الإثنين 26 / ربيع الأوّل / 1446 - 30 / سبتمبر 2024
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّىٓ إِلَّا مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةًۢ بِيَدِهِۦ ۚ فَشَرِبُوا۟ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ قَالُوا۟ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ ۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُوا۟ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةًۢ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:249] "يقول تعالى مخبراً عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل، وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفاً".
فقوله سبحانه: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ يعني لما خرج بهم، وذلك بعد أن تبين لهم ما أوجب انقيادهم لحكمه، وإذعانهم لأمره، وإقرارهم لملكه؛ فتبعوه، وجاء في بعض الروايات أن عددهم كان ثلاثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة عشر تقريباً، والحقيقة أن الاختلاف في العدد بين هذه الروايات على الرغم من كونها واقعة واحدة؛ يدل دلالة واضحة على عدم صحتها فلا يعول عليها في الاستناد، والعلم عند الله.
"فالله أعلم، أنه قال: إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم أي مختبركم بنهر، قال ابن عباس وغيره: وهو نهر بين الأردن، وفلسطين؛ يعني نهر الشريعة المشهور.
فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أي: فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه".

مراده من قوله: فَلَيْسَ مِنِّي يعني ليس مؤمناً بي، ولا هو من أتباعي أو ممن يصحبني بدليل أنه قال: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ.
"وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ أي: فلا بأس عليه".
القراءة بالضم للغين في قوله: غُرْفَةً بِيَدِهِ هي قراءة أكثر القراء، وخالف في ذلك نافع وابن كثير، وأبو عمرو فقرؤوها بالفتح إلا من اغترف غَرفة بيده، ومن أهل العلم من يعد القراءتين - الضم والفتح - بمعنى واحد، وبعضهم يفرق فيجعل الغَرفة بالفتح: ما يكون باليد، والغُرفة بالضم: ما يكون بالإناء، لكن هذا الكلام فيه نظر؛ لأنه قال: إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ولذلك يستبعد هذا المعنى.
وذهب آخرون إلى أن الغُرفة بالضم: الماء المأخوذ، وتقدير أخذه باليد من باب الملازمة، وأما الغَرفة بالفتح: فالمرة الواحد، وهذا الذي اختاره جماعة من المحققين في الجمع بينهما، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، والله أعلم بالصواب.
"قال الله تعالى: فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ قال ابن جريج: قال ابن عباس: من اغترف منه بيده روي، ومن شرب منه لم يرو، وقد روى ابن جرير عن البراء بن عازب قال: "كنا نتحدث أن أصحاب محمد ﷺ الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن" ورواه البخاري بنحوه".
ظاهر الآية أن هذا الصنيع صدر من الذين لم يشربوا من النهر إلا بالمقدار الذي حدده لهم، أولئك الذين نجحوا في اجتياز الاختبار الأول؛ لكنهم سقطوا بعد ذلك حينما رأوا جيش العدو، وهذا ما عليه عامة أهل العلم.
وذهب ابن جرير - رحمه الله - إلى أن هذه الطائفة هي الطائفة الأولى التي شربت، ووجَّه قوله: بأن هؤلاء الذين شربوا لم يرجعوا، وإنما ساروا معه، وأن الله إنما خص بالذكر في كتابه الذين يستحقونه ممن أتبعو الملك الذي عينه رسوله، وأغفل ذكر الباقين الذين نكصوا على أعقابهم، وهذا فيه غرابة، وظاهر القرآن يخالفه؛ لأن الله قال: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وهذا يعني أنه لم يبق معه سوى من امتنعوا عن الشرب إلا بالمقدار المحدد لهم، لكنهم لما رأوا كثرة جيش عدوهم تخاذلوا، وتناخروا، ولم يثبت إلا فئة قليلة، ورد في بعض الروايات أن عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، والله أعلم.
وهنا لفتة تربوية، ومعنى كبير يؤخذ من هذه الآيات؛ فأكثر الناس على هذه الحال التي قصها الله في خبر طالوت، إذا تأملت حالهم في شتى الأبواب تجدهم يتطلعون إلى أشياء، ثم بعد ذلك لا يسعون إلى تحققيها، وكثيراً ما يتساقطون إما في الوهلة الأولى، أو في وسط الطريق، أو في آخره، ولا يبقى ولا يستمر إلا أصحاب العزائم القوية، وهذا الأمر لم يسلم منه حتى جيل الصحابة، فإن أصحاب محمد ﷺ لما سألوه عن أحب الأعمال إلى الله فأخبرهم أنه القتال تراجع، وتباطأ، وتثاقل من تثاقل، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ [سورة الصف:2-4] فهذا في القتال، وكذلك في سائر الأمور.
والخلاصة أن الإنسان إذا انتدب نفسه لشيء فلا بد أن يستمر عليه حتى آخر لحظة، ولذلك كان الأولى للإنسان أن لا يدخل في شيء إلا إذا كان كما قال ابن القيم: يعلم أن لديه القدرة عليه، وأنه أصلح له في دينه، ودنياه، ومعاشه، وعاقبة أمره، وعاجله، وآجله، ثم يستخير الله قبل أن يقدم عليه.
ولا يكون ممن يجيد الكلام، ولا يحسن الفعل، فمثله حسبك به ذماً ونقصاً، ولا يصلح إطلاقاً للمؤمن أن يتحلى بغير هذا الخلق، وإلا فلا يضع نفسه في مثل هذه الأمور، ولا يتكلم في شيء منها، وقد قيل: "إن في الصمت حكمة".
"ولهذا قال تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ أي: استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم".
ابن جرير يقول: إن الذين قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ هم المنافقون، والكفار الذين شربوا من النهر، واستمروا مع طالوت، لكن لسوء صنيعهم لم يستحقوا الذكر، والذي يظهر أن هؤلاء ليسوا الذين شربوا أكثر مما قدر لهم، وإنما هم الذين سقطوا في المواجهة والمجابهة إذ إنهم لما رأوا العدو انكسروا، وضعفوا، والله أعلم.

مرات الإستماع: 0

"فَصَلَ طَالُوت [البقرة:249] أي: خرج من موضعه إلى الجهاد".

فَصَلَ يعني، فارق البلد التي كان فيها.

"قوله: بِنَهَرٍ [البقرة:249] قيل: هو نهر في فلسطين".

قيل: بين الأردن، وفلسطين - والله أعلم -.

"قوله: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ... [البقرة:249] الآية، اختبر طاعتهم بمنعهم من الشرب باليد.

قوله: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً [البقرة:249] رخص لهم في الغرفة باليد، وقرئ بفتح الغين، وهو المصدر، وبضمها هو الاسم".

غَرفة، وغُرفة، فبالفتح هي قراءة أبي عمرو، وابن كثير، ونافع، وقراءة الجمهور بالضم غُرفة[1] وهما لغتان مثل: نَهْر، ونَهَر.

يقول: "وبضمها هو الاسم" وبعضهم يفرق في المعنى، هنا يقول: "غُرفة، وغَرفة، بفتح الغين، وهو المصدر غَرف غَرفة "وبضمها هو الاسم" غُرفة، اسمٌ للواحدة من الغَرفات، وبعضهم يقول: هي بالفتح غَرفة اليد، وغُرفة بالضم بالإناء، ما يكون باليد يُقال لها: غَرفة، وبالإناء غُرفة، وبعضهم يقول: بالضم الماء الذي يكون بهذا المقدار يُقال له: غَرفة، وبعضهم يقول: الغَرفة هي باليد، يعني: هذا المقدر ملء اليد يُقال لها: غَرفة، وبعضهم يقول: بالفتح هي المرة الواحدة، وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله -[2] فعلى هذا التفريق الذين فرقوا بأي قولٍ من هذه الأقوال يكون هناك فرق في المعنى بين الغَرفة، والغُرفة، وأنها لا ترجع إلى اختلاف اللغات على هذا التفريق.

"قوله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا [البقرة:249] قيل: كانوا ثمانين ألفًا، فشربوا منه كلهم، إلّا ثلاثمائةٍ، وبضعة عشر، عدد أصحاب بدر، فأما من شرب فاشتد عليه العطش، وأما من لم يشرب فلم يعطش".

يعني من شرب أكثر من الغَرفة اشتد عليه العطش.

وقد جاء في الصحيح عن البراء بن عازب قال: "حدثني أصحاب محمد ﷺ ممن شهد بدرًا: أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت، الذين جازوا معه النهر بضعة عشر، وثلاثمائة" يقول البراء: "لا والله ما جاوز معه النهر إلا مؤمن"[3] وهذا في البخاري، وهو يدل على أن العدد الذين جاوزوا النهر مع طالوت أنهم كانوا بهذا العدد؛ ثلاثمائة، وبضعة عشر، وهذا قول الجمهور.

"قوله تعالى: بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249] كان كافرًا، عدوًّا لهم، وهو ملك العمالقة، ويُقال: إن البربر من ذريته".

قال: "ويُقال: إن البربر من ذريته" - الله أعلم - وقيل: كانوا بمدينتهم أريحا في غور الأردن، وأن هؤلاء من عاد، فالعلم عند الله.

"قوله: يَظُنُّونَ [البقرة:249] أي: يوقنون، وهم أهل البصائر من أصحابه".

الظن المقصود به: العلم قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ [البقرة:249] يعني: يوقنون، وليس المقصود به مجرد الظن، فإن ذلك لا يُقبل فيه الظنون، كما قال الله في سورة البقرة: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة:46] يعني: يوقنون، فهذا المقصود به اليقين قطعًا، فهكذا هنا، قال: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً [البقرة:249] يعني: أهل اليقين.

  1.  حجة القراءات (ص:140)، وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر (ص:207).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/486).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب عدة أصحاب بدر برقم: (3957).

مرات الإستماع: 0

ثم قال الله : فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:249].

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ، يعني: خرج بالجنود، سار بهم لقتال عدوهم، أخبرهم بأن الله سيمتحنهم ويبتليهم على صبرهم وثباتهم بنَهر فمن شرب منه فهذا لا يكون تابعًا له: فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، غُرفة واحدة فلا لوم عليه، فلما بلغوا ذلك النهر تهافت أكثرهم على الشرب منه، وانقطع صبرهم ثم لم يبق معه إلا القليل الذين اكتفوا بغرفة أو لم يطعموا من هذا النهر وصبروا على العطش، حينئذ سار طالوت بمن معه ثم واجهوا عدوهم، فقالت فئة من هؤلاء: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، رأوا كثرتهم فجبُنوا عن قتالهم، فأجابهم آخرون وهم قلة قليلة من أهل الإيمان: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ، يعني: الذين يوقنون، والظن يُقال: لليقين، كما قال الله : الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:46]، يعني: يستيقنون.

وهكذا في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [سورة الكهف:53]، يعني: علموا وأيقنوا، وقد يأتي الظن بمعنى الشك أو التخمين ونحو ذلك، وهذا الذي جاء ذمه في القرآن: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [سورة النجم:23].

فالشاهد أن هؤلاء هم الذين الفئة القليلة الصابرة هم الذين ثبتوا وأجابوا أولئك بقولهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، يؤيدهم ويوفقهم ويثبتهم وينصرهم على عدوهم.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ، جاء هذا الابتلاء في هذه القضية وهي الشرب من هذا النهر امتحانًا للنفوس؛ لأن الذي لا يصمد أمام متطلبات النفس ويثبت فإنه سرعان ما ينهزم وينكسر أمام العدو، ومثل هؤلاء لا يؤسف عليهم ولا على تخلفهم؛ لأنهم لو جاءوا لم يحصل بمجيئهم كبير دفع ولا نفع، كما قال الله عن المنافقين: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [سورة التوبة:47]، يشيعون الأراجيف والفتن والإفساد، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، فهؤلاء كما قال الله : وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [سورة التوبة:46]، فهنا الذي لا ينتصر على شهوته لا يثبت أمام عدوه ولا ينتصر في ميدان المعركة، كذلك يؤخذ من هذه الآية أن القائد يمنع المخذلين والمرجفين ومن لا يصلح للحرب ممن يكون مجيئه سببًا للخذلان والهزيمة فهؤلاء يُستبعدون.

إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [سورة البقرة:249]، هذا الابتلاء لهم قال بعض أهل العلم: ذلك باعتبار أنه كان مشهورًا في بني إسرائيل أنهم يخالفون الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات، فأراد الله -تبارك وتعالى- إظهار علامة قبل لقاء العدو يتميز بها من يصبر في الحرب ومن لا يصبر؛ لأن الرجوع قبل المواجهة أسهل من الرجوع عند المواجهة، ولذلك كان الفرار يوم الزحف من الموبقات، السبع الموبقات[1]؛ لأنه يفت في الأعضاد ويتسبب في هزيمة الجيش، فهؤلاء يرجعون من أول الطريق خير من أن يتراجعوا عند مواجهة العدو.

وذكر بعض أهل العلم أن الله ابتلاهم بهذا النهر من أجل أن يتدربوا على الشدائد والصبر والتحمل واحتمال العطش قبل مواجهة عدوهم فتكون نفوسهم قد تدربت وتهيأت وتروضت على الصبر.

كما يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن اليقين بمعية الله -تبارك وتعالى- ولقاءه: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ، هذا هو الزاد الضروري الذي يحتاجه أهل الإيمان من أجل أن ينتصروا على عدوهم، من أجل ألا تقع الهزيمة، من أجل ألا يحصل اليأس والخذلان: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة البقرة:249].

ويؤخذ منه ضرورة التصبير والتثبيت والجيوش في العصر الحديث هناك جهات خاصة ترتبط بها تقوم على الجوانب النفسية، تقوية معنويات الجنود، فهؤلاء قالوا لهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وهذا أيضًا يُحتاج إليه من وجه آخر وهو بث التفاؤل في النفوس، وكذلك أيضًا أن النصر ليس بمجرد الكثرة والله يقول: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [سورة التوبة:25]، بل لما ذكر مدد الملائكة قال في سورة الأنفال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:10]، وفي سورة آل عمران وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:126]، فالنصر من الله وحده، وله متطلباته التي لابد من تحققها.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية أن الإيمان يبعث على الصبر: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ [سورة البقرة:249]، فهذا اليقين هو الذي حملهم على الصبر والثبات.

ومن حكمة الله في هذا الخلق أن يميز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من غيره، فالله لا يترك العباد على دعواهم أو أمانيهم، وإنما يبتليهم ويُمحصهم فتتميز الصفوف.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، بحسِ هؤلاء الذين يظنون أنهم ملاقوا الله أن تكون الفئة المؤمنة قليلة وذلك أنها هي التي تصعد والصعود شاق فيتساقط كثيرون دونه دون الوصول إلى النهاية والقمة، فتبقى هذه الفئة القليلة وهم أهم الاختيار والاصطفاء، ثم يكون الفتح على أيديهم، والنصر والغلبة، وذلك أن هؤلاء يتصلون بمصدر القوة الحقيقية وهو الله -تبارك وتعالى.

ويؤخذ من هذه الآية أن العزائم الفاترة والنفوس الضعيفة والمقاصد الفاسدة تمنع من بلوغ المطالب العالية، وتقعد بأصحابها عن نيل المرام وبلوغ النصر، فيتراجعون ولو كانوا كثيرا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، الفئة الكثيرة غلبتها الفئة القليلة؛ لسوء أحوالهم، لسوء أعمالهم، لسوء مقاصدهم، لسوء عقائدهم، فهؤلاء لا عبرة بكثرتهم، ومن هنا كان ينبغي تفقد الحال، ومراجعة النفس، وإصلاح المقاصد والنيات والأعمال، كما قال أبو الدرداء : "إنما تقاتلون بأعمالكم"[2]، ولما هُزم المسلمون في يوم أُحد وتساءلوا: أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [سورة آل عمران:165]، فكما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بأن هذه المعاصي هي جنود وكتائب يُجيشها العاصي على نفسه فتغزوه[3].

ثم أيضًا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً، هؤلاء كانوا يُدركون ضعفهم المادي، وقلتهم، ومع ذلك كانت ظنونهم بالله حسنة، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن أن يُحسن الظن بالله ، فالله لا يخذل أولياءه. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا، إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [سورة النساء:10]، برقم (2766)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (89).
  2. ذكره البخاري معلقا في صحيحه (4/ 20)، كتاب الجهاد والسير، باب عمل صالح قبل القتال.
  3. انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 75).