يعني هذا من باب اللازم - مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها -، وإلا فأصل معنى رِجَالاً الذين يسيرون على أقدامهم كما قال سبحانه: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [سورة الحج:27] يعني على أرجلهم راجلين، أَوْ رُكْبَانًا يعني كل من ركب شيئاً فإنه يقال له: راكب، والخلاصة أنه رخص لهم ذلك في حال الحرب، فمن مقتضيات ذلك أنهم يصلون على أحوال مختلفة من حيث جهة الاستقبال، والله أعلم.
"كما قال مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً على أقدامهم، أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي ﷺ، ورواه البخاري - وهذا لفظه - ومسلم".
إذا كان الناس يستطيعون أن يصلوا صلاة الخوف في حالة عدم المواجهة على الهيئات الواردة عن النبي ﷺ جماعة مع استقبال القبلة فهذا هو المطلوب، وأما في حال المواجهة فلا يمكن أن يصلوا جماعة بالطريقة التي وردت، فعندئذ يصلون فرادى بحسب ما يتيسر لهم.
"وروى مسلم وأبو داود، والنسائي وابن ماجه، وابن جرير عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم ﷺ في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، وبه قال الحسن البصري، وقتادة والضحاك وغيرهم".
هذا قول معروف لطائفة من السلف، فقد جعلوا الركعة تجزئ عن الفرض في حال الالتحام والخوف الشديد، وخالف الجمهور في ذلك فقالوا: إن الصلاة لا تختصر في الخوف، فإذا لم يتيسر له الركوع فيومئ إيماء، وإذا لم يتيسر له الإيماء فهل يصلي بمجرد التكبير وهو قائم؟ خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يرى أنه يصلي؛ واستدلوا بقوله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [سورة التغابن:16]، ومنهم من يرى أنه لا يصلي ولو خرج الوقت، ويحتجون على ذلك بأن النبي ﷺ في يوم الأحزاب لم يصل العصر إلا بعد غروب الشمس، واستدرك هذا الدليل بأنهم لشدة ما وقع عليهم في ذلك الموقف كأنهم نسوا الصلاة، أو كأنهم شغلهم العدو عنها فلم يتفطنوا لها، وهذا واضح جلي من رواية الحديث.
وبعض أهل العلم مثل ابن جرير الطبري - رحمه الله - يقول: "لا أحب له أن يختصر الصلاة إلى ركعة واحدة، فإن اضطر إلى ذلك فتجزئه ركعة ذات سجود، وركوع".
"وقال البخاري: باب الصلاة عند مناهضة الحصون، ولقاء العدو.
وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة؛ صلوا إيماء كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير، ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول، وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تُستَر"
في بلاد فارس.
"عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصلِّ إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، قال أنس: "وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها"، هذا لفظ البخاري.
وقوله: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ [(239) سورة البقرة] أي: أقيموا صلاتكم كما أمرتم، فأتموا ركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، وخشوعها، وهجودها.
فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ أي: مثل ما أنعم عليكم، وهداكم، وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقابلوه بالشكر والذكر، كقوله بعد صلاة الخوف: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [سورة النساء:103]، وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف، وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ [سورة النساء:102].