الإثنين 26 / ربيع الأوّل / 1446 - 30 / سبتمبر 2024
وَلَمَّا بَرَزُوا۟ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ قَالُوا۟ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ

المصباح المنير مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق، فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عُدد، ولهذا قالوا: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ۝ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۝ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة البقرة:249-252] أي لما واجه حزب الإيمان - وهم قليل من أصحاب طالوت - لعدوهم أصحاب جالوت وهم عدد كثير قالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا أي: أنزل علينا صبراً من عندك وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا أي: في لقاء الأعداء، وجنبنا الفرار والعجز وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ".
ذكر أهل التاريخ أن جالوت هو أمير من العمالقة، وكانت بلدتهم في أريحا في الغور من أرض الأردن.
"قال الله تعالى: فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ أي: غلبوهم، وقهروهم بنصر الله لهم".
الإذن المراد في هذا المقطع من الآية هو الإذن الكوني القدري لا الإذن الشرعي، والمعنى أن هزيمتهم إنما كانت بإرادة الله، وتقديره.
"وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ: ذكروا في الإسرائيليات أنه قتله بمقلاع كان في يده، رماه به فأصابه فقتله".
المقلاع: أداة يوضع فيها شيء ليرمى على الخصم، وقد يكون الشيء المرمي صغيراً أو كبيراً.
"وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته، ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفى له، ثم آل الملك إلى داود مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة، ولهذا قال تعالى: وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ الذي كان بيد طالوت، وَالْحِكْمَةَ أي: النبوة بعد شمويل وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء أي: مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به ﷺ".
وبعضهم يقول: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء مما ذكره الله في موضع آخر من كتابه، فقد قال سبحانه: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ [سورة الأنبياء:80] فعلمه نسج الدروع، والتقدير في السرد، لكن هذا من جملة ما علمه الله  إياه ولا يختص به.
"ثم قال تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ أي: لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت، وشجاعة داود؛ لهلكوا كما قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [سورة الحج:40] الآية.
وقوله: وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ أي: ذو منٍّ عليهم، ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضاً، وله الحكم والحكمة، والحجة على خلقه في جميع أفعاله، وأقواله".

مرات الإستماع: 0

قال الله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:250]، هؤلاء هم الخُلاصة، هم الصفوة الذين ثبتوا لما برزوا لجالوت وجنوده، ظهروا وواجهوهم ورأوا صفوف المقاتلين عيانًا عندها تضرعوا إلى الله -تبارك وتعالى- قائلين: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا [سورة البقرة:250]، صُب علينا الصبر، أنزل علينا الصبر، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا في أرض المعركة فلا نفر، وَانْصُرْنَا بتأييدك على القوم الكافرين.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات ما ينبغي لأهل الإيمان من الضراعة إلى الله -تبارك وتعالى- ودوام الاتصال به، فالمؤمن لا يستغني عن ربه طرفة عين، فهو بحاجة إلى ألطافه ومدده وعونه ونصره أن يقويه، أن يمده بمدد منه، وإلا فإن العبد يضيع ويصير إلى هلكة محققة وإلى زوال وتلاشى، وإذا كان في ميدان المعركة فإذا تخلى الله عنه كانت الهزيمة حليفة، والخذلان قرينه، فهنا الاتصال بالله : رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا.

كذلك أيضًا فإن ذلك يعني خروج الإنسان عن حوله وطوله وقوته فلا ينظر إلى إمكانياته وقدراته ومهاراته وآلاته والعدد الذي ينظم إليه، وإنما يلجأ إلى الله يسأل ربه -تبارك وتعالى- النصر والعون والمدد وأن يُفرغ عليه الصبر، أما إذا التفت المقاتلة إلى أنفسهم وإلى قواهم وقُدرِهم وأعدادهم فإنهم ينهزمون، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [سورة التوبة:25]، لكن في المقام الآخر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [سورة آل عمران:123]، غير مستعدين للمعركة ليس معهم كبير سلاح وعتاد، ولا مراكب كثيرة، ولا عدد كثير وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فالنصر كما قال الله : وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة آل عمران:126]، بأقوى صيغة من صيغ الحصر، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة آل عمران:126]، لا يكون النصر من غيره.

إذًا على الأمة أن تتحقق بأسباب النصر، أن تُراجع نفسها، تُراجع عملها، أن تُراجع النيات والمقاصد، أن يكون الناس على حال من الاستقامة والطاعة فهنا لا يقف أمامهم أحد، إذا كانوا مجتمعين كما في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [سورة آل عمران:103]، وكما قال الله : وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46]، مباشرة نتيجة التنازع هي الفشل، وذهاب الريح والقوة.

ويؤخذ من هذه الآية الكريمة منزلة الصبر، طلبوا ماذا؟ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا، والصبر جاء هنا مُنكرًا وذلك والله أعلم يُشعر بالتعظيم، أفرغ علينا صبرًا عظيمًا يحصل بنا به الثبات والقوة والغلبة على هؤلاء الأعداء.

كذلك هذه الأمور التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- على هذا الترتيب أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:250]، إفراغ الصبر أولاً فإن من لا يصبر لا يحصل له الثبات وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، فتثبيت الأقدام يكون نتيجة للصبر، فسألوا الصبر أولاً الذي هو الأصل والأساس، ثم بعد ذلك تثبيت الأقدام ثم بعد ذلك جاء الترقي إلى النصر؛ لأن النصر يحصل بمجموع ذلك، فلا يحصل النصر لمن لا صبر له، ولا يكون النصر حليفًا لمن لا ثبات له في أرض المعركة، وهكذا أيضًا حينما يكون المطلوب عند مواجهة الأعداء الصبر وفي سائر المقامات التي يحصل بها الضعضعة والاضطراب حينما يهتز الإنسان وهو بحاجة إلى صبر، إذا اُبتلي يحتاج إلى صبر أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا.

وقد تتابع على الناس البلايا والمصائب وتأتيهم تترى في أنفسهم وأهليهم وأموالهم وما إلى ذلك، فيُكثر الإنسان من الدعاء بذلك أن يزرقه الله الصبر، فهذا رُكن ركين لابد من تحققه، وهكذا أيضًا ما يحصل به الثبات فهو مطلوب وذلك يكون سببًا من أسباب النصر وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.

هذه الأمور المذكورة ينبغي أن يتذكرها المؤمن دائمًا، وأن لا يغفل عنها لاسيما في حال الشدة والحرب والقتال ونحو ذلك، في مقامات الشدة لا يذكر سوى الله -تبارك وتعالى- لم تلتفت قلوب هؤلاء يمنة ولا يسرة، لم يلجئوا إلى مخلوق فيُخذلوا وإنما ألقوا بحاجتهم وتوجهوا بفقرهم إلى ربهم ومليكهم ومولاهم: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا، فأهل الإيمان لا يلتفتون في مثل هذه المقامات لا تتلفت قلوبهم إلى أحد من المخلوقين رَبَّنَا.

وكما ذكرنا من قبل في دعاء الأنبياء في القرآن أنه يكون بهذا الاسم الكريم رَبَّنَا غالبًا، وقلنا بأن ذلك والله أعلم من معاني الربوبية العطاء والمنع والمدد والنصر والنفع والدفع كل هذا من معاني الربوبية، ماذا تطلب ماذا تريد؟! قل يا رب، يا رب، والله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [سورة البقرة:186]، ولم يقل: فقل لهم إني قريب، أجابهم مباشرة: فَإِنِّي قَرِيبٌ، هناك إذا سألك عبادي وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي، ولم يقل: فقل لهم إني قريب، قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ لكن فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [سورة البقرة:186]، يستجيبون بالطاعة والإيمان والعمل الصالح، وترك مخالفته ومعصيته.