفاوت، بينما ثمرة الجنة كله جيد ليس فيه شيء مستبعد، ولا شك أن ثمار الجنة كذلك.
وقوله تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ [سورة البقرة:25] قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: مطهرة من القذر، والأذى، وقال مجاهد: من الحيض، والغائط، والبول، والنخام، والبزاق، والمني، والولد.
وقال قتادة: مطهرة من الأذى، والمأثم، وفي رواية عنه: لا حيض، ولا كلف، وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح والسدي نحو ذلك.
الله لم يحدد هنا شيئاً دون شيء، وإنما قال: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ فوصفها بهذا وأطلق، والأصل بقاء المطلق على إطلاقه، فلا يقيد إلا بدليل يجب الرجوع عليه، وهذا أصل وقاعدة معروفة.
وكذلك قوله: أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ حذف فيه المتعلق، فما قال: مطهرة من الحيض مثلاً، والأصل في ما حذف منه المتعلق أن يحمل على أعم معانيه، فهنا يقال: أزواج مطهرة من كل دنس حسي، ومعنوي، فهي ليست كنساء الدنيا تسمع منها ما يؤذي ويجرح من بذاءة اللسان، أو  الكذب، والقيل والقال، وكثرة الكلام كما هو الشائع عند كثير من النساء في الدنيا.
وهي مطهرة أيضاً في نظرها فلا تنظر وتتطلع إلى غير الزوج، قد قصرت طرفها فلا يمتد إلى أحد سواه، ولا تتطلع نفسها إلى غيره، فهي لا ترى أكمل من هذا الزوج، بخلاف من في الدنيا لا سيما من ابتليت بالنظر إلى الشاشة، فهي لا شك ترى من هو أجمل من زوجها، ومن هو أذكى، وأعقل، وأعظم قواماً واكتمالاً في الجمال، والهيئة، والعلم، والمرتبة، والمكانة، فيا ترى كيف تنظر إلى زوجها مع هذه المقارنات؟!
والزوجة في الجنة مطهرة أيضاً من الأقذار والأدناس الحسية، ويكفي ما ذكره بعض أهل العلم من أن الرأس لوحده فيه خمسة منافذ للأذى والقذر، مع أن هذا الرأس هو أشرف الأعضاء، فما بالك بأشياء أخرى، فهو وإن استمتع بها فإنما يستمتع بجسد قد عبئ بالنجاسة، وأي لذة تستطاب مع هذا لولا ما يغشى الإنسان من الحجاب الذي تفرضه عليه الشهوة التي ركبت في الإنسان، وإلا فالأذى والقذر لا يفارقها بحال من الأحوال، ولذلك يشمل الحيض والنفاس وغير ذلك مما يُعرف، وكل ذلك مما يستقذر وينفر منه الطبع، وأقل ذلك أنها لو لم تمتشط صارت شعثة، ولو بقيت دون اغتسال لما استطاع أن يقترب منها، فالأذى موجود في نساء الدنيا، بينما نساء الجنة ليس لها عرق تُكره رائحته، وإنما رشحهم المسك، وليس لها أي لون من الأذى، فهي في غاية النزاهة، والطهارة، ولذلك قال سبحانه: أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ.
وقوله تعالى: وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:25] هذا هو تمام السعادة، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع، فلا آخر له، ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام، والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم، إنه جواد كريم بر رحيم.هذا التعقيب وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ في غاية المناسبة؛ لأن الإنسان مهما عظمت لذاته فإنه ينغصها ويكدرها الموت، وإذا كان في حال اللذة، واجتماع الأحباب؛ فإنه يتذكر المفارقة، وإذا كان يعيش في أعظم نعيم للدنيا فإنه يتنغص إذا تذكر أنه يفارقه.
هو الموت ليس كالموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فإذا تذكر الغني وهو في كامل لذاته وشهواته أنه سيفارق هذا القصر المشيد، وهذا النعيم، وهذا الفراش الوثير؛ فإنه يتكدر ويتنغص؛ لأنه سيستلب في أي لحظة، ولا يدري متى يكون ذلك.
وإذا تذكر المرء أن هذا الاجتماع مع أحبته من بنيه، وزوجاته، وخدمه، وقراباته لن يدوم، وأنه سيأتي اليوم الذي يستلبون فيه الواحد بعد الواحد، وقد يكون هو أولهم، وقد يكون بعد أن يرى أحبته يؤخذون، ويتجرع حسراتهم؛ فلا شك أن هذا أعظم ما يكدر على هذا الإنسان لذته.
أما أهل الجنة فقد وصف الله نعيمهم بأنه جنات تجري من تحتها الأنهار، وأنهم يرزقون فيها رزقاً متكرراً، ثم هم بعد هذا النعيم لا يتكدرون لاستشعار أنهم سيفارقون هذا النعيم، بل هم مقيمون فيه أبداً فلا يزولون عنه، ولا يزول عنهم، وهذا يبعث الطمأنينة في نفوسهم، ويرفع أسباب الكدر التي يعانيها أهل الدنيا.
تجد أهل الدنيا يفترقون ابتداء في طلب معائشهم، فالوالد يكون له مجموعة من الأبناء، ومع ذلك لا يتنعم بمجاورتهم، والعيش معهم، بل كل ولد في بلد يطلب لقمة العيش، ويعاني أسبابه، بينما النادر من الناس من يعيش مع أبنائه، ويتحقق له أن يكون أبناؤه حاضرين عنده، لا يحتاجون للبعد عنه بسبب قلة اليد، كما هو أحد الأقوال المشهورة في قوله تعالى: وَبَنِينَ شُهُودًا [سورة المدثر:11-13] وهو أرجحها هو والله أعلم.
 فأي نعيم أعظم من هذا بالنسبة لهذا الأب مقارنة بمن يتفرق أبناؤه شذر مذر، كل يطلب لقمة العيش، ويعاني أسبابه؟
  1. أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق - باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3076) (ج 3 / ص 1187) ومسلم في كتاب: فضائل الصحابة (2468) (ج 4 / ص 1916).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: الرقائق - باب: مثل الدنيا في الآخرة (6052) (ج 5 / ص 2358).
  3. أخرجه ابن حبان (7408) (ج 16 / ص 423) وقال الألباني: حسن صحيح كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3721).

مرات الإستماع: 0

"وَبَشِّرِ يحتمل أن تكون خطابًا للنبي ﷺ أو خطابًا لكل أحد، ورجّح الزمخشري هذا لأنه أفخم".

أن يكون خطابًا لكل أحد (بَشِّرِ) فيكون أفخم بهذا الاعتبار، باعتبار أن هذا أمر متحقق لا يتوقف على تبشير الرسول ﷺ وإنما كل أحد يُبشر من كان بهذه الصفة، وبهذه المثابة من أهل الإيمان، والعمل الصالح، من كان كذلك فبشره بما ذُكر. 

"الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ دليل على أن الإيمان خلاف العمل لعطفه عليه، خلافًا لمن قال: الإيمان اعتقاد، وقول، وعمل."

هذا الكلام غير صحيح، والإيمان لا شك أنه اعتقاد، وعمل، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، والنبي ﷺ يقول: الإيمان بضع، وسبعون - أو بضع، وستون - شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق[1] والله قال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، فالعمل من جملة الإيمان، هذا اعتقاد أهل السنة، والجماعة، الذي يقول المؤلف: خلافًا لمن قال: الإيمان: اعتقاد، وقول، وعمل. هذا قول السلف قاطبة، وأما جعل العمل خارج الإيمان فهذا قول المرجئة.

"وفيه دليل على أن السعادة بالإيمان مع الأعمال، خلافًا للمرجئة".

يقول: خلافًا للمرجئة. مع أن الذي قاله هو قول المرجئة، لكن المرجئة طوائف: فمنهم من يقول: إن العمل ليس من الإيمان، لا يدخل في مسمى الإيمان، ولكن يحصل به التفاضل، والتفاوت بين الناس في مراتب العبودية، وفي الثواب، والأجر عند الله - تبارك، وتعالى - فهذا قول لمرجئة الفقهاء كما يقال، يقولون: لا يدخل في مسمى الإيمان لكن يحصل به التفاضل.

أما الغلاة من المرجئة فهم الذين يقول: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. فيقولون: بأن أفجر الأمة إيمانه كإيمان جبريل  هذا قول الغلاة، ولكن مسألة تفاضل الإيمان أيضًا عند هؤلاء الطوائف، كثير منهم يقولون: بأنه لا يتفاوت، ولا يتفاضل، وإنما يتفاضل بحسب متعلقاته من الطاعات، والأعمال الصالحة، والقضايا التي يؤمن بها الإنسان. فيحصل التفاوت بحسب المتعلقات، والواقع أنه يتفاضل، ويتفاوت، والنصوص في الكتاب، والسنة الدالة على زيادة الإيمان كثيرة، ومعلومة.

"تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي: تحت أشجارها، وتحت مبانيها، وهي أنهار الماء، واللبن، والخمر، والعسل، وهكذا تفسيره حيث وقع، وروي أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود."

هذا جاء عن مسروق بن الأجدع - رحمه الله -: أنها تجري في غير أخدود[2] لكن تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ: تجري من تحت أشجارها، وقصورها الأنهار.

"مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا (من) الأولى: للغاية، أو للتبعيض، أو لبيان الجنس، و(من) الثانية: لبيان الجنس."

لاحظ: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا للغاية يعني لابتداء الغاية، يعني كلما رزقوا ثمرة مبتدأة منها، من أين جاءت هذه الثمرة؟ من الجنة، هذا معنى للغاية، أو للتبعيض منها: يعني من ثمرها، بعض ثمار الجنة.

أو لبيان الجنس كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا من ثمرة، فتكون بيانية يعني ليس من غيرها، ومن الثانية لبيان الجنس مِنْ ثَمَرَةٍ فهذه لبيان الجنس يعني من ثمرة، ليس من زوجة مثلًا، أو من قصر، أو من أرائك، وإنما مِنْ ثَمَرَةٍ فتكون لبيان الجنس. 

"مِنْ قَبْلُ أي: في الدنيا، بدليل قولهم: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور: 26] أي: في الدنيا، فإن ثمر الجنة أجناس ثمر الدنيا، وإن كانت خيرًا منها في المطعم، والمنظر".

هنا الاستدلال بهذه الآية إِنَّا كُنَّا قَبْلُ هذه الآية لا علاقة لها بالآية التي هنا في سورة البقرة مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فهذه في ثمار الجنة، ورزق الجنة، وهذه إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور: 26] لكن هذا يكون من قبيل تفسير السياق بالسياق، يعني يفسر سياقًا بسياق، ولكن السياق هذا في موضوع، وهذا في موضوع آخر، لكن هذا نظير هذا، مثل وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: 58] كما سيأتي، فما المعنى؟

مسألتنا حطة، أن تحط عنا خطايانا، هذا قد يكون مشكلًا بالنسبة للسامع وَقُولُوا حِطَّةٌ ما المعنى؟

فيمكن أن يُفسر له بقوله مثلًا: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [الأعراف: 164] لما قيل: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [الأعراف: 164].

هنا المعنى واضح معذرة: أي موعظتنا معذرة؛ من أجل الإعذار، هذا واضح، فهذا مثل: وَقُولُوا حِطَّةٌ وإن كان هذا موضوع، وهذا موضوع آخر يختلف تمامًا لكن من أجل أن يتبين لك المعنى في السياق، هذا تفسير سياق بسياق، وهذا له نظائر، فهذا من الأمثلة: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ  كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ.

قبل متى؟ في الدنيا، لكن قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ليس هذا بالضرورة، والمسألة فيها خلاف معروف قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ أي في الجنة، والخلاف في هذا أيضًا قد جرى في قوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا ويتضح هذا - إن شاء الله - في الكلام على هذه الجملة.

"وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا أي: يشبه ثمر الدنيا في جنسه."

هنا قوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا: أي يشبه ثمر الدنيا في جنسه. فهذا يتفق مع قوله: مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا. فهذا احتمال على كل حال.

بعضهم يقول: متشابهًا يعني كله طيب خيار ليس كثمر الدنيا. ثمر الدنيا يتفاوت في جودته، فثمر الجنة هو على أكمل الحالات، ليس فيه رديء، وجيد.

وأما القول بأن ذلك وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا: يعني يشبه ثمر الدنيا في جنسه، يعني هذا عنب، وهذا رمان، وهذا تفاح، وهذا برتقال، وهذا كذا، فهذه معلومة لكن الذي في الجنة هو من هذا الجنس لكن يختلف تمامًا في حقيقته، وكنهه، وطعمه، وهذا القول اختاره كبير المفسرين: أبو جعفر بن جرير الطبري[3] أنه يشبه ثمر الدنيا في الجنس، لكن في حقيقته، وفي طعمه يختلف، واحتج لهذا القول قال: لو كان كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا يشبه الذي أُوتوه في الجنة قبله؛ لكان أول مرة يعني أو ما قُدم لهم منه لا يصدق هذا.

أي يقول: لو كان على القول الآخر وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا يعني: يشبه الذي أوتوه في الجنة قبله، أن ثمر الجنة يشبه بعضه بعضًا، فالذي يؤتونه الآن يشبه الذي قبله، الذي كان قبل ساعة، أو نحو ذلك، يقول: لو كان كذلك فأول شيء قُدم لهم منه أول ما دخلوا الجنة يشبه ماذا؟ ما الذي قبله؟ هذا أول ما أُعطي لهم في الجنة من الثمر، أول ما رأوا من ثمر الجنة، يشبه ماذا إذن؟ لو كان يشبه بعضه بعضًا في الجنة، يشبه ثمر الجنة، لكن يتجدد في الطعم، والجودة، كله في منتهى الجودة، لكن في طعمه، ومذاقه، لكن يمكن أن يُجاب عن هذا بأن يقال: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا أنهم حينما يكون ذلك بعد الأول الذي يعطونه الباقي يحصل فيه فيصدق عليه مثل هذا الوصف، يتشابه، لكن هذا القول: بأنه يشبه ثمر الدنيا.

وهذا الذي اختاره ابن جرير، وأيضًا مروي عن ابن عباس، وابن مسعود، وجمع من السلف: كقتادة، ومجاهد، علي بن زيد، والسُدي، وابن زيد[4] يقولون: يشبه ثمر الدنيا في جنسه.

"وقيل: يشبه بعضه بعضًا في المنظر، ويختلف في المطعم".

يشبه بعضه بعضًا في المنظر يعني يشبه الذي في الجنة، الذي في الجنة يتشابه، كلما قُدم لهم ثمر قالوا: هذا الذي قُدم لنا، وأعطي لنا قبله.

فإذا ذاقوه؛ وجدوا الطعم يختلف، ولذلك في الجنة لا يوجد فيها سآمة، وملل، الإنسان حينما يكون عنده أطعمة، ولو كانت فاخرة، وجيدة بعد مدة يمل، وانظروا إلى بني إسرائيل لما أنزل الله عليهم في التيه المن، والسلوى، وهو من أجود ما يكون، وبلا مؤنة، ولا تعب، ومع ذلك قالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61].

يعني: استبدلوا المن، والسلوى بالثوم، أو الفوم، والعدس، والبصل، فملوا، وسئموا مع أنه ليس بطعام واحد، هو متنوع: مَن، وسلوى، ومع ذلك سئموه لكن هو باعتبار أنه لا يتغير، عبروا عنه بهذا لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ وإن كان يتكون من أنواع، فعلى كل حال القول: بأنه يشبه بعضه بعضًا في المنظر. هذا منقول عن بعض السلف أيضًا، يعني يشبه الذي في الجنة قبله، يحيى بن أبي كثير، وعن أبي العالية، لكن الأكثر على الأول: أنه يشبه الذي كان في الدنيا.

الذين يقولون: يشبه بعضه بعضًا في ثمر الجنة. يحتجون لهذا بجملة أمور: منها:

أولًا: أن المشابهة بين ثمر الجنة أعظم من المشابهة بين ثمر الجنة، وثمر الدنيا، فالمشابهة تدل على المقاربة، والمشاكلة، وإن كان هذا ليس بلازم، فإن المشابهة تدل على اشتراك في بعض الأوصاف، فقد يكون الاشتراك في الصورة، يعني على القول الأول، يمكن أن يعترضوا بهذا الاعتراض.

ثانيًا: أن ما ذُكر من ثمر الجنة إذا نُزع منه شيء ظهر مثله مكانه.

وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا هذا يُروى أن ثمر الجنة، كلما نزع منها ثمرة خرج مكانها ثمرة مثلها، قالوا: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا؛ لأن ذلك لا يفنى.

ثالثًا: قالوا: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا هذا كالتعليل لقولهم.

يعني قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل. لماذا قالوا هذا؟ لأنهم أتوا به متشابهًا. هذا الذي رزقنا من قبل يعني في الجنة أعطينا، لماذا؟ لأنه كان متشابهًا، فلما ذاقوه، وجدوا الاختلاف في طعومه.

رابعًا: أنه ليس كل ما في الجنة رزقوه في الدنيا، يعني يوجد في الجنة ثمار لا توجد في الدنيا، فقالوا: لو كان يشبه الذي في الدنيا وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا فإن ما في الجنة من الثمار أعظم مما في الدنيا، وأكثر، فهل كل ما في الجنة من الثمار يكون مشاكلًا لما في الدنيا من حيث الصورة بخلاف الحقيقة، والكنه، والطعم؟ أو أنه يوجد في الجنة ثمار متنوعة لا توجد في الدنيا؟ فهو يشبه بعضه بعضًا يعني الذي في الجنة، وليس يشبه الذي في الدنيا؛ لأنه في الجنة أشياء لا يوجد لها نظير أصلًا في الدنيا، يوجد ثمار لا نظير في الدنيا حتى تشبهها حتى في الصورة.

فهذه أربعة أوجه يحتج بها من يقول وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا أي: يشبه الذي أعطوه في الجنة.، وتلاحظون أن القولين: كل قول له وجه، والآية تحتمل هذا، وهذا كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا لكن هذا القول يقتضي أنه كلما يعني هذا في التكرار، ويدل على العموم، أن كل هذه الثمار التي يعطونها يقولون: هذا الذي رزقنا في الدنيا. يعني معناها أنه في صوره مثل الذي في الدنيا، فالقول الآخر: أنه يشبه بعضه بعضًا في الجنة. هذا أبلغ في النعيم، من جهتين:

الأولى: أنه في الجنة ثمار كثيرة لا توجد في الدنيا. لا توجد لها صورة أصلًا أو نظير أو مسمى في الدنيا، هذا أبلغ من هذه الناحية.

الثانية: أنه إذا كان الذي في الجنة يؤتون بألوان الثمار التي في صورة لربما واحدة يقولون: هذا الذي أوتينا من قبل، رزقنا من قبل، والطعوم تختلف، فهذا أبلغ في النعيم، فكما أن جمالهم يتجدد، فكذلك أيضًا هذه الطعوم تتجدد، فالجنة من نعيمها، وهو مما ينفي السآمة عن أهلها، فإن النعيم حينما يؤلف فإن ذلك يكون مؤذنًا بالملل، والسآمة منه كما هو معلوم في الدنيا، مهما يسكن الإنسان من الدور، والقصور فإنه إذا ألفها، وبقي مدة فيها سئمها، ولم تعد تلفت نظره، أو تستدعي نظره، وهكذا المناظر الجميلة، ونحو ذلك، يذهب الإنسان إلى مكان جميل أخضر، ويفرح به ساعات، وقل إن شئت أيامًا، ولكن الذين يسكنون في هذا المكان ولدوا فيه لا يلفت نظرهم شيء، بل أحيانًا يبحثون عن الصحراء الجرداء التي ليس فيها شيء، فإذا رأوها هالتهم، وأعجبوا فيها غاية الإعجاب، ويتعنون إليها لربما من آلاف الأميال يستمتعون بذلك، وهكذا، الذي لا يجد اللحم لربما كانت رائحته تفعل فعلها في نفسه، والذي اللحم على موائده صباح مساء يزهد فيه، ويعرض عنه، ولا يكاد يطعم منه شيئًا، هذا مشاهد، والإنسان يمل النعيم، فالقول - والله أعلم -: بأنه يشبه بعضه بعضًا يعني الذي في الجنة أبلغ في النعيم. من كونه يشبه الذي كان في الدنيا.

"والضمير المجرور يعود على المرزوق الذي يدل عليه المعنى."

يعني: وَأُتُوا بِهِ الضمير المجرور (به) الهاء، يرجع إلى ماذا؟ يعود على المرزوق الذي يدل عليه المعنى، يدل عليه المعنى بمعنى أنه يُفهم من السياق، المرزوق كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ الضمير مذكر هنا، ما هو؟ المرزوق، يفهم من السياق، بل قد يأتي الضمير يرجع إلى غير مذكور أصلًا لكن يُفهم من السياق، وهذا كثير في القرآن، ومنه قوله - تبارك، وتعالى - على أحد المعنيين: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص: 32] يعني: الشمس، والقول الآخر: أنها الخيل. يكون مذكورًا، هنا إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] أنزلناه ما هو؟ القرآن، هل هو مذكور؟ الجواب: لا، لكنه معلوم من السياق.

"مُطَهَّرَةٌ من الحيض، وأقذار النساء، وسائر الأقذار التي لا تختص بالنساء كالبول، وغيره، ويحتمل أن يريد طهارة الطيب، وطيب الأخلاق."

هنا حذف المتعَلق الذي تحدثنا عنه، يُحمل على أعم معانيه، يعني العموم المناسب مُطَهَّرَةٌ فهنا لم يقل: مطهرة مما يختص بالنساء من المستقذرات: كالحيض، والنفاس، أو مما لا يختص بهن: كالبول، ونحوه، وكذلك أيضًا لم يخص ذلك بالنجاسات المحسوسة، والمستقذرات الحسية، فيدخل في ذلك الأمور المعنوية، فيُحمل على أعم معانيه، فتكون مطهرة من الحيض، والنفاس، ومطهرة أيضًا من البصاق، والبول، وكل المستقذرات، وقد ذكر بعض أهل العلم تزهيدًا في العشق، والتعلق بغير الله يكون في هذا الرأس الذي هو أشرف جزء القذى، والأذى، والقذر يخرج من خمسة مواضع منه، هذا بالإضافة إلى ما يكون من الشعث في الشعر، وما يكون فيه من الأذى أيضًا، والعرق، ونحو ذلك، والرائحة، أما سائر البدن فحدث ولا حرج، وأما ما يحمله في أحشائه فذلك يجل عن الوصف، فكيف يُتعلق بمن كان بهذه المثابة، ويتغنى، كما يقول الشاعر:

لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي عبدها

وهي تحمل في أحشائها ما قد عُلم، لو نظر إليها، وما يسيل من أنفها، وأذنها، وعينها، إلى غير ذلك، وإذا ذهبت إلى الخلاء فإن ذلك يزهد في الدنيا، وأهلها بأسرها، لكن هذه فطر، وغرائز جعلها الله في الخلق، ومن سنن الأنبياء، والمرسلين النكاح، وإلا لزهد الإنسان في الدنيا، وفي النساء، وفي كل ما فيها، لكن هذا يوجه، ويقال لأولئك الذين يتعلقون، ويبحثون هنا، وهناك، وصرف حياته، وهمته كلها من أجل طلب هذه المتع بالحرام، أو لربما الحلال لكن بصورة مبالغ فيها، كأن حياته قد قُصرت على هذا النوع من اللذات، والمتع، يقال له: تفكر، وتبصر الأمر دون ذلك.

ومُطَهَّرَةٌ أيضًا فيما يتعلق ببذاءات اللسان، والنظر إلى غير الزوج، فهي عفيفة طاهرة لا تتطلع إلى غير زوجها، وليس في قلبها من الغل، والحقد، والحسد، ومساوئ الأخلاق، فقد تكون المرأة في غاية الجمال في الصورة الظاهرة، ولكن يصدر من لسانها عبارات بذيئة، وفي قلبها من أنواع الآفات: فهي حقودة، أو حسودة، تحمل الغل، ضيقة العَطَن، ضيقة النفس، كلمة تذهب بها، وتحولها إلى شيء آخر، تسيء الظن بالآخرين، تحملهم على أسوأ المحامل، لا تفوت شيئًا، شديدة الغضب، غير مواتية لا تُؤلف، ولا تألف، متكبرة، تحتقر الناس، هذه كلها آفات، قد تكون جميلة لكنها سيئة الظن، حساسة جدًا، تحمل الأمور على أسوأ المحامل لأتفه الأسباب، تضيق بزوجها، وتغضب، فهذه آفات تُزهد فيها، ولربما لا يستطيع أن يعاشرها، وأن تستمر هذه العشرة فيطلق، لا تحتمل، أما في الجنة مُطَهَّرَةٌ ظاهرًا، وباطنًا، صورة، ومعنى، غاية الجمال في الظاهر، وغاية الجمال في الباطن، نظيفة، نقية، لسانها نظيف عف، عين نظيفة، قلب نظيف، فهذا الذي ينبغي أن تتوجه الهمم إلى طلبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، رقم: (35).
  2. تفسير الطبري (1/384).
  3. تفسير الطبري (1/387).
  4. تفسير الطبري (1/386).

مرات الإستماع: 0

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:25].

فتأمل قوله -تبارك وتعالى- في هذا الجزاء: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [سورة البقرة:25] إلى آخر ما ذكر الله من جزاءهم، فهذا الجزاء هو من فضله -تبارك وتعالى- على عباده المؤمنين، وذلك أن هذا الثواب بهذه الجنات التي تسرح الأنهار من تحت قصورها وأشجارها مع الأزواج المُطهرات إلى غير ذلك مما ذكر الله من الفواكه والثمار، كل هذا أكبر بكثير من أعمال هؤلاء؛ لأنهم مهما عملوا ومهما بذلوا بهذه الأعمار القصيرة المحدودة ثم بعد ذلك يأتي هذا الجزاء العظيم الذي لا يتناهى، يعملون قليلاً ثم بعد ذلك يكون هذا الجزاء المُمتد إلى الأبد لا يُحد بسنوات قليلة ولا كثيرة، لا بملايين السنين، ولا بمليارات السنين وإنما لا انقطاع له مع هذا التجدد الدائم، فهذا كله من فضل الله عليهم إضافة إلى أن الله هو الذي وفق لهذا، وهو الذي هدى له، ومع ذلك يُسمي هذه العطاء أجرًا كما في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- ويُثيبهم عليه مع أنه هو الهادي والموفق والمُعين.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:25] فالجنة لا تفنى، ولا يفنى ما فيها من الثمار والولدان والأزواج، فأهل الجنة خالدون فيها أبدًا، وهذا أمر معلوم لا خفاء فيه.

وحينما ذكر الله -تبارك وتعالى- هذا الخلود فإن ذلك يُعطي المؤمن آمنًا، ويُضيف إلى نفسه سعادة فإنه إذا علم بأن هذا النعيم خالد، وأنه خالد في هذا النعيم المُتجدد لا يرد عليه الموت، ولا الزوال، ولا الانتقال، ولا الانقطاع، ولا آخر له ولا انقضاء، لا يوجد هناك موت، ولا يوجد أمراض لا خطيرة ولا غير خطيرة، ولا يوجد مشكلات ولا يوجد هموم، ولا يوجد ما يُقلق ولا يُزعج حتى الغم، أو الغِل والحسد، أو اللغو كل ذلك لا يوجد في الجنة، لا وجود له: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا [سورة الواقعة:25] اللغو مما يُكدر النفس، ويشوش القلب.

وكذلك أيضًا وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [سورة الحجر:47] فيكون الإنسان في ألوان وصنوف النِعم فإذا كان في قلبه الغِل فإنه يتكدر عليه هذا النعيم، وهكذا حينما يتذكر الإنسان أنه سيُفارق هذا النعيم فإن ذلك يُقلقه إذا كان يشعر أنه سيموت أو سينتقل، أو سيحصل له فراق الأحبة فإن ذلك لا شك أنه يُحزنه.

هو الموت ليس كالموت شيء نغص الموت ذا الغنا والفقير[1].

انظروا إلى من كان عندهم الأملاك والأموال والثروات الهائلة، وألوان النعيم، بعد مدة، بعد مُضي السنين فإنه إن عُمر فإنه يكون في حال من الكدر، والضعف، والأمراض، ويضعف سمعه، وبصره، وتضعف قواه حتى لا يستطيع المشي والحركة والانتقال، ثم بعد ذلك تضعف مداركه العقلية، وبعد ذلك يُديره أصغر أولاده فيأخذ الصغير بيده ليذهب به هنا وهناك ويتفطن له لئلا يقع له المكروه أو يخرج أو يتعرض للخطر، بعد أن كان يُدير ويُدبر ويكتسب الأموال ويُسافر ويذهب ويأمر وينهى، بعد ذلك أصبح يُدار من قِبل أصغر أولاده، ويحصل له ما يحصل من السآمة، والغم إلا من رحم الله وفتح على قلبه بالاشتغال بذكره، بألوان الذكر، وقليل ما هم، وإلا فإن الكثير مهما مُتعوا باللذات فإذا ذهب وقت اللتذاذ بها بضعف القوى المُدركة، وضعف القوى أيضًا الغريزية، وضعف القوى أيضًا الحاملة للبدن فإن هذه القوى الثلاث إذا تلاشت وصار الإنسان لا يستطيع الانتقال والذهاب والمجيء، وكذلك القوى العقلية ضعُفت وصار الإنسان ينسى حتى أولاده وزوجته، فإذا جلس أمامهم يقول من هذا.

وهكذا حينما يكون هذا الإنسان في ضعف من القوى الغريزية بأنواعها فتفنى لذاته فلا يجد للطعام طعمًا، فعند ذلك قد يُصيبه ما يُصيبه من الغم والكآبة والحُزن، وهذا أمر مُشاهد حتى إنه لا يهوى لقاء الناس، ولا الجلوس معهم، بل لربما ينعزل من أولاده وأهله فلا يُخالط هؤلاء الأولاد بعد ما كان في أنواع اللذات، هكذا الحياة.

ومن نظر وشاهد في أحوال الناس فإنه يُدرك أن هذه الحياة لا تستحق أن توجه إليها الهِمم، وتُقضى الأعمار في طلب حُطامها، وإنما الحياة الحقيقية هناك حيث اللذات الخالدة والنعيم المُقيم الذي يُحصل بالإيمان والعمل الصالح بعد رضى الله، وهداه وتوفيقه، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.

فهذا النعيم السرمدي الأبدي، لا شك أنه أعظم أو من أعظم اللذات؛ لأن العبد إذا علم أنه سيُفارق هذه المواقع التي يتمتع فيها نظره، ويتمتع فيها سمعه، ويتمتع فيها جسده، تتمتع فيها نفسه وروحه جميع أنواع المُتع بالأصوات والمشاهد والمُحادثة والمُجالسة والمُخالطة على سُرر مُتقابلين، وكذلك أيضًا بالمطعومات، والأزواج وما إلى ذلك، جميع أنواع المُتع، لكن إذا علم الإنسان أنه سيفارقها فإنه يحزن، ولذلك كان بعض الشعراء يذكر أنه يُحب أيام الفراق مُرجيًا بعدها الاجتماع، ويكره أيام الاجتماع؛ لأنه يُرجي ويؤمل بعدها أو يتوقع الافتراق، تجتمع الأسرة، يأتون من نواحي مختلفة، يجتمعون في الأعياد، في إجازة من الإجازات، في مناسبة من المناسبات، من بلدان مختلفة يجتمع الشمل ويلتئم فيلتذون ويفرحون لكن كلمح البصر، هذا انتقل وهذا رجع، وهذا سافر وهذا كذا، ثم بعد مدة لو طويت صفحات الأيام والليالي هذا مات في يوم كذا، وهذا مات في يوم كذا، وهذا مات في مكان كذا، وطويت صفحتهم وذهبوا، هذه الحياة كلنا يُفارقها وينتقل عنها، لكن أين الحياة الحقيقية التي لا حُزن فيها ولا هم ولا غم ولا فراق ولا انقطاع للذات؟

هذه الحياة التي ينبغي للعاقل أن يسعى لها مع عمارة الأرض، الأرض لابد لها من عمارة ولكن لا تكن هذه هي الغاية؛ ولذلك فإن الله -تبارك وتعالى- يذكر العِبر والأمثل والعِظات التي يصور بها حال الحياة الدنيا وما إلى ذلك، ثم يقول بأن ذلك آيات لأولي الألباب، لقوم يعقلون، وما أشبه ذلك؛ لأن العاقل ينظر إلى الحياة البعيدة، هناك حياة وراء هذه، هذه طور من الأطوار كان الإنسان في بطن أمه هذا في طور تسعة أشهر قد تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً، ولكنه في النهاية سيخرج له أيدي وأرجل لا يحتاج إليها في بطن أمه، له أعين لا يحتاج إليها في بطن أمه، لكنه سيحتاج إليها في المرحلة الثانية التالية، ثم بعد ذلك هذه الحياة التي نحن فيها والآمال المُمتدة التي لا تملأها هذه الحياة، انظروا إلى أصحاب المقابر هل انقضت آمالهم وأعمالهم؟

الجواب: لا، والنبي ﷺ أخبرنا أنه: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب [2] فإذا أدرك المؤمن أن تلك الحياة هذا النعيم، هذه الثمرات المُتجددة كل ثمرة لها طعم جديد إذا لا سآمة، وهو أيضًا خالد فيها فهذا آمن، إذا لا يوجد سآمة، ويوجد خلود قد يبقى الإنسان يُعمر كما قال الشاعر:

ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم[3].

فهذا لأن الأمر يتكرر عليه في حياة روتينية لا تجدد معه، لكن هناك الحياة المُتجددة، هذه الحياة كم من إنسان لربما يُفضل الموت فيها على الحياة كما قال الشاعر يصف حاله وحال أمثاله:

ألا موت يُباع فأشتريه فهذا العيش مما لا خير فيه
ألا رحم المُهيمن رأس حر تصدق بالوفاة على أخيه[4].

هذا يتمنى الموت، لكن هناك لا يوجد أحد يتمنى مُفارقة هذا النعيم المُقيم، فالموت يُذبح بين الجنة والنار، ويُقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت[5] هنا الناس يخافون، يخافون من الأمراض، يخافون من الفقر، يخافون من الأشرار، هناك في الجنة لا يوجد أشرار، ولا يوجد فقر، ولا يوجد قلق على المُستقبل، ولا يوجد أمراض، حياة كاملة تحتاج إلى إيمان وعمل صالح.

هذا القرآن الذي تحداهم الله به، وبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ۝ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة البقرة:23- 25] يجمع لهم بين البشارة والنذارة، الترغيب والترهيب، فهما كالجناحين للطائر، لا يكون الإنسان في حال من لربما الخوف الذي يورثه اليأس والقنوط، ولا يكون في حال من الرجاء المُفرط، ثم يقدم يوم القيامة، ويجد نفسه قد قدِم إقدام المفاليس، وليس له عمل يُسعف، فلا تحصل له آماله، ولا تتحقق الأمور التي كان يُرجيها.

هذا القرآن الذي تحدى الله به قد طعن فيه الكفار بطعون كقولهم: بأن هذا القرآن لو كان من عند الله ما ضُرب المثل فيه بالذُباب والبعوضة وما أشبه ذلك، فرد الله على هؤلاء: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ۝ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:26، 27].

فالله يقول في هذه الآية الكريمة بأنه لا يستحيي من الحق، أن يذكر شيئًا ما قل أو كثُر، ولو كان تمثيلاً بأصغر الأشياء، كالبعوضة والذُباب ونحو ذلك مما ضربه الله مثلاً لعجز كل ما يُعبد من دون الله -تبارك وتعالى- أما أهل الإيمان فيعلمون حكمة الله في التمثيل بالصغير والكبير من خلقه، أنه حق من الله، وأما الكفار فيسخرون ويقولون مُتعجبين ما مراد الله من ضرب المثل بهذه المخلوقات الصغيرة الحقيرة؛ لأنهم يكذبون أصلاً أنه من عند الله -تبارك وتعالى- فالله يرد عليهم بأن هذا امتحان واختبار، وتمييز للمؤمن من الكافر لذلك فإن الله -تبارك وتعالى- يصرف بهذا المثل كثيرًا من الناس عن الإيمان ويهدي آخرين، ولكن الله حكم عدل إنما يصرف عنه الفاسقين: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [سورة البقرة:27] إلى آخر ما ذكر الله .

هذا القرآن فيه ما يزيد على أربعين مثلاً من الأمثال الواضحة الصريحة كما ذكر ذلك جمع من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[6] والحافظ ابن القيم[7] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[8]  -رحم الله الجميع- فالله -تبارك وتعالى- بحكمته يجعل ضرب المثل سببًا لهداية بعض الخلق الذين فهموا عن الله  وعقلوا عنه هذه الأمثال، وجعل ذلك سببًا لضلال قوم لم يفقهوا عن الله، ولم يُدركوا مرامي هذه الأمثال كما دلت عليه هذه الآية.

ثم إن في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [سورة البقرة:26] هذا فيه دلالة على رحمة الله بعباده حيث يُقرر لهم المعاني المعقولة بضرب الأمثال المحسوسة؛ لتثبت في النفوس، وتتضح الحقائق كأنك تُشاهدها، يُقربها بضرب هذه الأمثال، ويؤخذ من هذه الآية أيضًا حُجية القياس، فإن القياس هو من هذا القبيل كل مثل ضربه الله -تبارك وتعالى- فهو دليل على ثبوت القياس؛ لأن مبنى هذه الأمثال هو على المُقايسة والاعتبار أن ينتقل من حال ما ضُرب فيه المثل، وما ضُرب له، فينتقل من هذا إلى هذا، فيكون له بذلك نوع اعتبار بهذا، ولذلك قيل: بأن العبرة مأخوذة من العبور، والعبور الانتقال، ولهذا قيل العَبَرة مُقدمة البُكاء بأنها مأخوذة من العبور، عبور الدمع من العين إلى الخد، والعبّارة والمعبر يعبُر من هذه الناحية إلى تلك الناحية من النهر مثلاً بين شطيه، وهكذا في استعمالاتها، فهذا الإنسان الذي يعتبر وينتفع، هو ينتقل من تلك الحال إلى حاله هو فيعتبر ويتعظ، والقياس هو: إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما، فهو انتقال من فرع إلى أصل.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:26] لم يقل: فالمؤمنون يعلمون فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فهذا يُفيد التوكيد، ولذلك إذا قوي الإيمان عظُم القبول عن الله وإحسان الظن به وقبول هذه الأمثال والعِبر والعِظات والأحكام والحِكم، ومن ضُعف إيمانه بدأ يتساءل ويتردد ولماذا، ولم أقتنع، ويبقى في قلبه من التردد والشُبهات بحسب حاله وإيمانه.

وهكذا أيضًا يؤخذ من هذه الآية أن المؤمن لا يمكن بحال من الأحوال أن يُعارض كلام الله -تبارك وتعالى- وما أنزله، وما أوحى به بعقله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:26] فوصفهم بالإيمان: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا لم يقل: فأما القرشيون، أو الأوس والخزرج، وإنما قال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:26] فالإيمان هو المؤهل للقبول، ولذلك نجد الخطاب كثيرًا ما يرد في القرآن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لماذا خاطبهم بالإيمان؟

لأن هذا الإيمان هو الذي يؤهلهم للقبول عن الله -تبارك وتعالى- وإلا فما معنى الإيمان، يقول: أنا مؤمن ثم بعد ذلك يعترض هذا أمر لا يتفق مع إيمانه.

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:26] هذا العلم علم جازم، ولم يقل: يظنون يغلب على ظنهم إنما يعلمون، فأهل الإيمان لديهم علم راسخ وثابت ويقين لا تردد فيه أن ما أوحى الله به فهو حق، سواء أدرك حكمته أو لم يُدرك حكمته العبرة ليست في هذا، العِبرة في الإذعان وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب:36] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [سورة النساء:65] لابد من مجموع هذه الأمور، أما مؤمن وعنده تردد وينظر إلى كلام الله كأنه كلام أحد من البشر يرد عليه الخطأ والصواب ويحتاج أن يتوثق هل هذا الكلام صحيح أو لا، فهذا خلاف الإيمان.

ثم في هذه الآية: أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:26] لاحظ التوكيد أَنَّهُ ودخول أل على الحق الْحَقُّ يعني: الحق الكامل الثابت، ثم انظر إلى الربوبية الخاصة المذكورة هنا مِنْ رَبِّهِمْ فهذه ربوبيته لأوليائه يُربيهم بالإيمان والهدايات ولذلك يقبلون ويُذعنون، أما الآخرون: فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً [سورة البقرة:26] هذا اعتراض، قال: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26] لما ذكر من يُضل به ويهدي به كثيرًا وكثيرا لكن: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26] من هم الفاسقون؟

هم أولئك الذين لم يكونوا على الإيمان الثابت الراسخ كما سيأتي.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً [سورة البقرة:26] هذا يدل على أن ديدن الكافرين هو الاعتراض على أحكام الله وحِكمه مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً [سورة البقرة:26] ذكره في سياق الذم لهؤلاء.

إذن المؤمن لا يحق له بحال من الأحوال أن يعترض على ربه -تبارك وتعالى- ويقول لماذا، لماذا شرع الله هذا التشريع؟ لماذا عبر بهذا التعبير؟ على سبيل الاعتراض فهذا لا يسوغ بحال من الأحوال.

يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [سورة البقرة:26] هذا يسمونه اللف والنشر؛ لأنه لما تقدم ذكر المثل وذكر بعده الفريقين عقبه ببيان أنه يُضل به قومًا ويهدي به آخرين، يهدي به كثيرًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:26] فهؤلاء هم الذين يهدي به كثيرا وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً [سورة البقرة:26] فهؤلاء يُضل به كثيرا، فهذا يُسمى لف ونشر لأنه لم يأت على الترتيب السابق، أولاً هناك ذكر المؤمنين ثم ذكر الكافرين، هنا ذكر: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة:26] هناك ذكر المؤمنين ثم الكافرين، هنا قال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [سورة البقرة:26] فهذا يسمونه لف ونشر؛ مشوش وليس بمُرتب.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا كثرة الضُلال وكثرة المُهتدين بالنظر إلى كل واحد من المجموعتين القبيلين على حِدة، لا بالقياس إلى مُقابليهم فإن المهديين قِلة بالنسبة إلى أهل الضلال وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [سورة الأنعام:116] فالله -تبارك وتعالى- أخبرنا عن ذلك لنتعظ ونعتبر ونحذر، ويخاف الإنسان على إيمانه، ويُقبل على أسباب الهداية، ويُعرض عن أسباب الشر والغواية.

وقوله -تبارك وتعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26] هنا جيء باسم الفاعل وهو الفاسقين صلة للألف واللام الفاسقين، والتقدير: الذين فسقوا؛ ليدل على ثبوتهم في هذه الصفة فيكون وصف الفِسق ثابتًا لهم، قد يقول قائل: قد هدى الله كثيرًا من الفاسقين، يُقال: هنا قوم يُصرون على الفِسق يبتعدون عن أسباب الهداية يُقبلون على أسباب الغواية، فهؤلاء لا يُبالي الله بهم في أي واد هلكوا، فيكون هؤلاء يضلون ويكونون من أهل هذا الوصف وهو الفِسق وذلك أبلغ في الذم بهذا التركيب لجمعهم بين ثبوت الأصل وتجدد فروعه ونتائجه.

وَمَا يُضِلُّ الفعل المُضارع يدل على التجدد يُضل، ودخول "ال" على الفاسقين والتعبير باسم الفاعل هذا يدل على ثبوت، فهنا تجدد وثبوت، تجدد الإضلال وثبوت على الفسق في الوقت نفسه، ثم أيضًا إن إضلال من ضل راجع إلى وجود العلة التي كانت سببًا في إضلال الله للعبد لقوله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26] فالله حكم عدل، فهؤلاء حينما أعرضوا عن الحق وأقبلوا على الباطل صاروا بهذه المثابة: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26] فلا يأتي إنسان ويعمل ما شاء من المعاصي والانحرافات ويحتج ويقول: الله لم يهدني، الله يقول: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:5- 10] فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5].

ثم تأمل قوله -تبارك وتعالى- في هذين الفريقين: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:26] فهنا حينما اعتقدوا صحة ذلك وأنه الحق، وسلموا له هداهم الله وثبتهم، فيفهمون عن الله -تبارك وتعالى- وتنشرح صدورهم لهدايات القرآن والوحي، فيزدادون إيمانًا وطمأنينة ويقينًا بخلاف أولئك الضُلال فإنهم يزدادون شكوكًا وغيًا وضلالاً فهم بعكس هؤلاء.

ويؤخذ من هذه الآية: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26] أن كل من ضل فهو فاسق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[9] فهذا ذم لمن يضل به فإنه فاسق ليس إنه -كما يقول شيخ الإسلام- كان فاسقًا قبل ذلك وإنما لما ضل به، ولهذا تأولها سعد بن أبي وقاص كما نقل شيخ الإسلام -رحمه الله- في الخوارج وسماهم فاسقين؛ لأنهم ضلوا بالقرآن فمن ضل بالقرآن قال شيخ الإسلام: "فهو فاسق"[10] ضلوا بالقرآن.

يعني: النبي ﷺ أخبر عن الخوارج: يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم [11] فهم يحتجون بالقرآن، لكن هذا الاحتجاج بالقرآن وهذا الفهم والمُنطلق الذي انطلقوا منه في فهم القرآن خالفوا فيه إجماع الصحابة، ولذلك لم يكن معهم صاحبي واحد، وإنما كما قال النبي ﷺ: حُدثاء الأسنان سفهاء الأحلام [12] يعني: حداثة السن وحدها تكفي، قلة التجربة، وقلة العلم، وقلة الصبر، ثلاث كل واحدة تكفي لئن يقتحم الإنسان في هلكة فكيف إذا اجتمع مع ذلك السفه، والسفه يعني سوء التدبير وسوء التصرف، والسفه يوجب الحجر على الإنسان.

فهؤلاء يُضلهم الله -تبارك وتعالى- ولذلك لا يكاد يرجع منهم أحد، ويستمرون في غيهم، ومهما سمع الواحد منهم من النصوص والآيات والعِظات والعِبر ونُصح الناصحين فإن ذلك لا يزيده إلا غيًا، هو قد استمرأ الضلالة -نسأل الله العافية- وانغمس فيها فصار ذلك طمسًا على بصره وبصيرته، فهذا سعد بن أبي وقاص تأولها في هؤلاء وسماهم فاسقين قال: "لأنهم ضلوا بالقرآن، فمن ضل بالقرآن فهو فاسق"، هؤلاء بين الصحابة والذي ينزعون منه هو القرآن، فهل العيب في الصحابة؟ هل العيب في القرآن؟ وحينما خرجوا في خلافة علي فهل كان ذلك بتقصير من علي ؟! بل إن الذي قتله وهو عبد الرحمن بن مُلجم الخارجي كان من تلاميذ معاذ وأخذ عنه القرآن، وكان في أول أمره مُجاهدًا قد جاء من الشام في فتوح مصر، وكان يُدرس القرآن في جامعها -نسأل الله العافية- وصار شر الناس وأسوء الناس الذي يجب الخلاص منه هو علي خير أهل زمانه من العشرة المُبشرين بالجنة، الخليفة الراشد، ومع ذلك كانوا يرون هم أنه يجب الخلاص منه ليس رأي عبد الرحمن بن مُلجم.

فهؤلاء بهذه المثابة، فلا يُقال بأن علي كان مُقصرًا، ولا يُقال أيضًا بأن الصحابة كانوا مُقصرين وهؤلاء خرجوا في زمانهم، ولا يُقال: القرآن فيه تقصير؛ لأن هؤلاء يحتجون بالقرآن بآيات من القرآن، وإنما العيب هو في رؤوسهم، وإلا فالذين يُقابلون الخوارج هم المُرجئة، وهم طائفة مُنحرفة، هؤلاء الذين يقول: غُلاتهم لا يضر مع الإيمان ذنب، يقولون: إيمان أفجر الأمة كإيمان جبريل، هؤلاء المُرجئة، هؤلاء يُقابلون الخوارج، هؤلاء يحتجون بآيات من القرآن، الكل يحتج بآيات من القرآن، لكن العبرة بفهم أصحاب النبي ﷺ الذين خوطبوا بالقرآن، الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ فهذا هو الطريق بعيدًا عن الأصوات التي تعلو، أصوات الجُهال كل يرمي بجهة، هذا يرمي التقصير على المسئولين، وهذا يرمي على الدعاة، وهذا يرمي على العلماء، وهذا يرمي على المجتمع برُمته، وهذا يرمي على رجال الأمن، وهذا يرمي على، لا لا، القضية أن هذه الضلالات وجدت منذ زمن الصحابة : يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26].

فهؤلاء لم يُرد الله أن يُطهر قلوبهم، فيسأل العبد ربه دائمًا الهداية، ويخاف من الضلال وأسباب الضلال، ويبتعد عن أسباب الفسق؛ لئلا يكون ذلك سببًا لغوايته: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26] وإذا كان العبد في حال من الفِسق فمعنى ذلك أن انتفاعه بالقرآن سيقل، ويضعُف بلا شك؛ لأن ذلك قد ذكره الله -تبارك وتعالى- والحكم المُعلق على وصف، هنا ضلال وفسق، الوصف هو الفسق، والحكم هو الضلال لهؤلاء "الحكم المُعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه".

فلذلك الإنسان يحذر دائمًا ويُراجع قلبه ويُراجع عمله ويُراجع نيته دائمًا، ألا يتكلم إلا بنية وألا يعمل إلا بنية، وألا ينظر إلا بنية، ويدع الفضول من النظر والكلام والخُلطة، ويبتعد عن أسباب الشر جميعًا، ولا يُعرض قلبه للفتن من أجل أن يلقى الله ويُفارق هذه الحياة الدنيا سالمًا من الشر والضلال وأسباب الضلال، ولا يقول أحد: أنا أثق بنفسي وأثق بإيماني وأثق بعلمي ثم بعد ذلك يتعرض للشبهات، أو الشهوات ثم ينتكس ويضل ويكون مركبًا للشيطان -نسأل الله العافية.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. 

إن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر أنه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها، بين ما يحصل بسبب ضرب هذه الأمثال من إضلال الكثيرين، وهداية الكثيرين، وختم ذلك بقوله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [سورة البقرة:26].

ثم بين صفة هؤلاء الفاسقين، وهذا في هذه الآية التي نتحدث عنها في هذه الليلة، قال: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27] هؤلاء الذين ذكر أوصافهم يُمثلون حال الفاسقين الذين ينقضون عهد الله، ينكثون عهد الله الذي أخذه عليهم، ويدخل في ذلك فيما أخذ الله عليهم من الإيمان والتوحيد والطاعة.

وهكذا أيضًا فإن الله -تبارك وتعالى- أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فهم مأمورون باتباع الرسل، والإيمان بالكتب، والعمل بما تضمنته.

وكذلك يقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام، ويُفسدون في الأرض، يقطعون ما أمر الله به أن يوصل يشمل كل ما أمر الله به أن يوصل، ويُفسدون في الأرض بأنواع الفساد أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27] في الدنيا والآخرة.

فقوله -تبارك وتعالى- في صفة هؤلاء الفاسقين: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:27] لاحظوا ترتيب هذه الصِلات بهذه الآية الكريمة، بدأ أولاً في أوصافهم بنقض عهد الله من بعد ميثاقه، وهذا أخص هذه الأوصاف الثلاث، نقض العهد، ثم بعد ذلك قطع ما أمر الله به أن يوصل، وهو أعم من نقض العهد، فإن ما أمر الله به أن يوصل يدخل فيه الوفاء بالعهود، والإيمان بالله -تبارك وتعالى- ويدخل فيه صلة الأرحام، وما إلى ذلك مما يدخل في هذا المعنى، ثم ذكر أيضًا ثلاثًا الإفساد في الأرض، وهو أعم من قطع ما أمر الله به أن يوصل، وذلك جميعًا هو من مظاهر الفسق، ومما يدخل فيه؛ فالفسق يشمل ذلك جميعًا، فإن الفسق يدل على معنى الخروج، الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- فالخارج عن الإيمان به فاسق، هذا هو الفِسق الأكبر، والخارج عن طاعته بفعل الكبائر فاسق، والخارج عن طاعته بفعل الصغائر فاسق، فأصل ذلك يرجع إلى هذا المعنى؛ ولهذا يُقال فسقت الفأرة من جُحرها إذا خرجت منه للإفساد، فهذا أصل معنى الفسق، الخروج، سواء كان هذا الخروج من قبيل الخروج الأكبر، أو كان من قبيل الخروج الأصغر.

فنقض عهد الله -تبارك وتعالى- يكون بالكفر، وبفعل الكبائر، وبالاجتراء على حدوده -تبارك وتعالى- وانتهاك حُرماته، وهذه الآية: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [سورة البقرة:27] فيها تحذير من نقض عهد الله  من بعد ميثاقه؛ لأن ذلك يكون سببًا للفسق بلا شك.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [سورة البقرة:27] فلاحظوا هنا أنه بنى هذا الفعل "يوصل" بناء ما لم يُسم فاعله، لم يقل ما أمر الله أن يصله الإنسان، وإنما يوصل؛ ليشمل ما أمر الله أن يصلوه هم، أو يصله غيرهم.

فكل ما أمر الله به أن يوصل فيجب أن يتحقق فيه ذلك، فيدخل في ذلك بر الوالدين، ويدخل في ذلك صلة الأرحام، ويدخل في ذلك أيضًا كما قال الله : وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [سورة النساء:36] كل هؤلاء لهم حقوق وصِلات يكون ذلك مع الإيمان، ويكون أيضًا مع غير المؤمنين، الجار ذي القُربى، الجار القريب له حقان، والجار الجُنب، الجار المجاور من غير قرابة على أشهر أقوال المفسرين، والصاحب بالجنب الرفيق في السفر، وقيل الزوجة، الصاحب في العمل في الدراسة هذا له حق أكثر من عموم الناس؛ لأنه يجمعك معه شيء، تشترك معه في شيء، فأعطاه حقًا أكثر من غيره، من التواصل والتعاهد والراعية والإحسان.

وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ هؤلاء ضعفاء يحتاجون إلى رعاية فيصلهم بالعطية، والإحسان، والنفقة، والصدقة والزكاة، وما إلى ذلك.

وفي هذه الآية وما قبلها: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [سورة البقرة:26] إلى أن قال: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [سورة البقرة:27] فلاحظ هذه الأشياء المُتقابلات التي تُبرز المعاني، وتوضحها بذكر الشيء وما يُقابله، ذكر الشيء مع ضده، وهذا من البيان، فالقرآن صرفه الله هذا التصريف؛ ليكون تبيانًا للحق لا يدع فيه لبسًا.

أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا يعني: على قولين في تفسير ما فوقها، بعضهم يقول: فَمَا فَوْقَهَا يعني: في الكِبر، أكبر منها.

وبعضهم يقول: فَمَا فَوْقَهَا يعني: أدق من البعوضة، أصغر من البعوضة، فهنا ذكر الشيء وما يُقابله لاسيما إذا قيل ما هو أكبر من البعوضة.

أما ما يذكره بعض أصحاب الإعجاز العملي من أن المقصود بالبعوضة ضُرب بها المثل لعِظمها وضخامتها؛ ولأنها تحمل من القُدر والإمكانات، فذكروا لها عيونًا كثيرة، وذكروا لها أشياء من الأهوال والأوجال، حيث إنها تغرز خرطومها بطريقة بعد أن تضع مادة مُخدرة لا يشعر الإنسان، ثم تمتص الدم وصورها بصورة كأنها شيء مخلوق هائل، بينما ذكر الله البعوضة على أنها من أصغر الأشياء، وأتفه الأشياء؛ ولهذا قال النبي ﷺ: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء [13].

على هؤلاء أن يأتوا ويقولوا: إن الجناح شيء هائل شيء عظيم في هذه الخطوط إذا وضعت عليه هذه الأجهزة المُكبرة، وتجد فيه من الأهوال والأوجال، فجناح البعوضة شيء عظيم هائل، هذا لا قيمة له، هذا كلام لا قيمة له، إنما يُذكر هذا على أن البعوضة أصلاً لا قيمة لها، والعرب تُمثل بهذا في الصِغر، وإنما العُجمة هي التي تأتي بهذه الأفهام، كما جاء عن الحسن: "أهلكتهم العجمة"[14].

هكذا المعهود العربي، يمُثلون بالذرة والبعوضة ونحو ذلك، وهكذا قول من يقول بأن ما فوقها. هو كائن فوق ظهر البعوضة يعيش على ظهرها صغير لا يُرى بالعين المُجردة، فالله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [سورة البقرة:26] فما فوقها، هذا الكائن الدقيق الذي يعيش على ظهر البعوضة، مخلوق آخر يعني، هذا الكلام لا قيمة له، ولا يمكن أن يكون هو المُراد بالآية، والآية فيها قولان اثنان للسلف لا ثالث لهما، وكل قول يعود على أقوالهم بالإبطال فهو أحق بالبطلان، هذا أصل وقاعدة، وتجد من يهتف لهذا الكلام، ويفرح به، ويشعر بنشوة، وهو ليس بشيء.

على كل حال، انظروا إلى ذكر هذه الأشياء المُتقابلات، فأما الذين آمنوا، وأما الذين كفروا، وقوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [سورة البقرة:26] وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [سورة البقرة:27] القطيعة والوصل، فهذا يسمونه بالطِباق والمُقابلة، وهي من المُحسنات على كل حال في علم البلاغة.

ولاحظوا هنا أنه قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27] الإشارة إليهم إلى البعيد "أولئك" يدل على انحطاط مرتبتهم وسفولها، فهم في الهاوية في غاية الخُسران، ودخول ضمير الفصل بين طرفي الكلام يدل على تقوية النسبة، ودخول "أل" على الخبر الخاسرون فإن ذلك يُفيد معنى الحصر كأنه لا خاسر إلا هم قد استحقوا الوصف الكامل من الخُسران، هذا هو الخُسران الحقيقي قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الزمر:15] فهذا هو الخسران الحقيقي الكبير الذي لا يمكن للإنسان أن يُحصل بعده ربحًا، أو أن يستدرك هذه الخسارة، وليست الخسارة في الدنيا.

والله -تبارك وتعالى- يذكر في هذه الألفاظ ما يكون به تعاملات الناس في تجارتهم وبيعهم، وشرائهم، فالله -تبارك وتعالى- سمى المعاملة معه تجارة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الصف:10] وكما في قوله في هذه السورة الكريمة: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [سورة البقرة:16] ذكر الشراء، وذكر الربح، وذكر التجارة.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [سورة التغابن:9] والغبن في الأصل يكون في البيع والشراء والتعاملات بين الناس في تجاراتهم ونحو ذلك، فسمى ذلك غبنًا وخسارة وبيعًا وشراء ونحو هذا، فهذه التجارة الحقيقية.

ثم قال: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [سورة البقرة:27] لما ذكر هذه الأوصاف قال بعد ذلك: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:28] تحداهم بالقرآن، أمرهم بعبادته وحده لا شريك له يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [سورة البقرة:21- 23] فتحداهم، قال هذا البرهان موجود، فأين تذهبون؟ وأما طعونكم بهذه الأمثال المضروبة في هذا القرآن، وأن ذلك لا يصدر من رب، فإن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها، ولكن الله -تبارك وتعالى- يُضل بمثل هذا الكثيرين، ويهدي الكثيرين.

ثم بعد ذلك خاطبهم، كل هذا امتداد لما ذُكر من الأمر بعبادته، وهو أول أمر في القرآن، وهو أول خطاب للناس في القرآن الأمر بالعبادة، فقال مُنكرًا مُعجبًا من هذا الصنيع الذي يصدر عنهم: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [سورة البقرة:28] كيف يقع منكم الكفر بأنواعه، والله -تبارك وتعالى- هو الذي أوجدكم بعد العدم؟ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ يدخل في هذا ما كان في عالم النُطف، كما يذكره جمع من المفسرين، ولا يقولن قائل: بأن الحيوان المنوي يسبح حتى يُلقح البويضة؛ فإن هذه النُطفة تُعد عند أهل العلم ميتة، الحياة والموت عند العلماء وفي لغة الشرع، وهكذا في استعمالات الفقهاء، وما إلى ذلك إنما هي الحياة المُعتبرة بنفخ الروح، وما قبل ذلك لا يُقال له حي فالنُطفة ميتة، والله -تبارك وتعالى- يقول: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [سورة الأنعام:95] الحي قيل الفرخ من البيضة، وهكذا أيضًا الإنسان من النطفة، فهذه البيضة ميتة، والنُطفة ميتة.

فهنا وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد هذه الحياة ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:28] فيُجازيكم ويُحاسبكم بعد ذلك، كيف يحصل منكم مثل هذا؟!

فهذا الاستفهام في قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [سورة البقرة:28] هو استفهام عن حال، وصحبه معنى التقرير والتوبيخ، أو صحبه الإنكار والتعجب في آن واحد، كيف يصدر ذلك عنكم، فخرج بهذا عن حقيقة الاستفهام؛ لأن المُستفهم في الأصل يُريد الجواب، ولكن هذا يُراد منه التعجب أو الإنكار لهذه الحال بكيف فهذا يستلزم إنكار الذات ضرورة وهو أبلغ كَيْفَ تَكْفُرُونَ.

وهنا لاحظوا أنه قال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ فوجه الخطاب إليهم، وقبل ذلك كان الكلام على سبيل الغيبة، قال: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ۝ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ هذا كله في الغائب وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:26، 27] ثم وجه الخطاب إليهم كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:28].

كيف يقع منكم مثل هذا، فهذا يسمونه الالتفات، هنا التفات من الغائب إلى المُخاطب، وهنا في غاية المُناسبة مع ما فيه من المعاني العامة من تنشيط السامع، ونحو ذلك، فهنا جاء بصيغة الخطاب؛ وذلك أن الإنكار إذا توجه المُخاطب كان أبلغ في توجهه إليه من أن يكون ذلك على سبيل ذكر الغائب، يعني: مُباشرة يتوجه إليك كيف يحصل منك مثل هذا، حينما يقول لهم كيف، أو حين يقول الذين وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ۝ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:26، 27] كيف يكفرون بالله وكانوا أمواتًا فأحياهم، لا كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [سورة البقرة:28] فهذا أبلغ في هز النفوس، وتحريكها فتستيقظ بعد غفلتها، ولربما استرسالها مع قوم آخرين يتحدث القرآن عنهم في وهمها لكنه حينما يوجه الخطاب إليه فإن ذلك أبلغ وأوقع في النفس وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ فهذا الموت يُطلق على ما لم تسبق إليه حياة، ما لم يسبق إليه روح، ما لا روح فيه يُقال له ميت، حتى لو لم تسبق إليه حياة كما قلنا في النُطفة يُقال إنها ميتة، والبيضة يُقال ميتة وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ.

وكذلك حينما كانوا في أصلاب الآباء فهم أموات، إذًا الموت لا يُشترط أن يكون ذلك الوصف بعد مُفارقة الحياة المتُحققة في هذا الموصوف، مُفارقة الحياة فيُقال ميت، فقد يكون لم يسبق له حياة له يُقال ميت.

وهنا يؤخذ منه أن الجنين لو خرج قبل أن تُنفخ فيه الروح فإنه لا يثبت له حكم الحي؛ ولهذا لا يُغسل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث، هو يُنفخ فيه الروح إذا كان له تمام أربعة أشهر، كما يدل عليه حديث الصادق المصدوق[15].

فقبل ذلك لو كان عمر الجنين ثلاثة أشهر ونصف؛ فإنه لا يكون له حكم الإنسان الذي يرث ويُصلى عليه، ونحو ذلك، لكن إذا خرج بعد نفخ الروح؛ فإنه يأخذ شيئًا من هذه الأحكام، هذا غير موضوع النفاس؛ لأن النساء يسألون عن النفاس، وأحكام النفاس حينما يكون الإسقاط متى تكون نُفساء، هذا غير موضوع الصلاة على الجنين، أو كون هذا الجنين تُعتد له الأحكام المترتبة على الحياة، النفاس يختلف تمامًا، الجنين يكون أربعين يومًا نُطفة، فهذا لا حكم له، ثم يكون أربعين يومًا علقة، فهذا لا حكم له، هذه ثمانون، بعد الثمانين يعني: من الواحد والثمانون يبدأ يتحول إلى مُضغة فهذه المُضغة تبدأ بالتخليق، يعني: بمعنى يبدأ التصوير عليها والتخطيط صورة إنسان، فإذا خرج هذا الجنين، سقط من أمه، فإن كان قبل هذه المُدة قبل الثمانين، يعني في الأربعين الأولى، أو الأربعين الثانية، فلا حكم له، تتوضأ لكل صلاة إذا كان يخرج معها دم وتغسل أثر الدم، وتُصلي وليس بنفاس، ويُجامعها زوجها وتصوم، وما إلى ذلك، فإذا خرج منها ما شُكل بصورة إنسان قبل نفخ الروح فمثل هذا إذا خُطط بدأ التخطيط التشكيل الرسم، ولو كان ذلك إنما يُعرف عن طريق القوابل على الأرجح.

يعني: ذوات الخبرة القوابل التي يلين توليد النساء قد لا تعرف المرأة جيدًا التحديد، فهنا يُقال إنه له حكم النفاس، فلا تُصلي، ولا تصوم حتى ينقطع عنها الدم برؤية الطُهر، أو بالجفاف التام الذي لا كُدرة معه، ولا صُفرة، ولا دم، بحكم النفُساء، هذا بالنسبة لما يسقط من الأجنة، ومثل هذا وإن كان لا يُغسل ولا يُصلى عليه لكن الكلام في الطهارة والنفاس يختلف عن أحكام الجنين بالنسبة للحُكم بحياته من عدمها. 

نوصل الحديث -أيها الأحبة- فيما يستخرج من هذه الآيات التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- ليدلل على أحقيته بالعبادة هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [سورة البقرة:29] أنكر عليهم كفرهم، وعبادة غير الله جل جلاله وتقدست أسماؤه كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:28] ثم قال في هذه الآية: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:29] فالله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق لأجلكم كل ما في الأرض من النعم والمنافع التي تنتفعون بها، ثم استوى إلى السماء أي: ارتفع وعلا، فخلقهن هذا الخلق الذي هو في غاية الإحكام والاستواء.

فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فعلمه محيط بكل شيء، وهذا توجيه للعباد من أجل أن يعتبروا ويتفكروا وينظروا في دلائل قدرته -تبارك وتعالى- ووحدانيته هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة:29] فالذين لا يعرفون الله -تبارك وتعالى- ويعبدون غيره من الأصنام والمعبودات الباطلة، كالبقر والشجر، ونحو ذلك، هؤلاء لا غرابة حينما تتعطل أذهانهم وأفهامهم عن إدراك مثل هذه الحقائق والالتفات إلى مثل هذه المواطن التي يحصل بها الاعتبار، ويستدل بها على هذا الخالق، وأنه هو الواحد الذي لا يصح أن يتوجه إلى غيره، ولا أن يعبد غيره.

فأولئك لا غرابة حينما تتعطل أذهانهم وأفهامهم فلا تجول في هذا الخلق لتستدل به على هذه المعاني الكبار، ولكن الغريب أن تتعطل أذهان وأفهام أهل الإيمان، ومن يقرؤون مثل هذه الآيات، فيبقون في حال من العجز والحجب، فلا يستدلون على هذه الموجودات وما صرّفت فيه على هذه المعاني العظيمة، وفي أوائل هذا الكتاب مثل هذه الآية هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فكل ما في هذه الأرض من المعادن والأشجار والنباتات والثمار والمياه وما إلى ذلك خلقه الله للعباد.

ومثل هذا التعبير خَلَقَ لَكُمْ يدل على أن ذلك من أجل مصالحكم ومنافعكم؛ ولتقوم حياتكم؛ ولتستقيم وتستقر معايشكم، ثم يُؤخذ من هذه الآية هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ أن الأصل -كما يقرره الأصوليون والفقهاء- أن كل ما في الأرض من أشجار ومياه وثمار وحيوان وغير ذلك الحل، فالذي يحرم شيئًا من ذلك فإنه يطالب بالدليل على التحريم، فإذا وجد الدليل على تحريم شيء من ذلك وقف عنده، فإن لم يوجد نظر في الضرر، فما كان من الأشياء الضارة التي يغلب ضرها على نفعها فإنها تحرم؛ لأن هذه الشريعة -كما هو معلوم- وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [سورة الأعراف:157] وإلا فالأصل في الأشياء الحل من المطعومات وسائر أنواع المنافع، والأصل في المعاملات الحل، والأصل في المطعومات الحل، والأصل في المنافع الحل، فهذا أصل مقرر معلوم لدى أهل العلم، بخلاف الذبائح، فإن أهل العلم يقولون: الأصل في الذبائح المنع، يعني إلا ما  تقرر ذكاته، وأنه ذكر اسم الله عليه وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام:121] وهكذا لما ذكره الله الموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع، إلى آخره، قال: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [سورة المائدة:3].

ثم أيضا تأمَّل قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [سورة البقرة:29] هذا فيه إثبات الأفعال الاختيارية والصفات الاختيارية لله -تبارك وتعالى- فهذا الاستواء هو فعل من أفعاله، وكذلك أيضًا التسوية، فسواهن سبع سماوات، فالله يفعل ما شاء، متى شاء، كيف يشاء، فله الكمال المطلق من كل وجه، وهذا الخلق وهذه التسوية كل ذلك يدل على علم محيط دقيق، وعلى قدرة كاملة، فإنه لا يمكن خلق مثل هذه السماوات بهذا الإحكام يمر عليها هذه الأزمان الطويلة من غير فطور، ولا خلل، ولا تحتاج إلى صيانة فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ۝ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:3، 4] يرجع إليك البصر خاسئًا لا يجد خللاً، ولا فطورًا.

فالإنسان لو جاء بأكبر الخبراء من المهندسين، وبأفضل المواد التي تستعمل في البناء، وجاء بأكبر الشركات ذات الخبرة الطويلة في البناء والعمارة، فإن هذا البناء بعد مدة وربما يسيرة تظهر فيه العيوب والشقوق، ثم بعد ذلك يبدو عليه الضعف، وتتقادم عليه السنون، حتى بعد ذلك يبدو واهنًا آيلاً للسقوط، فهذه الأبنية التي يبنيها الناس لو سألنا أهل الخبرة في العمر الافتراضي لهذه الأبنية التي نشاهدها، فعندهم أن متوسط أعمار هذه البنيات بما يقرب من ثلاثين سنة فقط، هذا العمر الافتراضي، وتجد الإنسان يبذل فيها، ويعقد عليها الآمال، ويبني ربما المدة الطويلة، وينفق الأموال الطائلة، ومداها هو هذا، لكن انظر إلى خلق الله -تبارك وتعالى- وما فيه من الإحكام، فلا يحتاج إلى تجديد ولا ترميم ولا يحتاج إلى استدراك لجوانب من النقص، وإنما هكذا منذ خلقه الله وهو يجري بنظام دقيق، وفي غاية الإحكام، فهذا خلقه .

  1.  انظر: شرح ديوان الحماسة (ص:29)، ونهاية الأرب في فنون الأدب (7/ 80). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، برقم (6436)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا، برقم (1048). 
  3.  انظر: جمهرة أشعار العرب (ص:176)، وشرح المعلقات التسع (ص:212). 
  4.  نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة (7/ 253)، وزهر الآداب وثمر الألباب (1/ 181)، والدر الفريد وبيت القصيد (5/ 99). 
  5.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ [سورة مريم:39] برقم (4730)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2849). 
  6.  مجموع الفتاوى (14/ 58)، ومنهاج السنة النبوية (7/ 334). 
  7.  إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 101). 
  8.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4/ 183). 
  9.  مجموع الفتاوى (16/ 588). 
  10.  المصدر السابق. 
  11.  أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله Uوَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [سورة الحاقة:6]: شَدِيدَةٍ عَاتِيَةٍ [سورة الحاقة:6] قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَتَتْ عَلَى الخُزَّانِ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [سورة الحاقة:7] مُتَتَابِعَةً فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [سورة الحاقة:7] أُصُولُهَا فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [سورة الحاقة:8] بَقِيَّةٍ، برقم (3344)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1063). 
  12. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3611)، وبرقم (6930)، في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، ومسلم، كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، برقم (1066).
  13.  أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في هوان الدنيا على الله U رقم: (2320).
  14.  التاريخ الكبير للبخاري (5/ 93)، رقم: (259).
  15.  أخرجه البخاري، كتاب القدر، باب في القدر، رقم: (6594)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، رقم: (2643).