الأحد 25 / ربيع الأوّل / 1446 - 29 / سبتمبر 2024
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ۖ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا۟ تَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله: فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:239] لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات، والقيام بحدودها، وشدد الأمر بتأكيدها؛ ذكر الحال التي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل وهي حال القتال والتحام الحرب فقال: فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا أي: فصلوا على أي حال كان، رِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا يعني: مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها".
يعني هذا من باب اللازم - مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها -، وإلا فأصل معنى رِجَالاً الذين يسيرون على أقدامهم كما قال سبحانه: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [سورة الحج:27] يعني على أرجلهم راجلين، أَوْ رُكْبَانًا يعني كل من ركب شيئاً فإنه يقال له: راكب، والخلاصة أنه رخص لهم ذلك في حال الحرب، فمن مقتضيات ذلك أنهم يصلون على أحوال مختلفة من حيث جهة الاستقبال، والله أعلم.
"كما قال مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً على أقدامهم، أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي ﷺ، ورواه البخاري - وهذا لفظه - ومسلم".
إذا كان الناس يستطيعون أن يصلوا صلاة الخوف في حالة عدم المواجهة على الهيئات الواردة عن النبي ﷺ جماعة مع استقبال القبلة فهذا هو المطلوب، وأما في حال المواجهة فلا يمكن أن يصلوا جماعة بالطريقة التي وردت، فعندئذ يصلون فرادى بحسب ما يتيسر لهم.
"وروى مسلم وأبو داود، والنسائي وابن ماجه، وابن جرير عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم ﷺ في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، وبه قال الحسن البصري، وقتادة والضحاك وغيرهم".
هذا قول معروف لطائفة من السلف، فقد جعلوا الركعة تجزئ عن الفرض في حال الالتحام والخوف الشديد، وخالف الجمهور في ذلك فقالوا: إن الصلاة لا تختصر في الخوف، فإذا لم يتيسر له الركوع فيومئ إيماء، وإذا لم يتيسر له الإيماء فهل يصلي بمجرد التكبير وهو قائم؟ خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يرى أنه يصلي؛ واستدلوا بقوله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [سورة التغابن:16]، ومنهم من يرى أنه لا يصلي ولو خرج الوقت، ويحتجون على ذلك بأن النبي ﷺ في يوم الأحزاب لم يصل العصر إلا بعد غروب الشمس، واستدرك هذا الدليل بأنهم لشدة ما وقع عليهم في ذلك الموقف كأنهم نسوا الصلاة، أو كأنهم شغلهم العدو عنها فلم يتفطنوا لها، وهذا واضح جلي من رواية الحديث.
وبعض أهل العلم مثل ابن جرير الطبري - رحمه الله - يقول: "لا أحب له أن يختصر الصلاة إلى ركعة واحدة، فإن اضطر إلى ذلك فتجزئه ركعة ذات سجود، وركوع".
"وقال البخاري: باب الصلاة عند مناهضة الحصون، ولقاء العدو.
وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة؛ صلوا إيماء كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير، ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول، وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تُستَر"

في بلاد فارس.
"عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصلِّ إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، قال أنس: "وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها"، هذا لفظ البخاري.
وقوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ [(239) سورة البقرة] أي: أقيموا صلاتكم كما أمرتم، فأتموا ركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، وخشوعها، وهجودها.
فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ أي: مثل ما أنعم عليكم، وهداكم، وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقابلوه بالشكر والذكر، كقوله بعد صلاة الخوف: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [سورة النساء:103]، وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف، وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ [سورة النساء:102].

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ [البقرة:239] أي: من عدوٍّ، أو سبعٍ، أو غير ذلك، مما يخاف منه على النفس".

فقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239] هنا أطلق الخوف، فيُحمل على أعم معانيه، وهو الخوف الذي لا يتمكن معه من أداء الصلاة على الوجه المأمور به: من القيام، والركوع، والسجود، ونحو ذلك.

"قوله: فَرِجَالًا جمع راجل، أي: على رجليه".

رجالًا: مشتق من الرِجل، الماشي برجله، كما قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا يعني: مُشاة، على الأرجل وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] هو المركوب من الإبل، وغيرها، وهو الذي أضناه السفر، وطول المسير، فحصل له الضمور، فذهب زهمه، وبقي في حالٍ من الضعف.

"قوله: أَوْ رُكْبَانًا جمع راكب، أي: صلوا كيفما كنتم من ركوب، أو غيره؛ وذلك في صلاة المسايفة، ولا يُنقص منها عن ركعتين في السفر، وأربع في الحضر عند مالك[1]".

يقول: "أَوْ رُكْبَانًا جمع راكب: أي: صلوا كيفما كنتم من ركوب، أو غيره" يعني: على أي حال مستقبل القبلة، وغير مستقبليها؛ لأنه في هذه الحال قد لا يتمكن من الاستقبال، فيُصلي كيفما أمكنه.

وقد جاء عن نافع أن ابن عمر - ا - كان إذا سُئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: "فإن كان خوفٌ أشد من ذلك" يعني: هو يصف صلاة الخوف بتقدم مجموعة، وتأخر آخرين إلى آخره، ولها صفات متعددة، وتلك الصفات الثابتة، الصحيحة محمولة على اختلاف الأحوال، فلكل حالٍ يُصلى ما يناسبها بالوجه، والصفة التي تناسب تلك الحالة؛ إذا كان العدو أمامهم، أو في الخلف، أو غير ذلك.

"فإن كان خوفٌ أشد من ذلك صلوا رجالًا على أقدامهم" يعني: إذا لم يتهيأ لهم الاصطفاف، والصلاة بالصفة التي جاءت عن النبي ﷺ قال: "فإن كان خوفٌ أشد من ذلك صلوا رجالًا على أقدامهم" يعني: وهم يمشون "أو ركبانًا مستقبل القبلة، أو غير مستقبليها، قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي ﷺ [2]" يعني: له حكم الرفع.

يقول: "في صلاة المسايفة" والمقصود بالمسايفة، يعني: الالتحام بالقتال "ولا يُنقص منها عن ركعتين في السفر" يعني رباعية، تكون ركعتين إذا كان في سفر، لكن لو كان في حضر، وحصل قتال، وخوف، فإنه لا يقصر الصلاة، يصليها أربعًا، وفي السفر لا يقصر دون ركعتين، فلا يكتفي بركعة واحدة.

قال: "وأربع في الحضر عند مالك" وقد روى مسلم عن ابن عباس - ا: "فَرَضَ الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر: أربعًا، وفي السفر: ركعتين، وفي الخوف: ركعة"[3].

وبهذا قال جماعة من السلف؛ كالحسن، وقتادة، والضحاك[4] وغيرهم، لكن الجمهور يقولون: لا تُقصر[5] يعني: في السفر لا تقل عن ركعتين، وفي الحضر أربع ركعات.

وقد قال الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه: "باب الصلاة عند مناهضة الحصون، ولقاء العدو" وذكر في ترجمة الباب، قول الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماءً كل امرئٍ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة، حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا، فيصلوا ركعتين" يعني: ممكن أن يصلي العصر بعد المغرب، أو بعد العشاء إذا ما استطاع أن يُصلي إيماءً، "فإن لم يقدروا صلوا ركعةً، وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يُجزيهم التكبير، ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبهذا قال أيضًا مكحول الدمشقي، قال أنس بن مالك - رحمه الله: حضرت مناهضة "حصن تستر" عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصلِّ إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها، ونحن مع أبي موسى الأشعري ففُتح لنا، وقال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا، وما فيها[6].

وفتح "تستر" من أعظم الفتوح في بلاد فارس؛ ولهذا يقول: "وما يسُرني بتلك الصلاة الدنيا، وما فيها" هذا لفظ البخاري بترجمة هذا الباب.

فالمقصود: أن من السلف من يقول بأنه في حالات عدم الإمكان أنه يُصلي ركعة واحدة بسجدتين، والجمهور على أنها لا تقل في السفر عن ركعتين، وفي الحضر عما هي عليه أربع ركعات، وبطبيعة الحال المغرب ثلاث، والفجر ركعتين.

فهو يصلي صلاة الخوف المعروفة بأي صفةٍ وردت عن النبي ﷺ بحسب الحال، فإن لم يستطع ففي هذه الحال يصلون مُشاةً، أو ركبانًا - وهم راكبين - مستقبلين، أو غير مستقبلين للقبلة، فإن لم يستطيعوا فبالإيماء، كأن يكون مشتغلًا أثناء القتال بمكالمة الناس، ومخاطبتهم، ومجاوبتهم، وبخاصة في الحروب الحديثة، حيث يكون معه أجهزة، واتصال مباشر طول الوقت، ولا يستطيع لحظة أن ينقطع عن المتابعة، واستقبال أوامر، وتوجيه المقاتلين، فهو يستقبل، ويُرسل، لا يستطيع أن يُصلي حتى إيماءً؛ لأنه لا يستطيع أن ينقطع عن الاستقبال، والإرسال في الكلام، يعني ليست يده هي التي تشتغل حتى نقول: صل بحسب حالك، ففي هذه الحال ماذا يصنع؟ سيخرج الوقت، والقتال على أشُده، ففي هذه الحالة لهم أسوة بما حصل في فتح تستر، مع هؤلاء الصحابة أبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك حيث أخروا الصلاة.

وكذلك استدلوا بما، وقع للنبي ﷺ يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى[7] فما صلى العصر إلا بعد خروج الوقت.

"قوله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:239] الآية: قيل المعنى: إذا زال الخوف، فصلوا الصلاة التي علمتموها، وهي التامة، وقيل: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ هذه الصلاة التي تجزئكم في حال الخوف، فالذكر على القول الأوّل بمعنى: الصلاة، وعلى الثاني بمعنى: الشكر".

"قوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية: قيل المعنى: إذا زال الخوف فصلوا الصلاة التي علمتموها، وهي التامة" وهذا اختيار ابن كثير - رحمه الله[8] يعني: إذا ارتفع العذر فصلوا الصلاة المعهودة، كما علمكم الشارع بالقيام، والركوع، واستقبال القبلة... إلى آخره، كما قال الله تعالى في صلاة الخوف: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] فتُقام في وقتها، وعلى صفتها التي شُرعت ابتداءً.

"وقيل: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ هذه الصلاة التي تجزئكم في حال الخوف، فالذكر على القول الأوّل بمعنى: الصلاة، وعلى الثاني بمعنى: الشكر" وعلى قول ابن كثير فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يعني صلوا على الهيئة الشرعية المستقرة في الأحوال العادية. 

وعلى المعنى الثاني فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ تكون (الكاف) على المعنى الأول: للتشبيه، اذكروا الله على الصفة التي علمكم فيها، وعلى المعنى الثاني: تكون للتعليل، اذكروا الله كما علمكم؛ لكونه علمكم هذه الصلاة التي فيها رفع الحرج، والتخفيف في حال الخوف، فيُشكر على هذا الترخيص، والتوسعة على عباده فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ كيف تصلون في حال الخوف، فلم يطالبكم بها على وجهٍ يشق عليكم، أو يتعذر، أو يحصل بسببه وقوع ضرر محقق، أو فوت مصالح كبرى.

  1.  عيون المسائل للقاضي عبد الوهاب المالكي (ص:154).
  2.  أخرجه مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن الشيباني (ص:103 - 290).
  3.  أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب صلاة المسافرين، وقصرها برقم: (687).
  4.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/656).
  5. المصدر السابق (1/657).
  6.  صحيح البخاري (2/15).
  7.  سبق تخريجه.
  8.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/657).

مرات الإستماع: 0

لما أمر الله -تبارك وتعالى- بالمحافظة على الصلوات، بحفظ أركانها، وشروطها، وواجباتها، ومستحباتها، وخصَّ من ذلك الصلاة الوسطى، وهي صلاة العصر: أمر بعد ذلك بالقيام لله -تبارك وتعالى- قانتين؛ وذلك يشمل الصلاة في حال القيام، وأيضًا ألا يتكلم في الصلاة.

وذكرنا أن النبي ﷺ كان يرد على أصحابه، وهو يُصلي، ثم جاء المنع من ذلك، فقال الله -تبارك وتعالى- بعدها: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:239] فإن خفتم أي: في حال الخوف والقتال، وفي حال مُصافاة العدو، ففي هذه الحال يصلون صلاة الخوف، على الحال التي يتمكنون منها، وقد لا يتمكنون من الصلاة إلا وهم في حال من الركوب إن كانوا رُكبانًا على الدواب، أو مُشاة على الأقدام، فيصلون وهم يمشون، وكذلك الصلاة في حال التحام القتال، فالصلاة لا تُترك في أشد الحالات، فيُصلي على أي هيئة يستطيع، ولو بالإيماء، ولو إلى غير جهة القبلة، فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فإذا ارتفع الخوف وزال، فصلوا صلاة الأمن، واذكروا الله -تبارك وتعالى- فيها، ولا تنقصوها عن هيئتها التي شرعها، كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ وهذا يستوجب الشكر لله -تبارك وتعالى، حيث علم عباده ما لم يكونوا يعلمون من أمور العبادات، والأحكام، والمُعاملات.

فيُؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: التنبيه على أن حالة الخوف والشدة لا تكون عذرًا في ترك الصلاة، ولكنها قد تكون عذرًا لترك القيام، أو الاستقبال، فهذا يدل على أهمية الصلاة، وقد شُرعت صلاة الخوف جماعة، فإذا كان ذلك في الخوف فهو في الأمن أوجب؛ وذلك يدل على أهمية صلاة الجماعة.

ويُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: فَإِنْ خِفْتُمْ جاء بـ(إن) التي تدل في اللغة على وقوع الشيء قليلاً، أو نادرًا، فهذا خلاف الأصل، يعني: الخوف، لكن في قوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:239] فلم يقل: فإن أمنتم؛ وذلك أن الأمن هو الأصل، والخوف عارض، فجاء بـ(إذا) التي تُنبأ عن تحقيق وقوع الأمن، وكثرته، وهذا من بلاغة القرآن.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا: رحمة الشارع بعباده، وأن هذه الشريعة مبنية على التيسير، ففي حال الخوف يصلون بحسب ما يتيسر لهم، وكذلك المريض فإنه يصلي بحسب ما يتيسر له، فإذا كان يستطيع أن يُصلي قائمًا صلى قائمًا، وإلا فإنه يُصلي قاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب، وإذا كان يستطيع استقبال القبلة، فيجب عليه أن يستقبلها، وإذا كان لا يستطيع ذلك سقط عنه هذا الشرط، كل ذلك من رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده، لكن الصلاة لا تسقط عنه طالما أنه يعقل، يعني: أن عقله معه، ومن هنا نعلم ما يقع لكثير من المرضى -عافى الله الجميع- حيث قد يترك الواحد منهم الصلاة بحجة أنه لا يستطيع استقبال القبلة، أو لا يستطيع الطهر، فإنه إذا عجز عن الطهارة بالماء فإنه يتيمم، فإن لم يستطع الطهارة بالماء ولا التيمم، فإنه يُصلي بحسب حاله، وإذا كانت الصلاة تشق عليه، فإنه يجمع بين الصلاتين، لكن المريض لا يقصر إنما القصر للمسافر.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا: بيان حال الإنسان، وأن الأصل فيه الجهل، فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وكذلك أيضًا فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ فيمكن أن تكون الكاف هنا تدل على مقابلة نعمة الله  بالتعليم، حيث علمنا ما لم نكن نعلم، فنذكره لذلك شكرًا، وأداء لبعض حقه، ويمكن أن تكون لمعنىً، وهو أن يُذكر ويُعبد -تبارك وتعالى- على الصفة التي شرعها، كما علمكم، أي: اذكروه كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون.

والله -تبارك وتعالى- لا يُعبد إلا بما شرع، والنبي ﷺ يقول: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[1]، فيأتي بالعبادة على الوجه المشروع.

وكما ذكرنا ذلك في قوله -تبارك وتعالى- في آيات الصيام: كَمَا هَدَاكُمْ [سورة البقرة:198] ففي أحد المعاني التي تحتملها الآية: على الوجه الذي هداكم إليه، فتقع العبادة على الوجه الذي شرعه الله ، وتقدست أسماؤه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور برقم: (1718).