الإثنين 26 / ربيع الأوّل / 1446 - 30 / سبتمبر 2024
فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ ٱلْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق، فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عُدد، ولهذا قالوا: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ۝ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ۝ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة البقرة:249-252] أي لما واجه حزب الإيمان - وهم قليل من أصحاب طالوت - لعدوهم أصحاب جالوت وهم عدد كثير قالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا أي: أنزل علينا صبراً من عندك وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا أي: في لقاء الأعداء، وجنبنا الفرار والعجز وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ".
ذكر أهل التاريخ أن جالوت هو أمير من العمالقة، وكانت بلدتهم في أريحا في الغور من أرض الأردن.
"قال الله تعالى: فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ أي: غلبوهم، وقهروهم بنصر الله لهم".
الإذن المراد في هذا المقطع من الآية هو الإذن الكوني القدري لا الإذن الشرعي، والمعنى أن هزيمتهم إنما كانت بإرادة الله، وتقديره.
"وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ: ذكروا في الإسرائيليات أنه قتله بمقلاع كان في يده، رماه به فأصابه فقتله".
المقلاع: أداة يوضع فيها شيء ليرمى على الخصم، وقد يكون الشيء المرمي صغيراً أو كبيراً.
"وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته، ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفى له، ثم آل الملك إلى داود مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة، ولهذا قال تعالى: وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ الذي كان بيد طالوت، وَالْحِكْمَةَ أي: النبوة بعد شمويل وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء أي: مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به ﷺ".
وبعضهم يقول: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء مما ذكره الله في موضع آخر من كتابه، فقد قال سبحانه: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ [سورة الأنبياء:80] فعلمه نسج الدروع، والتقدير في السرد، لكن هذا من جملة ما علمه الله  إياه ولا يختص به.
"ثم قال تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ أي: لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت، وشجاعة داود؛ لهلكوا كما قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [سورة الحج:40] الآية.
وقوله: وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ أي: ذو منٍّ عليهم، ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضاً، وله الحكم والحكمة، والحجة على خلقه في جميع أفعاله، وأقواله".

مرات الإستماع: 0

"وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ [البقرة:251] كان داود في جند طالوت، فقتل جالوت، فأعطاه الله ملك بني إسرائيل، وفي ذلك قَصَصٌ كثيرة غير صحيحة.

وَالْحِكْمَةَ [البقرة:251] هنا النبوّة، والزبور، (وفي بعض النسخ: أو الزبور)".

الحكمة هي النبوة، هذا قاله السدي[1] والقول بأنه الزبور بينه، وبين القول الذي قبله ملازمة، فإن النبوة التي أعطاها الله - تبارك، وتعالى - لداود - عليه الصلاة، والسلام - كان الكتاب الذي أنزله عليه هو الزبور، وحينما يُقال: آتاه الله الملك، والحكمة أنها النبوة، أو ما أوحى إليه من الزبور، فبينهما ملازمة.

"قوله: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة:251] صِنعة الدروع، ومنطق الطيور، (وفي بعض النسخ: ومنطق الطير)، وغير ذلك".

كما قال الله : وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء:80] فهنا "صِنعة الدروع" هي صنعة ما يلبسونه في الحرب، علمه الله - تبارك، وتعالى - هذه الصنعة؛ ولهذا كان أول من صنع الدروع هو داود - عليه الصلاة، والسلام - وعُلِّمَ ذلك بصورة مفصلةٍ دقيقة وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11] بمعنى: أن هذه الحِلَق التي تكون في الدرع، وما يكون مما يُثبتها، ويُمسكها من المسامير فإنها تكون بمقدار، ليست كبيرة، فينفصل ذلك الموضع، ولا تكون دقيقة فيضطرب، وإنما يكون ذلك بمقدار لائق يحصل به المراد، ويحتمي بها المقاتلة.

"قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ.... [البقرة:251] الآية، منَّةٌ على العباد بدفع بعضهم ببعض، وقرئ: (دفاعٌ) بالألف، و(دفعٌ) بغير ألف، والمعنى متفق".

قراءة نافع بكسر الدال (دِفاع)، وقراءة الجمهور (دَفعْ)[2] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ [البقرة:251] ودفاع، والمعنى يرجع إلى شيءٍ واحد، وهذا الدفع، والدفاع، قيل: يدفع بالمؤمنين المجاهدين كيد الكفار، والفجار، وهذا الذي اختاره جمعٌ من المفسرين: كالواحدي[3] وابن عطية[4] ومن المعاصرين: كالسعدي[5] والطاهر بن عاشور[6] يدفع بأهل الإيمان أهل الكفر، وقال به من السلف عبد الرحمن بن زيد[7].

وبعضهم يقول: المراد: ولولا دفع الله بالمؤمنين، والأبرار عن الكافرين، والفجار لأهلكوا بعقوبةٍ منه - تبارك، وتعالى - وهذا الذي اختاره ابن جرير[8] فيكون المعنى: ولولا دفع الله بالمؤمنين، والأبرار عن الكافرين، والفجار لأهلكوا بعقوبة، يعني، وجود من يعبد الله - عزَّ، وجل - ويطيعه، ويدعو إلى سبيله يكون سببًا، ووجود من يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر يكون سببًا لدفع العقوبات العامة، وإلا لنزل الهلاك.

فالله - تبارك، وتعالى - يقول: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] ولم يقل: وأهلها صالحون، وإنما ذكر الإصلاح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله - تبارك، وتعالى - فهذا الذي تُدفع به العقوبات العامة، ولا يكفي أن يكون الناس على حالٍ من الصلاح، والتقوى، لكن من غير أن يكونوا بهذه الصفة مصلحين، فإن الصلاح وحده لا يكفي.

فاختيار ابن جرير[9] يقول: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ يعني: وجود المصلحين يكون سببًا لدفع العقوبات العامة، وهذا القول نسبه بعض أهل العلم إلى الأكثر من المفسرين، وهو مروي عن ابن عباس، ومجاهد[10] والآية تحتمل ذلك كله، يعني: ما يحصل من الدفع وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فيمكن أن تُحمل على هذا، وهذا، مما يحصل به الدفع: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمدافعة التي تكون بين الحق، والباطل، وكذلك أيضًا ما يحصل من منع العقوبات العامة بسبب وجود أهل الإصلاح بين أظهرهم فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116].

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/514).
  2.  السبعة في القراءات (ص:187)، وحجة القراءات (ص:140).
  3.  التفسير الوسيط للواحدي (1/361).
  4.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (4/124).
  5.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:109).
  6.  التحرير، والتنوير (2/500).
  7.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/481).
  8.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (16/580).
  9.  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (16/580).
  10.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/480).

مرات الإستماع: 0

ثم قال الله -تبارك وتعالى: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:251]، فهزموهم، لما كانوا بهذه المثابة واللجوء إلى الله والتوكل عليه وطلب المدد منه فهزموهم بإذن الله وقتل داود ملك الكفار جالوت، وأعطى الله داود بعد ذلك الملك والحكمة التي هي النبوة وعلمه مما يشاء من العلوم كما قال الله : وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [سورة الأنبياء:80]، صناعة الدروع، إلى غير ذلك من العلوم الدنيوية والعلوم الدينية.

وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:251]، يُدفع بأهل الإيمان والطاعة أهل النفاق والمعصية، أهل الكفر والضلال، يُدفع هؤلاء بهؤلاء، يُدفع أهل الإيمان بأهل الإشراك، وإلا لفسدت الأرض بغلبة الكفر ولعم الكُفر والشر أرجاء المعمورة ولكن الله يُدافع هؤلاء بهؤلاء، وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وتمكن الضلال وعمت الشرور: وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ، بهذا الدفع وأن هيأ هؤلاء، وأن الكفر لم يعُم أرجاء الأرض.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن من صدق الله وأحسن الظن بربه -تبارك وتعالى- ولجأ إليه فالله ناصره، فهؤلاء لما قالوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:250]، خرجوا من حولهم وطولهم وقوتهم، والتجأوا إلى الله وابتهلوا إليه، وتضرعوا كما تضرع النبي ﷺ في يوم بدر حتى سقط عنه رداءه يُناشد ربه[1]، وهو أكمل الأمة إيمانًا وأعظمهم يقينًا ومنزلة عند الله -تبارك وتعالى- ومع ذلك بهذه الضراعة فماذا يقول غيره إذًا.

لاحظوا هنا فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فالفاء هذه تدل على التعليل وتدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها: فَهَزَمُوهُمْ يعني: لما كانوا بهذه المثابة لما قالوا هذه المقالة هزموهم، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ.

وهكذا أيها الأحبة فإن الركون على النفس وإلى ما يملكه الإنسان ويحويه ويحوزه من القوة وما يكون معه من العدد والعُدد وما إلى ذلك يكون سببًا إلى خذلانه، هؤلاء في البداية قالوا: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [سورة البقرة:246]، ثم بعد ذلك حصل منهم التراجع، لكن الفئة القليلة الذين قالوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا، ولم يلتفتوا إلى شيء آخر، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [سورة البقرة:251]، فهنا أنه قدم الملك على الحكمة، والحكمة فُسرت بالنبوة والنبوة أعلى مرتبة من المُلك، وذلك كما قال بعض أهل العلم باعتبار أن ذلك للترقي، قتل داود جالوت فكان سببًا لعلو مرتبته فعُرف وذاع صيته وحصل له بسبب ذلك المُلك ثم أعطاه الله ما هو أعظم من المُلك وهي النبوة، فحصل له هذا الترقي بالتدريج بهذه الطريقة.

ثم أيضًا وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [سورة البقرة:251] هذا يدل على أن الأنبياء لا علم لهم، الملائكة قالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [سورة البقرة:32]، وهكذا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فإن نوحًا قال: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [سورة هود:47]، بعد أن قال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [سورة هود:45]، فبين الله له أنه ليس من أهله يعني أنه ليس من أهل الإيمان.

وكذلك أيضًا إبراهيم جاءه الأضياف من الملائكة على صورة بشر فذبح عجله، وصنع الطعام، وأتعب أهله، وجاء بالطعام ووضعه بين أيديهم فأوجس منهم خيفة حينما لم يطعموا من طعامه، وهو لا يدري أنهم ملائكة حتى أعلموه وهو خليل الرحمن، وكذلك لوط قال لهم كلامه الذي يعتذر به: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [سورة هود:80]، حتى أعملوه فقالوا: قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ [سورة هود:81]، وما كان يدري أنهم ملائكة، وكان يقول لقومه: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [سورة هود:78]، فلا يعلم الغيب إلا الله، والأنبياء لا يعلمون إلا ما علمهم الله فكيف بمن دونهم ممن يُدعى لهم الولاية، فهذا لا يصح بحال من الأحوال، لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم الإنسان إلا ما علمه ربه -تبارك وتعالى.

وهذا يُورث أيضًا التواضع لله، أن الإنسان كلما ازداد علمًا في أي لون من ألوان العلوم ازداد إخباتًا وتواضعًا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [سورة البقرة:32]، أشياء مادية: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [سورة البقرة:31]، أسماء الأشياء، كأس، وقِدر، ونحو ذلك، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [سورة البقرة:33]، فهذه أسماء الأشياء كلها، الأشياء التي عرضها على الملائكة، فإذا كان الملائكة يقولون ذلك فكل صاحب علم ينبغي أن يقول ذلك: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [سورة البقرة:32]، كيف والعلوم الشرعية التي تدل على الله وتُعرف به، تُعرف بالطريق الموصل إليه، والدار التي يصير الناس إليها، هي أولى العلوم، أن ينكسر صاحبها وأن يُخبت لله، لا أن يتكبر ويتعالى على الناس، ويتعاظم ويصيبه العُجب بسبب هذا العلم ويصير من أهل الزهو والترفع، هذا لا يليق بحال من الأحوال، كل ما ازداد علمًا ازداد تواضعًا وإخباتًا لربه وخالقه ، والله يقول: وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [سورة النساء:113]، وقال: وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى [سورة الضحى:7]، وقال: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [سورة الشورى:52]، فالله هو الذي يمُن على عباده.

ثم أيضًا هنا هذا الخروج من الحول والطول ثم ما يعقب ذلك من النصر لهؤلاء أهل الإيمان كل ذلك يجعل المؤمن مع قوله -تبارك وتعالى: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [سورة البقرة:251]، يجعل المؤمن لا يركن إلى نفسه ويثق بها الثقة المذمومة.

الثقة بالنفس نوعان: نوع تبعث الإنسان على الإقدام والمبادرة والعمل والنهوض بالمهام فلا يكون هذا الإنسان عاجزًا متوانيًا ضعيفًا جبانًا خوارًا لا يثق بنفسه فلا يستطيع أن يتكلم في مجلسه أو عند أضيافه، أو لا يستطيع أن يستقبل أحدًا ولا أن يلقى الناس فهذا غير محمود هذا ضعف، لكن الثقة الأخرى التي يذكرها بعض من يتحدثون في هذه البرامج والدورات التي يقولون: بأنها في بناء النفس، وما إلى ذلك، يتحدثون عن الثقة أحيانًا بحديث فيه مُبالغة، يعني: كأن الإنسان يُطلق العملاق فيتحول إلى إله، إلى قوة لا تُقهر، وهذا مذموم، وبعض من يتكلمون عن هذه الأشياء يذكرون هذا عن أنفسهم، ويذكرونه لغيرهم، ولو وقع لأحد منهم أدنى الأشياء لكان أعجز الناس.

ومن الطرائف أن أحدهم كان يُحدثه مُحدثه من هؤلاء بكلام طويل في مجلسه عن هذه القوة، وهذا العملاق الذي ينبغي أن يُطلق في النفس، ويقول: أنا أستطيع أن أرفع هذا البيت فلما خرج ووجد سيارته وجد الإطار قد نزل واحتاج إلى تغييره فجاء كالمعتاد بهذه الرافعة يرفع وبقوى ضعيفة، وإمكانيات ضعيفة، فقال له: أطلق العملاق وارفع السيارة وغير هذا الإطار لا تحتاج إلى رافعة ولا تحتاج إلى هذه الجهود التي يحتاج إليها ضعفاء الناس.

فهؤلاء يتكلمون في خيالات، يجعلون من الإنسان كأنه إله، قوة لا تُقهر في هذا الكون، وهذا الكلام غير صحيح، وينبغي على المؤمن أن يحذر من مثل هذا وإنما يتبرأ من حوله وطوله وقوته، كذلك أيضًا كما يقول الألوسي: "فيه فضيلة الملك وأنه لولاه ما استتب أمر العالم"[2]، ولهذا قيل الدين والملك توأمان ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر؛ لأن الدين أُس والملك حارس، وما لا أُس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع.

وكذلك أيضًا في هذه الآية الخبر عن سنة كونية: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:251] فيدفع بأهل الإيمان صدور الكفار على مر الدهور، ولولا الله حيث رحم العباد فدفع هؤلاء بهؤلاء لعم الشر والفساد، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "ولو أمرنا كل ولي مقتول ألا يقتص من القاتل، وكل صاحب دين أن لا يطالب غريمه، بل يدعه على اختياره، وكل مشتوم ومضروب أن لا ينتصف من ظالمه، لم يكن للظالمين زاجر يزجرهم، وظلم الأقوياء الضعفاء، وفسدت الأرض"[3]، فلابد من مُدافعة بين الناس.

وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:251]، أوجدهم وخلقهم وأوجد فيهم هذه السنن فيحصل في هذا الكون من الصلاح واستقامة الأحوال ما لا يُقدر قدره فهذه من نعمه على عباده، ولهذا ذُيلت هذه الآية بعد هذه الوقائع بهذا التذييل وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:251]، فهذا التدافع الذي يحصل بين هؤلاء إلى أن انتهى بقتل جالوت وغلبة أهل الإيمان وما إلى ذلك، ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله: "من رحمته وسنته الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها"[4]

  1. أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم، برقم (1763).
  2. تفسير الألوسي (روح المعاني) (1/ 564).
  3. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/ 105).
  4. تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن) (ص:109).