فقوله سبحانه: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ يعني لما خرج بهم، وذلك بعد أن تبين لهم ما أوجب انقيادهم لحكمه، وإذعانهم لأمره، وإقرارهم لملكه؛ فتبعوه، وجاء في بعض الروايات أن عددهم كان ثلاثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة عشر تقريباً، والحقيقة أن الاختلاف في العدد بين هذه الروايات على الرغم من كونها واقعة واحدة؛ يدل دلالة واضحة على عدم صحتها فلا يعول عليها في الاستناد، والعلم عند الله.
"فالله أعلم، أنه قال: إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم أي مختبركم بنهر، قال ابن عباس وغيره: وهو نهر بين الأردن، وفلسطين؛ يعني نهر الشريعة المشهور.
فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أي: فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه".
مراده من قوله: فَلَيْسَ مِنِّي يعني ليس مؤمناً بي، ولا هو من أتباعي أو ممن يصحبني بدليل أنه قال: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ.
"وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ أي: فلا بأس عليه".
القراءة بالضم للغين في قوله: غُرْفَةً بِيَدِهِ هي قراءة أكثر القراء، وخالف في ذلك نافع وابن كثير، وأبو عمرو فقرؤوها بالفتح إلا من اغترف غَرفة بيده، ومن أهل العلم من يعد القراءتين - الضم والفتح - بمعنى واحد، وبعضهم يفرق فيجعل الغَرفة بالفتح: ما يكون باليد، والغُرفة بالضم: ما يكون بالإناء، لكن هذا الكلام فيه نظر؛ لأنه قال: إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ولذلك يستبعد هذا المعنى.
وذهب آخرون إلى أن الغُرفة بالضم: الماء المأخوذ، وتقدير أخذه باليد من باب الملازمة، وأما الغَرفة بالفتح: فالمرة الواحد، وهذا الذي اختاره جماعة من المحققين في الجمع بينهما، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، والله أعلم بالصواب.
"قال الله تعالى: فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ قال ابن جريج: قال ابن عباس: من اغترف منه بيده روي، ومن شرب منه لم يرو، وقد روى ابن جرير عن البراء بن عازب قال: "كنا نتحدث أن أصحاب محمد ﷺ الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن" ورواه البخاري بنحوه".
ظاهر الآية أن هذا الصنيع صدر من الذين لم يشربوا من النهر إلا بالمقدار الذي حدده لهم، أولئك الذين نجحوا في اجتياز الاختبار الأول؛ لكنهم سقطوا بعد ذلك حينما رأوا جيش العدو، وهذا ما عليه عامة أهل العلم.
وذهب ابن جرير - رحمه الله - إلى أن هذه الطائفة هي الطائفة الأولى التي شربت، ووجَّه قوله: بأن هؤلاء الذين شربوا لم يرجعوا، وإنما ساروا معه، وأن الله إنما خص بالذكر في كتابه الذين يستحقونه ممن أتبعو الملك الذي عينه رسوله، وأغفل ذكر الباقين الذين نكصوا على أعقابهم، وهذا فيه غرابة، وظاهر القرآن يخالفه؛ لأن الله قال: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وهذا يعني أنه لم يبق معه سوى من امتنعوا عن الشرب إلا بالمقدار المحدد لهم، لكنهم لما رأوا كثرة جيش عدوهم تخاذلوا، وتناخروا، ولم يثبت إلا فئة قليلة، ورد في بعض الروايات أن عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، والله أعلم.
وهنا لفتة تربوية، ومعنى كبير يؤخذ من هذه الآيات؛ فأكثر الناس على هذه الحال التي قصها الله في خبر طالوت، إذا تأملت حالهم في شتى الأبواب تجدهم يتطلعون إلى أشياء، ثم بعد ذلك لا يسعون إلى تحققيها، وكثيراً ما يتساقطون إما في الوهلة الأولى، أو في وسط الطريق، أو في آخره، ولا يبقى ولا يستمر إلا أصحاب العزائم القوية، وهذا الأمر لم يسلم منه حتى جيل الصحابة، فإن أصحاب محمد ﷺ لما سألوه عن أحب الأعمال إلى الله فأخبرهم أنه القتال تراجع، وتباطأ، وتثاقل من تثاقل، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ [سورة الصف:2-4] فهذا في القتال، وكذلك في سائر الأمور.
والخلاصة أن الإنسان إذا انتدب نفسه لشيء فلا بد أن يستمر عليه حتى آخر لحظة، ولذلك كان الأولى للإنسان أن لا يدخل في شيء إلا إذا كان كما قال ابن القيم: يعلم أن لديه القدرة عليه، وأنه أصلح له في دينه، ودنياه، ومعاشه، وعاقبة أمره، وعاجله، وآجله، ثم يستخير الله قبل أن يقدم عليه.
ولا يكون ممن يجيد الكلام، ولا يحسن الفعل، فمثله حسبك به ذماً ونقصاً، ولا يصلح إطلاقاً للمؤمن أن يتحلى بغير هذا الخلق، وإلا فلا يضع نفسه في مثل هذه الأمور، ولا يتكلم في شيء منها، وقد قيل: "إن في الصمت حكمة".
"ولهذا قال تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ أي: استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم".
ابن جرير يقول: إن الذين قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ هم المنافقون، والكفار الذين شربوا من النهر، واستمروا مع طالوت، لكن لسوء صنيعهم لم يستحقوا الذكر، والذي يظهر أن هؤلاء ليسوا الذين شربوا أكثر مما قدر لهم، وإنما هم الذين سقطوا في المواجهة والمجابهة إذ إنهم لما رأوا العدو انكسروا، وضعفوا، والله أعلم.