الإثنين 26 / ربيع الأوّل / 1446 - 30 / سبتمبر 2024
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِۦٓ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة البقرة:248] يقول لهم نبيهم: إن علامة بركة ملْك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم".
ويمكن أن يقال: إن علامة ملك طالوت عليكم أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ والتابوت: صندوق أصله من التوب، لأنهم يرجعون إليه، وكانوا ينقلونه معهم في مغازيهم، وحروبهم.
"فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ قيل: معناه وقار وجلالة، قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: فِيهِ سَكِينَةٌ أي: وقار، وقال الربيع: رحمة، وكذلك روي عن العوفي عن ابن عباس".
للمفسرين أقوال في المراد بالسكينة بعضها في غاية التناقض والبعد، فبعضهم صور السكينة كأنها قطة في التابوت لها عيون تشع، ولها ذيل وآذان، فإذا دقت طبول الحرب أطلت برأسها ويديها، فيُفزع العدوَّ منظرُها، وينهزمون.
وبعضهم يقول: هي ريح مثل الإعصار له رأسان، كل رأس له وجه، وقيل: إنهم يسكنون إلي التابوت فيما يتصل باختلافهم على طالوت، بحيث يرتفع ذلك الخلاف وهذا الاعتراض، ولكن هذا لا يختص بهذا المعنى، والله أعلم.
ولعل من أحسن ما يفسر به قوله: فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ أن ذلك من السكون، ففي هذا التابوت من الآيات ما تسكن إليه نفوسهم، وتقوى قلوبهم على قتال عدوهم عند رؤيته، لذا كانوا يحملونه معهم في أسفارهم، ومغازيهم، ويضعونه بين أيديهم، وهذا المعنى ذكره ابن جرير في تفسيره.
آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ آل فلان يراد بها تارة فلان نفسه، وتارة يراد بها قومه أو أهله، والمقصود بالآل في الآية موسى وهارون، وهذا له شواهد في القرآن كما قال الله عن آل فرعون: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46] وأراد فرعون، ولكن لا يمنع أن يدخل في الآية قوم فرعون، وكذا قوله سبحانه: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:33] يعني الأنبياء آدم، ونوحاً، وإبراهيم، وقيل غير هذا.
"وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ روى ابن جرير عن ابن عباس في هذا الآية: وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ قال: عصاه ورضاض الألواح، وكذا قال قتادة والسدي، والربيع بن أنس وعكرمة وزاد: والتوراة، وقال عبد الرزاق: سألت الثوري عن قوله: وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ فقال: منهم من يقول: قفيز من منِّ، ورضاض الألواح، ومنهم من يقول: العصا، والنعلان".
استدل القائلون بأن البقية هي رضاض الألواح بحديث حسنه بعض أهل العلم؛ لأن الألواح - وكانت مكتوبة على زبرجد - لما ألقاها موسى تحطمت، فبقي منها سبعٌ، ورُفع الباقي، فوضعوه في التابوت.
وقيل: إن ما بقي في التابوت ليس من موسى وهارون فقط، بل من الأنبياء الذين من نسل نبي الله يعقوب ؛ لأن من نسله جاء أنبياء بني إسرائيل، والآل هم أجدادك، وهؤلاء منهم فيشملهم لفظ الآل، فكان في هذا التابوت آثار لهؤلاء الأنبياء من بني إسرائيل، والله أعلم.
"وقوله: تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ قال ابن جريج: قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون، قال السدي: أصبح التابوت في دار طالوت، فآمنوا بنبوة شمعون، وأطاعوا طالوت.
وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ أي على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ أي بالله، واليوم الآخر".

وجاء في بعض الروايات أنهم جاءوا بالتابوت تسوقه الملائكة بعربات ودواب، وهذا احتمال واضح؛ لأن الآية جاءت بلفظ الحمل وهو منتفٍ في هذه الرواية، والحقيقة أن الإسرائيليات في صفة مجيء الملائكة بهذا التابوت كثيرة، وفيها من المبالغات ما يصعب على المرء تخيله، وتصديقه، وبعضها مردود، ولذا يحسن عدم الخوض في تفاصيل الروايات الإسرائيلية؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يصل إلى نتيجة، بسبب ضعف الروايات، ولا يمكنه الاستنباط والفهم من الرواية، ثم لا فائدة تذكر في معرفة هذه التفاصيل، والله أعلم بالصواب.

مرات الإستماع: 0

"أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [البقرة:248] كان هذا التابوت قد تركه موسى عند يوشع، فجعله يوشع في البرية، فبعث الله ملائكةً حملته، فجعلته في دار طالوت، وفيه قصص كثيرة غير ثابتة".

التابوت: هو الصندوق، أو الوعاء، فبعضهم يقول: هو من التوب، يعني: الرجوع؛ لأنهم يرجعون إليه، وبعضهم يقول: هو صندوق التوراة، ويذكرون فيه أشياء، فبعضهم يقول: كان فيه عصا موسى - عليه الصلاة، والسلام - وفيه أشياء، وبعضهم يقول: بقايا من التوراة - والله تعالى أعلم -.

ويذكرون أيضًا أن التابوت كانوا ينقلونه معهم في أسفارهم، ومغازيهم، ويتوجهون إليه في صلاتهم، وأنهم إذا كانوا في البلد، وضعوه على الصخرة، فكانوا يستقبلون الصخرة التي في بيت المقدس لهذا، هكذا قالوا، والعلم عند الله وما ذُكر فيما يحويه التابوت غير ما ذكره الله - تبارك، وتعالى - فكل ذلك من أخبار بني إسرائيل.

لكن هنا قال: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248] تركه آل موسى، وآل هارون، فالظاهر أنه المقصود - والله أعلم - ما تركه موسى، وهارون، والآل قد يُطلق على الشخص نفسه أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] فالمقصود: فرعون، وأتباعه يكونون تبعًا له، حينما يُذكر الآل قد يُراد به أتباع الرجل، وقد يُراد به أهله، وقد يُراد به نفس الرجل.

"قوله تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ قيل: رمحٌ فيه رأسٌ، ووجهٌ كوجه الإنسان، وفي النسخ: ريحٌ له رأسٌ، ووجهٌ كوجه الإنسان، وقيل: طستٌ من ذهب؛ تُغسل فيه قلوب الأنبياء، وقيل: رحمة، وقيل: وقار".

قوله هنا: فِيهِ سَكِينَةٌ السكينة من السكون، والوقار، والطمأنينة، والسكينة: زوال الرعب، فأصل هذه المادة (سكن) خلاف الاضطراب، والحركة.

يعني: ما يبعث السكينة يكون سببًا لسكون قلوبهم فيما اختلفوا فيه من أمر طالوت، وحمله أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - على الشيء الذي تسكن إليه النفوس من الآيات التي يعرفونها[1] ويطمئنون إليها، أما هذه التفاصيل فالله تعالى أعلم، يعني: ما الذي يحويه هذا التابوت؟ فلم يذكر، ولو كان في هذا فائدة لذكره الله .

وأما ما يُذكر من هذه الأخبار، والمرويات الإسرائيلية، كما قال هنا: "رمح فيه رأس، ووجه كوجه الإنسان" وفي نسخة "ريحٌ" وعلى كل حال كل هذا لا دليل عليه.

"وقيل: طست من ذهب، تُغسل فيه قلوب الأنبياء، وقيل: رحمة" وهذا قال به الربيع بن أنس - رحمه الله - من التابعين[2].

"وقيل: وقار" هذا قال به قتادة[3].

لكن السكينة ليس معناها الرحمة، وإنما هي من مقتضيات الرحمة، فكأن هذا قد فسره بسببه، يعني: سبب هذه الطمأنينة التي تحصل السكينة، هي رحمة من الله بهم.

وقول قتادة بأنه، وقار هذا أيضًا قد يكون من الآثار - يعني من باب التفسير بالأثر - فإنه إذا حصلت السكينة نتج عن ذلك الوقار، والسلف قد يفسرون الشيء بسببه، وقد يفسرونه بأثره، وقد يفسرونه بجزء معناه، وقد يفسرونه بالمثال، وقد يفسرونه بلفظٍ مقارب، لكن السكينة ليس معناها الرحمة، ويدل على أنه ليس معناها الرحمة، الحديث المشهور: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده[4] السكينة غير الرحمة.

"قوله: وَبَقِيَّةٌ قال ابن عباس: هي عصا موسى، ورُضاض الألواح، وقيل: العصا، والنعلان، وقيل: ألواح من التوراة".

هذا القول المروي عن ابن عباس - ا - صحيح، وثابت، كذلك مروي عن جماعة من التابعين كالسُدي، وقتادة، والربيع، وعكرمة[5].

قال: "هي عصا موسى، ورضاض الألواح" لكن عكرمة ذكر العصا، وذكر التوراة، وهذا - أعني ما جاء في هذه الآثار من أنه رُضاض الألواح - بناءً على أن موسى - عليه الصلاة، والسلام - لما رجع من الميقات، وأنزل الله عليه التوراة، ورأى قومه قد عبدوا العجل، ألقى التوراة فتكسرت، لكن هذا لا يثبت، وجاء في بعض الآثار أنه رُفع منها الأكثر، لكن هذا لا يثبت - والله أعلم - الله أخبر أنه ألقى التوراة.

"وقيل: العصا": يعني عصا موسى "والنعلان" نعال موسى - عليه الصلاة، والسلام، "وقيل: ألواحٌ من التوراة" وبعضهم يقول: كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء، وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك، وتأنس به، وتتقوى إذا شاهدوه، ولا حاجة للخوض بمثل هذه التفاصيل التي طُوي عنا خبرها.

"قوله تعالى: آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [البقرة:248] يعني: أقاربهما، قال الزمخشري - وفي النسخ: وقال الزمخشري: يعني الأنبياء من بني إسرائيل[6] ويحتمل أن يريد موسى، وهارون، وأُقحم الأهل".

كما سبق أن الآل يُطلق على هذا، وهذا آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ والقول مثلًا أنه التوراة، أو بقايا من التوراة، أو عصا موسى، أو النعلان... إلى آخره، هذا يرجع إلى أن (آل موسى) يعني موسى ويحتمل الآل، يعني: الأهل.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/472).
  2.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/333).
  3.  المصدر السابق.
  4.  صحيح مسلم في كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، وعلى الذكر برقم: (2699).
  5.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (5/331)، وتفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/470).
  6.  تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/293).

مرات الإستماع: 0

إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سورة البقرة:246].

قال الله -تبارك وتعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:248].

لما أخبرهم أن الله قد بعث لهم طالوتَ ملكا قال إن علامة ملكه: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ، والتابوت هو الصندوق، قيل: الذي كانوا يضعون فيه التوراة، وقد ذكر بعضهم أن أعداءهم انتزعوه منهم.

وبعضهم يقول: فيه غير ذلك.

بعضهم يقول: فيه بعض الآثار التي تركها موسى والعلم عند الله ، لكن الله -تبارك وتعالى- قال: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، السكينة من السكون بمعنى الطمأنينة التي يحصل بها تثبيت القلوب، وفيه أيضًا بقية أشياء تركها آل موسى وآل هارون، قيل: العصى، وقيل: أشياء أخرى، الله أعلم بها، لكن الله قال: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، وآل موسى وآل هارون قد يُطلق ويُراد به موسى وهارون، فذلك كما قال الله : أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46]، يعني: فرعون، فالآل يُطلق على الرجل نفسه، ويُطلق أيضًا على أهل بيته، ويُطلق أيضًا على أتباعه.

قال: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ، برهان على هذا الاختيار اختيار طالوت ملكًا عليكم بأمر الله إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، فأعلمهم باختيار الله وذكر لهم برهان ذلك أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فيه ما ذُكر.

يؤخذ من هذه الآية: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، فالانتفاع بالآيات يكون مع كمال الإيمان، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، كما قال الله عن القرآن: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2]، فهو هدى، لكن الذين ينتفعون بهذا الهدى هم المتقون، فبقدر ما يتحقق من التقوى يحصل الانتفاع بهذا الهدى، كذلك الآيات: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ