الثلاثاء 27 / ربيع الأوّل / 1446 - 01 / أكتوبر 2024
تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٍ ۚ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعْدِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخْتَلَفُوا۟ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُوا۟ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [سورة البقرة:253] يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض".

يحتمل في قوله سبحانه: تِلْكَ الرُّسُلُ ثلاثة احتمالات:
الأول: يحتمل أن تكون (أل) في الرسل للجنس، فتشمل المفاضلة جميع المرسلين - عليهم الصلاة والسلام -.
الثاني: يحتمل أن يكون المراد عائداً إلى الرسل الذين ذكرهم الله في هذه السورة ممن قص الله خبرهم، وأتى على ذكرهم.
الثالث: يحتمل أن المقصود بالرسل أولئك الذين أعلم الله نبيه ﷺ خبرهم من الأنبياء، ولعل حمل الآية على العموم أقرب هذه المعاني، والله أعلم.
"كما قال تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [سورة الإسراء:55] وقال هاهنا: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ [سورة البقرة:253] يعني موسى ومحمداً - صلى الله عليهما وسلم -، وكذلك آدم كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر [1]".
فأما تكليم موسى لربه فقد ذكره الله في كتابه بقوله سبحانه: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164]، وأما محمد ﷺ فكلمه ربه في ليلة المعراج حينما نادى الله : إني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأما تكليم آدم فقد ورد في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر المعروف وفيه: أنه سأل النبي ﷺ عن عدد الأنبياء والمرسلين ... فلما سأله عن آدم قال: نبي مكلم ...، والحديث مشهور، وفيه ضعف؛ لجهالة بعض رواته، وضعْف بعضهم، ومن أهل العلم من يحسن الحديث بناء على مجموع طرقه، وشواهده، لكن الضعف فيها شديد فهي ما بين رجل متروك، أو مجهول.
"وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي ﷺ الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله ، فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي، فقال: أي خبيث! وعلى محمد ﷺ؟ فجاء اليهودي إلى النبي ﷺ فاشتكى على المسلم، فقال رسول الله ﷺ-: لا تفضلوني على الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش؛ فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور، فلا تفضلوني على الأنبياء[2] وفي رواية: لا تفضلوا بين الأنبياء، فالجواب: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم، والتشاجر، وأن مقام التفضيل ليس إليكم وإنما هو إلى الله ، وعليكم الانقياد، والتسليم له، والإيمان به".
وقال بعض أهل العلم: إن النبي ﷺ ذكر ذلك تواضعاً، فقد جاء في حديث آخر: لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متَّى عليه الصلاة والسلام[3].
ومن أهل العلم من يقول: إن الممنوع هو ما كان على سبيل العصبية والحمية بأن تحمل صاحبها على انتقاص الأنبياء، والازدراء بهم، والتنزيل من قدرهم، فإذا أدت المفاضلة بين الأنبياء إلى هذا فتحرم، ولا شك أن فتح باب المفاضلة على وجه الحمية يؤدي إلى أمور لا تحمد عقباها؛ خاصة بين الجهلة الذين لا يفقهون في دين الله، ولذلك ذكّر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بأن من الناس من إذا سمع الوقيعة في أبي بكر من بعض الرافضة فإنه يسب علياً ، وأنه كان في صف القتال، إذا قام النصارى بسب النبي ﷺ قام بعض المسلمين بسب عيسى ﷺ إغاظة لهم، ورداً عليهم، فهذا لا يجوز، وهو وجه من الجمع، وهذه القاعدة عامة فتشمل الكلام على القراءات القرآنية، إذ يوجد في كثير من كتب التفسير ما يسمى بتوجيه القراءات، فحينما يوجهون القراءة تجد كلاماً يشعر بانتقاص القراءة المفضل عليها، وهذا أمر لا يليق لأن هذا كلام الله لكن يمكنه الترجيح دون انتقاص أو تطاول على القراءة الأخرى.
ولا شك أن النبي ﷺ هو أفضل الأنبياء والمرسلين، كما يدل عليه حديث الشفاعة، ويدل عليه قوله ﷺ: آت محمداً الوسيلة، والفضيلة[4] وقوله: أنا سيد ولد آدم...[5] إلى آخره.
وهناك من أهل العلم من يقول: إنه لا حاجة لهذا الجمع أصلاً، ولا يجوز التفضيل بين الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - على سبيل الخصوص، وأن الآية إنما هي إخبار من الله على تفضيله بعض الأنبياء على بعض، ولذا ورد أن النبي ﷺ نهى الناس أن يفضلوا بين الأنبياء؛ لأنه أمر ليس إليهم كما قال ابن كثير، وهذا الكلام فيه نظر، والجمع بين الأحاديث لا شك أنه أوفق، والله أعلم.
"وقوله: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ أي: الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به من أنه عبد الله، ورسوله إليهم وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يعني أن الله أيده بجبريل ".
حكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا: القدُس هو الله تعالى، وروحه: جبريل، وقيل غير هذا، والله أعلم بالصواب.
"ثم قال تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ أي بل كل ذلك عن قضاء الله وقدره، ولهذا قال: وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ".
  1. رواه أحمد في مسنده برقم (21586) (5/178)، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف جدا لجهالة عبيد بن الخشخاش.
  2. رواه البخاري في كتاب الخصومات - باب ما يذكر في الأشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم واليهودي برقم (2280) (2/849).
  3. رواه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة النساء برقم (4327) (4/1681)، ورواه مسلم بلفظ: لا ينبغي لعبد في كتاب الفضائل - باب في ذكر يونس وقول النبي ﷺ: لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى برقم (2377) (4/1846).
  4. رواه البخاري في كتاب الأذان - باب الدعاء عند النداء برقم (589) (1/222).
  5. رواه مسلم في كتاب الفضائل - باب تفضيل نبينا محمد ﷺ على جميع الخلائق برقم (2278) (4/1782).

مرات الإستماع: 0

"تِلْكَ الرُّسُلُ [البقرة:253] الإشارة إلى جماعتهم".

يحتمل أن يكون تِلْكَ هنا باعتبار إشارة للبعيد، إلى جماعة الرسل، ويحتمل أن يكون إشارة إلى المذكورين في هذه السورة، أو إلى الأنبياء الذين بلغ علمهم النبي - صلى الله عليه، وآله، وسلم - يعني أعلمه الله بهم تِلْكَ الرُّسُلُ الذين قص الله خبرهم على نبيه ﷺ وأعلمه بهم - والله أعلم -. 

"قوله: بَعْضَهُمْ [البقرة:253] نصٌّ في التفضيل في الجملة من غير تعيين مفضول، كقوله: ﷺ لا تخيروا بين الأنبياء[1] ولا تفضلوني على يونس بن متى[2] فإنّ معناه: النهي عن تعيين المفضول؛ لأنه تنقيص له؛ وذلك غيبة ممنوعة، وقد صرح ﷺ  بفضله على جميع الأنبياء بقوله: أنا سيد ولد آدم[3] لا بفضله على واحد بعينه، فلا تعارض بين الحديثين".

قوله - تبارك، وتعالى -: فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] يقول: بأن هذا التفضيل عام من غير تعيين، وذكر هذا الحديث، وهو حديث أبي سعيد الخدري : لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق، أم حوسب بصعقة الأولى[4] يعني حينما قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] فابن جزي - رحمه الله - يجمع بين هذا الحديث مع قوله: أنا سيد ولد آدم[5] بأن المقصود بقوله: لا تخيروا بين الأنبياء[6] يعني أن ذلك حينما يكون على سبيل التعيين، فيُقال: فلان أفضل من فلان، فيُفهم منه تنقص المفضول.

والعلماء - رحمهم الله - أجابوا عن هذا بأجوبة، وما ذكره هنا في الحديث، حيث قال: لا تفضلوني على يونس بن متى[7] يقول ابن أبي العز: هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحدٌ من أهل الكُتب التي يُعتمد عليها[8] وقال الشيخ الألباني: لا أعرف له أصلًا بهذا اللفظ[9] لكن يكفي عنه حديث:  لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى[10].

والجمع بين هذه الأحاديث: ذكر العلماء فيه وجوهًا، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر أنما هو النهي عن تلك الحال من التخاصم، والتشاجر[11] يعني لما استب رجلان رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك، فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي ﷺ فأخبره بما كان من أمره، وأمر المسلم، فدعا النبي ﷺ المسلم، فسأله عن ذلك، فأخبره، فقال النبي ﷺ لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق، فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله[12] فهذا سبب ورود الحديث، فما كان من هذا القبيل على سبيل التخاصم، والتشاجر فهو مذموم.

وبعضهم يقول: كان هذا قبل علمه ﷺ بالتفضيل، وبعضهم يقول: قاله تواضعًا، وبعضهم يقول: منعًا للذم، يعني: لئلا يتخذ ذلك، وسيلة، وذريعة لتنقص أحد من الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - وبعضهم يقولون بأن ما كان على سبيل العصبية فهو ممنوع، فلا شك أن النبي ﷺ هو أفضل الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - وقد قال ﷺ أنا سيد، ولد آدم[13] لكن هذه الأحاديث التي وردت عنه ﷺ في فضله، ومنزلته ليس فيها شيءٌ على سبيل التعيين، فلم يقل: أنا أفضل من فلان، وإنما فيها الإطلاق - والله تعالى أعلم -.

لكن هذه الأوجه التي جمع العلماء بين الحديثين، والآية نص صريح في المفاضلة، وهذه المفاضلة تكون باعتبارات، فمن أهل العلم من قال: باعتبار كثرة الأتباع، مثلما أُعطي النبي ﷺ وبعضهم يقول: في منازلهم، كما رآهم النبي ﷺ في السماء ليلة المعراج، فضل بعضهم على بعض، وبعضهم يقول: فيما أعطاهم من الآيات، فكان أعظم الآيات القرآن، إلى غير ذلك، والتفضيل لا يختص بنوعٍ من هذا، فالله فضل بينهم في المنازل، وفي العطايا، والهبات، والنبي ﷺ ذكر أنه قد فُضِّلَ على الأنبياء بخمس[14].

وذكر الشاطبي - رحمه الله - في كتابه: "الموافقات": أنه ما من آيةٍ، يعني: معجزة أُعطيها نبي إلا أُوتي النبي ﷺ مثلها، يعني سواء له مباشرة، أو لأحد من أتباعه[15] يعني هذا التي يسمونها كرامات الأولياء، هي من جملة آيات الأنبياء، يعني تسمية الذي يُعطى للنبي معجزة، وما يُعطى للولي كرامة، هذا اصطلاح متأخر، لم يكن معروفًا لا في القرآن، ولا السنة، ولا في أقوال السلف الصالح، وإنما وجد بعد ذلك، وكأنه وُجِد على يد المتكلمين، ولكن لا مشاحة في الاصطلاح، وإلا ففي القرآن تُسمى الآيات، والبراهين، وتُسمى في كلام المتقدمين: بدلائل النبوة.

فالمقصود: أن كرامات الأولياء هي من جملة آيات الأنبياء؛ لأنه ما حصل له هذا إلا باتباعهم، فالنار التي أُلقي فيها إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - ولم يحترق، حصل هذا لبعض أتباع النبي ﷺ ؛ وهو أبو مسلم الخولاني في اليمن مع الأسود العنسي، فألقي في النار، ولم يحترق[16] فكانت هذه آية للنبي ﷺ من جنس آية إبراهيم ﷺ وهكذا.

"قوله: مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253] موسى ".

 

نعم هو موسى - عليه الصلاة، السلام - وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] وكذلك النبي - صلى الله عليه، وآله، وسلم - كلمه الله ليلة المعراج. 

"وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة:253] قيل: هو محمد ﷺ ؛ لتفضيله على الأنبياء بأشياء كثيرة، وقيل: هو إدريس؛ لقوله تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57] فالرفعة على هذا في المسافة، وقيل: هو مطلقٌ في كل من فضله الله منهم".

قوله: "مطلق في كل من فضله الله منهم" يعني: قد يكون التفضيل في المسافة، يعني بمعنى: فيما يكون من التفاوت بينهم في السماوات، كما رآهم النبي ﷺ ليلة المعراج، وقد يكون فيما أعطاهم من الكمالات، والهبات، والعطايا، والفضائل، والمنح الربانية، والكتب المنزلة، وما إلى ذلك، فالتوراة من أعظم الكتب، وأشملها، وأوسعها، وموسى - عليه الصلاة، والسلام - كانت أمته من أكثر الأمم، وقد لا يزيد عليهم إلا أمة محمد ﷺ وهذا الكتاب، وهذه الشريعة فهي أوسع الشرائع، فتخصيص ذلك بإدريس - عليه الصلاة، والسلام - في قوله: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57] هذا أشبه ما يكون التفسير بالمثال، وإلا فإن ذلك لا يختص به، وإن كان الله - تبارك، وتعالى - قد رفعه - عليه الصلاة، السلام - وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وكأن المعنى أوسع من ذلك - والله أعلم -. 

"قوله: مِنْ بَعْدِهِمْ [البقرة:253] أي: من بعد الأنبياء، والمعنى: بعد كل نبيٍّ لا بعد الجميع وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة:253] كرره تأكيدًا؛ وليبني عليه ما بعده".

وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ فخص عيسى - عليه الصلاة، السلام - بإنزال البينات، والآيات الواضحات، من إحياء الموتى، وإبراء ذوي العاهات؛ كالأبرص، والأكمه، وما أشبه ذلك، فخصه بهذا كأن ذلك من قبيل الرد على اليهود الذين كذبوه، واتهموه، وأيضًا هو آخر الرسل قبل النبي - صلى الله عليه، وآله، وسلم - وأمته حاضرة كثيرة أكثر أتباعًا من اليهود وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد هؤلاء الأنبياء؛ يعني: بعد كل نبي، وليس المقصود بعد جميع الأنبياء، وإنما بعد كل نبي من هؤلاء الأنبياء - عليهم الصلاة، السلام -.

وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا [البقرة:253] فكان هذا الاختلاف هو سببًا موجبًا بعد إرادة الله، وتقديره لوقوع هذا القتال، فهو أمرٌ مقدر، كائن لا بُد من وقوعه، وذلك لحكمةٍ يعملها الله  والسبب الظاهر لذلك: هو وقوع الاختلاف، فالاختلاف المذموم يورث التدابر، والتقاطع، والتباغض، والتهاجر، والقتال.

وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا يعني: حتى مع وقوع الاختلاف وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فقضى ذلك، وقدره فكان كما قُدر.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الإشخاص، والخصومة بين المسلم، واليهود برقم: (2412)، ومسلم في الفضائل باب من فضائل موسى برقم: (2374).
  2.  ذكره بهذا اللفظ، بلا إسناد، ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص:182)، وقد ذكره البخاري بنحوه، في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: وإن يونس لمن المرسلين [الصافات:139] برقم: (3412) بلفظ: لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس زاد مسدد: يونس بن متى.
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا ﷺ على جميع الخلائق برقم: (2278).
  4.  سبق تخريجه.
  5.  سبق تخريجه.
  6.  سبق تخريجه.
  7.  سبق تخريجه.
  8.  شرح الطحاوية ت الأرناؤوط (1/161).
  9.  شرح الطحاوية ص:(172).
  10.  أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: وإن يونس لمن المرسلين [الصافات:139] برقم: (3416)، ومسلم في الفضائل باب في ذكر يونس برقم: (2376).
  11.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/473).
  12.  أخرجه البخاري في كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الإشخاص، والخصومة بين المسلم، واليهود برقم: (2411)، ومسلم في الفضائل، باب من فضائل موسى برقم: (2373).
  13.  سبق تخريجه.
  14.  أخرجه البخاري في كتاب التيمم برقم: (335)، ومسلم في أول كتاب المساجد، ومواضع الصلاة برقم: (521)، ولفظه: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا، وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة.
  15.  الموافقات (4/199).
  16.  انظر: حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (5/120).

مرات الإستماع: 0

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [سورة البقرة:253].

تِلْكَ الرُّسُلُ، هؤلاء الرسل الكرام ممن قص الله -تبارك وتعالى- خبره في هذه السورة الكريمة، أو ممن أعلم بهم نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم، فضّل الله بعضهم على بعض بحسب ما من به عليهم، فمنهم من كلمه كموسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام.

مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ومنهم من رفعه الله درجات عالية وكثير من المفسرين يقولون المراد بذلك محمد ﷺ حيث فضله الله ورفع درجته آتِ محمد الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته [1] فرفعه الله -تبارك وتعالى- فوق جميع الخلق.

ومنهم من يقول: المراد بذلك إدريس لقوله: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [سورة مريم:57].

ومنهم من يقول: إن ذلك لا يختص بفرد منهم ولكن الله رفع بعضهم درجات كما رأى ذلك النبي ﷺ في ليلة المعراج، رآهم يتفاضلون ويتفاوتون في الدرجات والسماوات، ولا شك أن النبي ﷺ أرفع الأنبياء درجة، وكذلك أيضًا رفع الله -تبارك وتعالى- إدريس مكانًا عليا، فالحاصل أن النبي ﷺ أعطاه الله وأولاه وخصه بخصائص لم تُعط لأحد من الأنبياء قبله، كانت رسالته عامة، وخُتم به النبيون، وفُضلت هذه الأمة على جميع الأمم، إلى غير ذلك.

كذلك عيسى أعطاه الله البينات الواضحات، والدلائل الباهرات التي تدل على صدقه وصحة ما جاء به كإبراء الأكمه، والأكمه قيل: هو الذي يولد وهو أعمى، وكذلك أيضًا إبراء الأبرص، وإحياء الموتى، كل ذلك بإذن الله -تبارك وتعالى، فكان يمسح على ذي العاهة فيبرء بإذن الله، وكذلك أيده بروح القُدس جبريل .

ثم قال الله -تبارك وتعالى: ولو شاء الله ألا يقتتل الذين جاءوا من بعد هؤلاء الرسل الكِرام لما وقع ذلك القتال، ولكن كل شيء بإرادته ومشيئته وفق حكمته البالغة، فشاء الله أن يقتتلوا وكان السبب الظاهر في ذلك هو ما ذكره الله -تبارك وتعالى: وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا، وقع الاختلاف بينهم: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ، بعد ما وقع بينهم من الاختلاف الموجب للاقتتال ما اقتتلوا؛ ولكن الله يوفق من يشاء إلى طاعته والإيمان به ويخذل من يشاء فيكفر، فهو يفعل ما يشاء ويختار، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ أراد الله وقوع هذا الاختلاف بين الخليقة، وأراد وقوع هذا الاقتتال منذ زمن بعيد، منذ أن وقع الشرك والكفر في قوم نوح، الصراع بين الحق والباطل مستمر لا يتوقف.

يؤخذ من هذه الآية من الفوائد والهدايات: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فهنا قال: تِلْكَ، ما قال أولئك الرسل فضلنا بعضهم على بعض؛ لأنه هنا تِلْكَ الرُّسُلُ الرسل جمع لكنه بمعنى الجماعة فجاء بتلك، فما قال: أولئك التي تستعمل مع الجمع، فكأنه قيل: تلك الجماعة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فضلنا بعضهم على بعض، ثم أيضًا الإشارة إلى البعيد تِلْكَ الرُّسُلُ، إما للبُعد الزماني فيما بينهم وبين النبي ﷺ فهو آخرهم وبينه وبين آخرهم وهو عيسى ما يقرُب من 600 سنة فهذه مدة طويلة، أو بأن ذلك باعتبار علو المرتبة والدرجة فأشار إليهم بالبعيد تلك الرُسل لعلو مرتبتهم ورفيع درجتهم فجاء التعبير بذلك، و"ال" في الرسل تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ للاستغراق، تِلْكَ الرُّسُلُ جميع الرُسل، أو تلك الرسل الذين قص الله خبرهم في هذه السورة كما سبق، أو تلك الرسل الذين أعلمك الله بأخبارهم فضل بعضهم على بعض.

وهنا: فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، فأفضلهم النبي ﷺ، وكلمه الله أيضًا مع موسى ، وكذلك أيضًا رفعه ﷺ على جميع الأنبياء والمرسلين لكنه أبهم ذكره هنا، أبهم ذكره، بعض أهل العلم يقولون: هو المراد بقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ.

ومن أهل العلم من يقول بأن ذلك عام كما رآهم النبي ﷺ ليلة المعراج يتفاوتون في الدرجات، وهذا الرفع لاشك أنه متحقق في النبي ﷺ فمن حمله على النبي ﷺ قال إنه أبهمه هنا ولم يُصرح به وذلك أفخم؛ لكونه قد عُرف بهذا التفضيل، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ معروف الذي رُفع فوق جميع الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام، فالإبهام في مقام يُعلم فيه المُبهم يكون أفخم وأعظم وأكثر في التنويه بشأنه، كأنه لا يشتبه ولا يلتبس يتبادر إلى الأذهان مباشرة، فهذا أعظم من التصريح، ثم إن قوله -تبارك وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

فهذا الفضل والتفضيل يؤتيه الله -تبارك وتعالى- من يشاء، فإذا كان واقعًا بين خواص خلقه وهم خيار الخلق الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فُضل بعضهم على بعض، وقد فضلوا جميعًا على أصناف بني آدم ومع ذلك هم يتفاضلون، فكيف بالتفضيل الذي يقع بين الخلائق في الآخرة، وهكذا التفضيل الذي يقع بين الناس في هذه الحياة الدنيا، خواص الخلق يتفاضلون، فالتفاضل الذي يكون مع غيرهم أولى وأكثر، الله -تبارك وتعالى- يقول في العطاء الدنيوي: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [سورة الإسراء:21]، يعني: هذا التفاضل في الدنيا في العطاء هذا غني وهذا فقير، وسُخر هذا لهذا، وهذا لهذا، ويحصل بينهم في هذه الحياة الدنيا من الحسد والبغضاء والتشاحن بسبب هذا التفاوت في العطاء إلا من وفقه الله وهداه وأصلح قلبه وأشغله بذنوبه، وبما ينفعه ويرفعه ويصلحه كما نُشاهد حيث تتوجه همم أكثر الناس إلى هذه الدنيا، ولربما اشتغل بما أُعطي الآخرون ما أُعطي غيره فيقع الحسد بين الناس بسبب ذلك، إذا كان هذا التفضيل في الحياة الدنيا فما بالك بالتفضيل الحاصل في الآخرة.

فعن أبي سعيد الخدري ، عن النبي ﷺ قال: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم [2] الكوكب البعيد، كما يبعد عنا الكوكب البعيد، هذا أهل الجنة يتفاضلون، أهل الجنة يرون أصحاب الدرجات العالية كما نرى نحن الكوكب الغابر في الأُفق، كم يبعد عنا الكوكب الغابر في الأُفق؟!

إذًا كم بين درجات الجنة، وأصحاب الدرجات العالية، فهذا التفاضل هو التفاضل الحقيقي، هو التفاضل الذي ينبغي أن تتصوب إليه الهمم، وتتوجه إليه العزائم، وأن يشتغل الناس بما يوصل إليه، أن يسعى بأن يكون ممن له الدرجات العُلى وهذا يحتاج إلى همم عالية وأعمال وصبر ومجاهدة، أما القعود عن العمل الصالح والميل مع النفس ومتطلباتها وأهوائها وشهواتها فهذا لا يورث الفلاح، وإنما ذلك يجعل صاحبه في درجات.

ويوم القيامة سماه الله -تبارك وتعالى- بيوم التغابن، التغابن الحقيقي يحصل هنا، الناس يحصل بينهم غبن في الدنيا يبيع سلعة فيُغلب، يبيع عقارًا فيُغلب، يشتري سلعة فيُغلب، ويندم إذا علم بذلك، ولكن التغابن الحقيقي في الآخرة، وقد ذُكر عن الحسن -رحمه الله- قال: "بلغنا أن التغابن في ثلاثة وذكر منها: ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي" [3] فهذا الرجل المملوك الذي أدى حق الله وحق سيده دخل الجنة، والسيد لم يحصل منه إيمان ولا عمل صالح فدخل النار، فالمملوك دخل الجنة، والسيد دخل النار، فهذا من أعظم التغابن.

الثاني: ذاك الذي ورث المال فأنفقه في طاعة الله، والذي جمعه من حِل أو حرام حبسه ولم ينفقه في مرضات الله فدخل النار، والذي ورثه من غير كد ولا تعب وأنفقه في طاعة الله دخل الجنة"، هذا غبن، ذاك يجمع ويدخل النار بالمال، وهذا يأتيه من غير تعب ويدخل الجنة، وهكذا، هكذا يحصل التغابن في صور كثيرة.

وقد ذكرت منها في بعض المناسبات ما يحصل من التغابن بين أهل الجنة وأهل النار، فأهل الجنة يتوارثون منازل أهل النار التي في الجنة، وأهل النار يتوارثون منازل أهل الجنة التي في النار، وشتان ما بين هؤلاء وهؤلاء، كل أحد يقَدم على الله -تبارك وتعالى- ببضاعته، وقد أعطاه رأس المال الذي هو هذه الأنفاس فمن الناس من جد واجتهد في العمل بطاعة الله، ومنهم من جد واجتهد في المعاصي، ومنهم من ضيع الزمان في طلب الدنيا وحطامها فوق حاجته حتى أدركه الموت، فلما قدِم القيامة فلم يُنفق هذا المال في طاعة، وإنما كان حارسًا عليه واشتغل العمل المديد في جمعه وفي تحصيله وإحرازه وتثميريه، ثم بعد ذلك قدِم على الله قدوم المفاليس، الآخرة تحتاج إلى عمل، وهذه الدنيا مهما طالت فهي قصيرة.

كذلك أيضًا هؤلاء الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- يتفاضلون، يتفاضلون في الكتب المنزلة عليهم وأعظم هذه الكتب القرآن، ومن أعظم الكتب التوراة، والقرآن أعظم منها جميعًا، وتارة في الآيات والمعجزات الدالة على صدقهم، وتارة في شرائعهم، فأكمل الشرائع هي هذه الشريعة، وأكمل الآيات هو هذا القرآن الذي بقي على مدى الدهور والتحدي به قائم، أما آيات الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فقد انقضت ومضت فهي خبر يؤمن أهل الإيمان، ولكن القرآن آية شاهدة، والتحدي به قائم.

وهكذا ما هم عليه من العلم والعمل والجهاد، ونحو ذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[4]

قال: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، لاحظ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا، الضمير للمتكلم، بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، فجيء بالغائب، وَرَفَعَ أي: الله، بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قال: وَآتَيْنَا بالمتكلم، وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ المتكلم، فهذا يسمونه التفات، فهذا الالتفات من المتكلم: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا هذا للمتكلم، بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ هذا للغائب، ثم للمتكلم: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ، فهذا يُنشط السامع، وهو ضرب من البلاغة، لكن في هذا الموضع حينما التفت من المتكلم إلى الغائب: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ فهذا أفخم، وأعظم، وأبلغ، كَلَّمَ اللَّهُ تكليم الله ليس بالشيء السهل، وإظهار لفظ الجلالة هنا أبلغ مما لو قال: (منهم من كلمنا)، ثم تعاقب هذه الضمائر جميعًا بضمير المتكلم قد يكون مستثقلاً لدى السامع فجاء بهذا التفاوت والالتفات فانتقل من المتكلم إلى الغائب، ثم أخرى إلى المتكلم.

كذلك أيضًا حينما قال: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، جاءت الجملة التي بعدها بالتفصيل بعد الإجمال مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ، ما هذا التفضيل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ؟ قال: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، كل هذا من التفضيل، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فهذا تفصيل بعد الإجمال المذكور في الجملة الأولى.

كذلك أيضًا ذكر الخاص بعد العام لما قال: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، فجاء بهذا التخصيص، يعني: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ هذا إشارة إلى موسى مع محمد -عليه الصلاة والسلام، ولما صرح بذكر عيسى كان ذلك أيضًا كله يدخل في ذكر الخاص بعد العام.

بعض أهل العلم يقولون: إنه خص موسى وعيسى -عليهما السلام- بالذكر وبدء بوصف موسى؛ لأن آيات موسى كانت أكثر، هكذا قال بعض أهل العلم، ولأن أكثر هذه السورة سورة البقرة في بني إسرائيل، وأكثر ذلك كان في سياق يُذكر فيه أتباع موسى ، ثم ثنى بعيسى باعتبار أنه من جملة أنبياء بني إسرائيل، ولأنه آخر الأنبياء من بني إسرائيل قبل النبي ﷺ، وفيه رد على اليهود الذين كذبوه واتهموه بأقبح التهم، واتهموا أمه -رحمها الله- فجاء التنويه به، ولذلك تلاحظون دائمًا في القرآن إذا ذُكر عيسى لا يكاد يُذكر إلا منسوبًا إلى أمه عيسى بن مريم، أما باقي الأنبياء يقال موسى، إبراهيم، وصالح، وهود، ونوح -عليهم الصلاة والسلام، عيسى يقال: ابن مريم، فهذا فيه رد على اليهود وتذكير بالمعجزة حيث إنه ولد من غير أب، وكذلك التنويه بذكره وذكر أمه أيضًا التي اتهمت بتهمة قذرة فذُكر اسمها في القرآن، وذلك في عامة المواضع التي يُذكر فيها عيسى ، فمعجزات هؤلاء الأنبياء أيضًا هي من أقوى وأظهر المعجزات، فبعض أهل العلم يقول: خصهما لذلك.

كذلك أن أُمم هؤلاء موسى وعيسى -عليهما السلام- كانت حاضرة شاهدة موجودة، اليهود، والنصارى، لكن أمم الأنبياء السابقين قد ذهبوا وتلاشوا، واستؤصل من استؤصل بالعقوبات العامة، فخُص هؤلاء بالذكر -والله تعالى أعلم.

وخص عيسى بالبينات مع أن البينات آتاها الله سائر الرسل -عليهم الصلاة والسلام، بعضهم يقول: في هذا تنبيه بقُبح أفعال اليهود حيث أنكروا نبوة عيسى  مع ظهورها ووضوحها، وأنها كانت مقرونة بالآيات الواضحات والبراهين الساطعات فجاء مقيدًا بذلك -والله تعالى أعلم.

وفي هذا إظهار لفضل النبي ﷺ؛ لأن الذي أعطيه النبي ﷺ فوق ما أعطيه سائر الأنبياء كما هو معلوم.

كذلك أيضًا يؤخذ منه أن تكليم الله للإنسان يُعد رفعة له كما لا يخفى مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، فذكر ذلك على سبيل الإطراء والثناء.

 

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ  [سورةالبقرة:253].

من جملة الهدايات التي تُستخرج من هذه الآية الكريمة وذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، في البداية قال: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فهذا يدل على أن بعضهم أكمل مرتبة وأعلى درجة من بعض، فقوله -تبارك وتعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ فهذا تفصيل للإجمال في التفضيل المذكور في أول الآية.

فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، ما نوع هذا التفضيل، التفضيل أحيانًا يكون بالشريعة المعطاة للرسل، وقد يكون ذلك بما هو عليه من العلم، وقد يكون ذلك بما هو عليه من العبادة والعمل والدعوة، وقد يكون ذلك بكثرة المستجيبين له من أتباعه من أمته كما هو الحال في نبينا ﷺ فهو أكثرهم تابعًا، فقد كان أتباع موسى خلق كثير، فهذا كله من وجوه التفضيل.

وقد يكون ذلك بما أعطيه الرسول من الآيات والبراهين والدلائل الدالة على صدقة.

وقد يكون ذلك بحسب الكتاب الذي أُنزل عليه، فالنبي ﷺ أعطي القرآن وهو أعظم الكتب، وأجلها، وأشرفها.

فقوله -تبارك وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، هذا يدل على التفضيل بإطلاق.

وقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، يدل على أن هذا التفضيل هو من قبيل رفع بعض الرسل على بعض في الدرجة، فهم متفاوتون متفاضلون في درجاتهم، ومن ذلك ما شاهده النبي ﷺ ليلة المعراج مما لقيه النبي ﷺ في السماوات فقد لقي جماعة من الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ هذا مُطلق فيشمل ذلك الدرجات العلمية، وكذلك يشمل الدرجات الحسية في منازلهم في السماوات ومنازلهم في الجنات، فالنبي ﷺ ذكر في ما أمر به أمته أن يسألوا له الوسيلة والفضيلة، وأخبر أنها منزلة لا تنبغي إلا لواحد وكان ﷺ يرجو أن يكون ذلك الواحد، فبلغه الله أعلى المراتب، وفي ليلة المعراج بلغه أيضًا سدرة المنتهى.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- بعده: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- آتاهم الله البينات وأيدهم بجبريل ولكن وصِف عيسى على سبيل الخصوص بهذين الوصفين ربما والله أعلم ردًا على اليهود الذين أنكروا نبوته ورسالته والآيات التي أعطاها الله له، وهذا الإنكار حصل مع جميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ولكن لما كانت تلك الأمة أعني اليهود حاضرة في وقت التنزيل وهم ألد الأعداء لهذا الدين ولرسوله الكريم -عليه الصلاة والسلام- فلا جرم جاءت هذه الردود عليهم صراحة وكذلك أيضًا من غير تصريح.

وهكذا أيضًا حينما يُذكر مُضافًا إلى أمه كما أشرت سابقًا، فهذا كما قلنا هو النبي الوحيد الذي يُذكر مُضافًا إلى أمه بل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لم يُذكر أحد منهم في القرآن مُضافًا إلى أبيه، وإنما يُذكر باسمه المفرد، فهنا في ذلك رد على اليهود الذين اتهموه بأسوأ التُهم واتهموا أمه فجاء ذكرها في أشرف كتاب على أشرف أمة، وكذلك أيضًا جاء ذلك -والله أعلم- تذكيرًا بالمعجزة: ولد من غير أب، عيسى بن مريم، وفيه رد أيضًا على النصارى الذين غلوا فيه وزعموا أنه إله، أو أنه ثالث ثلاثة، فالله -تبارك وتعالى- يذكر أنه أيده بروح القُدس، أيده بمخلوق وهو جبريل ، والإله لا يحتاج إلى تأييد وتقوية بملك أو غير ملك، فدل على أنه عبد لله -تبارك وتعالى- مربوب مخلوق وليس بإله، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والخلق عمومًا مهما كانت قوتهم هم بحاجة إلى تأييد الله -تبارك وتعالى- لهم، أما الله فهو غني عن خلقه أجمعين: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني [5] فالخلق أدنى من ذلك وأقل.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، فكرر ذلك وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا، فهم لا يفعلون ذلك بعيدًا عن إرادة الله ومشيئته، فالملك ملكه، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، وهذا فيه رد على نفاة القدر الذين يقولون بأن الإنسان يخلق فعله بعيدًا عن إرادة الله وتقديره ومشيئته، فالله -تبارك وتعالى- شاء، وعلم قبل ذلك، وكتب، وخلق كل هذا كما هو معلوم، وأراد.

فالمقصود أن كل ما يقع في الكون ولو كانت أمورة مكروهة فإن ذلك بإرادة الله ، وذلك وفق علمه وحكمته، فله في ذلك الحكمة البالغة، فإذا تقاصرت العقول دون إدراكها فينبغي على العبد أن يرجع إلى هذا الأصل الكبير وهو أن الله عليم حكيم.

قد لا يُدرك الإنسان الحكمة من وقوع بعض الأشياء، الحروب والنزاعات والقتال ونحو ذلك، لكن الله شاء ذلك وأراده لحكمة يعلمها، وبذلك تظهر معاني أسماءه -تبارك وتعالى- فيظهر من قوته ونصره لأهل الإيمان، ويظهر من جبروته وانتقامه، ويظهر أيضًا من حلمه فهو لا يُعاجل بالعقوبة ويظهر من ألطافه ورحمته لأوليائه، إلى غير ذلك مما يحصل به الميز بين الناس، ويحصل فيه الابتلاء بين الخلائق، وما إلى ذلك من المعاني.

لكنه ذكر هنا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا [سورةالبقرة:253]، فقوله: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، هذا يدل على أن هذا الشقاق والنزاع والشر الواقع بين هذه الخليقة أن ذلك إنما كان بعد مجيء البينات، يعني: لم يكن ذلك على وجه كانوا فيه جاهلين بأمر الله -تبارك وتعالى- ومحابه ومساخطه وشرائعه إنما وقع هذا الاختلاف من بعد ما جاءتهم البينات.

وقد ذكر الله -تبارك وتعالى- في مواضع أخرى أن ذلك من أجل البغي، والبغي هو العدوان، وهذا البغي هو سجية لكثير من النفوس إذا حصل لها قوة أو غلبة أو ظهور أو نحو ذلك فإن الكثيرين لا ينفك عن هذا البغي إلا من عمر الله قلبه بالتقوى ومراقبته، والخوف منه، وإلا فإن هذا البغي قد يكون باللسان وقد يكون بالبنان بالكتابة، وقد يكون ذلك بالبطش إذا تمكن واستطاع.

فهذا كله من الأفعال والصفات القبيحة المذمومة، وهذا الاختلاف الذي يقع بين طوائف الخلق والبشر، وكذلك بين طوائف هذه الأمة الاختلاف المذموم الذي يورث التدابر والتقاطع والبغي والاقتتال وما أشبه ذلك هذا لا شك أنه كان بعد مجيء البينات، وكان ذلك هو السبب في شرور وآفات ومصائب وقعت عبر التاريخ ولا زالت تقع، ولو أن الناس رجعوا إلى الله بتجرد ورجعوا إلى كتابه وسنة رسوله ﷺ رجوعًا صحيحًا، واتقوا الله -تبارك وتعالى- فيما يأتون وما يذرون، ومن لا يُحسن النظر فإنه يُمسك لسانه ويده، وكذلك أيضًا من يجهل يرجع إلى العلماء الراسخين فإن ذلك يمكن أن يُفضي بأصحابه إلى خير، وإلى رحمة، وألطاف من الله وتقدست أسماءه، وهذا يدل على كل حال إلى سوء مغبة الاختلاف، الاختلاف المذموم: وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا، هذا الاختلاف هو الذي أدى إلى الاقتتال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا.

فالاختلاف يورث القتال فضلاً عن العداوات والشرور والبغي بين الناس والتدابر والتقاطع، وقد نهى النبي ﷺ عن كل ما يؤدي إلى هذا، نهى عن التدابر والتقاطع، ونهى عن التهاجر، وأمر أن يكون الناس وكونوا عباد الله إخوانا [6]  المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسلمه [7] وهذا هو اللائق بين أهل الإيمان.

وعلمنا ﷺ أن كف الأذى صدقة، يعني: الذي لا يُحسن يُقدم النفع والخير للناس فكف الأذى هذا باب من أبواب الصدقة.

وكذلك أيضًا هنا في هذا الموضع: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، يعني: حتى مع وقوع الاختلاف لو شاء الله ما اقتتلوا، فهذا أمر قدره الله ، والسعيد من كان في ركاب الحق وسلم المسلمون من لسانه ويده، فذلك هو المسلم المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده [8]

ويؤخذ من هذه الآية: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، أن إرادة الله نافذة في هذا الخلق، فلابد أن يتحقق مقتضاها، ولا يوجد في هذه الدنيا كما ذكر ذلك أهل العلم شر محض، ولا يوجد خير محض، وإنما ذلك باعتبار ما غلب، فما غلب فيه النفع والخير كان ذلك مشروعًا، وما غلب فيه الشر والفساد والضُر كان ذلك مذمومًا. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، برقم (614).
  2. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3256)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، كما يرى الكوكب في السماء، برقم (2831).
  3. تفسير القرطبي (18/ 137).
  4. انظر: انظر: مجموع الفتاوى (7/ 538)، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (6/ 494).
  5. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، برقم (6064)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن التحاسد والتباغض والتدابر، برقم (2558).
  7. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، برقم (2442)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2580).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، برقم (10)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل، برقم (2558).