الجمهور من المفسرين، والفقهاء على القول بأن التربص لمدة سنة منسوخ بالأربعة الأشهر والعشر، وهذا النسخ جرى على غير العادة؛ لأن الناسخ يأتي بعد المنسوخ في ترتيب المصحف؛ بخلاف هذه الآية؛ فالذي نسخها جاء قبلها في ترتيب المصحف، ولكن هذا ليس في النزول قطعاً؛ لأن النسخ هو رفع الخطاب الشرعي المتقدم بخطاب متأخر متراخ عنه، فلا يمكن أن يكون معه، فكيف يكون قبله، فهذا في الترتيب، وترتيب الآيات كما هو معروف توقيفي، فتنزل الآية فيقول النبي ﷺ: ضعوها في مكان كذا.
وأما الوصية في قوله: وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فذهب عامة أهل العلم إلى أنها منسوخة بآية المواريث، فصار لها من الميراث الثمن، والربع؛ مما ترك الزوج.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فيقول بأن هذه الآية لم تنسخ فيها الوصية إلى الحول؛ وإنما ذلك على سبيل الاستحباب فقط لا الوجوب، والأقرب: أنها منسوخة، والله أعلم.
"روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان بن عفان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: "يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه".
ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها، فأجابه أمير المؤمنين: بأن هذا أمر توقيفي، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها، فأثبتها حيث وجدتها.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها، وسكناها في الدار سنة؛ فنسختها آية المواريث، فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج".
القراءة في قوله سبحانه: وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم جاءت بالرفع، وبالنصب، فمن قرأها بالنصب قدر في إعرابها فعلاً محذوفاً تقديره: فليوصوا وصية، أو أوصى الله وصية، أو كتب الله عليهم وصية، والمعنى أن الله يطالب الأزواج أن يوصوا قبل موتهم لزوجاتهم أن يمتعن في بيوتهم سنة تجرى عليهن النفقة، ولا يخرجهم الورثة، وعلى قراءة الرفع وصيةٌ لأزواجهم تعرب مبتدأ، والخبر لأزواجهم، ويكون المعنى أن عليهم وصية تلزمهم لأزواجهم وهي إمتاعهن سنة في بيوتهم، وأكثر الأقوال والتقديرات ترجع إلى الأول.
ولعل من أدق ما قيل في معناها - وهو المتبادر من ظاهر الآية - هو ما ذكره ابن جرير الطبري - رحمه الله - بأن المعنى: كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون ألا تخرجوهن، فالخطاب لأهل الإيمان من الورثة، والأولياء، ومن يتحاكمون ويتراجعون إليه، فهم مأمورون بأن ينفذوا ما ذكر الله ، وذلك ليس على سبيل اللزوم بالنسبة للمرأة في أول الأمر، لكن ذلك يلزم الورثة، ومن بيده ذلك كالوصي، والوكيل، ومن يتراجعون إليه، ويتحاكمون؛ كالقاضي.
قوله سبحانه: مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ: يمكن أن يكون منصوباً بفعل محذوف والتقدير: أي متعوهن متاعاً إلى الحول، أو جعل الله لهن ذلك متاعاً، ويمكن أن تقدر على الحال.
قوله: غَيْرَ إِخْرَاجٍ يمكن أن يكون هذا حالاً: أي غير مخرجات، والمعنى متعوهن إلى الحول غير مخرجات، أو مخفوض بنزع الخافض والتقدير أي: من غير إخراج، والله أعلم بالصواب.
"وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته؛ اعتدت سنة في بيته يُنْفَق عليها من ماله، ثم أنزل الله بعد: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [سورة البقرة:234] فهذه عدة المتوفى عنها زوجها؛ إلا أن تكون حاملاً فعدتها أن تضع ما في بطنها، وقال: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ [سورة النساء:12] فبيّن ميراث المرأة، وترك الوصية، والنفقة.
قال: وروي عن مجاهد والحسن، وعكرمة وقتادة، والضحاك والربيع، ومقاتل بن حيان قالوا: نسختها أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
وروى البخاري عن مجاهد: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا قال: كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجب، فأنزل الله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:240] قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها؛ وإن شاءت خرجت، وهو قول الله: غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ.
وقال عطاء: قال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى: غَيْرَ إِخْرَاجٍ".
المقصود بالعدة عند أهلها أي: أهل زوجها، ويشهد لهذا أثر مجاهد السابق قال: كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجب، ولكن نُسخ وجوب أمر العدة في بيت زوجها، فلها أن تعتد في بيت أبيها، أو في بيت آخر تملكه، أو غير ذلك.
"قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها، وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت لقول الله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت، ولا سكنى لها، وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلَّم، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت فهذا محل خلاف بين الأئمة، وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن زينب بنت كعب بن عجرة أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري - ا - أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله ﷺ تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبُدٍ له أبقوا؛ حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله ﷺ أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة؛ فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله ﷺ: نعم، قالت: فانصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله ﷺ، أو أمر بي؛ فنوديت له، فقال: كيف قلت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه، وقضى به، وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح".
وجاء في بعض الروايات: أن نعْيه بلغها وهي في دور بعض الأنصار شاسعة عن أهلها - بعيدة -، فلم تكن في بيت زوجها، وهو لم يترك لها داراً، ولم يترك لها مالاً، فأخذ منه عامة أهل العلم أن المرأة إنما تعتد في البيت الذي بلغها فيه نبأ وفاة الزوج".
وأما قوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَعْرُوفِ هذا بناء على أنها كانت مخيرة، فإن خرجت في أثناء العدة فلا جناح عليكم أيها الورثة بهذا الخروج إذا كان لغير معصية الله من معروف لا يزري بها، أو بأهلها، وإلا فإنها تمنع ويؤخذ على يدها".