الإثنين 26 / ربيع الأوّل / 1446 - 30 / سبتمبر 2024
كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

المصباح المنير مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:241] قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزل قوله تعالى: مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:236]، قال رجل: إن شئتُ أحسنت ففعلت، وإن شئت لم أفعل، فأنزل الله هذه الآية: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة".
وأيضاً يحتج بها من ذهب إلى استحباب المتعة لكل مطلقة لا الوجوب، وعللوا ذلك بأن المطلقة قبل الدخول بها تعطى نصف الصداق المسمى لها كما قال الله : فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [سورة البقرة:237] فيكفيها ما أخذت، وأن الله - سبحانه - لم يسم لها متعة في الآية، فلا تستحقها، وعمموا هذا الحكم على المرأة التي طلقت بعد الدخول بها؛ لأنها أخذت من المهر في مقابل ما استحل من بضعها، فلا تستحق معه شيئاً.
لكن الذي يظهر أن الرجل مطالب بأن يمتع المرأة المطلقة شيئاً يجبر خاطرها به، سواء كانت تلك المرأة مطلقة قبل الدخول، أو بعد الدخول؛ لأن الله عم ذلك بقوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ، وتعقب على القائل بأن تلك الحالة ذكرت بمفردها ولم تذكر في بعض صور الطلاق، وبأن الله قد يذكر الحكم في موضع ولا يلزم منه أن يورده في جميع المواضع، والله تعالى أعلم.
قوله سبحانه: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ مفهوم المخالفة في الآية غير مراد، فلا يجعل المعنى: أن هذا الحق على المتقين، أما غير المتقين فلا يجب عليهم؛ لأن التقوى منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، وهذا الأمر بالإمتاع في الآية من تقوى الله الواجبة.
"سواء كانت مفوِّضة، أو مفروضاً لها".
المفوِّضة: هي التي لم يفرض لها صداق معين فهذه تعطى المتعة بنص الآية.
"أو مطلقاً قبل المسيس، أو مدخولاً بها، وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف، واختاره ابن جرير، وقوله تعالى: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة:236] من باب ذكر بعض أفراد العموم.
وقوله: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ [سورة البقرة:242] أي: في إحلاله، وتحريمه، وفروضه، وحدوده فيما أمركم به، ونهاكم عنه، بيّنه، ووضحه، وفسره، ولم يتركه مجملاً في وقت احتياجكم إليه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تفهمون، وتتدبرون".

مرات الإستماع: 0

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:242] بمثل هذا البيان الواضح يُبين الله لكم سائر أحكامه، وكل ما تحتاجون إليه من أمور المعاش والمعاد، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ من أجل أن تعقلوا ما فيه نفعكم وصلاحكم ورفعتكم ونجاتكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ فيُؤخذ من هذه الآية: أن الله قد بيَّن غاية البيان، فليس لأحد أن يدعي أن القرآن فيه ما لا يُعرف معناه، كما يقول أصحاب المُتشابه المُطلق في المعاني، حيث يقولون: يوجد في القرآن مواضع لا يعرف معناها أحد، لا الرسول ﷺ، ولا غير الرسول -عليه الصلاة والسلام، كيف هذا والله قد بيَّن غاية البيان؟

وكذلك قول من يقول: بأن أعظم ما في القرآن، وهي الآيات التي تتحدث عن أوصاف الله أنها مُشكلة، وأنها توقع في الاشتباه، أو أنه لا يُدرى هل المُراد بها الظاهر أو غير الظاهر؟ فهذا خلاف البيان، وكذلك من يدعي أن حملها على الظواهر المُتبادرة أنه من أصول الكفر، كما يدعيه بعض المُفترين من أهل البدع، فكيف يكون حمل ذلك على الظاهر المُتبادر من أصول الكفر؟! والله قد بيَّن غاية البيان، وهذا أعظم ما يُبيَّن وهو صفات المعبود، الدالة على وحدانيته وعظمته، ثم يُترك ذلك بما يُوهم الكفر، إن حُمل على ظواهره فيحتاج إلى تحريف يسمونه تأويلاً من أجل أن يُقبل.

وفي قوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هذا فيه بيان منزلة العقل، فبه يتوصل إلى فهم النقل، وهذا هو المنزلة الصحيحة للعقل، لا يمكن أن يُفهم النقل والوحي إلا بالعقل، ولكن الخطأ هو أن يُعطى العقل أكبر من حجمه، فيُجعل النقل تابعًا له، فهذا هو الانحراف؛ وذلك يدل أيضًا أن الله -تبارك وتعالى- يُريد من عباده أن يعقلوا عنه المعاني، وهذا يدل على أهمية التفقه في الدين، والعلم بمعاني القرآن والتفسير، والطريق إلى ذلك هو التدبر لهذا القرآن، من أجل أن يعقل الإنسان عن الله -تبارك وتعالى.