فالاستفهام في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ استفهام تقريري، والرؤية المذكورة رؤية قلبية بمعنى العلم.
والباري سبحانه إنما أورد هذه القصة ليبين لهم قدرته على إحياء الموتى، وللتدليل على إمكانية البعث بعد النشور الذي أنكره المشركون من قريش وغيرهم، وقد ذكر الله قدرته على ذلك في خمسة مواضع من سورة البقرة:
الموضع الأول: قوله سبحانه: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56].
الموضع الثاني: قوله سبحانه: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73] والمعنى: أن الله سبحانه أمرهم بضرب القتيل الذي اختلفوا في قاتله ببعض البقرة التي أُمر بنو إسرائيل بذبحها، فضربوه بجزء منها، فرد الله عليه روحه، فتكلم، وأخبرهم بقاتله، وبيَّن سبحانه أن في هذه القصة دليلاً على إحيائه الموتى لذوي العقول.
الموضع الثالث: قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ [سورة البقرة243:].
الموضع الرابع: قوله سبحانه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [سورة البقرة:259].
الموضع الخامس: قوله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:260]، فهذه خمسة مواضع ذكرها الله في الإحياء بعد الإماتة، وهذا الاستدلال ما هو إلا نوع من الأدلة القرآنية التي يستدل بها على البعث والإحياء بعد الإماتة.
ومن أنواعه: الاستدلال على إحياء الأرض بعد موتها بالبعث بعد النشور كما قال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة فصلت:39].
والآية إنما سيقت لبيان معنى وهو الحث على الجهاد، فلا يترك من أجل استبقاء النفوس والمهج، فإن الآجال لا بد أن تقع كما حددها الله دون أن تتقدم أو تتأخر، فهؤلاء لما فروا من الموت قَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ.
ولا بد من العلم أن هذه الروايات التي ذكرها ابن كثير والتفاصيل لا دليل عليها، ولا طائل من تحتها، وهي مما أخذ من بني إسرائيل، فلا سبيل للوصول إلى معرفة أسانيدها، ثم إن بينها من التناقض ما لا يخفى على مطّلع، مما يؤكد دخول التحريف والكذب في هذه الروايات، فيحسن عدم الاعتماد عليها في التفسير، والنقل، والله أعلم.
"وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم، وأصابهم بها وباء شديد، فخرجوا فراراً من الموت هاربين إلى البرية، فنزلوا وادياً أفيح، فملئوا ما بين عدوتيه؛ فأرسل الله إليهم ملكين، أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه، فصاحا بهما صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد، فحيزوا إلى حظائر، وبني عليهم جدران وقبور، وفنوا، وتمزقوا، وتفرقوا، فلما كان بعد دهر مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فسأل الله أن يحييهم على يديه، فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يقول: "أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي"، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: "أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً، وعصباً، وجلداً" فكان ذلك وهو يشاهده، ثم أمره فنادى: "أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره" فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، وهم يقولون: "سبحانك لا إله إلا أنت".
وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، ولهذا قال: إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي: فيما يريهم من الآيات الباهرة، والحجج القاطعة، والدلالات الدامغة وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم، وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لا يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فراراً من الوباء طلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم، وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد، ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بصرح لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فذكر الحديث، فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً لبعض حاجته فقال: "إن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه[1]، فحمد اللهَ عمرُ ثم انصرف، وأخرجاه في الصحيحين".
الشاهد من الرواية قوله ﷺ: إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، لأن هذا الخروج لن ينفعكم، وما بعده لا يعارضه، فهذا من باب بذل السبب، مع أن المقدر لا بد أن يقع، ولذا يحكى أن أعرابياً لما رأى الموتى في القرى خاف، فسأل: كيف السبيل إلى التوقي منه؟ فقيل له: إن القرى يكثر فيها الوباء، وعليك بالبوادي، فخرج إلى البادية يطلب العافية، فوجد قبرين عند كثيب فقال:
ونبأتماني أنما الموت في القرى | فكيف وهذي هضبة وكثيب |
- رواه البخاري بلفظ آخر في كتاب الطب - باب ما يذكر في الطاعون برقم (5397) (5/2163)، ومسلم في كتاب السلام - باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها برقم (2218) (4/1737)، ورواه أحمد في مسنده برقم (1683) (1/194).