الإثنين 26 / ربيع الأوّل / 1446 - 30 / سبتمبر 2024
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُوا۟ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُوا۟ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ۝ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۝ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة:243-245]: "روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانوا أهل قرية يقال لها: داوردان، وقال علي بن عاصم: كانوا من أهل داوردان قرية على فرسخ من قبل واسط، وروى وكيع بن الجراح في تفسيره عن ابن عباس: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم: موتوا، فماتوا، فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم فذلك قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ الآية".
فالاستفهام في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ استفهام تقريري، والرؤية المذكورة رؤية قلبية بمعنى العلم.
والباري سبحانه إنما أورد هذه القصة ليبين لهم قدرته على إحياء الموتى، وللتدليل على إمكانية البعث بعد النشور الذي أنكره المشركون من قريش وغيرهم، وقد ذكر الله قدرته على ذلك في خمسة مواضع من سورة البقرة:
الموضع الأول: قوله سبحانه: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۝ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة البقرة:56].
الموضع الثاني: قوله سبحانه: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۝ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة البقرة:73] والمعنى: أن الله سبحانه أمرهم بضرب القتيل الذي اختلفوا في قاتله ببعض البقرة التي أُمر بنو إسرائيل بذبحها، فضربوه بجزء منها، فرد الله عليه روحه، فتكلم، وأخبرهم بقاتله، وبيَّن سبحانه أن في هذه القصة دليلاً على إحيائه الموتى لذوي العقول.
الموضع الثالث: قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ [سورة البقرة243:].
الموضع الرابع: قوله سبحانه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [سورة البقرة:259].
الموضع الخامس: قوله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:260]، فهذه خمسة مواضع ذكرها الله في الإحياء بعد الإماتة، وهذا الاستدلال ما هو إلا نوع من الأدلة القرآنية التي يستدل بها على البعث والإحياء بعد الإماتة.
ومن أنواعه: الاستدلال على إحياء الأرض بعد موتها بالبعث بعد النشور كما قال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة فصلت:39].
والآية إنما سيقت لبيان معنى وهو الحث على الجهاد، فلا يترك من أجل استبقاء النفوس والمهج، فإن الآجال لا بد أن تقع كما حددها الله دون أن تتقدم أو تتأخر، فهؤلاء لما فروا من الموت قَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ.
ولا بد من العلم أن هذه الروايات التي ذكرها ابن كثير والتفاصيل لا دليل عليها، ولا طائل من تحتها، وهي مما أخذ من بني إسرائيل، فلا سبيل للوصول إلى معرفة أسانيدها، ثم إن بينها من التناقض ما لا يخفى على مطّلع، مما يؤكد دخول التحريف والكذب في هذه الروايات، فيحسن عدم الاعتماد عليها في التفسير، والنقل، والله أعلم.
"وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم، وأصابهم بها وباء شديد، فخرجوا فراراً من الموت هاربين إلى البرية، فنزلوا وادياً أفيح، فملئوا ما بين عدوتيه؛ فأرسل الله إليهم ملكين، أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه، فصاحا بهما صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد، فحيزوا إلى حظائر، وبني عليهم جدران وقبور، وفنوا، وتمزقوا، وتفرقوا، فلما كان بعد دهر مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فسأل الله أن يحييهم على يديه، فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يقول: "أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي"، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: "أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً، وعصباً، وجلداً" فكان ذلك وهو يشاهده، ثم أمره فنادى: "أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره" فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، وهم يقولون: "سبحانك لا إله إلا أنت".
وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، ولهذا قال: إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي: فيما يريهم من الآيات الباهرة، والحجج القاطعة، والدلالات الدامغة وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم، وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لا يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فراراً من الوباء طلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم، وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد، ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بصرح لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فذكر الحديث، فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً لبعض حاجته فقال: "إن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه[1]، فحمد اللهَ عمرُ ثم انصرف، وأخرجاه في الصحيحين".

الشاهد من الرواية قوله ﷺ: إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، لأن هذا الخروج لن ينفعكم، وما بعده لا يعارضه، فهذا من باب بذل السبب، مع أن المقدر لا بد أن يقع، ولذا يحكى أن أعرابياً لما رأى الموتى في القرى خاف، فسأل: كيف السبيل إلى التوقي منه؟ فقيل له: إن القرى يكثر فيها الوباء، وعليك بالبوادي، فخرج إلى البادية يطلب العافية، فوجد قبرين عند كثيب فقال:
ونبأتماني أنما الموت في القرى فكيف وهذي هضبة وكثيب
وصدق الله: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78].
  1. رواه البخاري بلفظ آخر في كتاب الطب - باب ما يذكر في الطاعون برقم (5397) (5/2163)، ومسلم في كتاب السلام - باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها برقم (2218) (4/1737)، ورواه أحمد في مسنده برقم (1683) (1/194).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ رؤية قلب إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [البقرة:243] وهم قوم من بني إسرائيل".

يعني الاستفهام في قوله: أَلَمْ تَرَ للتقرير، وكونها رؤية قلب هذا الواقع؛ لأن النبي ﷺ لم يشاهد ذلك، فتكون بمعنى: ألم تعلم؟

"أمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتال، فخرجوا من ديارهم فرارًا من ذلك، فأماتهم الله؛ ليُعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، وقيل: بل فرّوا من الطاعون".

هذا من جملة المبهمات، ومضى الكلام على شيءٍ من هذا، والسُهيلي له كتاب مشهور: "التعريف، والإعلام" والعلماء بعده زادوا عليه، وذكرت في بعض المناسبات بأن تتبع المبهمات، أن ذلك لا يحصل منه فائدة تُذكر، اللهم إلا في مواضع قليلة جدًا: كدفع التهمة، أو بيان منقبة، وإلا فالغالب أنه لا فائدة فيه.

فقوله هنا: بأن هؤلاء من بني إسرائيل أُمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتال، فخرجوا من ديارهم فرارًا من ذلك، فأماتهم الله، فهذه رواية عن ابن عباس - ا - والضحاك[1]: أنهما من بني إسرائيل فروا من القتال.

"وقيل: بل فرّوا من الطاعون" وهذه رواية أخرى عن ابن عباس - ا[2].

وذكر بعض السلف: أنهم استوخموا أرضهم، وأصابهم، وباء شديد، فخرجوا فرارًا من الموت، هاربين إلى البرية، فنزلوا، واديًا أفيح، فملئوا ما بين عدوتي الوادي، فأرسل الله إليهم ملكين، أحدهما من أسفل الوادي، والآخر من أعلاه، فصاحا بهم صيحةً واحدة، فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد[3] والله أعلم أي ذلك كان، لكنه لا يترتب عليه ثمرة من جهة الاعتبار، والعمل.

والمقصود: أنهم خرجوا فرارًا من الموت، سواءً كان القتل، أو الطاعون، أو استوخموا أرضهم، وأصابهم فيها اعتلال، وأنه لا ينجي حذرٌ من قدر قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ما قال: مدرككم، أو ملاحقكم، أو...، لا بل قال: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8] وقال: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] فالموت مُدرِك لا محالة في الوقت، والمكان الذي قدره الله ومهما كان عند الإنسان من الحذر، فإن ذلك لا يُغير من قدر الله - تبارك، وتعالى - وليس معنى ذلك ترك الأسباب، ولكن ذلك يبعث على طمأنينة القلب، والصبر، والرضا بقضاء الله .

وكما هو معلوم في القضاء، والقدر إذا كان ذلك مما يمكن مدافعته بقدر الله، فإنه يدافع مثل: الجوع يُدافع بالأكل، والعطش يُدافع بالشرب، والمرض إذا كان يوجد له علاج، ودواء فإنه يُدافع بذلك، فنفر من قدر الله إلى قدر الله، لكن لا نركن إلى الأسباب، وأما إذا كان مما لا يمكن دفعه؛ كموت قريب، أو نحو ذلك، فهنا ليس أمام الإنسان إلا التسليم، والصبر، فهذا مما لا يمكن دفعه، ذهب المال، أو خسر في تجارته، أو نحو ذلك، فلا ينبغي أن تذهب نفسه حسرات؛ لأن الحزن لن يرد فائتًا.

وكذلك أيضًا القلق الدائم، فهذا لا يُغير من قدر الله، فعلى الإنسان أن يعيشه في حاله من الاطمئنان، والرضا القلبي، ولا تبقى نفسه مضطربة دائمًا، يفكر في المستقبل، ويقلق مما ينتابه، أو قد ينتابه، ويتخوف من المجهول كما يُقال؛ لأن ذلك لن يُغير من قدر الله، فهذه الأشياء إذا كانت مقدرة على الإنسان فهي ستقع، وقع له قلق، أو لم يقع، وإن كانت لم تُقدر فلن تقع، ولن يدفع ذلك القلق، فالقلق على المستقبل الذي يسمى الخوف، والحزن على الماضي، فلا الحزن يرد الفائت، ولا الحذر، أو القلق يتقي به قدر الله - تبارك، وتعالى - المحتوم، فالطريق إذًا هو الصبر، والرضا، والتسليم بأقضية الله والثقة به، والاطمئنان إليه، وترك الاشتغال بما لا يكون إلى العبد، فالكون يدبره حكيم عليم، فدع التدبير له، وما عليك إلا أن تجتهد في التقرب إليه، وطاعته، وعبادته إلى أن يوافي الأجل، لا تقلق ما الذي سيحصل بعد قليل، أو غدًا، أو الأسبوع القادم، أو الشهر القادم، أو السنة القادمة، لا تشتغل بهذا، الكون يدبره حكيمٌ، عليمٌ، خبير، لطيف، رحيم، فثق به، ولا تقلق، فلن يحصل هناك شيء من الخلل، وسوء التدبير، فالله منزه عن هذا - والله المستعان -.

"قوله: وَهُمْ أُلُوفٌ جمع ألف، قيل: ثمانون ألفًا، وقيل: ثلاثون ألفًا، وقيل: ثمانية آلاف، وقيل: هو من الألفة، وهذا ضعيف".

فهذا التفاوت، من ثمانين ألف إلى ثمانية آلاف، هذه كلها مبنية على أخبار بني إسرائيل، ولا شك أن أحد هذه الأخبار كذب، وقد تكون جميع هذه الأخبار كذب، فالله لم يذكر العدد، ولو كان يترتب عليه فائدة لذكره، وأما ما ذكره هنا من تفسير الألوف أنه من الألفة، فهذا بعيد، يعني وَهُمْ أُلُوفٌ وهم في حال من التآلف. هذا بعيد، ولا يصح أن يُفسر القرآن بغير الظاهر المتبادر إلا بدليل.

"قوله: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [البقرة:243] عبارةٌ عن إماتتهم".

 

قوله: "عبارةٌ عن إماتتهم" هذا لا يخلو من إشكال، فنقول: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فيه إثبات القول لله  وإثبات صفة الكلام على ما يليق بجلاله، وعظمته، هذا ظاهر اللفظ فَقَالَ فالقول في اللغة هو: مجموع اللفظ، والمعنى، ولكن المتكلمين - كما هو معروف - لا يثبتون الكلام لله أصلًا، فالجهمية المحضة، والمعتزلة، يقولون: مخلوق، وأما الأشاعرة فإنهم يثبتون الكلام بجملة الصفات التي يثبتونها، لكنهم في الحقيقة ينفونها، فيقولون: القرآن كلام الله، ويقصدون المعنى، وهو معنًى واحد قائم في النفس، يعني: هو شيء لا يتصور في الواقع، فهذا الذي أثبتوه، لكن الألفاظ: فالأشاعرة يقولون: مخلوقة، وحادثة، وإن اختلفوا في ذلك، فبعضهم يقول: خلقه الله في الهواء، وبعضهم يقول: هو كلام جبريل، وبعضهم يقول: كلام النبي ﷺ فهم يوافقون المعتزلة بأن الألفاظ مخلوقة، ويقررون هذا في كُتبهم، وذكر هذا صاحب شارح الجوهرة، وقال: لكننا لا نقول مثل هذا إلا في مجلس التعليم، ولا نقوله لعامة الناس، كأنهم يخافون الشناعة، فالواقع: أنهم يوافقون المعتزلة.

وذكرنا من قبل أن المؤلف - رحمه الله - أنه لا يطرد على قول المتكلمين، وقول الأشاعرة في كل المواضع، فتارةً، وتارة، فالقول هنا بأن قوله: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا عبارة عن إماتتهم، يعني ليس ثمة قول، وهذا خلاف ظاهر القرآن.

"وقيل: إن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا" مثل ما ذكره بعض السلف، وهم أخبار بني إسرائيل؛ لما نزلوا في الوادي، فجاء ملكان... إلى آخره[4] لكن قوله: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ هذا من قول الله  فكيف يُقال ذلك من قول الملكين؟ - والله أعلم -.

"ثُمَّ أَحْيَاهُمْ قال ليستوفوا آجالهم."

"فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا [البقرة:243] عبارة عن إماتتهم".

هذا مضى الكلام عليه، وهذه إماتة حقيقة ثُمَّ أَحْيَاهُمْ من أجل أن يُبيَّن الله ويُظهر قدرته على إحياء الموتى، وأنه على كل شيءٍ قدير، وأن الحذر لا ينجي من القدر.

وذكره المؤلف هنا "ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ليستوفوا آجالهم" لا إشكال، لكن الإماتة، والإحياء من أجل إظهار قدرة الرب - تبارك، وتعالى - على البعث، وأيضًا أن الحذر لا يُنجي من القدر - والله أعلم -. 

  1.  تفسير ابن أبي حاتم (2/456).
  2.  المصدر السابق (2/456).
  3.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/661).
  4.  سبق تخريجه.

مرات الإستماع: 0

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ۝  وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:243، 244] ابتدأت هذه الآية بهذا الاستفهام التقريري، الذي في ظاهره أنه خطاب موجه للنبي ﷺ، وهو صالح للأمة، والأمة قد تُخاطب بشخص مُقدمها -صلى الله عليه وآله وسلم، أَلَمْ تَرَ والرؤية هنا المقصود بها العلمية، يعني: ألم تعلم قصة وخبر الذين فروا من أرضهم ومنازلهم وديارهم، وهم ألوف كثيرة، حذر الموت، والله أعلم ما الذي كان، والمرويات في هذا الباب مرجعها إلى أخبار بني إسرائيل، بعضهم يقول: فروا من الطاعون، وبعضهم يقول: فروا من القتال في الحرب، وبعضهم يقول: فروا من بلادهم التي استوخموها، فخرجوا إلى وادٍ أفيح، فنزلوا فيه، وملئوا ما بين عدوتي الوادي، وهذه الروايات لا يُعتمد على شيء منها.

ويقال: إن الله أرسل إليهم ملكين، فكان أحدهما في أسفل الوادي، والآخر في أعلاه، فصاحا بهم فماتوا، ثم إن الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك أحياهم في خبر لا حاجة لذكر تفاصيله؛ لأن ذلك مما لا يُقطع بصحته، والشاهد أنهم خرجوا حذر الموت، فقال لهم الله موتوا، فماتوا جميعًا، فروا من قدر الله ، فأدركهم الموت، ثم أحياهم الله -تعالى- بعد مدة؛ ليستوفوا الآجال، ويتعظوا ويعتبروا؛ وليكون ذلك آية لهم ولغيرهم بإحياء الله -تبارك وتعالى- الموتى، وهذا أيضًا آية في أن قَدَر الله -تبارك وتعالى- لا بد أن يُدرك العبد لا محالة.

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بنِعمه عليهم المتواترة، وبهذا البيان الذي بينه، والآيات الواضحات، والدلائل الباهرات، الدالة على قدرته، وأنه يُحيي الموتى، فيُريهم من الآيات ما يحصل به العلم واليقين؛ وذلك من فضله ورحمته بعباده، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لا يشكرون فضل الله عليهم، ولا ينتفعون بهذا الإنعام والإفضال والبيان.

ويُؤخذ من هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ أن النبي ﷺ مع منزلته لا يعلم الغيب، وهذا من الغيوب الماضية، يعني: الغيب النسبي الذي يعلمه بعض الخلق، فالله يُخبر نبيه ﷺ عن أمور وقعت، وقد وُجد ما وُجد منها في كتب بني إسرائيل، ويُعلمه ما لم يكن يعلم، وهذا من فضل الله على نبيه ﷺ، وعلى هذه الأمة التي علمها بعد الجهالة، وعلى سائر الأُمم، حيث إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ هذه الألوف أعداد كثيرة مما يدل على وجود الخوف والهلع في نفوس أكثر الخلق، وهذا أمر واقع ومُشاهد، ولكن الكثيرين لا يتبينونه إلا إذا وقع لهم المكروه، يعني: في أيام العافية قد يشعر الإنسان أنه قوي وثابت، ورابط الجأش، ولكن إذا وقع له المكروه، حصل منه الهلع والجزع والضعف ما لا يُقادر قدره.

وبعض المفسرين قال: وهم ألوف، يعني: من الإلف، يعني: أنهم في حال من التآلف، لكن هذا المعنى ذكرنا أنه بعيد في كلام على هذه الآية في دروس سابقة من المصباح المنير، وإن قاله بعض المفسرين، لكنه ضعيف، لكن المقصود الذي فيه العبرة هو أنه لا يُنجي من قدر الله ، لا تآلف، ولا حذر، وليس معنى ذلك أن يتفرق الناس، أو أن يترك الإنسان الأسباب، لكن يعمل الأسباب، ولا يركن إليها، ولا يترك أمر الله  خوفًا من الناس، فرزقه وأجله كله بيد الله -تبارك وتعالى.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية الكريمة: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ أن الخوف والهلع والجزع بل والحذر لا يُنجي من القدر، فالخوف لا يحفظ الحياة، والاحتياط لا يكون سابقًا لقدر الله -تبارك وتعالى، ولكن على العبد أن يبذل الأسباب اعقلها وتوكل[1]، ويتجنب الأخطار، ويتطلب الأسباب في مُدافعة قدر الله -تبارك وتعالى، فيما يُمكن مُدافعته، كالجوع والعطش يُدفعان بالأكل والشرب، والعِلل والأمراض يطلب لها الدواء، تداووا عباد الله[2]، وهكذا الدعاء، ونحو ذلك، وأما الحياة فهي بيد الله -تبارك وتعالى، لا تحصل بجُهد العباد، وخالد بن الوليد  عند موته قال مقالته المشهورة: "لقد لقيت كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح؛ فها أنا أموت على فراشي، حتف أنفي، كما يموت العير؛ فلا نامت أعين الجبناء"[3]، وكما قال الشاعر:

لو كان حي مُدرك الفلاحِ أدركه مُلاعب الرماحِ[4]

يعني: الذي يركب الأخطار، ويُقاتل، ويشهد المعارك، لو أن أحدًا يُدرك الفلاح، والمقصود بالفلاح في هذا البيت يعني البقاء، لناله مُلاعب الرماحِ، وذُكر أن أعرابيًا رأى جنازة فسأل؟ فقيل له: هذا ميت، قال: وكيف الخلاص؟ فقيل له: إن القرى يكثر فيها الوباء -القرى يعني المدن ومجمع الناس، كبيرة أو صغيرة- ولكن عليك بالبادية، فاخرج إلى البادية، فخرج إلى البادية خوفًا من الموت، فمر بقبر أو قبرين، فقال:

وقد نبأتُماني أنما الموت في القرى فكيف وهذه هضبة وكثيب؟![5]

يقول: أنا لست في قرية، هذه هضبة، وهذا كثيب، ويوجد الموت، فهذه القبور في الصحراء، فقدر الله  إذا نزل فإنه لا يرده حذر من أصحاب الحذر، ولا قوة ذي جلد، ولا عقل ذي عقل، ولا مهارة ذي حذق، وإنما على العبد أن يرضى ويُسلم، فيصبر، ويحتسب، والكل سيمضي في الوقت الذي حدد الله  فيه موته وفوته، لا يتقدم ولا يتأخر، فلا العلل والأمراض هي التي تُقدم الآجال، ولا العافية والقوة هي التي تؤخرها، النتيجة واحدة، لو أن هذا الإنسان ذهب إلى أرقى المستشفيات، وأجروا له جميع الفحوصات والتحاليل، وقالوا: أنت أصح الناس لم يتغير من أجله شيء، هو يفرح ولكن الأجل هو الأجل، ولو قالوا: قد اجتمع بك أدواء الناس لم يتغير من أجله شيء، هو نفس الأجل، فلا فِرار من قدر الله -تبارك وتعالى.

فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فيه إثبات صفة الكلام لله  على ما يليق بجلاله، وعظمته، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ هذا أحد المواضع في سورة البقرة الدالة على قدرة الله  على البعث، وهي خمسة مواضع، هذا واحد منها، وهذه الخمسة داخلة في نوع من الأنواع الدالة على قدرة الله على البعث، فهذا النوع هو الإحياء بعد الإماتة، إحياء أُناس مثل هؤلاء وهم ألوف، أو الذي مر على قرية، وهو واحد، أو الطيور التي كان إبراهيم  جزأها بأمر الله ، وقطعها، ثم دعاها إلى غير ذلك، فهذا كله يدل على قدرته الباهرة على إحياء الموتى.

وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يعني: ذو فضل، والتنكير هنا يدل على التعظيم، أي: فضل عظيم، فنبغي أن يُذكر فضله، وأن يُعرف، وأن يُشكر على ذلك، وكذلك في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ فلم يقل: ولكن أكثرهم، فأعاد لفظ الناس مُظهرًا، مع أنه يصح فيه الإضمار للدلالة على العموم، ولو قال: إن الله لذو فضل على الناس، ربما في زمن معين، أو في جيل معين، ولكن أكثرهم، أهل ذلك الجيل، لكن قال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يعني: كل الناس، وعموم الناس، فإن الأكثر منهم لا يشكرون الله -تبارك وتعالى، والشكر هو ظهور أثر النِعمة على المُنعم عليه، يُقال: شكرت الدابة إذا ظهر عليها أثر العلف، من السِمن، ويُقال: الشكير وهو الغُصن الصغير الأخضر الذي يخرج من الشجرة إذا قُطعت، زائد عليها، فالشُكر ظهور أثر النعمة على المُنعم عليه بلسانه، وقلبه، وجوارحه.

وأيضًا قوله: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ كأنه تعليل لما سبق، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يعني: بهذا الإحياء، وهذه الآية الباهرة، وأن يعتمد الناس على الله  وحده، ولا يعتمد الواحد على قُدراته واحتياطاته وإمكاناته وقدرته، وأنه يستطيع أن ينجو من قدر الله ، لا، الله -تبارك وتعالى- يفعل ما يشاء، ويحكم ما يُريد، وفي هذا حفز للنفوس على الثبات، والقيام بأمر الله ؛ ولهذا الآية التي بعدها: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:244] فإن ذلك لا يُقرب أجلاً، فهؤلاء فروا من الموت، فأدركهم الموت قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [سورة الجمعة:8] فلم يقل: فإنه يتبعكم، وإنما ملاقيكم وجهًا لوجه، تفر من الموت ويُقابلك، فلا يُقربه الشجاعة والامتثال لأمر الله ، ولا يُبعده الخوف والجبن والحذر، وما إلى ذلك، الأجل هو الأجل، تجد الرجل ربما يعمل احتياطات كثيرة جدًا إلى حد الوسوسة في طريقه، ومعاشه وشؤونه كلها، ومع ذلك قد يأتيه أجله من مأمنه، وقد يأتيه خوفه من الجهة التي أمنها.

وأيضًا في هذه الآية الكريمة: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فيه اختصار وإيجاز، وهذا من بلاغة القرآن فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فماتوا، فما ذكره، فالقرآن يحصل به طي الكلام الذي يفهمه المخاطب ثقة بفهمه، ولا يحتاج أن يُذكر كما يذكر ذلك أهل البلاغة، ويذكره غيرهم كابن جرير -رحمه الله-. 

  1. أخرجه الترمذي في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ برقم (2517) وحسنه الألباني.
  2. أخرجه ابن ماجه في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء، إلا أنزل له شفاء برقم (3436) وصححه الألباني.
  3. المجالسة وجواهر العلم (3/ 194)، (836).
  4. البيت للبيد في ديوانه (ص:30) والإتباع والمزاوجة (ص:36).
  5. البيت لكعب الغنوي، ديوان المعاني (2/ 178) والعقد الفريد (3/ 227).